الجزيرة - القصة الحقيقية للجاسوس كوهين.... لا كما رواها هيكل
المصدر:google
القصة الحقيقية للجاسوس كوهين.... لا كما رواها هيكل
محمد السيد ، مواليد 1924 ، أحد مؤسسي البعث في حلب
أضيف بتاريخ : 15 أيار 2009
في الساعة العاشرة من مساء يوم الخميس في 16 نيسان الماضي , ليلة عيد الجلاء العظيم , تابع الأستاذ محمد حسنين هيكل , حديثه الأسبوعي , الذي بدأه منذ بضعة أشهر على قناة الجزيرة , عن كارثة حرب 1967 . وهو يزعم , بأنه يتحدث بموضوعية عن هذه الكارثة , ولكن فاتته الحقيقة في حديثه موضوع هذه المقالة , فراح يكرر ما زعمه منذ خمسة وأربعين عاماً في جريدة (الأهرام) وما كانت تروجه محطة (صوت العرب ) في ذلك الوقت , عن أعمال التجسس الإسرائيلي التي سبقت تلك الحرب الكارثية , وضرب مثلاً على ذلك , بحكاية الجاسوس كوهين الذي اعتقل في دمشق في عام 1964 واعدم في عام 1965 , من قبل السلطات السورية وقيادة البعث وتنفيذ حكم الإعدام فيه , بالرغم من الضغوط الدولية وبخاصة من قبل البابا وديغول وكاسترو , وغيرهم من زعماء العالم . وقد زعم الأستاذ هيكل في الحديث المذكور ,بأن الجاسوس المذكور , كان على معرفة وعلاقة (باللواء أمين الحافظ الذي لم يكن لواء بعد ) الملحق العسكري السوري في الأرجنتين . وأن الجاسوس , قد تغلغل في صفوف البعث ووصل إلى مراتب متقدمة في التنظيم الحزبي كما حاول هيكل ربط حادثة هرب الطيار السوري إلى إسرائيل التي جرت , بعد أكثر من خمسة وعشرين عاماً , من إعدام كوهين في عام 1965 , وخروج أمين الحافظ من سوريا في عام 1967 . وكان قد سبق , لهيكل وجماعة صوت العرب والأستاذ المرحوم غسان كنفاني , أن افتعلا ضجة إعلامية مماثلة أثناء اعتقال كوهين في عام 1964 وإعدامه في السنة التالية . ونشر صوراً مركبة غير حقيقية لكوهين مع بعض المسؤولين البعثين .
وفي تكرار هذه الرواية بعد خمسة وأربعين عاماً من وقوعها , دون التثبت من حق صدقيتها , يحمل الكثير من المعاني غير النظيفة لتقديم صورة تلك الحرب الكارثية , التي يتمنى كل عربي قديماً وحديثاً , معرفة أسرارها وكيفية وقوعها والمسؤولين عنها . وقد وجدته فيما سبق من أحاديث يدور حول الحقائق و لا يقدمها بشكل دقيق ويحاول عدم التركيز على المسؤولين المباشرين عن وقوع الحرب والتحذيرات التي سبقت إعلانها , خوفاً من وقوع الكارثة
وفي ضوء ذلك و بالنظر لأنني من البعثيين الأوائل , وقد انقطعت عن تنظيماته , و منذ زمن بعيد جداً , ولكن اعتزازي بفكر الحزب , وحرصي على توثيق التاريخ وكشف الحقائق التي لفقت بحق الحزب , في مرحلة خصام مفتعل بينه وبين عبد الناصر , ولكوني كنت أعيش في الفترة التي أعتقل فيها كوهين وإعدامه و تيسر لي الإطلاع على كل مجريات التحقيق , منذ بدء الاعتقال , حتى الإعدام , ومازلت احتفظ بذاكرتي بكثير من المعلومات عنها , ولا سيما , فإنني قد وجدت كثيراً من الناس , حتى في الأوساط الحزبية الحالية , يصدقون تلفيقات صوت العرب وهيكل و يكررونها إما جهلاً أو عن نوايا غير سليمة .
