الحياة - نجاديِّات لبنانيّة: عِناق أم خِناق
الحياة
نجاديِّات لبنانيّة: عِناق أم خِناق
الثلاثاء, 19 أكتوبر 2010
نسيم ضاهر *
يومان أمضاهما الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في حضن الضاحية وربوع الشطر الجنوبي من لبنان، ملأت ساعاتهما السماء بألوان الجمهورية الإسلاميّة والهتافات. «خوش آمديد» احتفت به، ردّدتها حناجر عربية تعلن الولاء للولي الفقيه. بدوره، وفي كلمة من وراء الشاشات، شدَّدَ أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله، على امتياز الرجل الاستثنائي الذي ضاق صدر العالم باستشرافه زوال الكيان الصهيوني، كأنّما الوفاء للقضية باتَ صناعة مندثرة، يتكفَّل بها المعجن الخميني بالانفراد، ويستعيد الأمجاد المتروكة للصدأ، حتى في حدِّها الأدنى الناصري المتمثل بلاءات الخرطوم الثلاث.
من يُحاصر مَنْ؟ ذلك هو السؤال، أجابت عنه الزيارة الرئاسية الخلاسية، ذات الصبغتين، ببيان مقدرة الجمهورية الإسلامية على الالتفاف وزرع راياتها ودفاعاتها بعيداً من الحدود، نيابة عن الأمة وبديلاً من المتلكئين والمتخاذلين المستسلمين. لذلك أحاطَ الالتباس بطابع المناسبة، في منزلة بين المألوف من تبادل دولتي ديبلوماسي والمضاف من رعوي تعبوي خاص لامس التوحّد العضوي تحت عباءة مذهبية، عقيدية سياسياً وإيمانياً عميقاً. كما بان أيضاً اختلاف القصد في مقاربة الحدث، توكيداً لصداقة ثنائية لا تمنع مصادقة لبنان لأطراف أخرى، عربية تمتدّ الى الأسرة الدولية في المحصّلة من جانب المضيف الرسمي الحذر، وانشداداً إلى التماهي مع الضيف وهندساته وسياساته في المقلب الأهلي المقتصر على منظومة حزب الله وتلاوين بلدية في مدارها، اعتاد الإعلام صورها وظهورها المواكب لاحتفالات صاحب الجمهور. الى لعبة المرايا هذه، قام أحمدي نجاد بدور مفترض، قوامه مقرر وجهة السياسة الإيرانية، على قاعدة المبدأ الجمهوري وبناءً على صفة رئاسية، فيما واقع الحال ان التراتبية الفعلية تضعه في موقع الناقل والناطق بمراد مراكز القوى وتوجيهات المرشد الملزمة والفاصلة في الأساسيات. وقد كان لافتاً، بل معبّراً قابلاً للجدل الاستطرادي، ما أسبغَ عليه نصر الله من إطراء شخصي وغيرة، ومخاطبته كركن صلب في معادلة السلطة، متجاوزاً لربما حقيقة الأمور، لتزيين ما يراه مطمئناً للشركاء في لبنان، ورسم ملامح الدائر في خلده حيال أفق الجمهورية المقبلة وصيغة الجمع بين المناصب الدستورية والإرشاد.
لدواعي الاستقبال على الصعيد البروتوكولي في العاصمة، أبدى الرئيس نجاد ليونة في مضمون الخطاب ونبرته، ظُنَّ أنها وعد بالهدوء والتروِّي في الأحكام. لكن الوقوف أمام حشد الضاحية ومن ثم بنت جبيل ألهبَ حماسته وأعادنا الى مرّبع صياغاته الأولى، فجبَّت عبارات الاعتدال بما أمسَى سلاماً على الأصول والأعراف، وخياطة جهادية تؤلّب الأقوام على الاستكبار، آلت الى إجلاسنا لصقاً بفوهة البركان. هنا أسفرت رحلة القادم من طهران على قيام بين الأهل يفوق العضد والأخوّة إلى لحمة وامتداد في الجغرافيا وتموضع في المكان، فما عاد يُعرف للمنصة مسافة من المحتشدين، ولا للناس هوية الاّ تلك الكربلائية المطهّرة الجامعة، في اختزال موصوف موسوم بالفئوية للشعب اللبناني بأسره. وما للموقف الذي خلص إليه نجّاد وأعلنه جهاراً، سوى الإتيان بمزيد إحراج للدولة اللبنانية، أضاف عليه، برسم الحكومة والمؤسسات، عبء الظن بالمحكمة الدولية، جارفاً جميع الصادر عن المجامع الحقوقية، أي منكراً رزمة العلاجات الفقهية والتشريعات القانونية المنبثقة من منظمة الأمم المتحدة، وهي صفوة المكتسبات الكفيلة برسوخ القانون الدولي على أسس متقدمة معاصرة لم يألفها، نصوصاً وفاعلية، من ذي قبل.
