الثقافة والثقافة الواقعيّة بين النظريّة والممارسة ( 1)
الثقافة والثقافة الواقعيّة
بين النظريّة والممارسة ( )
إنّ كلمة ثقافة ، ومثقّف ، ومثقّفين ، من الإصلاحات ذائعة الانتشار . لكنّ هذا الانتشار العام والاستعمال الواسع لا يعني أنّها قد ازدادت وضوحاً ومعرفة ، سواءٌ من حيث المضمون أو من حيث المنهج الفكريّ والمعرفيّ . بل إنّنا نرى ، على العكس من ذلك ، أنّ هذه الاصطلاحات لا تزال تعالج بصيغـة العمــوميات وتثير بالتالي كثيراً من الغموض و الالتباس . فكيف يمكن إذن ، أن يقوم عمل ثقافيّ حقيقيّ أو أن تبنى حركة ثقافيّة واسعة وتلعب دورها المؤثّر ، دون أن نقوم بمحاولة جلاء هذه المفاهيم و توضيحها ، أقلّه على الصعيد النظريّ والمنهجيّ ؟!...
فهناك كثيرٌ من التساؤلات التي تُطرح في هذا المجال ، أولاً : ما هي الثقافة ؟... وما هو مضمونها ؟... وما هو مفهومنا لها ؟... وهذا يستتبع الإجابة عن سؤال : ماذا نريد من الثقافة ومن العمل الثقافيّ ؟... ومن ثَمّ متى فعلت الثقافة فعلها التأثيريّ الحقيقيّ ، الناشط والفاعل ، في حياتنا الفكريّة والأدبيّة والاجتماعيّة العامة ؟... أين ؟... وكيف كان ذلك ؟... وما هي علاقتها بالسلطة السياسيّة ، في الماضي والحاضر ، من جهة ... وبالواقع الاجتماعيّ ، الحيّ والمعيوش ، من جهة أخرى ؟...
والسؤال الملحاح يبقى مطروحاً حول دورنا نحن كمثقّفين وكمؤسّسات ثقافيّة : هل استطعنا بموضوعيّة وعلميّة ، ومن موقع الأمانة التاريخيّة ، أن نُعبِّر عن صيرورة مجتمعنا وعن قضاياه وطموحاته في ماضيه وحاضره ومستقبله ؟...
ومن ناحية أخرى ، هل توصَّل مثقّفونا إلى أن يستعملوا لغة ثقافيّة مفهومة المعنى ، واضحة الأسلوب والأهداف ، أم أنّ الأمر اقتصر ، في أغلب الأحيان ، على الدوارِ في لغةٍ رمزيّة غيبيّة ، لغةٍ خطابيّة إنشائيّة ، بعيدةٍ عن الواقع ، ضيّقةِ النطاق ، عاطفيّةٍ ، انفعاليّة ، ضبابيّةِ الغايات، محصورةِ الفاعلية والتأثير ؟!...
أو بتعبيرٍ أكثر وضوحاً ومباشرة ، هل استطعنا ، نحن كمثقّفين وكهيئات ثقافيّة على امتداد الوطن العربي وعلى الصعيد الوطنيّ المحليّ ، أن نُكوِّن مجموعاتٍ ضاغطة ومؤثّرة في المجال النظريّ أو في النطاق العمليّ والممارسة ؟!...
أسئلة كثيرة ، على أيّة حال ، مقلقة ، صعبة ، لم أستطع أن أمنع نفسي من أن أثيرها في نفسي أولاً ، قبل أن أطرحها على بساط النقاش والحوار ... وإنّني على يقين أن ليس بالاستطاعة الإجابة عنها بسهولة ودفعة واحدة ، بل تحتاج إلى عقد لقاءات ثقافيّة وحوارات عديدة ، دوريّة ومتواصلة حتى نصل إلى رؤية أكثر وضوحاً في هذا الموضوع ...
وإنني سأحاول ، في هذه العُجالة ، أن أطرح بعض الفرضيات أو الإشكاليات الثقافيّة من الجانب النظريّ ومن ناحية المفاهيم والمضامين وأن أبديَ بعض الأفكار بصيغة إجابة عن بعض هذه التساؤلات . لذلك فقد حدّدت موضوع بحثي تحت عنوان : " الثقافة والثقافة الواقعيّة ، بين النظريّة والممارسة " ، وقَسّمته إلى أبرز النقاط التالية :
* الثقافة ، تعريفها ومفهومها
* الثقافة والأيديولوجيا
* الثقافة في الممارسة : المعرفة والتغيير والالتزام .
الثقافة :
الثقافة كأسلوب حياة وتفكير ، قديمةٌ قدم الوجود الإنسانيّ . فهي قد وُجدت منذ أن وُجد الإنسان ومنذ أن أخذ يفكر ودخل في صراع مع الطبيعة وبنى علاقات مع أبناء جنسه الآخرين .
غير أنّ الثقافة من حيث هي اصطلاح ومفهوم ، حديثة العهد نسبياً . فقد ظهرت في أوروبا مع تطور المجتمع الصناعيّ في القرن الماضي . وكما نعلم ، فإنّ أول من أعطى لها تعريفاً مستمداً من التاريخ الحضاريّ هو الأنتروبولوجيّ الإنكليزيّ " تايلور "، ( F . B. tylor ) في كتابـه "الثقافة البدائيّة "، الصادر عام 1871 ، وهو تعريف يشار إليه كثيراً في الحديث عن الثقافة وتعريفها.( )
وإذا كنّا على معرفة تفصيليّة بتاريخيّة الاصطلاح " ثقافة " في اللغات الأجنبيّة وبمفاهيمه المتنوّعة واستخداماته المختلفة في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا ، إلاّ أنّ معرفتنا به في أدبياتنا العربيّة تبقى معرفة ضيّقة في نطاق اللغة ، ومن خلال المعرفة التجريبيّة الشائعة ... فنحن نعرف معناه اللغويّ واشتقاقاته اللغويّة في لغتنا العربيّة ، غير أنّ تاريخ استعماله كاصطلاح وكمفهوم لا يزال غير واضح البتّة ... متى استعملت كلمة : ثقافة ومثقّف ، بالمعنى الحديث في أدبياتنا ؟... فهذا ما لا نعرفه بعد . فالثقافة عندنا بلا تاريخ . من هنا هذا الجهد الذي يجب علينا أن نبذله حتى نهتديَ إلى مفهومٍ حديث للثقافة وللمثقّف ، مستقى من ممارستنا الأدبيّة والاجتماعيّة ويتناسب مع تاريخنا الحضاريّ وواقعنا الأدبيّ وطموحاتنا الفكريّة ...
