الجزيرة - اللغة العربية.. تحديات عاصفة ومواجهة متواضعة
اللغة العربية.. تحديات عاصفة ومواجهة متواضعة 22/04/2009
حسام الخطيب
مدخل وتحوطات
الأسئلة اللغوية الضاغطة
اللغة العربية محفوظة ولكن كيف؟
مسك الختام
أولا: مدخل وتحوطات
على امتداد تجارب طويلة في معالجة قضية اللغة العربية ، بات الباحث تحت وطأة فرَقٍ دائم من أن يتعرض أي كلام تحليلي أو علمي بشأن اللغة العربية، إلى أشكال من التأويل تقلب الكلام إلى غير وجهته، وأحياناً تحمّلهُ (من الأوزار) فوق ما يحتمل. وما يحدث في أغلب المناسبات التي يدور فيها نقاش حول العربية، أكاديمي أو إعلامي أو عابر في المجالس اليومية، هو أن يبدأ الكلام بتحليل ظاهرة من ظواهر المشكل اللغوي وأن ينتهي إلى سجال حاد حول عظمة اللغة العربية وتفوّقها وصلاحيتها لأن تكون لغة العصر بل لغة العالم المعاصر.
وغالباً ما ينتهز نفر المتحمسين أية فرصة ليهبوا للذود عن حياض اللغة العربية، والتغني بمحاسنها، وامتداح خصائصها، وتعداد أوجه تميزها من غزارة في المفردات وفصاحة في التعبير ومرونة في الاشتقاق، واتساع في المدرج الصوتي وتفردٍ بحرف الضاد(1)، وأخيراً احتمال أن تكون هي أم اللغات ومصدرها الأصلي. وبالطبع هناك دائماً التمثل بقصيدة حافظ إبراهيم الجميلة فعلاً، والتي ألهتْ بني يعربٍ عن كل مكرمة:
أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامن* * فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
وهذا البيت هو بيت القصيد بالطبع ومحور كل المناقشات.
وعلى أمل أن لا تؤول الدراسة الحالية إلى مثل هذا المصير اليومي للمناقشات بشأن اللغة العربية، وعلى أمل ألا يضطر الدارس إلى التحوِّط وإطالة الكلام في كل فقرة تحسباً لكل تأويل محتمل، فإنه يود ويأمل ويرجو أن يوضع كل ما سوف يرد في هذه الدراسة من تحليلات وآراء ضمن إطار المنطلقات الواضحة التالية:
أولاً: إن المقالة الحالية غير معنية بالخوض في مسألة قيمة اللغة العربية من ناحية كونها لغة ذات خصائص متميزة تتمثل في ثروة مفرداتها وغنى تراكيبها وجمالية تعبيرها وغير ذلك، أو من ناحية دورها التاريخي الحضاري القديم، ومن ثمّ صلاحيتها لكل زمانٍ ومكان. فهذه أمور بديهية متفق عليها، ومع ذلك لا ضير من التأكيد أن البحث الحالي ينطلق من إيمان كامل بعظمة اللغة العربية، وغناها وتفوقها وعراقتها وأصالتها، وبقدسيتها فوق ذلك كله. وماذا عسى المرء أن يقول غير ذلك في لغة القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي والنثر العربي والعلم العربي والحضارة العربية الإسلامية. بل إن البحث يذهب إلى أبعد من ذلك ليؤكد أنه حتى لو كانت اللغة العربية -على سبيل الافتراض- أقل غنى في بعض النواحي وأرقى مقدرة في نواحٍ أخرى، فهي أولاً وآخراً لغتنا، وهي نحن ونحن هي، وعلينا أن نتمسك بها دون مراء أو مفاضلة أو مقارنة بغيرها، ذلك أن اللغات أشبه بالأوطان فلا تُعار ولا تُستبدل.
