الفكر العَربي المعاصر بَين التواصُل والانقطاع - علي عقلة عرسان
الفكر العَربي المعاصر
بَين التواصُل والانقطاع
كلمة علي عقلة عرسان
منذ حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798 والأمة العربية التي كانت شبه ممزقة الصف داخلياً وممزقة الولاءات فعلياً بين أحكام الولايات والباب العالي، منذ ذلك الوقت تقريباً وهي موزعة على منحيَين رئيسَيْن في اجتهادها لمواجهة تحديات القوة الغازية، والتقدم والتفوق العلمي على وجه الخصوص.
وتتفرع عن ذَيْنك المنحيَين سُبل كثيرة يتذرع سالكوها بحجج وأسباب عديدة لاتباعهم أو ابتداعهم. لكن الأمة لا تكاد تخرج في منابع ذلك الاجتهاد ومصابه، عن منابع ذَيْنك المنحيَين الرئيسيَنْ ومصابهما، في حركة توق واضحة لاستعادة المكانة بأصالة، وممارسة الأصالة بحضور عصري. ولم يغب عن أيّ سالك من السالكين في تلك السُّبل ذلك التنازع الناشئ عما يحمله كل من الانقطاع والتواصل مع الذات والآخر، الماضي والحاضر، الأصالة والمعاصرة، الغياب والحضور، من مؤثرات وموثِّبات ومعطيات.
والمنحيان الرئيسان العريضان اللذان أرى إليهما مع شيء من المجاوزة والتجريد هما:
- منحى يرى ضرورة الأخذ بالجديد الذي تحمله القوة الأوربية ثم الغربية، الغازية المتفوقة، بكل ما يمثله ذلك الجديد ويغري به ويحرّض عليه، وبما يتطلبه استيعابه وتمثله من نبذ لعادات وأعراف وأساليب حياة وعمل وتعامل، وما قد يستدعيه أو يفرضه من تقليد اتِّباع في حالات، وما يستند إليه ويحتاجه من تحصيل مقومات وامتلاكه وامتلاك أدواته ـ العلم والمعرفة والتقدم أو الرقيّ اجتماعياً وفكرياً وسياسياً: من وجهة نظر الآخذين بالمنحى الاتِّباعي ـ من عَلمانية وديمقراطية غربية وقِيَم مجتمعات ليبرالية، ومن أنظمة للحكم وَسْوس الناس بهدف الارتقاء بهم، والذهاب في مجرى ذلك كله إلى الحدود البالغة مبلغ الدعوة إلى الأخذ بثقافة الغازي أو بالثقافة الغازية ـ غربية وشرقية قبل انهيار الإيديولوجيا الماركسية ـ ونظرياتها وقيمها ومقوماتها ككل، بما في ذلك اللغة الأجنبية: "الانكليزية ـ الفرنسية ـ الروسية"، ونبذ العربية وما حملت، لكونها، حسب رأيهم، سبب التخلف، وإحداث نوع من القطيعة مع نوع خاص مما تحمله العربية، لا سيما ما يتصل من حملها بالموروث والتراث الديني، الذي عزا إليه بعضُ المستشرقين والسياسيين الغربيين والحكام ـ كرومر في مصر مثلاً ـ أسباب كل تخلف عربي، وكذلك الدعوة إلى الكتابة بالحرف اللاتيني الذي تعتمده "الثقافة المتفوقة" وحركة العلم والتقدم التقني في الغرب، أوربية، وأوربية ـ أميركية، وتشكيل أرضية تمهد للانقطاع الفعلي عن كل ما هو متواصل من إرث ثقافي، بالمدلول الأوسع للكلمة في نطاق اللغة العربية، والتخلص كلياً من كل مرجعية عربية ـ إسلامية، أو حتى شرقية إن أمكن، والخلوص كلياً، والإخلاص ضمنياً، للثقافة والمعرفة والعلم والتقانة، والقيم وأساليب التفكير والتدبير والعيش، تلك التي حملها الغزو، الذي بدأ عسكرياً ثم أصبح غزواً عاماً شاملاً، وثقافياً على الخصوص.
ومنذ ذلك الحين أخذت تتشكل وتتعزز مركزية الثقافة الأوربية، وتغدو مرجعية لكثيرين من أبناء أُمتنا العربية تحت ظلال انسحاق المغلوب أمام الغالب وتقليده له، وانبهار المتخلف بالمتقدم واستهلاكه لبضاعته دون أن يرى فيها السوس والسوء والخطر، هذا قبل أن تصل قدرات الغرب إلى حد السيطرة شبه التامة على المنطقة، إثر التقدم الهائل لوسائل الاتصال الحديثة والإعلام والقوة التدميرية الشاملة، وما رافق ذلك وانبثق عنه من إمعان في استلاب الآخرين وقهرهم ونهب ثرواتهم واستنزاف طاقاتهم وإبقائهم قيد الاستثمار والاستغلال.
ويكاد قول سلامة موسى إذ قال: " نريد أن تكون ثقافتنا كوكبية ـ بمعنى أممية ـ ولغتنا علمية، وكتابتنا لاتينية"(1)، يلخص توَجُّه ذلك المنحى الذي بدأ مع إصلاح رفاعة الطهطاوي وما يزال مستمراً على نحو ما، في أجيال وأعلام ودعوات وتيارات، مع أخذ تطور الزمن والحوادث والمتغيرات الكثيرة بالاعتبار بين بداية تلك الدعوة وحالها الآن. وهو المنحى الذي عملت عليه سياسة وروَّج له ساسة ومستشرقون ومفكرون وأتباع، نزع بعضهم إلى التوق في تحقيق الانقطاع حدود الزَّعم بأنه لا رابط بينهم وبين الشرق، متحدِّين الجغرافيا أو قافزين فوقها، ومعتبرينها قيداً، فهم ـ على زعمهم أو وهمهم ـ من أوروبا برغم الجغرافيا والتاريخ. وهذا ما قاله ونزع إليه، على سبيل المثال لا الحصر: الخديوي إسماعيل، والحبيب بورقيبة، وبعض ساسة لبنان، وعدد من المثقفين والسياسيين الآخرين.