الأصل اللغويّ للثقافة
إذا نظرنا في المعاجم العربيّة نجد أنّ الأصل اللغويّ لكلمة " ثقافة " يشتمل على معانٍ واستعمالاتٍ شتّى ، فمن معانيها : الحذق والإدراك والذكاء والفطنة والفهم السريع . وتستعمل بمعنى: الظفر بالشيء وإدراكه علماً وعملاً . وتحمل أيضاً معنى الغلبة والمغالبة والمخاصمة ، فيقال : ثاقفه فثقفه : أي غالبه فغلبه . وتثاقفاً : تغالباً في الحذق وتخاصماً .ونجد عند أبي سلام في "طبقات الشعراء " إشارة إلى الثقافة حين يقول : " للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات : منها ما تثقفه الأذن وما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان ". ( )
فالثقافة ، إذن ، في اللغة ، تحمل معاني الاشتغال الذهنيّ والعقليّ وتعني : العلم والتعلم والمنافسة والصراع والصناعة والإتقان في العمل ... ولا بدّ هنا من إبداء ، مرة أخرى ، ملاحظة سريعة وهي أن كلمة " ثقافة " لم يرد ذكرها في تراثنا الفكريّ والفلسفيّ والأدبيّ . يشير مالك بن نبي إلى ذلك حين يقول :" لم نجد أثراً لتلك الكلمة " ثقافة " في لغة ابن خلدون ... لقد وردت (..) مرتين أو ثلاثاً في المقدمة بصورة أدبيّة بوصفها مفردة لغويّة ، دون الوقوف عند كلمة " ثقافة " بوصفها مفهوماً وتقديرها ظاهرة اجتماعية ". ثم يضيف : لو عدنا إلى ما قبل ذلك ، " لم نجد الكلمة مستعملة في العصر الأمويّ والعباسيّ ، إذ لا أثر لها في اللغة الأدبيّة أو في اللغة الرسميّة والإداريّة لذلك العصر . فتاريخ هذه الحقبة لم يَرْوِ وجود لائحة إداريّة خاصة بمنظمة معيّنة أو عمل من الأعمال يتصل بالثقافة ".( )
وقد وردت في القرآن الكريم في أحد مشتقاتها :{ واقتلوهم حيث ثقفتموهم } ( البقرة ، 2/191) بمعنى وجدتموهم . وفي حديث الهجرة :" هو غلام شاب لَقِنٌ ثَقِفٌ " (رواه البخاري) ، أي ذو فطنة وذكاء ، والمراد هنا أنّه ثابت المعرفة بما يحتاج إليه . ( )
فالثقافة ، إذن ، بقيت في التداول وكتعبير ، محصورةٌ في بيئة معيّنة لم تتجاوزها ، ولا تعبّر إطلاقاً عن واقعنا الأدبيّ والفكريّ ـ الاجتماعيّ الحاليّ ولا عمّا يحمل هذا المفهوم الجديد من معارف غنيّة ومحتوى أكثر فعاليّة وديناميّة ، يتجاوز اللغة ليشمل مختلف مناحي الحياة . وباختصار، لم يُنحت بعد مفهومٌ جديد عندنا ... وما هو مذكور في المعاجم العربيّة القديمة والحديثة إنّما هو إشارات وشروحات لغويّة تتشابه وتتكرر لدرجة نقل بعضها عن بعض ، أو ترجمة حرفيّة غالباً ما تكون سريعة ، لما هو موجود في معاجم اللغات الأجنبيّة . ولا شكّ في أنّ الكاتب العربي الذي اشتق كلمة " ثقافة " وصاغها كان ، كما يقول مالك بن نبي ، " صناعاً ماهراً في علم العربيّة ، حريصاً على تجويد اللفظ وصفائه ". وقد " اختار الكلمة التي تدل صورتها على طابع الروح الجاهليّة ".( )
الثقافة : اصطلاح حديث
أما كلمة " ثقافة " ، من الناحية الاصطلاحيّة وكمفهوم حديث ، فقد تطوّرت كثيراً وتغيّر معناها ومحتواها من خلال تطوّر علم الاجتماع والأنتروبولوجيا . ومن بين التعاريف الكثيرة ـ والكثيرة جداً ـ للثقافة ، فإنّنا اخترنا هذا التعريف الشامل والديناميّ وهو يفي بغرض مفهومنا للثقافة ، فنقول : الثقافة هي عبارةٌ عن نماذجَ وقِيَمٍ ورموزٍ ، تضمّ المعارفَ والآراء والأفكار وصيغ التعبير عن المشاعر والعواطف وقواعد السلوك الاجتماعي التي تُنظم الأفعال الملاحظة موضوعياً . فتتصل الثقافة بكل النشاط الإنسانيّ ، سواءً كان هذا النشاط لـه علاقة بالإدراك أو الوجدان أو بالظاهرة الحسية . ( )
فالثقافة بهذا المعنى هي فعل وإنها تُعاش من قِبَل الأشخاص والجماعات . وهي مصاغةٌ في النُّظُم القانونيّة والشعائريّة والطقوس وقواعد السلوك الاجتماعيّ والمعارف العلميّة والتكنولوجيا والدين . وهنا تأتي اللغة لتكون خاصية الثقافة المركزيّة والأساسيّة بصورة مطلقة .
والثقافة بهذا المفهوم الذي عرضته تنطبق على مجتمع شامل ، كما أنها تعبر عن مجتمع محلي صغير ، فنقول مثلاً " الثقافة العربيّة " ، و" الثقافة الغربيّة "، و" الثقافة الأميركيّة "، و" الثقافة الصينية "، إلخ ... ولكن يمكننا أن نتحدّث أيضاً عن ثقافة فرعيّة ، وعن ثقافة طبقة اجتماعيّة أو ثقافة منطقة بعينها ...
وإذا أردت أن أحصر السمات الأساسيّة للثقافة ، هذه السمات المستقاة من التعريف السابق، فأقول بأنّ الثقافة هي أولاً " إرثٌ " ، " إرثٌ اجتماعيّ "، يساهم في تكوين الجماعة أو الأمّة بطريقة خاصة ومميّزة ، وبطريقة موضوعيّة ورمزيّة .