والحقيقة الدقيقة لقصة كوهين أوردها بما يلي :
1-إن كامل أمين ثابت , الذي هو كوهين يهودي من أصل مصري . وقد أنتسب إلى الهاغاناه عندما كان في مصر قبل هجرته إلى إسرائيل وأشترك في عمليات اغتيال وتخريب في مصر نفسها , ولا سيما اغتيال اللورد موين و حريق السينما في الإسكندرية وقد أوفدته الاستخبارات الإسرائيلية إلى الأرجنتين باعتباره يتحدث العربية منذ طفولته في مصر وذلك في عهد الوحدة السورية المصرية (الجمهورية العربية المتحدة ) , لكي يتظاهر بأنه مغترب سوري في الأرجنتين بعد أن تعلم اللهجة السورية و يريد العودة إلى وطنه الأصلي في سوريا.وقد دخل إليها في منتصف الوحدة كما هو مفصل في وقائع التحقيق والمحاكمة , وأقام في فندق السفراء في دمشق , في مقابل ثانوية جودة الهاشمي , لعدة شهور متوالية , ثم استأجر بعد ذلك شقة استراتيجية في شارع أبي رمانة الشهير مقابل السفارة الهندية , تطل نوافذها من الشرق على مبنى وزارة الخارجية القديم في ساحة النجمة , حيث يقع مكتب عبد الحميد السراج فيه أبان الوحدة وعلى قصر الضيافة , حيث ينزل الرئيس عبد الناصر وكبار الضيوف الأجانب كما يطل من الغرب على مبنى الأركان والملحقات التابعة له .
وكان يقيم في فندق السفراء المذكور في الفترة المذكورة ( أي الوحدة ) ضابط استخبارات مصري عالي الرتبة , مسؤول عن الاتصال بفلسطيني الداخل , الذي كان يتردد عليه قسم منهم يومياً , وبعض ضباط المخابرات المصريين الآخرين , كما كان يسهر يومياً في مقهاه الصغير عدد من ضباط المخابرات السوريين أيضاً .
ومع الأسف فلم ينتبه أحد منهم إلى هذا الجاسوس الإسرائيلي ولا إلى العلاقات التي كان يقيمها مع المجتمع الراقي ثم جاء عهد الانفصال بطوله والجاسوس يقيم في شقته الأنيقة التي أنتقل أليها بعد إقامته في الفندق وينشط باستمرار ويولم الحفلات الباذخة في هذه الشقة ويغرق الهدايا , على سيدات المجتمع الراقي أللاتي كن يترددن على شقته , ويزور يومياً أحد موظفي وزارة الإعلام , ليطلع على الصحف الممنوعة من دخول سوريا ومع الأسف , فإن أجهزة المخابرات المصرية و السورية (في عهد الوحدة ) وأجهزة الأمن السورية في عهد الانفصال لم ترصد نشاط هذا الجاسوس , ولكن ضابطاً ذكياً مخلصاً في الشعبة الثانية هو الرائد(وداد بشير ) في عهد البعث , تمكن من رصد ترددات و اتصالات تجري من منطقة السفارة الهندية , فأطلع رئيسه أحمد سويداني على ذلك , وتمكن الاثنان بعد المتابعة , من تحديد المبنى والشقة وفاجآ الجاسوس , في حالة التلبس وهو يقوم بإرسال رسالته اليومية إلى الاستخبارات الإسرائيلية فمكثا في الشقة معه يومين , وطلبا إليه متابعة الاتصالات وفي اليوم الثالث , خلال اتصاله العادي أستلم أحمد السويداني الجهاز وقال للاسرائيلين (زلمتكم أصبح في يدنا ) , وتم اعتقاله بشكل سري , واعتقال كثير من الأشخاص والنساء ممن كن يترددن عليه , ووضع الجاسوس في معسكر حريز , وتوبع التحقيق , وحضره رئيس مجلس قيادة الثورة الفريق أمين الحافظ في بعض جلسات التحقيق , وكان الجميع يظنون أنه مغترب سوري جاء ليعمل لصالح إسرائيل , ولكنهم نجحوا بأسلوب بارع من انتزاع اعترافه بأنه بالأصل يهودي من مصر وقد ذهب إلى إسرائيل مهاجراً إليها وعمل في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية , وقد سبق له أن شارك في أعمال إرهابية في مصر قبل انتقاله إلى إسرائيل مثل عملية اغتيال اللورد موين البريطاني وحريق سينما الإسكندرية .