ـ ومنحى يكاد يعاكس المنحى السابق، يرى السالكون فيه، على تفاوت فيما بينهم، واختلاف في الأسباب والسبل وبعض الأهداف، ضرورة التحصُّن بقيَم الأمة وثوابتها ومقومات عقيدتها وثقافتها وشخصيتها وهويتها، ولا سيما اللغة وما حملت، والبحث عن ملامح الخصوصية وتنميتها، والعمل على إبراز الشخصية العربية والاعتصام بثوابتها، والأخذ بالأصول، والعودة إلى المنابع الأصيلة الغنية "دينية ـ قومية ـ اجتماعية ـ فكرية"، والتواصل مع السلف لإحياء قيمهم وتمثل سيرتهم وسلوكهم، والعودة إلى التعامل والتفاعل الإيجابيين مع التراث والموروث: بوعي وتسامح هادف عند فريق، وبتعصب وضيق أفق عند آخر، لمقاومة أشكال الغزو والاستلاب، وللتحصُّن ضد الغواية والإغراء، مع الحفاظ على إمكانية المثاقفة، وللرد على المخططات والمؤامرات الرامية إلى احتلال العقل العربي من الداخل، وإلى إضعاف روابط الأمة بمقومات شخصيتها الثقافية وتاريخها الحضاري، وإلحاق الهزيمة بها من الداخل، بتشكيكها أصلاً بجدوى ما تملك، وتشكيك أفرادها حتى بتكوينهم العقلي والخَلْقي اللذين لا يمكنانهم من أن يقودوا ويفلحوا ويتقدموا ويسودوا حسب إيحاءات وتصريحات الآخرين.
ويدعو السالكون في ذلك المنحى، على تباين فيما بينهم وخلاف في مسارهم العريض ذي الفروع التي تتصادم داخل ذلك المسار أحياناً، يدعون إلى التطهر من كل ما لحق بالنفس والعلاقات وأساليب الحياة من فساد جعل الأمة تؤول إلى حالة من التفكك والتخلف والضعف لا تحسد عليها. كما يدعون إلى التركيز على أهمية التمسك بالروح القومية وباللغة العربية وما حملت وما تمثله بالنسبة للأمة وتماسكها وتواصل قديمها بحديثها، وكذلك إلى التركيز على قيم الدين:
"الإسلام ـ المسيحية"، والأخلاق، وأساليب التعامل القائمة على تمثل لمفاهيم الدين والقومية، على أساس عدم الفصل بين العروبة والإسلام، وعدم وضع أحدها بمواجهة الآخر، لأن ذلك هو ما يرى الغرب الغازي، المادي المتفوق تقنياً، ذلك ما يرى أنه العدو الأول له والعثرة أو العقبة في طريقه التي يشقها لإزالة كل خصوصية للأمة، وكل مقومات القوة والتماسك الروحي والمعنوي لها، ولخلخلة أسباب وعوامل التماسك والمنعة والمقاومة التي تتمتع بها الأمة العربية في هذا الجزء من الشرق العظيم. ودلائل ذلك ومؤشراته كثيرة من الاستعمار المباشر إلى الأقوال والأفعال:
ألم يقل غلادستون رئيس وزراء بريطانيا في مجلس العموم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر "مادام هذا الكتاب ـ القرآن ـ في أيدي المسلمين يتدارسونه ويقبلون على العناية به، فلن تقوم لنا قائمة ـ يعني بينهم ـ فلابد من انتزاع هذا الكتاب من عقولهم وقلوبهم"(2) وهل يتم ذلك بغير انتزاع اللغة الفصحى من التداول وعزل العرب والمسلمين عن تراثهم؟!..
أو لم يعمل فلهلم سبيتا ووليم ولكوكس ومَن والاهُم وتبعهم من أجل ذلك بأشكال مختلفة في مصر.
أو لم تعمل إرساليات عديدة من إرساليات التبشير في الشرق لأغراض غير الأغراض الدينية السامية؟!..
حتى قال مارون عبود "رسالات دينية أجنبية تتناحر على شطّنا اللازوردي يخدمون قيصر معتقدين أنهم يخدمون الله (3) ".
ألم يكن التوجُّه الاستعماري واضحاً في أدائه لتحقيق أهدافه في هذا الاتجاه؟! ألم يبرز ذلك جليّاً أبان العقود الأخيرة من عهد الخلافة العثمانية ومن خلال توجهات السياسة فيها يوم اندسّ مستشرقون من أمثال فون لوكوك، ولاؤون كاهون وغيرهما، في أوساط الأتراك ليصنعوا القومية الطورونية ويغذّوا التعصب ضد القوميات الأخرى هم واليهود الدونما فيما بعد، ويؤسسوا تلك الأرضية التي أقام عليها جماعة الاتحاد والترقي اضطهادهم للعرب مسلمين ومسيحيين، والتي استنبت فيها اليهود الدونما وقدموا على أنهم رُسل تحرر وترقي.
وأنتجت شعراء وأدباء يحضون على احتقارِ الآخرين من أمثال: اليهودي الصهيوني "كوهين موئيز كوهين 1883-1961 " الذي لعب دوراً خطيراً في بلْوَرة وتنمية المفاهيم الطورانية فور وصوله إلى سالونيك (....) "والذي ارتبط مع محمد ضيا بصلة وثيقة حتى وفاتهما، وقد اتفق الكاتبان على اتخاذ أسماء تركية لهما تعبيراً عن النزعة الطورونية، فتسَمّى محمد ضيا: كوك ألب و"موئيز كوهين: تكين ألب" (4) ؟!.
وإذن فمن أرضية واقعية وتاريخية ينطلق أصحاب هذا المنحى في شكِّهم بالدعاة الذين ينادون بالانقطاع وإحداث القطيعة مع الماضي حتى وإن كان ذلك من أجل أهداف ظاهرها حسن، لأن لهم قراءات أخرى للأحداث والوقائع والتاريخ، ولهم استقراءات للنتائج ومعرفة لم يمحها من الذاكرة كرّ الأيام، ولم يمح تأثيرها السلبي الأمة.
ولم يرفض أصحاب هذا المنحى، أو بالأحرى أبرز ممثليه، العلم الآتي من الغرب والتقدم الذي يمثّله، والتقانة وتأثيرها وضرورة امتلاكها، ولا هم تنكروا لحقيقة أن الغرب هو الأقوى وأنهم وأمتهم الأضعف والأكثر جهلاً وتخلفاً، ولم ينكروا أنهم يحتاجون كثيراً إلى ما يملكه الغرب وما توصل إليه في ميادين العلم وتطبيقاته، والتقدم الحضاري وتجلياته، بل رأوا أن لا بد لهم من امتلاك ذلك والسعي لامتلاكه بكل الوسائل أن هم أرادوا لأنفسهم تقدماً ورقياً، ولأمتهم بقاء، ولعقيدتهم صوناً وفهماً، ولحضارتهم نمواً وازدهاراً.