الطريقة الموضوعيّة هي عندما تُقيمُ الثقافةُ بين الأشخاص والجماعات روابطَ يحسّ بها كلّ واحدٍ على أنّها فعلاً واقعيّة ، وأنّ هذا الجامعَ المشترك الذي هو الثقافة ، هو واقعٌ موضوعيّ بالنسبة لكلِّ واحـدٍ منهـم ولجميعهم . فالثقافة بهذا المعنى هي أحدُ العواملِ الرئيسة الذي يكمن وراء ما يمكن أن نسمّيَه بـ " التضامن الاجتماعيّ " أو " الوحدة الاجتماعيّة ".
أمّا الطريقة الرمزيّة للثقافة ، واللغة أبرز مرتكزاتها الأساسيّة ، فهي عندما تُقيم هذه الوحدة للجماعة أو للأمّة ، وتعطيها خاصيتها المميّزة . فهي من جهة تضمّ رموز الإتصال والمشاركة ، وهي من جهة ثانية تُكوّن هذا المخزون الفكريّ و التاريخيّ و الحضاريّ .
فالثقافة بهذا المعنى تصبح " كلاً شاملاً "، جذوره تَستمِدُّ من الواقع الاجتماعيّ ـ النّفسيّ، معنىً ومظاهرَ أساسيّة للحياة الاجتماعيّة الإنسانيّة ، وتصبح أيضاً كلاً مترابطاً تقيم علاقات التكامل والتوافق بين عناصره المختلفة التي تؤلف وحدة ثقافيّة معيّنة ...
وهنا تبدو وظيفة الثقافة الاجتماعيّة وكأنّها عبارة عن " عالَمٍ عقليّ أخلاقيّ "، " رمزيّ "، تستطيع عناصره أو جماعاته من خلالها ، أن يتصلوا فيما بينهم ويقروا بالروابط التي تشدّ بعضهم إلى بعض ، ويـقروا أيضاً بالقيود أو المصالح المشتركة ، وبالإختلاف أو التعارض فيما بينهم . فيشعروا جميعاً أو كأفراد أنّهم أعضاء في كيان واحد يتجاوزهم ويشملهم جميعاً ، و الذي يمكن أن نسمّيَه : مجتمع ، أمّة ، جماعة ، طبقة .
أما وظيفة الثقافة النّفسيّة ، فهي تطبع الشخصيات الفرديّة أو الجماعيّة بطابعها الخاص وتعرض لهم أنماطاً من التفكير ومن المعارف ومن الأفكار وطرائق للتعبير عن العواطف ، وتترك لهم تمثّلَ الثقافة بطريقة توافق خاصيتهم أو مصالحهم ...
فالثـقافة إذن هي بالضرورة مكتسبة . " أندريـه مالـرو " André Malraux يقول "هي التمـلك" ، وهي من طبيعة اجتماعيّة . وهي تراث اجتماعيّ ، يشارك فيه الأفراد والجماعات بصورة متفاوتة ، وتؤدي بالنسبة إلى الإنسان وظيفة التكيّف مع الذات ومع البيئة . فمن خلال الثقافة يتصل الإنسان بنفسه وبوسطه الماديّ الاجتماعيّ ، ويمارس مراقبته على نفسه وعواطفه وحاجاته ودوافعه ويعالج الأشياء والكائنات ويخضعها لحاجاته وأغراضه ...
فيمكننا بهذا المعنى أن نتحدث عن الثقافة كـ" نافذة " ، يدرك الإنسان من خلالها الواقع والمجتمع . فيستخدم الثقافة حتى يتكيّف مع هذا الواقع ويسيطر عليه . يضاف إلى ذلك أنّها خاصية الإنسان . وهي من خلال ما هو نفسيّ اجتماعيّ تاريخيّ ، تسمح للفرد أن يصبح إنساناً ، وذلك بأن تجعله يستفيد من المكتسبات التي تراكمت قَبْله ..
الثقافة والأيديولوجيا
إنّ هذا التعريف العام والشامل للثقافة، والذي حاولنا أن نلقيَ ضؤاً عليه بصورة مختصرة، يستدعي بعـض الإيضاحات السريعـة ، ذلك أنّ شيئاً من الغموض والإلتباس يظهـر رأساً بين مفهومي الثقافة والأيديولوجيا . وسبب هذا التداخل يأتي من أنّ " ماركس " هو الذي عمّم استعمال مفهوم الأيديولوجيا في العلوم الاجتماعيّة وأعطاه معنىً وشمولاً واسعاً جداً ، لدرجة أنّه شمل عملياً ما نسميه الآن " الثقافة ".
وإنّنا نعلم أنّ " ماركس " لم يستعمل مفهوم الأيديولوجيا بمعنى واحدٍ ومحددٍ ، بل كان يحمل في كتاباته معانٍ عديدة ، تذهب من معنى سيءٍ إلى معنى ما يشبه " النظرية " (Doctrine) . وإنّنا يجب أن نميّز في هذا المجال بين استعمالاته في " كتابات الشباب " حيث لا يمكن أن يُفهمَ هذا المفهوم إلاّ بالرجوع إلى مفاهيم الاستيلاب والتأليه (fétéchisme ) والخداع والتمويه ... فأفكار الطبقة المسيطرة مادياً والمهيمنة في المجتمع هي الأفكار السائدة والقوة الروحيّة المسيطرة .
فالأيديولوجيا بهذا المعنى هي وعيُ الطبقةِ السائدة للواقع وتمثّلهُ بحسب مصالحها وموقعها الاجتماعيّ . وهي تشملُ ، عند ماركس " الأشكال القانونيّة والسياسيّة والدينيّة والفنيّة والفلسفيّة والعلم أيضاً . كما أنّها تضمّ الأخلاق والأفكار والتصوّرات ووعي الناس للأشياء وللمجتمع ". وأخيراً تأتي اللغة التي تعملُ على إدخال هذا النتاج الروحيّ والفعليّ في الفكر والسلوك . وهكذا تصبح الأيديولوجيا عند " ماركس "، حسب تعبير " ج . غورفيتش "، Georges Gurvitch " مجمل الأعمال الحضاريّة ". فهي لا يمكن أن تكون ، من هذا المنظار ، غير " وعي خاطيء " لحقيقة الأشياء الواقعيّة : المحرّفة والمستلبة والخادعة والباطلة من الأساس ...
