الشيخ صالح العلي
الشيخ صالح العلي
هو صالح بن علي بن سلمان، ولد عام 1885 في قرية المريقب التابعة لمحافظة طرطوس في سوريا. كان والده زعيماً يتمتع بحب عشيرته واحترامها لما يتصف به من العلم والدين والتقوى. وكان طوال حياته مرجعاً لطلاب العلم والحاجة يذهبون إليه في مسجده ويحتكمون إليه في كل أمر أو خلاف. له من الأبناء أربعة هم: محمد، وصالح، وعباس، ومحمود. ولما توفي الشيخ علي سلمان أجمعت كلمة العشيرة على مبايعة ولده صالح بالزعامة رغم أنه لم يكن قد بلغ العشرين من عمره بعد ، وذلك لما لمسوه فيه من رجاحة العقل والحكمة والشجاعة.
لما أعلن الشريف حسين بن علي في الحجاز ثورته على الأتراك في العاشر من حزيران 1916، استجاب الكثير من العرب لهذه الدعوة، وكان الشيخ صالح في طليعة من استجاب، ولما علم الأتراك بذلك حاول جنودهم اقتحام بيته في قرية (كاف الجاع) في القدموس، فاتخذ صالح العلي من فعلتهم هذه سبباً، وأطلق عليهم الرصاص فقتل اثنين من جنودهم، وقد حاولت السلطة اعتقاله بعد هذا الحادث لمحاكمته، لكنه استعصى وحمل السلاح وأعلن الثورة، واتخذ قرية الشيخ بدر في قضاء طرطوس مقراً لثورته، وأخذ يترصد من معقله جنود الأتراك وقوافلهم العابرة على طريق حماه ـ طرطوس، وفي منتصف الطريق وفي الموقع الذي يُعرف باسم التويجة نشبت أول معركة بينه وبين رجال القوافل والجنود الأتراك، وقد هاجمهم برجاله وتغلب عليهم وغنم سلاحهم ومعداتهم وحمولة قافلتهم.
بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى، واحتلت قوى الحلفاء بعض الأقاليم التركية، جمع مصطفى كمال فلول الجنود الأتراك وشكل منهم جيشاً شن حملات عنيفة على القوات اليونانية والفرنسية المحتلة ، وعمد إلى مد العون الفني والمادي لثورة صالح العلي في جبال العلويين من أجل إذكاء نارها حتى تجمد قسماً كبيراً من القوى الفرنسية وتشغلها عن إمداد القوى المحاربة في الأناضول.
دخل فيصل بن الحسين سورية في الأول من تشرين الأول 1918، وفي الثامن من الشهر نفسه نزلت الجيوش الفرنسية على الشواطئ السورية وأنزلت العلم العربي عن الدوائر الرسمية ورفعت العلم الفرنسي مكانه. وفي 15 كانون الأول 1918 عقد صالح العلي مؤتمراً ضم عدداً من شيوخ الجبل وزعمائه وتقرر عدم الاستسلام للفرنسيين والدفاع عن الوطن وحريته، ومبايعة صالح العلي بالقيادة. وحين علم الفرنسيون بأنباء هذا المؤتمر، دعوا صالح العلي للاجتماع بهم فرفض لقاءهم، وعند ذلك جهزوا أولى حملاتهم التي تحركت من بلدة القدموس وهاجمته من الشرق في كانون الثاني 1919، لكنه انقض عليها برجاله وهزمها شر هزيمة وغنم منها أسلحة وعتاداً وذخيرة.
وفي الثاني من شهر شباط 1919، كرر الفرنسيون هجومهم على مقر الثورة وكانت (معركة الشيخ بدر) حيث هُزم فيها الفرنسيون من جديد وسقط منهم عشرون قتيلاً وثلاثة أسرى كما استولى الثوار على كميات من الأسلحة والذخائر. ثم كانت معركة (مخفر بابنا) شرقي اللاذقية في 16 نيسان 1919 فقد هاجم الثوار هذه القاعدة لمدة أسبوع كامل وخسر الفرنسيون 15 جندياً وضابطين، فانتقمت السلطة الفرنسية لخسارتها بإحراق 60 شخصاً من بابنا وهم أحياء، ثم كانت معركة قرية سلمى، ومعركة قرية ترتاح. ولقد توسط الجنرال اللنبي البريطاني فعقد في قرية الشيخ بدر مؤتمراً عربياً ـ فرنسياً ـ إنجليزياً، أُمكن فيه التوصل إلى اتفاق لوقف الصراع، ثم نكثت فرنسا الاتفاقية فتجدد القتال، وكانت معركة (وادي ورور) في حزيران 1919، وهي من أكبر معارك المدن الساحلية حيث اشتركت فيها قوة للفرنسيين تزيد على ألفي مقاتل انتهت بسقوط 800 قتيل من الجيش الفرنسي مقابل عشرات الشهداء من الثوار، ثم حدثت معركة قلعة المريقب في 21 تموز 1919 وكانت القلعة تضم سريتين للفرنسيين، فانتهت المعركة بسقوط 6 قتلى وإصابة 22 منهم بجروح بليغة وانسحاب الباقين.