ثانياً: إن هذه المنطلقات المنبثقة من إيمان لا يتزعزع بعظمة اللغة العربية وصلاحيتها، تشكل إطاراً عاماً للموقف، ولكنها لا تتدخل في مجرى المناقشة ولا تسقط عليها قناعات واستنتاجات مسبقة. فالبحث الحالي يتناول اللغة العربية من زاوية واقع استعمالها في المجتمع العربي المعاصر، ومدى كفاية طريقة هذا الاستعمال في الوفاء بالاحتياجات المتنوعة، الدنيوية والعملية من جهة، والبديعية والجمالية من جهة أخرى، لمجتمع عربي يواجه تحديات معاشية ولغوية صعبة لا ترحم، ولا مناص له من أن يجابهها بشجاعة وحكمة وتخطيط، وأن يجعل من لغته أيْداً وسنداً ووسيلة تفكير وتعبير طيّعة، تتيح له أن يؤدي رسالة نوعية خاصة لنفسه وللمجتمع الإنساني من حوله.
ثالثاً: ويترتب على ذلك ابتعاد المقالة ابتعاداً كاملاً عن الدخول في مناقشات تتعلق بصلاحية اللغة العربية للعصر. فقد آن لنا أن ننتقل بلغتنا من مرحلة الجدالية والمنافحة إلى مرحلة البناء والخدمة العلمية. والمسألة مبتوتة بوضوح فاللغة مصيرنا وقدرنا ومن يخلعها كمن يخلع جلده. فإذا كانت البلغارية تصلح، والسنغالية تصلح، والفيتنامية تصلح، والعبرية القديمة صلحت وتجددت، فهل هناك لزوم للتكلم عن صلاحية لغة عريقة حية كالعربية. ولكن هذا التأكيد لا يعني أن العربي المعاصر مستريح مع لغته ومطمئن لوضعها الحالي ومتقن لها وقادر على منافسة لغات أخرى كالإنكليزية!. إن الصعوبات موجودة، والتحديات المتلاحقة في عصر الحاسوبية و المعلوماتية والسبرانية (فن التحكم والضبط عن بُعد) وغزو الفضاء والثورة التقانية كبيرة جداً. وما أُنجز حتى الآن في خدمة العربية لا يوازي شيئاً إزاء تعاقب التحديات وسرعة تضخمها مثل كرة الثلج. ولذلك تبدو اللغة العربية عند أكثر مستعمليها من غير المتخصصين باللغة والأدب أشبه بعبء، ولا سيما في مجالات العلم والمهن والتجارة والتبادلات اليومية. والمطلوب الآن تحويلها من سيكلوجية اللغة-العبء إلى واقعية اللغة-الدافع، ومن سيكلوجية القلق التعبيري إلى قوة الثقة بالنفس، ومن الشعور بالعجز إلى الشعور بالراحة والطمأنينة والفائدة والبهجة. وأخيراً من فداحة الشعور المتزايد بأن العربية الفصيحة أشبه بلغة أجنبية مسقطة قسراً على مستخدميها إلى نعمة التآلف مع اللغة وحرية الانتقاء من كنوزها وسعادة الإحساس بتجاوبها مع مستلزمات التفكير والتعبير.
وبالطبع يصعب أن يتاح لدراسة محدودة الأهداف، كالدراسة الحالية، النهوض بمعالجة كل هذه الأماني العراض، ولذلك سيتم الاكتفاء بوضع إطار عام لخريطة التحديات التي تواجه اللغة العربية في القرن الحادي والعشرين الميلادي، وسيجري التركيز على التحدي الخاص الذي يطرحه عصر العولمة والمعلوماتية، كما هو واضح في العنوان.
