السفير - العالم قبل «ويكيليكس» وبعدها
الجمعة 3/11/2010
العالم قبل «ويكيليكس» وبعدها
سامي كليب
سيتحدث العالم طويلاً عن وثائق «ويكيليكس». ثمة عود ثقاب اشتعل ومن المنتظر أن تلتهم حرائقه الكثير من هشيم السياسة العالمية والعربية الراهنة. ستكشف اسرار كثيرة، ولكن الأهم منها، أن هذه الوثائق ستؤكد ما كان الناس يعتقدونه من أن لا أخلاق سياسية في العالم ولا مبادئ وانما مجموعة من المصالح والتكاذب الدبلوماسي.
كان العرب يعرفون مثلاً أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس يعرف عن الحرب على غزة قبل وقوعها، ولكن الوثائق جاءت لتؤكد ذلك ولتتهم مصر بالشيء ذاته. وكانوا يعرفون أيضاً أن أطرافاً لبنانية بارزة تريد القضاء على حزب الله عبر الدعاء لإسرائيل بالنجاح في حربها العام 2006 وعبر تسهيل عمليات التجسس على المقاومة، ولكن الوثائق جاءت تميط اللثام عن الساسة الكرام. وكان العرب يعرفون ايضا وايضا ان انظمة عربية كثيرة تتآمر مع الغرب ضد ايران، فجاءت «ويكيليكس» تعزز هذه المعارف وتدعمها بالوثائق والبراهين.
كان الفرنسيون يدركون أن نيكولا ساركوزي أطلسي النزعة يهودي الهوى، فجاءت «ويكيليكس» تؤكد أنه الرئيس الأقرب الى أميركا في تاريخ فرنسا واوروبا معاً. وكان الايطاليون يدركون ان سيلفيو برلوسكوني سطحي ومعجب بذاته حتى الغرور، فأكدت الوثائق هذه الصفات.
بدأت الأنظمة العربية ومعها الهائمون بالمخططات الأميركية المشرذمة لأمتهم، يعدّون لحملة تكذيب الوثائق او «تصحيح او توضيح» ما جاء فيها، وبدأت آلة دولية متعددة المصادر تعمل على خنق صوت «ويكيليكس» درءاً للفضائح ولاتساع رقعة الحريق، وصار بعض العرب ـ وللأسف بعض نخبهم أيضاً ـ يتحدثون عن مؤامرة وثائقية خطيرة، وهذا بحد ذاته يؤكد أن ثمة من اجتاحته الوثائق حتى شلت عنده قدرة النظر اليها من زوياها الايجابية الكثيرة، وهذه أبرزها:
÷ كشفت الوثائق أن أميركا تتابع بدقة كبيرة اسرار العالم، وان ثمة جهازاً بشرياً هائلاً لديها مكرس لهذه الغاية، وانها تعتبر كل السياسيين والدبلوماسيين والموظفين في الدول التي لها فيها سفراء، مجرد جواسيس او مخبرين، وان ثمة خطورة كبيرة في ما يقال لسفرائها ذلك انها تبني على قسم مما يقولون جزءاً لا بأس به من سياستها.
كشفت أن الكثير من السياسيين العرب، يقدمون أنفسهم على أنهم مجرد مخبرين، وأن جلهم يتواطأ ضد شعبه خدمة لمصالح ضيقة، ولعل المثال اللبناني هو الأكثر لفتاً للانتباه بهذا المعنى.
أكدت الوثائق ان العالم بات مفتوحاً على بعضه البعض، وان عصر الأسرار الكبيرة قد ولى، وهذا سيفرض تغييراً حتمياً في أنماط السلوك العالمي، ولعله سيعدل الكثير من قواعد التجسس المباشرة وغير المباشرة. كما أكدت ان قمع الحقائق بات شبه مستحيل في العالم، فما ان يغلق باب او موقع لنشر الوثائق حتى تفتح العشرات مكانه.
رسخت الوثائق القناعة بأن لا فرق كبيراً بين أميركا وحلفائها الغربيين حين يتعلق الأمر بمصلحة قومية عربية كبيرة او بالعلاقات العربية الاسرائيلية، فالمصلحة العليا تصب دائما وأبدا في خانة اسرائيل.
أحدث ويكيليكس ثورة فعلية في مجال التواصل، ذلك أن ما ظهر بداية على أنه مجرد كشف عن وثائق تتعلق بعمل الدبلوماسية الاميركية، تبين لاحقاً أنه فضيحة كبيرة أصابت جل دول العالم، واذا كان البعض يعتقد بانها تخدم اسرائيل وان ثمة مؤامرة ضد أميركا، او انها مؤامرة اميركية لزرع الشقاق في العالم، فالاكيد ايضا انها خدمت اولائك الذين قالوا طويلاً بأن لا مبادئ او اخلاق في السياسة الاميركية والبريطانية والغربية بشكل عام وانما مجموعة مصالح تلتقي جميعاً ضد المصالح الحقيقية للعرب.
غريب ان يستخف أو يستسخف البعض أهمية وخطورة هذه الوثائق، أو ان يتلهى بمعرفة من المستفيد ومن الذي سرّب ولماذا، فنحن أمام مئات آلاف الوثائق ـ الأسرار التي عرّت انظمة واشخاصاً ومؤسسات كثيرة في المجتمعين الدولي والعربي، ومن الصعب ان تتصرف بين بعضها البعض وكأن شيئاً لم يكن.
من الصعب أن نتصوّر مثلاً في أي رمال سيخفي المتواطئون اللبنانيون رؤوسهم بعد فضائح الوثائق، وبماذا سيبررون فعلتهم وهم الذين قبضت عليهم ويكيليكس متلبسين تحت جنح الظلام للقضاء على المقاومة.
ستخرج الوثائق عند كل قضية شاهدة على كذب ما يُقال في العالم وما يطبخ في السر والعالم لن يكون قبل وثائق ويكيليكس ما كان عليه قبلها، وما كشف حتى الآن ليس سوى غيض من فيض هذا الزلزال الوثائقي الرهيب.