غير أنّ "ماركس " نفسَه ، في كتاباته اللاحقة ،كتاباتِ النضج والكهولة ، استعمل مفهوم "الأيديولوجيا " ، بمعنى مغايرٍ للاستعمال الأول ، وجرت محاولاتٌ حثيثة لتخليص هذا الاصطلاح من المعنى السيء ، لكي يُعطى لـه معنىً أكثرَ تحديداً ، معنى يجعل من الأيديولوجيا عنصراً من الثقافة ، بدلاً من أن تكون مرادفاً لها..
كما أنّه ، بنظر كثير من علماء الاجتماع ، أخذت الأيديولوجيا معنى محدداً وأصبحت كمفهوم حديث عبارة عن " نَسَقٍ من الأفكار والأحكام ، ظاهراً ومنتظماً عموماً ، يُستخدمُ ليصنِّفَ ويفسِّرَ ويشرح أو يبرِّر وضعَ مجموعة أو جماعة من الناس ، والذي ـ مستوحياً من مفاهيم القِيَم بشكلٍ واسع ـ يحدّد اتجاهاً للفعل التاريخيّ لهذه الجماعة أو تلك من الناس ".
وهكذا فإنّ الأيديولوجيا ، بحسب هذا التعريف ، ترتديَ شكلاً منسقاً ومتماسكاً ومنظماً إلى حدِّ ما ، لدرجة أنّها تأخذ طابع النظريّة، كما أنّها تبدو، حسب تعبير "دومون" (Fernand Dumont)، عبارة عن " عقلنة رؤيا العالم "، ولها وظيفة نزوع طبيعيّ . فهي تدفع إلى الفعل أو تهيء الأهداف والوسائل للجماعة ... وبدل من أن تكون مساوية للثقافة ، تُصبح الأيديولوجيا عنصراً منها ، فهي عنصرٌ مركزيّ فيها أو نواتها الحقيقيّة ، وتستطيعُ من خلالها أن تبنيَ الجماعة لذاتها تصوراً عن ذاتها ، وأنها تعطي لذاتها تفسيراً عما هي عليه ، في الوقت الذي توضح فيه آمالها ...
لذلك وبهذا المعنى ، يمكن أن نتحدّث عن أيديولوجيّة مجتمع ، حزب سياسيّ ، جيشٍ ، نقابةٍ ... كما أنّها قد تكون محافظة أو رديكاليّة ثوريّة ، متطرفة أو معتدلة ، دكتاتوريّة أو ليبراليّة ، وهي تأخذ من ضمن الثقافة وفي داخلها مظهراً أكثر عقلانية وأكثر وضوحاً وأكثر نشاطاً وعملاً ...
المثقف و المثقفون
وهنا أيضاً يُطرح السؤال: مَن هو المثقّف ؟ ومَن هم المثقفون ؟ فإذا حاولنا ، للإجابة عن ذلك ، أن نقلب صفحات معاجم اللغة العربيّة ، فإنّنا نجد ما يلي : ثَقِفَ الرمح : قومه وسواه . والمثقّف هو الرمح في عُرْف الشعراء . فتُستعار الكلمة وتُستعمل مجازاً للرجل فيقال : مثقّف ، بمعنى متأدب ، متعلم ، مهذب ، أو مَن كان على معرفة بما هو ضروريّ لـه ومَن حصل على قَدْرٍ من العلم والحذق والذكاء فهو ذو ثقافة ، أي لـه اهتمام بمسائل العقل والذهن ويُجاهد ويُغالب لتثبيت رأيه وقِيَمِه الفكرية ...
ومثقّف ومثقّفون : تعبيران لم يستعملا في تراثنا الفكريّ والأدبيّ والفلسفيّ ، إلاّ في ما ذكرنا في الحديث عن " تقويم الرمح وتشذيبه " وما في معناه . فقد كان يجري ، بدلاً من ذلك ، استعمال : فقيه ، عالم ، أديب ، شاعر ، فيلسوف ، كاتب ( بمعنى الموظف الإداريّ ) ... ولم يجر استعمال لفظ " مثقّف ومثقّفين "، إلاّ منذ وقت قريب بالمعنى العام الذي نحمله عليه ونعنيه به .. ونحن على أيّة حال لا نعرف على وجه التحديد متى استعملناه في أدبياتنا بمعناه الحديث ، كما لا نعرف أولَ من استخدمه عندنا بهذا المفهوم الجديد ... فقد يكون في مطلع القرن الحالي وذلك نقلاً عمّا جرى التداول فيه باللغات الأجنبيّة واللغة الفرنسيّة تحديداً .( )
غير أنّ اللفظ " مثقّف " يبقى في التداول الشائع واللغة اليوميّة ، يحمل معنى الشخص المتعلم أو مَن حصل على قَدْرٍ من العلم والتعلم أو مَن له اهتمام بأمور العقل والذهن . وهكذا استمر مفهوم مثقّف حتى الآن ، كاصطلاح حديث ، يحمل معنىً غامضاً ،فيه كثيرٌ من الالتباس والإبهام . ذلك أنّنا نعلم أن ليس كلّ متعلم أو حاصل على شهادة علميّة هو مثقّف . فقد لا يكون المثقّف يحمل أيّة شهادة علميّة ، ومع ذلك يمكن اعتباره مثقّفاً . يضاف إلى ذلك أنّ عدم الوضوح يأتي أيضاً من أنّه ليس هناك من مهنة معيّنة أو من عمل محدّد يمكن أن يشتمل عليه لفظ مثقّف أو مثقّفين .
لا شكّ في أنّنا نعلم ماذا يعني العمل الذهنيّ أو العقليّ ، وماذا تُمثل الوظيفة الفكريّة . إنّما مضمون مفهوم مثقّف ومحتواه ، يبقى الالتباس فيه كبيراً وعدم التحديد شديداً . والتعريفات التي تُعطى لـه هي تعريفات تقريبيّة وتجريبيّة ، بمعنى أنّها تُستخرج من المعنى العام والاصطلاح الشائع الذي حمَلَه ومن الصراعات الفكريّة التي كان المثقّفُ أحدَ رموزها ووجوهها ... وهذه التعريفات تنحصر في الغالب ضمن الصفات العامة ، على أن تُدخِلَ ضمن المثقّفين ، الكتابَ والصحافيين والأساتذة وأصحاب المهن الحرّة : الأطباء والمهندسين والمحامين ... وحتى هؤلاء ، هناك مَنْ يَعترضُ على إدخالهم في جملة المثقّفين ، ويُدخلُ تمييزاً بين مَن هو متعلم ومَن مثقّف ... وهذه نقطة من الأهميّة بمكان في هذا الموضوع . ذلك أنّ تاريخ كلمة " مثقّف " ومضمونها الاجتماعيّ الذي يُعطى لها ، قد غَيّر من معنى هذا المفهوم وأعطاه معنىً جديداً ... ولتوضيح ذلك فنحن مضطرون إلى أن نلتجيء إلى ما كُتِبَ في اللغات الأجنبيّة عن هذا الاصطلاح الحديث .