وغني عن القول أن كثيراً من الأطروحات التي ستقدم في المقالة تستند إلى دراسات سابقة للمؤلف، ولا سيما من خلال كتابه المعنون: اللغة العربية - إضاءة عصرية(2)، وفيه قد يجد الإنسان تفصيلات لكثير من المنطلقات العامة التي ترد مجملة في الدراسة الحالية. كما أن الباحث يرجو ألا يستنتج من إشارته إلى حاجة اللغة العربية لمزيدٍ من الخدمة العلمية والتربوية والإعلامية، أي انتقاص من الجهود المضنية التي يبذلها أساتذة اللغة العربية والمؤلفون، والمؤسسات العاملة في خدمة العربية كالمجامع اللغوية والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وبعض الجامعات العربية ومراكز المعلوماتية وبنوك المصطحات وسواها.
وكم يكون مفيداً لو تجري فهرسة منظمة لهذه الجهود لأن كثيراً من الباحثين يكررون جهود من سبقهم لعدم اطلاعهم عليها ولقصور التواصل بين المؤسسات ومراكز البحوث العربية وهذه طامّةٌ كبرى مشتركة في مجالات العمل العربي المعاصر. وما ذكر في هذا البحث ليس إلا أمثلة اقتطفت من هنا وهناك، وهي أبعد ما تكون عن المسح والإحصاء، بل ربما لم تكن أكثر من مجرد مدخل إلى الحلبة المتشعبة.
ومن الواضح أنه حين يجري الحديث عن التقصير في خدمة اللغة العربية فإن المقصود ليس النوايا الحسنة ولا الذود عن الحمى، ولكن المقصود بالضبط هو الحصيلة العامة (المخرجات) الني توضع بين يدَيْ اللغة العربية لتمكنها فعلياً من التعامل مع متطلبات الحياة العصرية؛ وهكذا تنتفي شبهة التناقض بين تقدير الجهود المضنية فعلاً وانتقاد الحصيلة العامة بالقياس إلى الخدمة العلمية التي تحظى بها اللغات العالمية الحية.
ثانيا: الأسئلة اللغوية الضاغطة
1. العربية والتحديات المتوالدة
2. ها هو العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الميلادي قد انقضى مثل لمح البصر ومازالت الليالي حبالى لا يُدرى ما تلد. وبالطبع لا يوجد فاصل ملموس بين رأس كل قرن وآخر. ولكنْ لكل قرن قديم مناخ متركز في عقده الأخير، أي السنوات الأواخر منه، ولكل قرن جديد مؤشرات تتلامح من خلال عقده الأول أي السنوات الأولى منه سواء أكانت عشراً أو عشرين. وخير القرون ما كان على رأسه مجتهد يجدد للناس دينهم، وربما أيضاً مجددون ينظرون في أمور الدنيا وتقويمها وتطويرها استعداداً للمرحلة المطلّة. واليوم -ونحن على وشك وداع العشر الأوائل من القرن- يتحسب العالم كله للإطلالة الجديدة، وهناك شعور عام بأن الآتي سيكون قرناً عجيباً غريباً جديداً ليس كمثله شيء فيما مضى. ولذلك تعقد الأمم الحية المؤتمرات والندوات، وتنشر الدراسات والإحصاءات، وتحسب حساب الزوابع القادمة: الثورة الثقافية، غزو الفضاء والسبرانية والتحكم عن بعد، الانقلاب الحاسوبي والمعلوماتي، ثورة الاتصالات،التفجرات الاقتصادية، وأخيراً مقولة النظام العالمي الجديد وأحادية السيطرة العسكرية والتجارية والسياسية والعلمية (هيمنة دولة واحدة على العالم).
وهناك أيضاً مشكلة خاصة نابعة من كل هذه التطورات، وهي مشكلة هيمنة اللغة الإنكليزية على لغات العالم القديم والجديد والثاني والثالث والشمالي والجنوبي، وهي مشكلة باتت تقلق جميع بلدان العالم على المستويات الحكومية والاجتماعية والفردية، وهذه هي المشكلة التي تحاول الدراسة الحالية مناقشتها من زاوية اللغة العربية.