عقد صالح العلي صلحاً مع الفرنسيين شريطة إلحاق الساحل السوري بالدولة السورية وجلاء القوات الفرنسية عنه، وإطلاق سراح الأسرى والرهائن والمعتقلين، ودفع تعويضات إلى السكان عن الأضرار التي ألحقها الجيش الفرنسي بقراهم. وتظاهرت السلطة الفرنسية بقبول هذه الشروط، وفي الوقت ذاته أخذت الإعداد لتصفية قيادة الثورة، فاجتاحت الحامية الفرنسية في القدموس قرية (كاف الجاع) ودمرت منازل القرية فوق سكانها، فدارت معارك طاحنة لصالح الثوار بعد هجومهم على ثكنات طرطوس، مما دفع القيادة الفرنسية لزج القطع البحرية لإنقاذ الثكنات المهددة فاضطر الثوار إلى الانسحاب.
عام 1920 أغار الفرنسيون على دمشق وأخرجوا ملكها فيصل بن الحسين، فقامت في شمال سورية ثورة المتوكل على الله (إبراهيم هنانو) فاتصل صالح العلي بإبراهيم هنانو، وأخذ هنانو يمده بما توفر لديه من سلاح، وراح العلي يوسع حملاته شمالاً إلى قرى القرداحة والمزيرعة ودبلش، بالإضافة إلى إمدادات الملك فيصل منذ بدء الثورة والتي دامت ما يقارب ثلاثة أعوام ونصف، فحقق انتصارات كبيرة وألحق خسائر فادحة بالفرنسيين، وتوالت الوقائع إلى أن قل ما عند صالح من ذخيرة، واشتد المستعمرون في قتاله، واستطاعوا في النهاية تركيز ثلاث حملات كبرى نجحت بواسطتها في تصفية الثورة واحتلال قاعدتها ذاتها (قرية الشيخ بدر) في 7 تموز 1921، بعد أن استمات الثوار في الدفاع حتى آخر رصاصة يملكونها واضطروا في النهاية للتفرق.
مارس الفرنسيون أبشع ألوان الانتقام، وبحث الفرنسيون عن بطل الثورة صالح العلي طويلاً، ورصدوا مائة ألف فرنك فرنسي مكافأة لمن يلقي القبض عليه أو يدل على مخبئه ولكن دون جدوى. وأصدرت محكمتهم حكماً بإعدامه، وألقت الطائرات صورة الحكم في مختلف قرى الجبل، وبقي صالح العلي مختبئاً عاما كاملاً في الكهوف، ثم أصدر الفرنسيون قراراً بالعفو عنه، فظهر مستسلماً ومع ذلك قال للقائد الفرنسي يوم استسلامه: (والله لو بقي معي عشرة رجال مجهزون بالعتاد والسلاح ما تركت القتال). وقد عرض عليه الفرنسيون أن يشارك في الحكم في البلاد فأبى، وعرضوا عليه راتباً كبيراً فرفض أيضاً.
اعتزل صالح العلي بعد ذلك شؤون الحياة العامة إلا الانتفاضة الوطنية عام 1936 حين أراد الفرنسيون فصل جبال العلويين عن سورية وتعطيل الدستور، وظل قابعاً في عزلته حتى شهد عهد الاستقلال في بلاده.
كانت حياة الشيخ صالح العلي نموذجاً صالحاً للأخلاق والفضيلة، كان كريم السجايا ونبيل المزايا، قد وفر على ثورته كثيراً من الضحايا، وحفظها من التفكك تلك السنوات الطويلة رغم وسائلها المحدودة وإمكانياتها القليلة.
توفي الشيخ صالح العلي في 13 نيسان 1950 بعد أن قضى بضعة أشهر في المستشفيات، وقد أشرف على معالجته الطبيب الألماني الشهير الدكتور كارل كورت الأخصائي بأمراض القلب، بتكليف من رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي. ودفن الشيخ في قرية (الشيخ بدر) في طرطوس، وسط قبة كبيرة إلى جانب مسجد كان قد بناه. وقد أقيمت له حفلة أربعين في مدينة اللاذقية اشترك فيها رئيس الوزراء، وبعض الوزراء وكبار الشخصيات. توفي الشيخ وله أربع زوجات وثلاث بنات، وما يزيد عن ثلاثين ألف دونم وقفها لأعمال الخير والبر.
كان الشيخ صالح العلي عالماً في فقه الشريعة الإسلامية، وكان مشهوراً بحسن خطه وجمال حرفه، وتنسب إليه قصائد فيها تصوير جميل ودقيق لبعض المعارك التي خاضها.
المراجع:
ـ (ثورة الشيخ صالح العلي)، عبد اللطيف اليونس، سلسلة رواد التحرير العربي، ص(68،182،183،232،233).ـ (موسوعة الأعلام)، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1980، الجزء الثالث، ص(193).
ـ (موسوعة رجالات من بلاد العرب)، د.صالح زهر الدين، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، بيروت، الطبعة الأولى، 2001، ص(319،325).