ولكنهم رأوا أن السعي لامتلاك العلم والتقانة وإحراز التقدم ومواكبة العصر، كل ذلك لا يتناقض مع دعوة العروبة والإسلام وتلازمهما كجسد وروح، ولا مع القيم القومية والشرقية، وخصوصيات مجتمعاتهم وتقاليدها وأعرافها.
ورأوا أنه ليس لزاماً على من يرغب في أن يمتلك علماً أن يتنازل عن عقيدة وثقافة ولغة، وعن خصوصية قومية واجتماعية، وملامح شخصية وهوية، ولا عن صلات وروابط ومصالح تربطه بأخوته وبسياسة يراها جامعة نسبياً لكل الأصول والمقومات والفروع التي تحتاج إليها أمة لتوفر لنفسها أسباب التقدم والقوة والبقاء، تلك التي تحتاج إليها كل أمة من الأمم للمحافظة على كيانها وأرضها ومصالحها، وعلى حيويتها وحضورها في مجالات الحياة والحضارة، فالانقطاع عن الأصول أو الانبتات من الأرض والأصالة، ليسا شرطاً للتواصل مع التقدم العلمي أو للحصول عليه وتطبيقه، وليسا بالضرورة على خط نقيض معه لا يقبلان أن يلتقيا وإياه في كيان فرد أو أمة فيها ملايين الأفراد.؟! المنبت كما قال رسولنا الكريم لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى(5) .
ولم يكن ذلك التوجُّه في منحيَيْه، التغرّبي والتأصلي، إن شئت، يشكل حالة تصالحية في أوساط المثقفين ولا هو يركِّز الجهد على برنامج أو خطة عمل مشتركة، ولا يوفّر مناخاً تنافسياً بنّاء. فكان أهل التغرّب، أو القطع مع الأصول، يدعون إلى تقدم لا يرتبط بهوية ولا يحملها، بل يكاد غلاته يقولون بشرط انبتاته عنها، تحقيقاً لحالة "حضارية" هي تبعية مقصودة في بعض الأوساط وعند بعض الدعاة، وملغمة بماسونية ذات شعارات برّاقة لم تنكشف ارتباطاتها ومضارها بعد، عند متحمسين لحقوق وقيَم وقوانين، وبمرتبطين بالاستعمار بروابط ومصالح شتّى لم يكن لديهم الرغبة أو القدرة أو الرؤية أو البرنامج لتحقيق استقلالية ما والحفاظ عليها مستقبلاً. بل إن هناك من بين الدعاة لهذا الاتجاه من لم يكن يفكر أصلاً إلاّ بالانسلاخ عن الشرق والارتماء في أحضان الغرب، بعيداً عن كثير من الاعتبارات والقيَم والارتباطات.
وكان بين أولئك فريق يعملون بحماسة لإخراج الأمة من مأزق التخلف، ويرون الأنموذج الغربي في زهوه وقدرته، ولا يتبيّنون خطراً في تقليده وفي التنازل عن أشياء كثيرة مما لا يرون فائدته أو خطورة التنازل عنه في سبيل امتلاك ناصية التقدم واللحاق بركب الحضارة، وهم يرون أن الرغبة في الوصول تبرّر كل قطيعة مطلوبة لأننا لابد أن نكون أبناء العصر الذي نعيش فيه، ولابد أن نتزيّا بزيّه ونملك أدواته، ويدفعهم الإخلاص والحماسة إلى التضحية بالكثير من الخصوصيات ليروا الأمة في ركب التقدم والتحرر.
وكان فريق من أهل التأصّل أو التشبّث بالأصول والتواصل معها والانغلاق أو التقوقع بعيداً عما سواها، مما هو معروف عن فئة من المتزمِّتين والقاصرة رؤيتهم عن إدراك المتغيرات والتطورات من بين أولئك، يذهبون إلى حدود رفض الغرب كليّاً ورفض كل ما يجيء منه في حمية واعية لأهدافها وأسباب مخاوفها، وغافلة عن طرائق تحصيل ما تريد بعيداً عن التواصل معه. إنها تريد وتكاد لا تدرك كيف تحقق ما تريد، وهي محاصرة بالذعر والشك جرّاء خبرة سابقة من جهة وجرّاء تعصب بعض شرائحها من جهة أخرى مع وجود فئات تريد أن يتم تفاعل وتبادل على أساس من الوعي والحذر.
ولم يكن ذلك التوجُّه في منحيَيْه بدعاً جديداً في تاريخ الأمم والشعوب والثقافات، فكل أمة عندما تواجه حال من القهر والاستلاب والضعف وتتعرض لعدوان واستعمار يهزّان ثقتها بنفسها وقدرتها على مجاوزة محنتها والثبات وتحقيق انتصار في مواجهاتها، وتستشعر فتوراً في حيويتها وخمولاً في أدائها الفكري والعلمي والعملي يُقصِّر بها عن خوض ميادين الفعل المنقذ والمُجدي على الصُّعد الثقافية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ـ ولا سيما عندما تُغزى في عقر دارها وتغلب على أمر أو أكثر من أمورها ـ تطرح على نفسها أسئلة وتحاول أن تبحث عن أسباب ومخارج ووسائل(6)، وأن تواجه الزلزلة التي تتفجر تحت أركان وجودها وثوابتها، فتكاد تقوّض ذلك الوجود وتلك الثوابت.
وتقوم الأمة في مثل تلك الحالات بشيء من المراجعة أن كانت ممسكة بزمام أمورها، فتصلح ما يمكن إصلاحه، وتسعى إلى توفيق أو تلفيق أو ثورة لإعادة البناء، وإذا لم تكن ممسكة جيداً بذلك الزمام فإن الرؤية تغيم وتضطرب، والسبل تتعدد، والاتجاهات تتباين وتُصاب الأمة بالتشتت والتآكل وهي تبحث عن مخارج وترصُد أسباب الخلل، وتتبَيّن صواب الطريق إلى التماسك والتقدم والرقي.