ونحن، معشر العرب والمسلمين، من أشد الناس في هذا العالم تعلقاً بلغتنا العربية الشريفة المقدسة الناصعة الحية الثرية المتجددة. إلا أننا نكتفي بالتغني والتمجيد ولا نقدم الخدمة الكافية العلمية والعملية، والتربوية والاجتماعية، والنفسية والإعلامية، لهذه اللغة العزيزة على قلوبنا التي هي كياننا، وصورة ماضينا ومرآة حاضرنا وأفق مستقبلنا، وهي-ويا للأسى- تكاد تكون، بعد كل تلك الخيبات التي شهدناها في العصر الحديث، آخر رابطة حيّة من روابط التوحيد والمصير المشترك، بعد أن هدرنا الروابط الأخرى التي كانت مبعث اعتزازنا وقوّتنا على المدى. ومع ذلك هناك جهات تحاول تفكيك هذه الرابطة وضعضعتها بل التبرؤ منها، وذلك من خلال التضليل بشأن صلاحية اللغة العربية.
ومن السهل أن نلاحظ أن أسئلة اللغة العربية تتعدد وتتداخل وتبدو قضية مستقبلها أعقد من أية فترة مضت، وذلك بسبب تغيُّر طبيعة التحديات المحلية والعالمية. وتخطِّطُ دول عريقة جداً (مثل فرنسا وألمانيا) لحماية لغتها وبأساليب جديدة، أما نحن فتستمر رؤيتنا سكونية مكررة رتيبة الإيقاع، وتتكرر التوصيات والتحليلات والمناقشات نفسها يوماً بعد يوم فيما تتجدد التحديات وتتوسع آفاق المجابهة.
وفي سبيل استثارة شكل جديد من أشكال (خدمة) اللغة العربية (وليس مناصرتها والتغني بها فقط)، كنت قد قدمت في العقد الأخير من القرن الماضي حفنة من الأسئلة نُشرت في الصحافة، على أمل أن تكشف عن جوانب من تحديات المصير، وتشكل إطاراً عاماً لمدى استجابة العربية للتحديات العصرية والمتوقعة.
2. خريطة الأسئلة
سؤال الأسئلة، سؤال الحياة؟
- هل ستبقى اللغة العربية أسيرة الاستعمالات الرسمية والمناسبات وأغلفة الكتب وبعض برامج أجهزة الإعلام؟ هل تتخطى ذلك باتجاه أن تصبح اللغة اليومية للإعلام، وللنشاط الفني والجماهيري، وللعمل والصناعة، وربما التجارة والتخاطب شبه الرسمي وربما غير الرسمي أيضاً ؟ هل يمكن ذلك؟ وكيف؟ وماهي السبل العملية؟ هل المؤشرات الحالية سانحة أم بارحة؟
جواب مختصر: أخفقت محاولات كثيرة وخسرت العربية مواقع عديدة لحساب اللغة الإنكليزية ولاسيما في منطقة الخليج العربي، حتى أصبح العربي فيها: "غربي الوجه واليد واللسان".
سؤال التربية؟
هل سيبقى الطالب العربي، وإلى حدٍ ما المدرس العربي، غريباً عن لسانه العربي؟
وكيف يمكن أن يتحول (درس اللغة العربية) من درس قسري شبيه بتعليم أية لغة أجنبية إلى درس ودِّي مشوق؟ أي كيف يصبح درس (العربي) عربياً أليفاً غير هجين؟ وهل يوجد في أي قسم لغة عربية مخبرٌ صوتي أو أية آلة مساعدة للتعلم؟
وأية خدمة علمية وتربوية يجب أن تؤدّى للغة العربية حتى تصبح ممارسة داخلية طوعية بدلاً من أن تكون مجرد مقرر لا بد من النجاح فيه للانتقال من مرحلة تعليمية إلى أخرى. وماذا عن تسهيل عملية القراءة؟ وعملية الإملاء والكتابة؟
جواب: حدث تراجع واضح بشأن العربية لصالح تعليم الإنجليزية في جميع المستويات التعليمية. وفي معظم الجامعات العربية جرى تعليق المقررات المتعلقة باللغة العربية والانتماء العربي وأصبح دخول معظم جامعات الخليج العربي مشروطاً بالنجاح في امتحان "التوفيل" بل إن طلبات التدريس في تلك الجامعات تقدم بالإنكليزية، بما في ذلك الشريعة وقسم اللغة العربية.