يعود لكلّ دولة التعبير عن سياساتها ومصالحها بأشكال ترتضيها وفق معايير السيادة وتبعاً للعُرف المتأصِّل الوافي بقاعدة «لكلّ مقامٍ مقال». على هذا النحو، يخشى من إيغال الرئيس أحمدي نجاد الضيف في تفاسير ملحمية ربّانية تطاول لبنان والأشقّاء العرب، ناهيك عن سائر الدول، بالدروس والاجتهاد الثوري الجهادي.
ولئن كان من المتوقع تضمين ما يقال توابل استنهاضية دعوية تبعاً لأسلوب نجاد المشهود والمعلوم، فمن البائِن أنه تعدَّى الجائز والمقبول، واندفع نحو المُستغرب من حيث المهمة والمكان، معيّباً سوء الإمساك بالقضية والملفات على أصحابها التاريخيين، ومسقطاً جميع الخارجين عن محور شعبي هيولي رسمته طهران. ولمزيد إيضاح، توسّل الرئيس الإيراني أرض لبنان علّهم يستدلون موقع الجمهورية الإسلامية في قلب العالم العربي، وريادتها الموازية لدونيتهم المشتركة في مجال الإقليم ومصيره. مختصر مفيد مدعّم بحجة الصديق الصدوق من لدن سيد المقاومة، ومؤيّد من مجمل الحلفاء المنضوين في مجموعة الثامن من آذار وراء قاطرة «حزب الله» ذي النفوذ الأقوى والترسانة الصاروخية وغطاء المقاومة، تشكيلاً عسكرياً وسلاحاً ومصدر إمداد مادياً.
غابت سورية كليّاً عن واجهة المشهد منذ أن حطَّ الرئيس نجاد الرحال في بيروت، وكأنما صُهر أنصارها ظرفياً في بوتقة ذوَّبَت الفروقات مع الوكلاء المحليين للثورة الايرانية. لا يقود الاحتجاب القسري الى استنتاجات متسرِّعة قائلة بفكّ الارتباط، لأنّ القيادة السورية تبدي مرونة قصوى تجاه الحراك الإيراني، وقد نجحت سابقاً في إخفاء التباينات. كما حافظت على المحور الثنائي ووحدة المصالح على رغم تفاوت النظرة الاستراتيجية واستعداد دمشق للقبول بالمفاوضات مع إسرائيل خلافاً لموقف طهران الرافض لمبدأ التفاوض مع الكيان الصهيوني المشرف على الزوال.
غير ان الامتعاض السوري لن يلبث أن يستشعر به عند إجراء الجرد واحتساب الولاءات، بعد إظهار نفوذ إيران ودورها المحوري على الساحة اللبنانية، ما ينتقص من حصة دمشق المحفوظة، ويحيلها سنداً لطهران. وفي عرفها بالذات وتماسها الجغرافي أنها صاحبة الباع والقول الفصل في مقدار الموازين وسبل الانتفاع. حين تسجّل إيران نقطة وتحرّك بيادقها على رقعة الشطرنج، يعرف الخاسر بالضرورة أن عليه الصبر وإعادة خلط الأوراق طالما انطوت المسألة على التاكتيات ولم تبلغ دائرة الإستراتيجية، منزل القرارات الصعبة والانعطافات الحادة، المؤجَّلة الى إشعار آخر. الذي قد يشفع بسورية أن الزيارة النجّادية جمعت العناق بالخناق، وأثارت حفيظة أكثر من عاصمة قرار، قياساً بمهارة دمشق في حركات الجمباز واستخدام القفازات.
فوق هذه المعطيات يبقى السؤال عمّا جناه لبنان من استعراض القوة الذي مارسه أهل المُحتفى به الأقربون، على ما سمتهم الخطب والدعاءات، نظراً لغياب مظهر الدولة عن معظم التنقلات، وتعثرها في تحديد برنامج الزيارة ومدتها. الحصاد مذكّرات تفاهم مبدئية بمثابة الأطر، لا تسمن واقعاً، ولا تزن كثيراً على القبّان، مقارنة بما تخلّت عنه الدولة من مساحة حضور، وما وصل إلى مسامعها من سلام إلى القائد الأعلى، واعتراف بإمرته، وعهد بالتزام كلمته، فاتحة الزحف المقدّس والانتصار.
* كاتب لبناني