وقد واجه العرب قبل الإسلام وبعده شيئاً من ذلك، وواجه المسلمون، وفي مقدمتهم العرب، أسئلة وحالات من تلك أثناء هجوم المغول التتار وأثناء الغزو الصليبي، ولكن يبدو إن حدة الأسئلة ودقتها، وضغط التيار الآتي من الخارج وقوته فكرياً واجتماعياً وعلمياً وثقافياً وعسكرياً، وما بلغه مدى الأسئلة والأجوبة المقترحة للرد عليها، ومتطلبات مواجهة تلك التيارات والقوى والحالات، وما يترتب على ذلك من احتمالات، يبدو أن كل ذلك لم يصل إلى الحد الذي بلغته أسئلة العرب وأجوبتهم والاحتمالات المترتبة على ما آلت إليه أمورهم، بعد أن واجهوا حملة نابليون وما رتبته نتائج الحربَيْن العالميّتَيْن الأولى والثانية عليهم، وتعرُّضهم للاحتلال الأوربي المباشر، وما فرضته سلسلة الهزائم والنكسات والإحباطات التي توالت بعد ذلك منذ أن زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، وقيام الشرق والغرب بدعمه دعماً تناوبوا عليه ولكنه تواتر وما يزال مستمراً، وكذلك ما أسفر عنه ضغط القوة وغطرستها عام 1990 لاسيما في حرب الخليج الثانية، أقول لم تصل إلى ذلك الحد من القوة والجدِّية والتحدي من قبل، ولا هي كانت بالشمول الذي أراده للأجوبة عن تلك الأسئلة دُعاة التغيير والتنوير، ودُعاة الانقطاع والأتباع، أولئك الذين بدأ مسار أسئلتهم يشتد ويحتد ويتصاعد منذ حملة نابليون وما يزال تيارهم أو تياراتهم مستمرة على هذا النحو أو ذاك، مما نبت على الأرضية أو تفرّع من الدوحة التي نبتت فيها.
ممن أرادوا أن تستبدل الأمة جلدها ولغتها وثقافتها، وأن تمسح شخصيتها وخصوصيتها، وأن تسود فيها معاملات وعلاقات وربما عقائد وعبارات تتلاءم أو تتماشى مع استيراد التقنيات والإيديولوجيات واستهلاكها، لأنهم يرون الانفصال بين التقانة وإيديولوجية أهلها والمناخ الفكري الذي نشأت فيه وأسلوب حياة مُنتجيها، وألا فلاح أبداً من دون أخذ ذلك كله في آن معاً دونما فصل بين العلم وتطبيقاته والتقانة وأدواتها من جهة وإيديولوجية مالكيها وقيمهم وثقافتهم من جهة أخرى. أو ممن ذهبوا في ردّهم على ذلك التيار وفي مواجهتهم للأسئلة والتحديات المطروحة عليهم وعلى الأُمة إلى حدود الإيغال في التجذُّر الأصولي والانغلاق، والتمترس وراء شكليات والأخذ بشكلانيات وسلوكيات ومظهريات سلفية ولا أقول التوصل إلى تمثّل حيوي لمناقبية السلف الصالح وقيمه وروحه العالية، وجوهر نظرته للأمور، وعقلانيته وانفتاح أُفُقِه، واستقراء ذلك حسب منطق العصر ومعطياته لإحداث نقلة فكرية واجتماعية وروحية وتحررية على معيار، والوصول إلى مناخ عمل وتعامل وسلوك، وأُسس تفكير وتدبير، تقدم أرضية صالحة لأن تستنبت فيها الحلول، وتؤدي الطرق التي تشق فيها إلى مخارج للأمة مما هي فيه، انطلاقاً من حقيقة أن قدرة الإنسان على استيعاب علم وامتلاك تقانة وتحقيق تقدم في ميدانهما ليس رهناً بتغيير قِيَمه ومعتقده وخصوصيته وشخصيته وهويته، لأن قيمة الإنسان وخصوصيته شيء، وقدرته على التعلم وامتلاك العلم والتقانة وتطبيقهما شيء آخر، ولا توجد ضرورة شرطية ملزمة، بين التنازل عن الذات والمعتقدات والخصوصيات وبين تحصيل العلم وتطبيقه وامتلاك التقانة والاستفادة منها إذا كانت مملوكة من الغير.
إنّ حركة التواصل والانقطاع المتتالية بوتائر مختلفة بين تيارات ومحطات أو قُل منارات تمثلها شخصيات وتنظيمات وسياسات أحياناً، على مسارات كل منحى من ذَيْنك المنحيَين لم تتوقف لا عن التحرك ولا عن النمو.
ولا أرى أنه يمكن لها أن تتوقف عن ذلك، ولكن متغيرات كثيرة تجعلها تشتد أو تضعف، وتؤثر ايجابياً أو سلبياً في مساراتها أحياناً، كما تؤثر في شدة مواجهتها وجدوى تلك المواجهة في داخل كيان الأمة، دون أن يعني كمون توجُّه ما زوالاً له أو ضعفاً في قدرته على استئناف التأثير في المسار ذاته، مع تنويع وتطوير للأساليب بالخبرات المكتسبة، ودون أن يوصل وضع ما، يصل إليه أطراف في المنحيَين أو المنحَيان كلاهما، أو الأمة في جل شأنها أو في شأنها كله، إلى قيام حوار موضوعي بنّاء، يتم في مناخ ملائم، يؤدي إلى تفاهم وتعاون يؤديان إلى اتفاق على ثوابت وأولويات، وعلى توظيف للطاقات والقُوى والإمكانات لخدمتها حسب برنامج يضع الأمة على طريق تغيير الأحوال والأوضاع والبنى والعلاقات والعقليات، تغيير يؤثر بشكل ايجابي وحاسم على قدرة الأمة في مواجهاتها وتحدياتها، ويضعها في موقع متقدم على واقعها الحالي، حيث تبدأ استعادة عافيتها ومكانتها وحقوقها ومساهمتها في بناء الحضارة المعاصرة على نحو فعّال.
ونحن واجدون امتداد ذَيْنك المنحيَين في التاريخ العربي الحديث واضحاً، مع ما يشوب كل منحى من شوائب وما يمتد فيه أو له من ظلال وتفرعات يقيِّمها الاجتهاد ويغذيها البحث والوعي أو ما يدفع إليه الاختلاف أو عمق الانتماء ودرجته والتنافس أو قُل التناحر.