كما جرت محاولات لتيسير النحو، والانتقال من آلية حفظ القواعد إلى دينامية تشكيل السليقة اللغوية السليمة ولكنها لم تلق ما تستحقه من اهتمام أو من دور في تطوير مناهج العربية.كما حدث تراجع في مستوى تدريس اللغة العربية في مختلف مراحل التعليم.
سؤال الإعلام والاتصال والمعلوماتية والمغامرة العلمية؟
- أيُّ تحدٍ ينتظر اللغة العربية في حلبة علم الفضاء والسبرانية والمنافسة الإعلامية والاتصالية والمعلوماتية؟
- ماهي مؤشرات الاستعداد المطلوب؟ أين الإطارات التقنية التي أعددناها لمجابهة التحديات اللاهثة؟ وهل ستكون لنا سياسة لغوية موحدة متعاونة أم سنبقى نخبط خبط عشواء؟
- وأين تجاربنا المشتركة لتطوير لغة عربيةٍ متجاوبة مع ثورة المعلومات ومغامرة العلم الحديث ومصطلحاته الجياشة؟
سؤال المنافسة والاستهداف؟
القرن الحادي والعشرون قرن الانفتاح وزوال الحواجز والحدود بين الأمم والقارات.
كيف يمكن أن تواجه اللغة العربية المنافسة اللغوية الأجنبية ولا سيما من اللغة الإنكليزية؟
ومن ناحية أخرى
- ألا يوجد خوف من تطورات النزعة إلى العامية على الأقل نتيجة للتفكك الذي لا تخفى آثاره؟
- ماهي أسس الموقف المشترك تجاه النزعات المتصاعدة إلى إحلال العاميات الإقليمية محل العربية؟
- وأيهما أخطر على العربية: اللغات الأجنبية أم العاميات الإقليمية المحلية؟
- وهل هناك مخطط عربي مشترك لأولويات المواجهة اللغوية وأدواتها؟
سؤال القمة، السؤال العالمي؟
- لغتنا العظيمة هل لها أية فرصة لأن تكون لغة عالمية حية؟
- هل سيبقى الدافع الديني وحده هو المحرض الأساسي لتمسك الشعوب الإسلامية باللغة العربية؟
أم يمكن أن يرفد بدوافع إضافية دنيوية تتصل بالمصالح وشؤون التبادل اليومي الساخن في إطار العالم العربي والإسلامي؟
- أين دور العوامل الأخرى؟
- أين المقدرة الذاتية للانتقال من حالة القوة الكامنة والرصيد السكوني إلى حالة القوة الفاعلة والحركة اللوجستية (التعبوية) الملموسة؟
أسئلة صعبة ومتداخلة، ما في ذلك شك، تحتاج معالجتها إلى تقرُّب علمي جاد وإلى بذل سخي وعطاء، وإلى تضافر جهود المؤسسات والباحثين على امتداد ديار العروبة والإسلام.
إنها لغتنا، لغة الدين والدنيا، لغة الوجدان والحياة، لغة المصير.