وعندما وجد المحققون أن لهذا الجاسوس تاريخاً حافلاً في التجسس والإرهاب في مصر وكانت العلاقات مقطوعة بين سوريا ومصر , إثر هجوم جاسم علوان على مبنى الأركان في ساحة الأمويين في محاولة انقلابية فاشلة,أمر بها الرئيس عبد الناصر في تموز 1963 , فقد طلب ممثل سوريا في الجامعة العربية من رئيس الأركان المصري الذي هو الأمين العام المساعد العسكري للجامعة العربية (الفريق علي علي عامر ) في الوقت نفسه, تزويد المحققين السوريين بما لدى مصر من معلومات وتحقيقات وأحكام حول نشاطات الجاسوس السابقة في مصر وقد رفضت السلطات المصرية تزويد سوريا بأي معومات عنه .
ثم مالبث هيكل وصوت العرب والصوت الأعلى , أن شنوا هجمات و تلفيقات بزعم علاقة للجاسوس بأمين الحافظ وبقيادة البعث , وتمكنه من الوصول إلى مراتب متقدمه في التنظيم الحزبي والسؤال لماذا أستهدف أمين الحافظ بشكل خاص , لسبب بسيط هو أنه الذي قمع هجوم جاسم علوان والمجموعات التي معه على مبنى الأركان , وكان وزيراً للداخلية , في الوقت الذي كانت طائرة الوفد السوري من القياديين الحزبيين والمسؤولين الناصريين المشاركين في حكومة بعد الثامن من آذار في سماء البحر المتوسط متجهة إلى القاهرة للمشاركة في الاجتماعات التي كان يسعى إليها بحماسة وبراءة بعثيوالعراق وسوريا , فاضطر الوفد بعد أن اتصلت به دمشق للعودة إلى الوطن , واستقال الفريق لؤي الأتاسي الذي كان رئيساً لمجلس قيادة الثورة , وحل مكانه (أمين الحافظ ) , وأحتد الصراع بعدئذ , بين البعث و عبد الناصر , كما هو معلوم وفشلت مفاوضات الوحدة الثلاثية , وكان للأستاذ هيكل مع الأسف نصيب كبير في إثارة الضغائن بين الطرفين , وتفشيل تلك المفاوضات
2-هذا أحد الأسباب الرئيسية في الافتراء على حزب البعث في ذلك الوقت .وبالطبع فقد كانت هناك أسباب أخرى , تعود إلى حقد عبد الناصر على البعث منذ الوحدة لإيمانه بفرديته ورفضه العمل الحزبي المنظم ,وذلك عندما أشترط حل الحزب , و وزاد الأمر عندما استقال الوزراء البعثيون من الحكم أثناء الوحدة لأنهم وجدوا أنفسهم (أحجار دومينو) يحركها الرئيس كما يشاء وأصبحوا أسماء في غير موضعها , ثم ما تبع ذلك , أثناء الانفصال من قيام الضابط المحسوبين على البعث بالتعاون مع الناصريين بمحاولة انقلاب في حلب يوم 28أذار 1962 لإعادة الوحدة المدروسة , وكانت قد توافقت قطعات الجيش الرئيسية كلها على ذلك , ولكن جاسم علوان , أنفرد في القيادة في حلب , وأعلن عودة الوحدة الاندماجية , كما كانت في السابق وطلب من الرئيس عبد الناصر دعمه للحركة , فانفضت قطعات الجيش كلها عنه , وهرب بعدئذ إلى مصر كما هو معلوم .
كما أن هناك سبباً أخر أهم من ذلك , هو أن تنظيم البعث , قبل الوحدة كان يشمل الأقطار العربية كلها من موريتانيا حتى الخليج , وكان يرغب عبد الناصر , في تفكيك هذا التنظيم للولاء , له شخصياً , وقد فعل ذلك مع البعض في تلك الأقطار للولاء لشخصه عن طريق العمالة مع أجهزة المخابرات بكل أسف 3- يتبين مما سبق وبكثير من البساطة والوضوح :
ا-أن استحالةً زمنية ومكانية , يمكن أن تجمع أمين الحافظ مع كوهين لأن (الحافظ ) , كان موجوداً في موسكو , طيلة عهد الوحدة ملحقاً عسكرياً فيها . ثم أستدعي إلى دمشق بعد الانفصال لإرساله إلى الأرجنتين , إبعاداً له , ملحقاً عسكرياً أيضاً , حيث مكث فيها إلى ما بعد الثامن من آذار عندما عين وزيراً للداخلية في العهد الجديد . بينما كان كوهين مقيماً في دمشق ينشط فيها منذ منتصف عهد الوحدة وطول عهد الانفصال وحتى إلقاء القبض عليه . وبالنظر لأن صوت العرب وهيكل وغسان كنفاني , أشتطّ بهم الخيال لوجود أمين الحافظ في الأرجنتين ,. في فترة الانفصال , فراحوا يلفقون تلك الأكذوبة , بينما كان كوهين يسرح ويمرح ويرسل رسائله إلى إسرائيل يومياً من شقته في دمشق وأجهزة الأمن و الاستخبارات لاهية عن ذلك.إذن التلفيق واضح واللقاء مستحيل , والمسؤولية تقع على كل مسؤولي الأمن والقيادات في هاتين المرحلتين (الوحدة والانفصال ) .والبعث يفتخر بأنه هو الذي ضبطه وأعدمه , بينما كان السابقون لاهين عن نشاطاته .