ففي حين تجد اتجاهات ذات ظلال مديدة وتفرعات عديدة قد تتصادم وتتعارض أحياناً في تيار عريض عام يتمحور حول الدين والأصول والتراث والقيم العربية والإسلامية وبعض الملامح القومية، يرغب ممثلوه وأتباعه في التقدم وامتلاك العلم والتقانة والاستفادة من أساليب الاتصال والتواصل الحديثة لاكتساب المعرفة وخوض المثاقفة، مع الحفاظ على الهُوية والشخصية الثقافية وسلامة البنية الاجتماعية والروحية للناس في بيئتها وخصوصيتها وانتمائها لجغرافيا الأرض وتربة التاريخ، ابتداء من جمال الدين الأفغاني مروراً بالشيخ محمد عبده(7) ورشيد رضا ـ شكيب أرسلان ـ لطفي السيد ـ عبدالرحمن الشهبندر ـ عبدالحميد بن باديس ـ علال الفاسي ـ خير الدين التونسي، وغيرهم كثير وما تفرَّع عنه من امتدادات تنظيمية وسياسية متشددة ومتطرفة أحياناً "من حسن البنّا إلى سيد قطب.. إلخ." .
على ما بين هؤلاء الأعلام وتلك الفئات والاتجاهات التي تكوّن هذا التيار العريض من تفاوت واختلاف وتضاد أحياناً ضمن هذا المنحى العام من الحركات والاتجاهات والتيارات الإسلامية والقومية والأصولية غير العلمانية في أغلب الأحيان والسلفية المتشددة في مساحات منه، وهي حريصة على امتلاك العلم ومقوّمات التقدم والقوة في كل حين، دون اقتناع منها بأن امتلاك العلم والتقانة والتقدم، وخوض ميادين الحضارة الحديثة، شرطه الأساس نبذ العقيدة الإسلامية واللغة العربية، وتحميلهما أسباب التخلف، ونبذ ما حملتاه عبر تاريخهما من قيم ومعلومات ومقومات شخصية ومعطيات حضارية، أو إضعاف تأثيرهما وتخفيف الصلة بهما إلى أدنى الحدود من خلال إضعاف الصلة بالتراث والموروث، والنظر إليهما كقيد وعائق.
تجد في المنحى الآخر مَن ناهض ويناهض المنحى السابق واتجاهاته وتياراته وأعلامه، ويتهمهم ويحمّلهم مسؤولية التخلف والتقوقع والهزائم والسلبيات وحتى الأزمات وما يحدث من تعصّب وتطرّف. وأولئك الذين يشكّلون المنحى الثاني تنوّعت مشاربهم واتجاهاتهم وامتدت ظلال تياراتهم وفروعها وتفاوتت بشكل ملحوظ، كما تباينت آراء أعلامه وتوجيهات تنظيماته حتى ليجد المرء صعوبة في وضعهم في منحى عريض عام واحد، شأن الأول تقريباً، وقد امتدت معالم ذلك المنحى وظلاله بين من يرفض اللغة العربية والعقيدة الدينية وموروثها الاجتماعي والفكري، إلى من يتمسك بهما ويعتبرهما أساساً من أسس تكوينه ويعتز بما حملتاه، ويرى أن قوميته وشخصيته تتصلان بهما وهويته وخصوصيته تنبعان منهما، ويطاول اعتماداً على ذلك وانطلاقاً منه، يطاول العلم والتقانة والثقافة المتجددة المتقدمة، بثقة واقتناع تام بكفاءته وأهليته واقتداره على الوصول والريادة.
ونلمس تواصل ذلك التيار ونموّه وتطوّره، بظلاله وفروعه ونتوءاته واختلافاته منذ: رفاعة رافع الطهطاوي والشيخ محمد الطنطاوي وبطرس غالي الجد ـ عبدالعزيز فهمي ـ جورج زنانيري ـ شبلي شميل ـ سلامة موسى ـ وصولاً إلى ساطع الحصري وحتى لويس عوض ودعاة الكتابة بالعامية والحرف اللاتيني والتغرب التام في مصر وبلاد الشام، ومن سار على هذا المسار من دعاة الفرنسة في المغرب العربي، ومن يعيشون غربة أو يستشعرونها في العربية وبين العرب. ومن يرون أن العربية والعقيدة التي تحملها قيدان وقلعتان مانعتان على نحو ما من التفاعل والتواصل الخلاق(8) .
وهناك فئة عبر هذا المنحى لها فهمها واجتهادها وخلفيتها الثقافية القديمة واعتناقها الإيديولوجي الحديث ولها رؤيتها ونظريتها للتراث فهي لا ترى أن تقطع الصلة به وبالماضي والأصول ولكنها تريد أن تفرض قراءة خاصة وتقدم اجتهاداً وتفسيرات ونظرات يراها البعض مفروضة من جهة ومرفوضة من جهة أخرى، ولا تنجح في أن تخفي تلفيقها في معرض توفيقها بين المادي والروحي حسب مناهج وإيديولوجيات "علمية ـ مادية" ؟؟.
ونحن نعيش اليوم بشكل أو بآخر على أرضية ذلك الصراع الذي بدأ قديماً بين:
ـ المركزية الثقافية الأوربية "الغربية" وما نشأ عنها وارتبط بها من أحكام ومعايير ومقاييس ومناهج، ومَن والاها وتتلمذ عليها وعمل على تقويتها ونشرها، وتشرّبها فتبعها ومثّل تياراتها ودعواتها وخدم أهدافها وحقّق أغراضها ومصالحها بين ظهرانينا من أبناء أُمتنا، ومن ارتبطت مصالحهم ومعاني وجودهم السياسي والاجتماعي والثقافي بتلك المركزية، واعتمدوا عليها في نضالهم وخصوماتهم مع إخوتهم على تفاوت ذلك الارتباط أو قل ذلك الأتباع، من أبناء أمتنا العربية.
ونتابع تجلِّيات تلك المركزية وتحولاتها وتقلباتها في مجالات قوة وسطوة وعلم وحضارة وتفوّق وتقانة عالية، وامتلاك أهلها لوسائل التدمير الشامل وتحَكُّمهم بوسائل الاتصال الحديثة وبالمواد الأساسية لتقدُّم العالم، وبمقاديره وقراره السياسي والاقتصادي، وما ينشأ عن ذلك كله من واقع ومعطيات وصلات، وما يرتبط به أو ينشأ عنه أو بسببه من توجهات سياسية وأساليب تعامل وتواصل مع الثقافة والحضارة والناس وما يقوم على ذلك من عمران ويتصل به من منافع.