أفلا تستحق على الأقل تصوراً جاداً شاملاً لمشكلتها، مبنياً على معلومات موثقة ومقارنة، وعلى موقف مواجهة متصف بالشجاعة ومجرد من الأوهام والتفكير الرغبي؟
ولنعترف أنه في غياب مراكز البحث اللغوي، واقتصار نشاط أقسام اللغة العربية في الجامعات على المجهود التدريسي، ومحدودية الإمكانات المتاحة لمجامع اللغة العربية، والنقص الفادح في الخدمة العلمية والتقنية للغة العربية، تواجه لغتنا عصرَ المعلومات كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح. وليس في مقدور أي باحث فرد أن يتصدى للأسئلة المطروحة على النحو العلمي المطلوب، ولكن ربما كان في إثارة هذه الأمور بعض جدوى على الأقل من ناحية لفت النظر إلى الأعباء الضخمة التي ستواجه العربية في القرن الحالي، وهي بعدُ لمّا تتوصل إلى حلول ناجعة لأبسط المشكلات، كمشكلات تيسير النحو، وتيسير تدريس اللغة العربية، وتيسير تأليف المعجمات واستخدامها. أي أننا مازلنا في مرحلة التيسير ولما نتجاوزها إلى مرحلة البناء والإعمار والابتكار.
وفي إطار هذه المشكلات غير اليسيرة، تبقى أكثر المشكلات إلحاحاً من منظور التغيرات المستقبلية هي مشكلات اللغة العربية وعصر المعلومات. وربما كان سبب التركيز على هذه المشكلة أنها تقريباً مشكلة جديدة تطرح نفسها بقوة، ومن خلال منافسة عالمية عولمية حادة جداً لا تسمح بتأجيل الموضوع، وهي منافسة لا تتعلق بمصير اللغة العربية فحسب وإنما بالمصير العام للوطن العربي في حلبة الصراع على البقاء ضمن عالم تتغيّر آليات الصراع فيه، وتتسارع خطوات الانتقال إلى العصر الجديد أو (الثورة الثالثة) تسارعاً لا هوادة فيه ولا رحمة ولا مكان على السطح لأي متقاعس ولا لأي حلٍ إقليمي.
3- اللغة العربية مهملة إلى هذا الحد؟!
بصراحة، ومن خلال المعطيات الراهنة، يمكن القول إن الاندماج الحضاري بين الشعوب وزوال الحواجز النظرية والعلمية والتعليمية، وتفوّق اللغة الإنكليزية على لغات العالم أجمع، إلى جانب عوامل أخرى اقتصادية وسياسية وعسكرية وحضارية، هذا الاندماج لا يمكنه إلا أن يعني تفوّق (أو على الأقل) سيادة الحضارة الغربية بامتياز، على نحو ما تخيله صمويل هنتنغتون. إن الدلائل المتوفرة حتى الآن تشير علناً إلى أنه يوجد أمام العالم اليوم اختيار واحد أحد، مفاده أن من يريد أن يعيش في عالم الغد ويشارك فيه لا بدّ أن ينضوي تحت لواء الحضارة الغربية وأن يصالح قيمه وتطلعاته مع تياراتها. وأول مظاهر هذه المصالحة – كما يبدو اليوم – هو التفاعل مع اللغة الإنكليزية على حساب اللغة المحلية جزئياً أو كلياً. وتشير إحصاءات اليونسكو حول انتشار اللغات العالمية اليوم إلى تفوق شامل للغة الإنكليزية فهي لغة العلم ولغة الطيران ولغة العسكر ولغة التجارة والصناعة ولغة الطب والمواصلات والاتصالات، ولغة الحاسوبية والمعلوماتية ولغة الفضاء والبحث العلمي، واللغة الرئيسية في مختلف المنظمات الدولية.
ولكن لا يعني هذا الواقع أن لغات العالم الأخرى سوف تنقرض. واليوم تأخذ كل لغة أخرى احتياطها للابقاء على الوجود والهوية والإبداع الفني والأدبي والشعبي والحفاظ على الشخصية الوطنية أو الدينية أو الإقليمية.
ومع الأسف الشديد تبدو اللغة العربية شبه ضائعة في وسط الخضمّ مع أنها تتمتع بمزايا دينية وتاريخية وجغرافية واقتصادية، وهي أولى من غيرها في أن يكون لها مكان تحت شمس العولمة لولا غرقها في دوامات الإهمال والتمزق والانقسامات السياسة والنأي عن دفع ضريبة الحياة.
