منتدى الحوار اللبناني- الإسلام الذي يلهمني -د. حسن جابر
الإسلام الذي يلهمني*
مداخلة
د. حسن جابر
أدخلني موضوع المداخلة في حقل خصب تستنبت فيه الأسئلة والتساؤلات خاصةً تلك التي تحاول فتح نافذة على سؤال الوعي وعلاقته بالمعرفة والواقع. وقد قرّرت في البداية التحدّث عن التجربة الذاتيّة بعيداً عن التصوّرات المجرّدة والأفكار المثقلة بالأحكام المسبقة. فالعلاقة بالدين، لم تكن يوماً، على ضوء تجربتي، مفصولة عن مستوى الإدراك والوعي، وإنما كانت تتّسع بوتيرة متوازية مع اتّساع الأفق وتقدّم الوعي. وربّما كان هذا الشكل من العلاقة، الذي يتّسم بالدينامية، هو حالة معمّمة قد يمرّ بها كل فرد منّا، ففهمي للدين وانفعالي بمعتقداته ومنظوماته السلوكيّة وموقفه من الغير إلى آخر سلسلة اهتمامات الدين بقيت لفترة طويلة من الزمن محكومة للمقولات المتوارثة، وقد أسلست لها قيادي فكانت تحملني إلى حيث مؤداها وكنت، مجرّد طرف سلبي متلقٍ لا حول لي ولا طول، اعتقاداً مني أنّ تلك المقولات هي ثابتة ومطلقة ونهائية. فكانت نفسي تأنس للاستجابة لها، وتنفر من كل أشكال المعاندة والنقد، وأحياناً كنت أتطرّف في التقليد إلى حدود النفور من التجديد.
في الوقت نفسه كنت أعاني من عقم بعض المقولات التي لم أتمكن من إيجاد تفسير منطقي لها، لكن سرعان ما كنت أوطن النفس بالإيمان، فأحملهاعلى المشيئة الإلهية وضرورات التسليم والإذعان. وقد استمر بي الحال ناسجاً بمنوال الماضي، قارئاً الدين بعيون الموتى ـ وفق تعبير غارودي ـ خالطاً بين المقولات التاريخية وغير التاريخية، بين الثابت والمتغيّر، وكأنّ التطور البشري قد اكتمل ونضج في تجربة الإسلام الأولى فهي المثال المعمّم أو القابل للتعميم في كل مكان وزمان.
في هذه الأثناء، كنت لا أتوانى عن القراءة بحكم الدراسة من جهة وضرورات الدعوة والجدل والمحاججة من جهة أخرى، وقد قادتني الرغبة في دخول عالم الأفكار الفلسفية والمنهجيّة والاجتماعية، وتحديداً المنهجيّة إلى التيقّظ لمسألة هي غاية بالدِّقة والحساسيّة، والتي لا أزال اعتبرها مفتاح تجدّد الوعي والانفتاح لدي، وخاصةً علمي النصي والتأويل ـ الهرمونتيك ـ والتي لفتتني إلى أنّ النص اللغوي ليس كِيْنونة مُجرّدة، متفرّدة ومسطّحة تتقدّم في بعديْن وإنما النص كيان مقعر ودينامي وحيّ ومركّب، ومعنى أنه مقعر أنّ أبعاده متكثّرة بتكثّر إمكانياته على التأويل ودينامي أنه قابل للانفعال مع القراءات المتجدّدة فيأخذ بمقدار ما يعطى من معنى، ومركّب بمعنى أنّ له عدّة طبقات، وقد يشابه في هذا المعنى الطابع الأركيولوجي للحضارات لانفعاله بالدلالات التاريخية والفهم المتطوّر للإنسان.