ـ المركزية العربية ـ الإسلامية إن صحّت التسمية، أو الأصولية الإسلامية ـ والأصولية القومية، وما تحرص كل منهما عليه من خصوصيات ومقومات، وهُوية وعقائد ومصالح وعلاقات وشعارات وسياسات في إطار رؤية حضارية شاملة، جديدة أو متجددة، ولكنها لا تخرج عن رفض كل أشكال التبعية وأنواعها لاسيما للغرب الاستعماري ولمركزيته الثقافية، والنظر إلى تلازم الأخذ بالفكر والعلم والتقانة والعلمانية والإيديولوجيا ونظام الاجتماع والحياة ككل في آن معاً ودون تجزيء على أنه أمر غير منطقي ولا علمي ومرفوض فضلاً عن كونه مشبوهاً أو يعبِّر عن ضيق أُفق.
كما ترفض أن تقبل الإقرار بمقولة إن الإسلام واللغة العربية هما، بالدرجة الأولى، وراء أسباب التخلف، وما أصاب الأمة من ضعف وهزائم وتمزق وتراجع.
ويكاد يجمع الشرائح المتوزعة على هذين المنحيَين الكبيرَين الممتدّيْن عبر تاريخنا الحديث كله، لاسيما في الفترة المعاصرة، الاتفاق على الشكوى من أمور ألخصها في نقاط منها:
ـ إنّ غياب الديمقراطية في الوطن العربي سبب رئيس من أسباب التخلف وتراجع مكانة الإنسان العلمية والعملية والحضارية، وتراجع قدرته على الابتكار والاختراع والإبداع. مع اختلاف على كيفية الخروج من دوامة الشكوى والتشخيص واجترار الألم، إلى ساحة ممارسة موضوعية مرضية على أرضية احترام الإنسان وحرياته وحقوقه، واحترام العقل، والمساواة بين الناس تحت سقف الإخلاص للوطن وسيادة القانون.
هل يكون ذلك بالشورى والشريعة، أم بالدساتير العصرية الآخذة بالعلمانية؟؟ أم يكون بصيغة أخرى يقود إليها الاجتهاد والإبداع؟!!.
ـ إنّ التمزق العربي، والخلافية السياسية المقيتة، وتوزع الناس ولاسيما المثقفين عليها، وخدمتها، أحد أهم أسباب ضعف المجتمع ومؤسساته، وضعف الوطن ومقوماته، وخلفية كثير من المشاكل والأزمات، وربما هو أساس ضعف عام في بلدان العالم الإسلامي، والعالم النامي، لأن قوته وتماسكه وتقدمه كل ذلك يشكِّل صُلب القوة والتماسك والتقدم في ذَيْنك العالمَيْن، ويؤثِّر فيهما سلباً وإيجاباً كما يتأثر بهما.
- إنّ القدرات البشرية والمالية والعقلية ـ العلمية الموجودة في الوطن العربي والمهاجرة منه ـ تلك التي قد يربطها حنين إليه وتعلق به ـ قادرة على تحقيق مسيرة تقدم علمي وتقني وحضاري متميزة في الوطن العربي، ولكن لا يوجد مناخ علمي وعملي واجتماعي وسياسي وحياتي عام يمكِّن من ذلك.
ـ إنّ الغرب، بشكل عام، يرفض وسيرفض يقاوم وسيقاوم امتلاك العرب بشكل خاص والمسلمين بشكل عام لمقومات القوة والعلم والتقانة، تلك التي تجعلهم قادرين على امتلاك القوة والقدرة اللتين تحرّران قرارهما السياسي بتحرير ثرواتهم وأوطانهم وإراداتهم من السيطرة والاستلاب، وتجعلهم قادرين على امتلاك السلاح الذي يدافعون به عن أراضيهم وشعوبهم ومصالحهم، عن حضارتهم القومية والثقافية والاعتقادية. ولا يوجد خلاص فردي ـ قُطري ـ من أي نوع، وأن الخلاص يكون جماعياً أو لا يكون.
ـ إنّ الحكومات أو قُل معظم الأنظمة العربية على الخصوص سوف ترفض أي تنازل عن أية مصالح أو خصوصيات قطرية، وعن أية امتيازات وصلاحيات، وحتى عن هوامش ضيقة في الجغرافيا السياسية، لصالح عمل قومي ووَحْدَوي عام بَلْهَ إسلامي شامل، و "عالم ثالثي" أشمل، وسيدعمها في ذلك الغرب الاستعماري دعماً مطلقاً، أو ستلجأ هي إلى القوة العالمية تحتمي بها من كل مطالبة بأيّ تنازل لصالح بِناء قوة أو تقانة أو مؤسسات أو مصالح قومية، أو عربية ـ إسلامية عامة. لأنها تعيش في مناخ انعدام الثقة، وانعدام الرؤية لطرق الخلاص من خلال الكُل، حيث لا يمكنها أن تضمن بقاءها الخاص مع نمو الكُل القوي قومياً، بكل ما يرتّبه ذلك وما يترتب عليه.
ـ إنّ كل قُطر عربي أو بلد إسلامي أو حتى بلد من بلدان العالم النامي، لا يستطيع، في ظل الأوضاع والعلاقات السائدة في عالم اليوم، وفي ظل سيطرة القوة الغاشمة والقطب الواحد ذي الطبيعة الاستغلالية القهرية، أن يحافظ على مصالحه واستقلاله وحرية إرادته وقراره السياسي، ولا أن يحقق تقدماً من أي نوع أو تحالفاً يقرِّبه من ذلك التقدم، إلا في الحدود التي تسمح له بها القوى الكبرى المسيطرة والغرب ذو المصالح، ومصالح أولئك الذين ترتبط مصالحهم بالقوة الوحيدة المهيمنة ويرتبط بقاؤهم وسلطانهم بها وبرضاها حتى من أبناء تلك البلدان.
ـ إنّ عالم اليوم دخل في دائرة جديدة لا تكاد تتضح معالمها، ولكنها لم تتغير بشكل جذري وربما لن تتغير قاعدتها المستندة إلى مبدأ سيطرة الأقوى، وسياسة نهب العالم الفقير والسيطرة عليه، وفتحه أسواقاً للاستهلاك وأدوات للابتزاز، وعمالة رخيصة، وموارد عامة للمواد الخام، والثروات الطبيعية والمواد الأولية، التي يحتاج إليها الأقوياء والمتقدمون صناعياً.