ومن المؤسف أنه حتى في الدراسات اللغوية الشاملة نادراً ما يجري لها ذكر بين لغات العالم. ولدينا مجدداً دليلان، أحدهما كتاب ألماني نشره مركز الترجمة في وزارة الثقافة القطرية من تأليف هارالد هارمان بعنوان تاريخ اللغات ومستقبلها(3)، وقد أهمل اللغة العربية إهمالا تاماً، ولم يترك لغة فرعية في العالم إلا تصدّى لها مع أنه ألف هذا الكتاب – كما يقول - خلال إقامته في المغرب!
أما الكتاب الثاني فهو من تأليف الفرنسي لويس جان كالفي(4) بعنوان حرب اللغات والسياسات اللغوية، وقد نشره في بيروت مركز دراسات الوحدة العربية في العام الماضي. وكذلك لم يسمع بظاهرة اسمها اللغة العربية، العجيب أن المؤلف نشر تقديماً موجزاً للترجمة العربية اختتمه على الوجه التالي:
"... ولكن كل شيء حولنا يبين أن اللغة التي لا تتطور فتتجمد تصبح أقرب إلى الموت. تشهد على هذه الحيوية السياسات اللغوية التي تسعى إلى تغيير العلاقات بين اللغات والمجتمعات. وأنا أود أن أدعو الجمهور العربي الواسع الذي تتيح لي هذه الترجمة فرصة الحديث إليه، إلى التفكير في هذه المسألة."
والخلاصة أن هذين المثالين مخيفان من ناحية عدم اهتمامهما بظاهرة تاريخية لغوية كبرى اسمها اللغة العربية.
ثالثا: اللغة العربية محفوظة ولكن كيف؟
أذكر مرة أنني قلت في لقاء تلفازي حول مستقبل اللغة العربية إن اللغة العربية تكاد تكون يتيمة هذه الأيام، بمعنى أننا لا نحافظ عليها ولا ننصرها، ولا نهيئ لها أسباب الحياة ومنافسة اللغات الأخرى، ومواكبة تطورات العصر.
وأذكر أن هذه العبارة أثارت انتقاداً من علماء أفاضل غيورين على اللغة العربية، واحتجّوا على الوصف بحجة سليمة شكلاً ولكنها تحتاج إلى دعم مضموني. فإذا ربطنا العربية حقاً بالقرآن الكريم وأكدنا أنها "في لوح محفوظ" فاللغة العربية لن تموت أبد الدهر. وهذا صحيح تماماً ولا يماري فيه عاقل أو مغرض.
ولكن ألا ينبغي أن نقدم للغتنا الشريفة والعظيمة والعذبة والرافلة بمخزون ديني وأدبي وجمالي عظيم وغير ذلك وغير ذلك...، ألا ينبغي لنا أن نقدم لها مقومات تحفظ لها فاعليتها وتبقيها في مصاف اللغات الحيّة الفاعلة في مجال صراع الحضارات أو حوارها، وكذلك أن نحرص على إبقائها في واجهة تعاملنا اليومي وفي صدارة اللغات الحية بدلاً من أن نعرّضها لخطر المصير الذي آلت إليه لغات كانت لها عظمتها في سالف الأيام مثل اليونانية واللاتينية، وأصبحت اليوم قابعة تحت قباب الكنائس أو في أقبية التخصص التاريخي، وانتهى بالتدريج الاهتمام بها حتى في الجامعات التقليدية – في الغرب.
والآن يجب أن نسارع إلى إنقاذ لغتنا العربية من مثل هذا المصير ونحن قادرون. وقد كتب الكثير في هذا المجال ولكن النتائج ظلت حتى الآن معكوسة. أي أن وضع اللغة العربية ظلّ في تراجع مستمر... لم يعد الصمت ممكناً، وأقولها بصراحة إننا نحتاج الآن إلى حملة شعبية شاملة لنصرة اللغة العربية بعد أن أصبحت جهات رسمية عربية عديدة تتغاضى عن قيام مؤسساتها التعليمية بإهمال اللغة العربية في مختلف مستويات التعليم بل تحميها بل تمدها بالعون في حالات عديدة تكون فيها مخالفة للدساتير والمبادئ المتوارثة واضحةً وضوح الشمس.