هذا الانفتاح على المناهج أضاء لي أبعاداً مختلفة إلى حدود بعيدة مع محمولاتي الفكرية المتوارثة وبدأت تتكشّف لي معانٍ ودلالات هي الأقرب ما تكون للمعاني الإنسانيّة وأبعد ما يكون عن العصبيّة الفكريّة المغلقة، وبتُّ منذ انبلجت إشارات الوعي لدي استشفّ البعد الإنساني في كل نص قرآني مطلق أو عام وتهاوي البِناء الفكري القديم، وانشغلتُ بتبخير مواد بِنائي ـــــــ المفاهيمي والفكري ــــــ الجديد على أرضية أكثر تماسكاً وشمولاً. وذهبت مراجعاتي المتشعّبة بعيداً، عندما وضعت ملاحظات على مناهج الاستنباط الفقهي والقواعد الأصوليّة التي تشكّل المنظومة العمليّة للمؤمنين، فضلاً عن علم الكلام، الذي انهتك فيه البعد التاريخي والصراع المتجذّر، وبدأت تتشكّل لدي منظومة جديدة كلاميّة، تستند في الأساس إلى ما نصطلح عليه بالقِيَم الإنسانيّة، بمعنى أنّ الدين لم يتنزل على الأنبياء والرسل لِيخلق قِيَماً جديدة وإنّما ليذكّر بالقِيَم المتأصلة في الإنسان في فطرته، " ذكّر إنّما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر"، "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القِيَم". وهكذا بدأ نور الإيمان يُشعّ في قلبي بصورة مختلفة، وشرعت في مصالحة ذاتي التي كانت إلى وقت ليس ببعيد مأزومة بالفكر المتوارث، وشرع ثلج الجمود بالذوبان في فكري إلى غير رجعة، وبدأ البعد الإنساني في الإسلام يشقّ طريقه إلى فكري ووجداني.
ولم تقف تداعيات هذا التبدّل عند هذا الحدّ بل أخذ ينتشر في كل اتجاه، فالنظرة إلى الآخر التي كانت محكومة لموقف عصبوي رافض، تبدّلت إلى نظرة منفتحة تؤمن بالحوار والانفتاح، وتسع مفهوم التعارف في آيةٍ "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" من مجرّد التسليم بالتعدّد داخل وحدة المعتقد إلى التلوينات العقديّة والفكريّة المختلفة.
كذا الأمر بالنسبة للحريّة التي اتّسعت دائرة معناها لتطال حريّة التفكير والاجتهاد، فضلاً عن أشكال ومعاني الحريّة الآخرى التي تستفاد من شعار التوحيد "لا إله إلاّ الله".
وبالمعنى السياسي وإنطلاقاً من المنظومة الكلاميّة الجديدة القائمة على القِيَم الإنسانية والتي يحضّ القرآن الكريم على التزامها والتي في عمقها وجوهرها تتّفق مع ما تتوخّاه الديانات السماويّة الآخرى، فإنّها قد تصبح قاعدة تستهدفها الحركة السياسيّة وتتوخّاها في مجتمع تعدّدي كلبنان.
ما نخلص إليه، هو أن الإسلام في نصوصه القرآنيّة والنبويّة هو ميدان رحب لاستنبات المعنى، وهو مفتوح على تأويلات تستجيب في مداياتها للمعاني الإنسانيّة. وكلّما تتحرّر فهم النص الديني من محمولات المؤثّرات التاريخيّة والخصوصيّات الثقافيّة والعصبيّات المذهبيّة، كلما اقترب المجتهد والقارئ للنص من حقيقة المعنى المراد من الله سبحانه.
ثمّة ملاحظة منهجيّة لا علاقة بقراءة النص وتأويلاته، فالنص كائن حيّ حمّال أوجه، يعكس إلى حدود معيّنة وعي القارئ، والقارئ بدوره هو الذي يسهم في تشكيل معناه وفقاً لمستويات وعيه، وكلّما تطوّر وعي الإنسان كلّما أمكن للقارئ ارتياد مناطق جديدة من المعنى. وهذا شأن علاقتي بالإسلام وبالنص القرآني، الذي بات اليوم مصدراً يلهمني المعنى الإنساني، بينما كان الفهم الديني في بدايات تفتّحي العلمي ينصبّ أمامي المعوقات التي تحول دون انفتاحي على الحياة.
وحلقة الحوار، التي ينظّمها "لقاء الحوار اللبناني" قد تعزّز حالات الوعي على قاعدة حق الاختلاف والتلوّن وكثيراً ما تكون مثل هذه الحوارات منطلقاً لتفتّح ذهني ولمنعطفات في مسيرة الوعي لدى الإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * موضوع مداخلة أُلقيت بدعوة من "منتدى الحوار اللبناني" تعنايل – شتورة، بتاريخ 31/10/1998