ـ إنّ القرن القادم، كما يعلن قادة القوة الأعظم اليوم والقوى السائرة في ركابها هو القرن الذي سيشهد انهيارات أضخم من تلك التي شهدها القرن العشرون، أي انهيار الشيوعية، والاتحاد السوفيتي، والإيديولوجيا الماركسية وكل ما ارتبط بها وبُنِيَ عليها. وهم لا يخفون أنه عصر سيادة النموذج الثقافي والأخلاقي الغربي، هو نمط القيمة الأميركي تحديداً، وقد قال سياسيون ومثقفون غربيون بوضوح، إنه عصر انهيار الإسلام والعروبة ضمناً وكل ما يتصل بذلك. وهذا يعني أن الحرب الرئيسة ستقع على الجبهتَيْن الثقافية والاقتصادية بالدرجة الأولى، وستكون ترسانة السلاح هي سلاح الردع الاستراتيجي الذي يشعّ رُعباً ويُنذر بالهلاك دون أن يضطر أصحابه لاستخدامه. وسيكون الأعداء العرب وفي مقدمتهم الصهيونية العنصرية ولأعداء الإسلام التاريخيّين دور كبير يقومون به. وإنّ تلك المواجهة ستحتاج إلى طاقة الإنسان الإبداعية المتحررة من كل قيد بالدرجة الأولى وإلى إمكانات وأدوات تكون في خدمته وإلى مناخ عمل وإنتاج وحياة يمكنه من استخدام قدراته بإبداع واقتدار، وأن يوظفها توظيفاً سليماً وناجحاً وفعّالاً في الدفاع عن كل ما هو مستهدف في وجوده ولا سيما ثقافته وعقيدته ولغته وقيمه وكل ما يميّز شخصيته ويتصل بمقومات قوته ووجوده.
وعلى الرغم من أن هذه النقاط التي أشرت إليها وكثير غيرها مما لم أشر إليه هنا، تشكل برنامج عمل مشترك، أي أولويات شديدة الأهمية بالنسبة للجميع وجديرة بأن تقدم على كل ما سواها من وجوه الاختلاف، فإن الطاقات الفكرية والبشرية والثقافية والمادية التي تتمثل في ذَيْنك المنحيَين الكبيرين المستهدفَيْن إجمالاً، لا تجعل من هذه النقاط برنامج عمل مشترك لها جميعاً، يقود إليه الحوار على أرضية من الثقة والاحترام، ليكون ذلك مدخلاً للإنقاذ والثبات، ولاكتشاف مدى التعاون الممكن بين كل تلك الفئات والاتجاهات والتيارات والشخصيات، خدمة للوطن وتحت سقفه، وتثبيتاً الوجود المهدد على أرضية ثوابته المشتركة.
ولا أريد أن أذهب إلى المدى الذي يذهب إليه من يقولون بأن هناك ما يشبه الفرض أو الارتباط الملزم أو حتى التبعية الخفية وهو ما يجعل مُمَثِّلي تلك التيارات والاتجاهات الذين يكونون حركتها وتأثيرها وحضورها اليوم وسلالاتها المعاصرة، أبعد ما يكونون عن الاتفاق والالتزام بالمصالح العليا للجماهير والأوطان ورؤية المشترك والمصيري اللّذيْن يمليان عليهم أن يخضعوا كل اختلاف فيما بينهم للحكمة والمصلحة العامة لكل من الوطن والأمة ومستقبل الأجيال القادمة. لا أريد أن أذهب إلى حدود القول بأنهم سيبقون قيد التمزق والهزال والاقتتال، ويبقون الوطن والأمة قيد ذلك، ويتركون البلاد نهباً للضعف ورهن احتلال الإرادة والقرار، والسيطرة على الثروة والمستقبل والمصير. لا أن أمضي إلى ذلك المدى في هذا المنحى لأنني أريد أن أبني تفاؤلاً هو شرط للحياة ومدخل للخلاص، يقوم على أرضية من الثقة والحرية والاطمئنان والاقتناع التام بأن من يخلص فعلاً للوطن والأمة والعقيدة والحضارة لابد له من أن يرى المخرج الذي يجمعه بالآخر الشريك، ولابد أن يضع يده بيد الآخر الشريك في الشرط الإنساني والمصير القومي والإنساني، رغم اختلافه عنه وخلافه معه، هذا إذا كان كل منهما يخلص للقضايا العامة وللناس ويريد أن يخدم بتجرّد ونزاهة، في مرحلة يعيشها معهم ويعاني فيها مثلهم ويرى أكثر منهم كم هم مهددون ومسحوقون، وكم هي المخاطر قريبة وكبيرة.
إنني أدعو إلى حوار عميق ومسؤول على أرضية المشترك العتيد الضخم، ذلك الذي يتصل بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وبوجود حيوي لنا فوق أرض تثبت تحت أقدامنا ونُثبِّت أقدامنا فيها ليتجدد فوقها حوارنا وحتى اختلافنا من أجل الوطن والخصوصية القومية والحضارية، وتحت سقف الوطن بكل ما يعنيه وما يكونه.
حوار لا يتوقف عند حدود تبادل الآراء والأفكار والعواطف، وينتهي ببقاء المتحاورين كلٌّ في موقعه خلف متراسه، بل ينتقل بنا إلى رؤية مشتركة للأهم فالمُهم، وبرنامج عملي يأخذ معطيات الواقع والحاضر وتطلعاتنا وحاجاتنا المستقبلية بالاعتبار، ويستقطب جهودنا وإمكاناتنا حول الأولويات والضرورات.
وأدعو إلى نبذ كل ما يعوق ذلك الحوار أو يؤخِّره أو يمسخه أو يشلّه، وإلى توفير المناخ المناسب الذي يساعد كل المساعدة على تواصل الأنا مع الآخر بصدق وصراحة واطمئنان، ويحقق انفتاح الأنا على الآخر بثقة ومسؤولية وأمان. ولا شك في أن الحرية المسؤولة والاحترام التام، والانطلاق من المشترك والثابت سيجعل التواصل في إطار هذا الحوار يقوم على أساس متين ويحقق نتائج طيبة نحن أحوج ما نكون إلى تحقيقها الآن.