ففي اللغة الفرنسيّة ،مثلاً ، فإنّ كلمة ( Intellectuel ) المثقف هي صفة ( Adjectif) قَبْلَ أن تصبح اسماً ( Substantif). وهي مشتقة من كلمة ( Intellect , intelligence ) بمعنى الذكاء والإدراك العقليّ . وهنا فارق في الاشتقاق بينها وبين لفظ مثقف ـ اسم مفعول مشتق من الثقافة ـ في اللغة العربيّة . وقد وُجد هذا الاسم "مثقّف "، لأول مرة ، إبّان قضية " درايفوس " ( Dreyfus ) في بيان المثقّفين ( Manifeste des intellectuels ) المنشور في كانون الثاني 1898. ( )
وهكذا ، ومنذ ذلك الحين ، يأخذُ مفهومُ مثقّف ومثقّفين ، ويُدخلُ فيه معنىً آخر ومضموناً جديداً : فهو الإنسان الذي ينظر إلى المجتمع من منظارٍ نقديّ ويستخدم خطاباً نقدياً . فهو في معارضة دائمة . وهو مرآة تعكس صورة " مفترسة " للمجتمع ، تحثّ على العمل من أجل تغييره . ففي هذه الحالة ، يُعْرفُ المثقّفُ من خلال عمله النقديّ . كما أنّ عليه أن يساعد المجتمع من أجل أن يعيَ ذاته بالكتابة أو عن طريق الخطاب . فيجب أن يُظهرَ العيوبَ في المجتمع وللمجتمع وأن يُوضّحَ الطريقَ وأن يشجبَ ويستنكرَ ويعترض . فليس هناك والحالة هذه مَن ينجو من النقد أو مَن هو في منأى عنه . وبهذا المعنى يُصبِحُ مفهومُ " المثقف اليمينيّ " غريباً عن هذا المعنى ويَخرجُ من هذا التعريف الجديد ويُصبحُ متناقضاً في مضمونه ومعناه . ( )
وقبل أن نُنهيَ حديثنا عن المثقّفين ، من الأهميّة الإشارة السريعة إلى نظريّة " غرامشي " في هذا الموضوع . وهذه النظريّة تنطلق من النظريّة العامة التي تقوم على أساس التمييز بين العمل الذهنيّ والعمل اليدويّ . فالمثقّفون والحالة هذه يدخلون في مَنْ يعملون عملاً ذهنياً ، فكرياً . فإذا كان الأمر كذلك ، فإنّ جميع الناس ، بحسب هذه النظريّة ، يصبحون مثقّفين ، ذلك أنّ كلّ واحد مهما كان عمله مادياً ، يمارسُ ولو حداً أدنى من العمل الفكريّ . غير أنّهم في الواقع لا يمارسون جميعاً وظيفة المثقّف في المجتمع ...
فالمثقّفون ، إذن ، بنظر "غرامشي" ، هم " المثقّفون العضويون " أي المثقّفون المرتبطون عضوياً ، في عملية الإنتاج ، بجماعة أو بفئة اجتماعيّة أو بالطبقات الاجتماعيّة عموماً . فهم يُكوِّنون فئة مستقلة تلعب دوراً حاسماً، في ظهور الجماعات والطبقات الاجتماعيّة وبلورة وعيها وصراعها... ووظيفتهم لا تشبه أو لا تتشابه مع أيّ مهنة من المهن . وهي وظيفة خاصة بهم مهمتها أن تُعطيَ للفئة الاجتماعيّة التي ينتمون إليها :
1 ـ وحدتَها التكامليّة
2 ـ ووعيَها لذاتها
3 ـ ووعيَها لوظيفتها الخاصة بها ، ليس فقط في الميدان الاقتصاديّ وإنّما أيضاً في المجال السياسيّ والنطاق الاجتماعيّ .
وهذه الوظيفة ذاتها هي التي تميز " فئة المثقّفين " وتمنع من أن نخلط بينها وبين الفئات الاجتماعيّة الأخرى .( )
فالمثقّف ، في نهاية التحليل ، ومن وُجهة النظر هذه ، هو الإنسان الذي يعي ظروفَ المجتمع ومساوئَه ويعملُ عن طريق النقد والرفض ويدعو عن طريق الكلمة ، كتابة أو شفاهة وعَبْر مشروع فكريّ ، إلى التغيير الشامل دائماً وأبداً نحو الأفضل ...
الثقافة في الممارسة
لقد تبدّى لنا في استعراضنا السريع ، وبالتالي المجحف ، لمختلف مفاهيم الثقافة والمثقّفين ، مدى الصعوبة التي تُواجهنا في بحث هذا الموضوع الواسع ، غير المحدّد نظرياً واجتماعياً ، والذي تصبّ فيه اجتهاداتٌ ونظرياتٌ تكاد تكون متناقضة . في حين أنّه يبدو أنّ الاقتراب من الوضوح النسبيّ وتحديد معالم الموضوع نوعاً ما ، إنّما يتمّ من خلال الممارسة العمليّة ، ومن خـلال صياغة المفاهيم صياغة علميّة وأن تكون هذه المفاهيم ملتصقة بالظاهرة الاجتماعيّة ومعبّرة عن الواقع الاجتماعيّ في سياقه المحسوس .
وهناك من الكتّاب مَن يُؤكد " أنّ عدم وجود هذه الصياغة سببٌ من أسباب ضحالة الكتابة العربيّة وفي استمرار الطابع الإنشائيّ الذي يسودها بحيث يمكن للكاتب أن يملأ صفحاته من الكلمات المعادة والمكررة والتي لا تؤدي إلى أيّة تغييرات أساسيّة على صعيد المعرفة "( )
وبالفعل ، فإذا انطلقنا من ملاحظة استقرائيّة عامة لما يُكتب ويُنشر عندنا ، يظهر لنا بأنّ الثقافة العربيّة عموماً ، بعيدةٌ إلى حدٍّ صارخ أحياناً عن الواقع . فهناك فِراقٌ بين الثقافة والفكر من جهة وبين الواقع المحسوس من جهة أخرى ، وأكاد أقول إنّ ثمة طلاقاً بينهما .