ب-إن الاتهام , يطال قيادة الحزب في تلك المراحل , وأنا كحزبي قديم , أؤكد بكل صدق , بأن الحزب قد تفكك , تنظيمياً فعلا ً بعد الوحدة . ولم يكن له أي نشاط أثناءها , وكانت محاولات إعادة التنظيم في فترة الانفصال , التي قام بها الأستاذ ميشيل , موضع انتقاد أغلب القياديين الحزبيين السابقين , وكانت متعثرة في أغلب الأحيان , وقد تمكن الأستاذ ميشيل وبعض الضباط من تشكيل تنظيم جديد بعد نجاح البعث في العراق في الإطاحة بعيد الكريم قاسم , يضم في أغلبه أجيالاً شابة من الصفوف الخلفية الناشئة فيه . وبالأصل فإن معظم البعثيين في السابق واللاحق ينتمون إلى الطبقات المتوسطة أو الفقيرة كما هو معروف وليسوا من أبناء الطبقات العليا وليست لديهم علاقات أو معلومات يمكن أن تفيد الجاسوس في نشاطه , و لأنه كان يتعامل مع مجموعات تفيده أكثر من النساء الراقيات وبعض العاملين في الدولة بينما كان البعثيون مبعدين منذ الوحدة والانفصال عن الجيش والوظائف الهامة .
وبعد الثامن من آذار كان الحزب غير مستقر في تنظيماته ومع ذلك فإن كوهين طيلة خمس سنوات كان ينشط بكل حرية حتى أطبق عليه البعثيون أنفسهم وحاكموه و نفذوا حكم الإعدام فيه بالرغم من وساطة ديغول وكاسترو والبابا وغيرهم من زعماء العالم بعدم تنفيذ الإعدام فيه , وانتهت الحكاية , ولكن مع الأسف , فإن قسما ً كبيراً من الناس مازال يصدق تلفيقات هيكل وصوت العرب وغسان كنفاني وبالنتيجة , فإن التاريخ لا يرحم , والحقيقة مهما غلفت بالإشاعات والأباطيل, لا بد لها أن تعرف . وهذه هي الحقيقة أقدمها باختصار بالرغم من معرفتي لتفاصيل أكثر لا يتسع لها المجال الآن .. هذا مع العلم بأنني لم أكن قيادياً في تلك المرحلة , ولكنني أطلعت عليها بحكم بعض العلاقات الأخوية القديمة مع بعض النافذين في ذلك الوقت , ومتابعة مجريات المحاكمة العلنية التي أذيعت في التلفزيون وفي الختام , أتوجه إلى القيادة الحزبية , أن تبادر فوراً , إلى توجيه تصحيح إلى هيكل نفسه لما قاله ليلة عيد الجلاء العظيم الماضي وعودته لإبراز هذا التوضيح والتصحيح موثقاً على محطة الجزيرة كما أتوجه إلى أحد الصحفيين الباحثين عن الحقيقة بالرجاء أن يعد برنامجاً مفصلاً عن حكاية هذا الجاسوس , خدمة للحقيقة والتاريخ , وليس تبرئه لأحد أو لتنظيم مهما كان .
وفي النهاية لا بدّ لي إلاّ أن أتوجّه بالتحية إلى الرائد وداد بشير , حياً أو ميتاً , فقد شرف الوطن والجيش والبعث في كشفه عن الجاسوس كوهين
22 نيسان 2009