وسبحان الله كان الاستعمار في الماضي يكتفي بفرض لغته دون أن يجرؤ على المساس باللغة العربية. وقد أصبحنا اليوم ندعوه جهاراً ونمدّ له كل عون مادي ومعنوي وإعلامي لإحلال لغته محلّ لغتنا الشريفة. وهنا نذكّر بالحملة الشجاعة التي أطلقها منذ أسابيع شيخنا الجليل الدكتور يوسف القرضاوي لنصرة اللغة العربية، ونأمل أن تتطور هذه الحملة إلى حركة شعبية حاسمة.
وأخيراً يتضح في هذه الخاتمة أن قضية اللغة العربية لها جوانب عديدة يصعب تلخيصها في سطور، وقد كنت شخصيا قدمت مع الكثير من زملائي الحريصين مقترحات معتدلة لا جدوى من تكرارها الآن بعد أن بلغ السيل الزبى. وهناك أدبيات كثيرة ومتوفرة بشأن الإصلاح اللغوي.
إن المطلوب فوراً هو إنقاذ المؤسسة التعليمية من غزو اللغة الإنكليزية واللغات الأجنبية الأخرى على حساب اللغة العربية، ابتداءً من مراحل الطفولة والحضانة وانتهاءً بالمرحلة الجامعية والتخصصية حيث تُمسح اللغة العربية مسحاً مقصوداً، يتضمن عجائب كثيرة منها مثلاً، فرض نجاح الطالب العربي بامتحان التوفيل (اللغة الإنكليزية) شرطاً للانتساب إلى الجامعة، ولا تستثنى من ذلك تخصصات اللغة العربية ولا حتى كلية الشريعة.
ومن عجائب الدنيا أن بعض الجامعات الخليجية لا تقبل الطلبات المتقدمة لتدريس اللغة العربية والشريعة إلا باللغة الإنكليزية، وتكاد نصف المقررات في بعض أقسام الشريعة واللغة العربية تدرس بالإنكليزية مباشرة في هذه الجامعات والحبل على الجرار.
مرة أخرى نكرر أنه في مثل هذه الحالات لم ولا تنفع أية توصيات نظرية (بعد أن قدمنا منها الكثير) وإنما المطلوب هو موقف رسمي مؤيد بحملة شعبية. اللهم إني قد بلغت.
مسك الختام
إذا لم يكن بدٌ من وصيّة فالوصية الأولى والأخيرة هي أن يعمل معلمو العربية في مختلف المستويات على الالتزام بالتكلم بالفصحى (حسب كل مرحلة تعليمية)، وتشجيع الطلبة في المدرسة على الحوار بطريقة مبسطة دون تقعّر... ومن هنا نبدأ.
_______________
باحث وناقد أدبي ومشرف عام مركز الترجمة بالدوحة
إحالات
1 - تسمية اللغة العربية بلغة الضاد من أعجب الأغاليط العلمية والصوتية، ذلك أن أكثر من ثلاثة أرباع الناطقين بالعربية لا يحسنون لفظ هذا الحرف ولا سيما في القرى العربية والبادية والمغرب العربي
2 - د. حسام الخطيب: اللغة العربية – إضاءة عصرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1995
3 - هارالد هارتمان: تاريخ اللغات ومستقبلها، ترجمة سامي شمعون، مراجعة د. محمد حرب فرزات، الدوحة 2006
4 - لويس جان كالفي: حرب اللغات والسياسات اللغوية، ترجمة د. حسن حمزة، مراجعة د. سلام بزي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2008.
جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة 2010