ويرى أحد الباحثين في التراث " أنّ ما يبعث على الدهشة حقاً هو أنّ الذين أقدموا على بناء مشاريع تراثيّة كبيرة يجهلون قطاعات كثيرة من التّراث ولا يحيطون منه إلا بقدر هزيل . وقد لا أستثني من هؤلاء إلاّ عدداً قليلاً جداً ... فالمفكرون الآخرون يكتبون أكثر مما يقرؤون ...". ويقول الدكتور محمد عابد الجابري : " إنّني ألاحظ في كثيرٍ مما يُكتب عن التّراث أنّ أصحابه لا يستوعبون التّراث كما ينبغي أو لا يعرفون المناهج كما ينبغي ".( )
فالثقافة العربيّة بصورة عامة وشتّى المعارف والأفكار إنّما ترتبط بموقف نظريّ متعالٍ على الواقع وبعيدٍ عنه . إنّ مثقّفينا يميلون في الأغلب إلى طرح القضايا ، وحتى القضايا المصيريّة منها، في صورتها النظريّة المجردة ، والبعد عن المعالجة الواقعيّة التاريخيّة المحسوسة . فمفاهيمنا وآراؤنا هي أقرب في كثير من جوانبها إلى المفاهيم الأسطوريّة وإلى المفاهيم الميتافيزيقيّة ، بمعنى أنّ علاقتها بالواقع الموضوعيّ هي علاقة واهية وهشة ، فهي تَحجِبُ عن إدراكنا ووعينا رؤيةً حقيقية لهذا الواقع ...
إنّ البحثَ النظريّ أو الاشتغال بالمفاهيم الكلية مع أهميته الكبرى لا يُغني ولا يستقيم علمياً إلاّ إذا انطلق من بحث المفاهيم الجزئيّة ، وانطلق من الواقع الراهن بحقائقه وقوانينه ، التي يجب اكتشافها وإعادة اكتشافها دائماً من جديد .
فالعمل الثقافيّ والفكريّ ـ الجديّ والرصين ـ هو ذلك الذي ينطلق من الواقع ، أي مما هو عليه الشيء حقيقة ، ومن جزئيات الواقع إلى كلياته ، ثم يعود وينزل ، إذا صحّ التعبير ، من الكليات إلى الجزئيات بحركة جدلية متفاعلة وذلك بهدف الوصول إلى معرفة ذلك الواقع معرفة موضوعيّة حقيقيّة . فالثقافة الهادفة هي تلك التي تقوم على أساس العمل على إعادة المصالحة ، إذا أمكنني القول ، بين مجال الفكر ونطاق الواقع الموضوعيّ ... ذلك أنّ الأساس في كلّ بحث ثقافيّ فكريّ اجتماعيّ ، إنّما هو الواقع الحيّ المحسوس والمعيوش في آن .
* * *
ينتج ممّا تقدم فكرةٌ أراها أساسيّة في هذا السياق وهي : كيف يمكن أن ننطلق من الواقع ، من الظاهرة الاجتماعيّة ، دون أن نعتمد على مفهوم واضح ومنهج معرفيّ محدّد للبحث ؟!!... يضاف إلى ذلك أنّ أيّ عملية تغيير حقيقيّة للمجتمع ، مهما كانت جزئيّة ، يجب أن تبدأ من فهم هذا المجتمع ومعرفة حقائقه المتنوّعة . فالإصلاح أيّ إصلاح ، والتغيير أيّ تغيير ، مهما كان جزئياً ، يجب أن يسبقه أو يلازمه استيعاب ذلك الذي نحن بصدد إصلاحه أو تغييره . فلا يمكن القيام بعملية تغيير حقيقية ومن أجل مصلحة الإنسان ، لما لا نفهمه ولا ندركه .
فالانطلاق من معرفة هذا الواقع الحيّ بكلّ تفصيلاته و تعقيداته وجزئياته ـ وهنا الصعوبة الكبرى ـ إنّما هي ضرورة علميّة حتى تكون عملية التغيير واعية وصحيحة ... فالتغيير الماديّ للمجتمع ينبغي أن يرافقه في الوقت ذاته أو أن يسبقه وعيٌ فكريّ ومعرفة حقيقيّة حتى تكون رؤية المستقبل أوضح وطرق الإصلاح أضمن .
فالثقافة كما أفهمها هي الثقافة الواقعيّة ، هي وعيٌ نظريّ وعمليّ ومنهجيّ لظروف المجتمع وحقائقه . هي قولٌ وفعلٌ .هي تلك التي تعتمد على العقل والعلم والتنظيم ، تلك التي تلتمس قضايا المجتمع الحقيقيّة وتلامسها في الماضي والحاضر وتتخذ من الإنسان غاية لها. فالثقافة بهذا المعنى هي التزام حقيقي داخليّ ، ذاتيّ وموضوعيّ في آن معاً ...
أنطون مقدسي ، من جهته ، يشير إلى الجانب النقديّ والصراعيّ في الثقافة حين يقول : "لم يتبدل الهدف من الثقافة : فهو دوماً إنشاء فسحة إنسانيّة يستطيع المرء فيها أن يتنفس ويحيا (...) لقد كانت الثقافة دوماً صراع الإنسان مع الأشياء كي يقولها ، ومع عالمه كي يحيط به (..) وكي يَلقى الإنسان الآخر ويُقيمَ معه علاقة ما (...) تلك هي الثقافة : إعادة تكوين الإنسان بحيث يصبح بمقياس التحديات التي يتصدى لها !... إنها شِعْرٌ يوسّع قدرة الإنسان على الرؤية ، فَنّ يعيد إلى عالَمِه نضارته وجماله ، فلسفةٌ تمكّن عقله من الإحاطة بعالمه وإعطائه معنىً ... وهي أيضاً سياسةٌ تُعيد إلى الإنسان ، كلّ إنسان ، حريته (...) رهان الثقافة اليوم أن تعيد إلى الإنسان صورته الإنسانيّة ، وإلى وجوده معناه ...".( )
* * *
هذا وإنّنا نرى الآن ، وربما أكثر من أيّ وقت مضى ، أنّ للمثقّفين دوراً أساسياً في مرحلة التغيير ، في مرحلة التحرير ، تحرير الأرض والوطن والإنسان . فالمثقّف ، كما قلنا ، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم بقضايا المجتمع ويُدركها إدراكاً واعياً حتى يستطيع ، أقله نظرياً ، أن يوضّح الرؤية ويقدّم الحلول وينبأ بالمستقبل . إنّه ذلك الذي يعيش في صميم الواقع لا غريباً عنه من أجل نقضه وتغييره وتقدمه . فالصفة الأساسيّة من صفات المثقّف ، كما أراها ، هي صفة النقد ونقد النقد وهي التي تدفعه دائماً إلى أن يطمح نحو الأفضل وأن يحمل معوله على كتفه ويحاول أن يهدم من أجل البناء ، بناء إنسانيّة الإنسان . وهنا تساؤل " جاك بيرك " يقع في محله عندما يقول : " كيف يمكن التفريق بين الكلمة والفعل : أليس الكتّاب هم الذين يحرّكون بأفكارهم العالم ؟...".