إن تواصل المجموع مع الواقع من جهة ومع ثوابت الأمة ومقومات شخصيتها وما يمايزها ويعمّق حضورها ويجسد قيمها وأنموذجها الحضاري من جهة أخرى، أحد المداخل الهامة والضرورية لتحقيق تواصل بناء مع الحياة في صيرورتها وسيرورتها، ومع الأمم من حولنا في إطار المثاقفة المقتدرة، ومع العصر وروحه ومعطياته ومتغيراته، مع علومه وتقنياته وقوانينه التي لا ترحم الضائعين والجاهلين والذين يقفون على ضفة نهره الصخاب يتقاتلون.
وربما يبدأ الأمر في حدود شرائح من كل فريق من الفرقاء لا يعصف بها التعصب ولا يبعدها ضيق انتماء وتطرف وتعصب عن رؤية مواطئ الأقدام الآن التي تثبتهم في أرض الآباء والأجداد وفي تربة المشترك، في أرض الثقافة واللغة والعقيدة، أرض الأمة العربية وتربتها الحضارية والمصير المشترك الذي يجمع أبناءها.
وأسأل الله سبحانه وتعالى توفيقاً لكل من يعمل لذلك الذي فيه مدخل للخلاص مما نحن فيه وما يتهددنا، وفيه تواصل بنّاء فيما بيننا ومع ما يشكّل لُحمة مجتمعنا وسداه عبر الماضي والحاضر، وتفاعل سليم ومثاقفة صحية مع الآخرين في هذا العالم الذي لا يمكن أن نكون إلاّ جزءاً منه، ولا يمكن أن ننعزل فيه أو نتقوقع في مساحة من أرضه أو في واحة من واحات تاريخه، أو في بؤرة زمنية منه مهما كان بريقها ونورها أخّاذَيْن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1) – سلامة موسى: البلاغة العصرية واللغة العربية ص 104.
(2) – موفق بني الرجة ـ الخلافة العثمانية ص 199.
(3) – مارون عبود ـ رواد النهضة ص 187.
(4) – أنظر: الوجه الآخر للاتحاد والترقي ـ تأليف: حسن كلشي. ترجمة: د. محمد الأرناؤوط ـ منشورات دار قدسية ـ إربد 1990ـ لا سيما ص 24 وحاشية المترجم فيها.
(5)- أوْرَدَ د. حليم اليازجي في كتاب: المعرفة والسلطة الصادر عن مركز الإنماء العربي ما يلي:
" لم يشأ محمد علي أن يغيّر في نظم الأزهر شيئاً بحيث توافق مقتضيات العصر وحاجات النهوض، وذلك لسببَيْن رئيسيّيْن على غاية من التلاحم العضوي: أولهما: أن الأزهر لم يكن مجرد مؤسسة تربوية مصرية، بل مؤسسة دينية سياسية يبدو إصلاحها عملاً شاقاً. وثانيهما: أن أيّ تغيير في الأزهر وتحويله إلى نظام مدني لا بد أن يصطدم بالشعور الديني الإسلامي الذي كان مسيطراً على أذهان الناس في أقطار الشرق آنذاك. ولكن محمد علي نجح في أن يتخلص من تأثير الأزهر على نظامه الجديد على الصعيدين السياسي والتربوي، فإذا بنا في أخريات أيامه، وبعد أن اشتد ساعد الثقافة الأوربية في بلاده يقوم بمحاولة تأليف الكتب اللغوية والعلمية المتنوعة على طرق حديثة. وكانت هذه الكتب تسير في أطراد جودة وعدداً، وكانت نزعتها التحررية في تواصلها مع الثقافات الأوربية تزيد الهوّة اتساعاً بين نظام الأزهر والتعليم الحديث حتى أوشكت هذه الصلة أن تنقطع كلياً في زمن الخديوي إسماعيل وخلفائه فبدت مصر كأنها تعيش أيديولوجيَّتَيْن فكريَّتَيْن تهددان بانقسام المجتمع إلى مجتمعَيْن لا صلة اجتماعية ووطنية تربط بينهما. " ص 136. فلنتمَعّن جيداً في هذا.
(6) – يرى د. هشام جعيط أن "هناك عدة سمات تتسم بها الثقافة الفكرية المعاصرة وأول مميزاتها كونها ثقافة تساؤلية مُحمَّلة بالرؤى المستقبلية أي هي ثقافة أُمة تُسائل نفسها عن مصيرها اليوم وعن علاقاتها بالعالم الخارجي وبماضيها على السواء. وليست ثقافة إبداعية بالمعنى الذي تحمل فيه نظريات عامة حول الإنسان والتاريخ والمجتمع." الإنتاج الفكري العربي منذ عشرين عاماً ص 339.
وعلى طريق البحث عن مخارج وحلول يدعو د. محمد أركون "إلى عمليّتَيْن عقليّتَيْن ثقافيّتيْن في نفس الوقت:
- فالأولى نقصد إلى التحليل الأثري الانتقادي الاستفساري للثقافة العربية لتحرير العقل العربي من الميثيولوجيات العديدة التي تستلبه وتزيف عمله.
- والثانية اندفاع هذا العقل المحرّر في النضال الإبستيمولوجي العرفاني الذي يهمّ كل إنسان أيا كان دينه ومذهبه الفلسفي واتجاهه السياسي واستناده التاريخي والثقافي. وما دام العقل العربي عاجزاً بعيداً عن هاتَيْن العمليّتَيْن فسنزيد تخبّطاً في جهل وضلال وتزييف لحقائق الأمور.".
نحو تقييم واستلهام جديدين للفكر الإسلامي ـ الخطة الشاملة للثقافة العربية ـ ق1 ج3 ص13 ــ 14 الكويت 1983.
(7) - قال كرومر عن الشيخ محمد عبده: "إنه أدنى إلينا من المحافظين المتشنجين في إسلامهم وأدنى من المصريِّين المُغالين في تفرنجهم" كتاب: المعرفة والسلطة ص 212 عن المنار ج 3 مجلد 11.
(8)- يقول د. محمد أركون " هكذا يبقى الفكر الإسلامي منحصراً في قلعة إيديولوجية لا يدخلها إلا من ترك علوم الإنسان والمجتمع كما تُمارَس في البيئات العالمية الحديثة". الخطة الشاملة للثقافة العربية ق1 ج3 ص15 ـ الكويت 1982.