* * *
وفي الختام أودّ هنا أن أنقلَ بعض الهمّ أو القلق الثقافيّ في لبنان ، وأقولَ بكلّ أسف إنّ الثقافة الرسميّة والسياسة الثقافيّة في لبنان ـ هذا إذا كان هناك من سياسة ثقافيّة ـ إنّما هي ثقافةٌ تعتمد على الأسس الطائفيّة ومفاهيمها . فمع وجود تيارٍ وطنيّ لا طائفيّ من المثقّفين والجمعيات الثقافيّة ، ناشط ومتحرك ، إلاّ أنّه يبقى هامشياً حتى إشعار آخر ، أمام الجوِّ الطائفيّ العام في البلد . لقد " تَطَيَّفت " الثقافة عندنا ، أي أصبحت طائفيّة ، في الشكل والمضمون ، بوعي أو بدون وعي ، كالنظام السياسيّ سواء بسواء . فغدا لكلّ طائفة ، بل ولكلّ مذهب من المذاهب الدينيّة " ثقافته " الخاصة ومفاهيمه ورؤياه وتصوراته الثقافيّة الخاصة به والتي قد تلتقي في بعض الوجوه وقد تتناقض في أغلبها مع " الثقافات الطائفيّة " الأخرى . وإنّنا نعلم أنّ هناك اتجاهاً عريضاً في لبنان يؤكد " أنّ الدين هو الثقافة !.. وأنّ الثقافة هي تعبير عن الدين !...". و" أنّ تعدّد الأديان والمذاهب في البلد ، يؤدّي بناء على هذا المفهوم الطائفيّ ، إلى تعدّد الثقافات !!..". ( )
كما أننا نشهد اليوم ، باطراد وازدياد ، دخول الاصطلاحات الثقافيّة المتنوّعة في الأطر القطريّة والإقليميّة ، حتى أصبح الآن لكل دولة عربيّة ثقافتها الخاصة بها ، واهتماماتها الثقافيّة ومفاهيمها الثقافيّة وطموحاتها الثقافيّة ، والتي تعمل على إبراز خصوصياتها أو ما يميِّزها عن غيرها من الثقافات العربيّة الأخرى .
لقد اعتدنا في الوقت الحاضر ـ بعد أن لم يكن معروفاً البتّة حتى وقت قريب ـ أن نتحدّث عن الثقافة الفلسطينيّة والثقافة السوريّة والثقافة (أو الثقافات) اللبنانيّة ، والثقافة العراقيّة والثقافة المصريّة أو المغربيّة أو الخليجيّة إلى آخر ما هنالك . فأين أصبحت الثقافة العربيّة الجامعة ، من كلّ هذه الثقافات التجزيئيّة ؟!... وما هي العلاقة بين هذه الثقافة الفرعيّة ( القطريّة ) والثقافة الكليّة ( العربيّة ) ؟... ففي الواقع ، إنّ هذا التجزيء الثقافيّ الملحوظ على امتداد الوطن العربيّ ، وفي الأقطار العربيّة كلّ منها على حدة ، إنّما هو انعكاس للتجزئة السياسيّة وصورة لها ونتيجة لازمة من نتائجها . فالتركيز على الثقافات القطريّة إنّما يتمّ بعيداً عن مفاهيم الثقافة العربيّة الكليّة وبمعزل عنها ونتيجة لذيولها ...
* * *
لا ريب في أنّ الموضوعَ بذاته ـ موضوعَ الثقافةِ والمثقّفِ والمثقّفين ـ ليس سهلاً أو ليّن المقاربة . ويُظهر بحثُه بالعمقِ كم هو شائكٌ وواسعٌ ، تتداخل فيه الأمور وتتشابك بحيث أننا نجد أنفسنا تلقائياً وجهاً لوجه أمام مشاكل حياتنا الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة . يضافُ إلى ذلك كلِّه ، أو فوق ذلك كلّه ، خضوعنا اليومي المباشَر وبطرقٍ وقنواتٍ متنوعة ، لسيلٍ هائلٍ من التأثيرات والتيارات الثقافيّة الخارجيّة التي تأتينا من كلّ حدبٍ وصوبٍ .
في الحقيقة ، إنّ مقاربتنا لواقعنا الاجتماعيّ والثقافيّ الموضوعيّ ، تنقصها المبادرة العلميّة والمجابهة الجريئة والنظرة الجديدة المبدعة . فالثقافةُ العربيّة بصورة عامة مَسْبوكةٌ بأطرها التقليديّة : فنحن لم نستطع بعد أن نخرجَ كلياً من هذه الأطر التقليديّة ، وفي الوقت ذاته لم نستطع أن نستوعب أو أن نمتلك المفاهيم الثقافيّة الجديدة وتطبيقها في مناهجنا وأبحاثنا . فنحن في هذا الموقع الصعب أو في هذه المنزلة بين المنزلتين . من هنا أجد الأسباب الرئيسة والعميقة لأزمتنا الثقافيّة ..
لذلك فإنّ أيّ عمل ثقافيّ جديّ من أجل إرساء أسس وحدة ثقافيّة متكاملة ، وحدة الأهداف والطموحات ، ومن أجل بلورة تصورٍ نظريّ وعمليّ لمشروع ثقافيّ مستقبليّ ، يكون إطاراً يلتقي عليه مثقفونا وهيئاتنا الثقافيّة ، إنّما هو شرطٌ ضروريّ وأساسيّ من شروط تكوين حركة ثقافيّة ضاغطة وفاعلة وذلك من أجل بناء المستقبل الحرّ الديمقراطيّ من منطلقات واقعيّة ومن أجل بناء الإنسان .
هذا هو ، فيما أعتقد ، التحدّي الكبير الذي يواجهنا جميعاً . فهل نحن مهيئون فعلاً وقولاً ومستعدون لقبول هذا التحدّي ؟!...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ[1] ) نصّ البحث الذي قدّمه الدكتور مصطفى دندشلي في النّدوة التي نظّمها " إتحاد الكتاب العرب" في دمشق، تحت عنوان عام " الفعل العربيّ المقاوم " ، بتاريخ 14 - 15 تشرين الأول ( أوكتوبر ) 1989
[1] ) تعريف " تايلور " :" إنّ الثقافة أو الحضارة ، بالمعنى الأتنوغرافيّ الواسع للكلمة ، هي هذا الكلّ المعقّد والمتشعّب الذي يضمّ المعارف والمعتقدات والفنّ والقانون والأخلاق والتقاليد وجميع الإمكانات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع معيّن ".
[1] ) ذكره أحمد مكي ، " الرافد العربيّ في الثقافة اللبنانيّة "، في ( لبنان الذاكرة الثقافيّة ، محطات و مفارق ، الحركة الثقافيّة في أنطلياس ـ لبنان ، 1984 ) ص 26
2) أنظر مالك بن نبي ، "مشكلة الثقافة "( ترجمة عبد الصبور شاهين ) الطبعة الأولى القاهرة 1959، الطبعة الرابعة ، دار الفكر، دمشق 1984 ، ص 20 .
3) المرجع السابق ص 19 .
4) المرجع السابق ص 25 .
1) لقد اعتمدنا في هذا المقطع والمقطع الذي يليه : " الثقافة والأيديولوجيا " على ترجمتنا لكتاب " غي روشيه " ، " مدخل إلى علم الاجتماع ، 1- الفعل الاجتماعي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1983 ، ص 136- 146 وص 153 - 158
[1] ) هناك من يرى أن الدكتور محمود عزمي ، هو أول من أعطى إلى كلمة " ثقافة " هذا المفهوم الاصطلاحي الحديث ، وذلك قد يكون ترجمة لمفهوم كلمة " culture " ولمضمونها في اللغة الفرنسية ، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه . وُلد محمود عزمي في قرية "شيبة قش " مركز منية القمح عام 1889 ، وهي الحقبة الزمنية التي شهدت مولد أعلام التنوير الكبار في مصر . وهو يُعتبر من أعلامهم وفي مقدمتهم في مجال الثقافة والفكر والحضارة . إلتحق بالقسم الفرنسي بإحدى المدارس الثانوية في القاهرة التي كان يدرِّس فيها أساتذة فرنسيون ، فتأثر بآرائهم وأفكارهم حول مبادئ الثورة الفرنسية ... وكان أحد أعضاء أول بعثة للجامعة المصرية إلى باريس عام 1908 ، لدراسة القانون والعلوم الأخلاقية والسياسية ... ومن ثمَّ ، عاد إلى مصر عام 1912 ، وهو أكثر إيماناً بالحرية والمساواة والتقدم وليصبح من أكبر دعاة الليبرالية وحرية الفكر... وكان محمود عزمي من أول الداعين إلى اتجاه مصر إلى ثقافة " البحر المتوسط " وهي الدعوة التي كان ينادي بها طه حسين . وكان يرى محمود عزمي " أن العناية بثقافات الأمم الأوروبية المطِلَّة على البحر المتوسط ولا سيّما ثقافة الأغريق وثقافة الطليان في عصور النهضة والإحياء وثقافة فرنسا الحديثة ، ستفتح طاقات واسعة للعلم والمعرفة والنور والتقدم والحضارة "... وعند قيام ثورة يوليو ( تموز ) 1952 ، اختير محمود عزمي عضواً في لجنة وضع الدستور الجديد ، ومن بعدها اختاره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ليكون رئيساً لوفد مصر الدائم في الأمم المتحدة ، منذ بدايات الأزمة بين مصر وبريطانيا عام 1954 ، تقديراً لمواقف هذا الرجل .. وهو المنصب الذي ظلّ يشغله حتى سقوطه أمام منصة مجلس الأمن شهيداً وهو يدافع عن حق مصر في الاستقلال والحرية . [ نقلاً عن د. نجوى كامل في : ذكرى مرور أربعين عاماً على أحد رواد التنوير : د. محمود عزمي بين الصحافة والسياسة ( في مجلة الهلال ، عدد 11 ، نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1994 ) ص 37 ) .
[1] ) حول هذه النقطة أنظر : Les nouveaux intelectuels , F.Bon , M . A . Burnier
Ed . Seuil , Paris , 1971 , p . 9 et s
2) المرجع السابق ص 10
[1] ) لمزيد في التفصيل والإيضاح حول مفهوم "المثقفون العضويون"من وجهة نظر "غرامشي"،أنظر المرجع السابق ص 14-17..وأنظر أيضاً،"جون كاميت" " أنطونيو غرامشي ، حياته وأعماله "،( ترجمة عفيف الرزار ) ، بيروت ، مؤسسة الأبحاث العربية ، 1984 ، ص 267 وما بعدها. وأنظر أيضاً، كارلوس ساليناري وماريو سبينيلا ، فكر غرامشي ، مختارات( تعريب تحسين الشيخ علي ) بيروت، دار الفارابي ، (بدون تاريخ) ص 205 وما بعدها .
2) مجلة " الحوادث " العدد 1641 ، 15 نيسان 1989
[1] ) أنظر ، مجلة " العربي " ، العدد 370 ، أيلول ( سبتمبر ) 1989
[1] ) أنظر مداخلة أنطون مقدسي الغنية والمهمة في هذا الموضوع : " تيارات الإحياء الديني ومستقبل لبنان " في ( " الثقافة والدين والسياسة وإعادة بناء لبنان ،الحركة الثقافية في أنطلياس - لبنان ، المؤتمر العالمي، 1985 ) ص 54 و 56
[1] ) هناك إتجاه كبير منتشر بين بعض الأوساط المسيحية الدينية والسياسية والطائفية تحديداً ، يدعو صراحة إلى التعددية الثقافية والحضارية على أساس التعددية الدينية في لبنان . أنظر إشارات " بطرس ديب " التلميحية الواضحة إلى الموضوع في بحثه عن " التعددية الدينية والتكوين الثقافي في لبنان : الإشكالية " في ( الثقافة والدين والسياسة وإعادة بناء لبنان ) ، الحركة الثقافية - أنطلياس ، لبنان ، المؤتمر العالمي 1985 ص 18 .