د.دندشلي - لاحتفال التكريميّ للوزير والنائب الراحل المحامي جوزيف مغيزل
كلمة
الدكتور مصطفى دندشلي (1)
في مثلِ هـذه الأيامِ ، وتحديـداً في العاشرِ من شهرِ كانون الأول من كلّ عام ، يحتفلُ العالمُ بذكرى " الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان "، الصادرِ عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1948. ونحن ، هنا ، في مركزِنا الثقافيّ في صيدا ، كنا دائماً نحتفلُ بهذه المناسبة ، منذ ما يقرب من ثماني سنوات ، بتشجيعٍ وتعاونٍ وثيقٍ مع جمعية حقوق الإنسان في لبنان ، ورئيسِها المحامي جوزيف مغيزل ، وذلك عن طريق عقد ندوات ومحاضرات ولقاءات للنقاش والحوار حول مبادئ " شرعةِ حقوق الإنسان "، ومواضيع أخرى ، فكريّةٍ وسياسيّةٍ شتّى …
وها نحن الآن ، في هذه الأمسية ، قد أردنا أن نقيمَ هذا " اللقاء التكريميّ " كي نحتفلَ بذكرى عزيزٍ علينا وصديقٍ لمركزِنا الثقافيّ ، الذي كان لـه الفضلُ الأول ، هو والجمعية التي كان يرأسها ، بتعميمِ مبادئ حقوق الإنسان والعدالةِ والديمقراطيّةِ في مجتمعِنا ، أعني به المغفور لـه ، النائب والوزير الراحل المحامي جوزيف مغيزل .
فتحيةَ إجلالٍ وإكبارٍ وتقديرٍ نرفعها إليه في مثواه الأخير ، وإلى روحِه الطاهرةِ ، النقيَّةِ ، الزكيّةِ ... وإنّ هذا الاحتفال التكريميّ المتواضع الذي يقيمهُ الآن مركزنا الثقافيّ في صيدا ، فإنّما يحملُ معنى الرمز . هو عنوانُ وفاءٍ وذكرى ومحبةٍ ، وعهدٍ نقطعه على أنفسِنا بأن نتابع العمل ، بجديّة وتواصل ، على نشرِ وتعميمِ مبادئ الحريّة ، وقِيَمِ الديمقراطيّة ، ومفاهيم العدالة الاجتماعيّة وحقوقِ الإنسان ، هذه المبادئ التي رفعَها وناضلَ من أجلِها فقيدُنا الكبير ...
فعندما تُذكر شُرعة حقوق الإنسان في لبنان، في عناوينها الأساسيّة ومبادئها الأولى، لجهة:
* الحقوق المدنيّة والسياسيّة للأفراد والجماعات
* الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة
* الحريات الشخصيّة والعامة والحريّات الروحيّة والاعتقاديّة
عندما تُذكر ، أقول ، هذه المبادئ عندنا : في الحرية والديمقراطيّة والمساواة والعدالة ، كان يُذكر معها مباشرة هذا الدورُ الرائدُ والمؤسِّسُ الذي لعبَه فقيدُنا الكبير طوالَ سنواتٍ مديدة من النضالِ والكفاحِ على مستوى الفكرِ والسياسة ... من هنا كانت علاقتُنا به وثيقةً ومتواصلةً فكرياً وسياسياً ، في مفاهيمِها الديمقراطيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة الخلاقة والمبدعة ... فالسؤال كان دائماً يُطرحُ علينا بإلحاح وبجديّة : ما العمل ؟!... ما العمل من أجلِ التحضيرِ والتأسيسِ لمشروعٍ ديمقراطيّ ، سياسيّ ، وطنيّ ، جديدٍ يشملُ لبنانَ بأسرِه ؟!...
* * *
لقد كان دائماً يشدُّني ويُـثيرُ انتباهي وإعجابي ، تلك الخصائصُ والصفاتُ المميَّزةُ والمميِّزة في شخصيّة جوزيف مغيزل :
* هذا الصفاءُ الذهنيّ
* الوضوحُ الفكريّ
* الأخلاقيةُ في العمل والعلاقات السياسيّة
* البساطةُ في السلوك والتصرفات .
بل إنني أذهبُ إلى أبعد من ذلك لأقول : إنّ علاقة الفكرِ بالسياسة ، والسياسةِ بالفكر ، لم تتوضَّحْ بجلاء كبير كما توضّحت وظهرت في شخصيّة جوزيف مغيزل ... ومما يزيد في تلازم هذه العلاقة التفاعليّة ـ الجدليّة بين الفكر والسياسة ، بين القول والفعل ، بين الثقافة والممارسة عند جوزيف مغيزل ، أنّ في مجتمعِنا ثمّة انفصاماً ظاهراً بين الفكر والسياسة ، وبين السياسة والفكر . فالسياسة في الغالب خاويةٌ من أيّ مضمونٍ فكريّ ، فلسفيّ ، اجتماعيّ في بلدنا ... هي مصالحٌ وتحالفاتٌ آنيةٌ ، غير مبدئيّة ، وتخضُع لموازين القوى في الداخل والخارج ... كما وأنّ الفكرَ عندنا بصورة عامة قصيرُ النَّفَس ، وبعيدٌ إلى هذا الحدّ أو ذاك عن الممارسة العمليّة الفعليّة ... من هنا ، برأيي ، ومن خلال ملاحظاتي ومعرفتي الشخصيّة بجوزيف مغيزل ، أرى بوضوحٍ هذه الوَحدةَ التفاعليّة ـ التكامليّة بين الفكر والسياسة ، بين الثقافة والممارسة ، بين القول والفعل ، والتلازمَ بينهما في شخصيَّتِهِ وسلوكِه وممارساتِه العامة ...
* * *
وإذا كان لي ، في هذه العُجالة ، أن أعودَ قليلاً إلى الوراء ، فإنني أذكر يوم التقيته في المجلس النيابي ، بعد ما يقرب من سنة على انتخابه نائباً عن بيروت ، وذلك من أجل دعوته للمشاركة في مؤتمرٍ كنا نقومُ بالتحضير له وتنظيمه آنذاك. فاعتذر ... فجلسنا في زاوية من الصالون الكبير ، وأخذَ يشكو لي ، بهدوءٍ ، وأَلَمٍ ، وحَسْرةٍ ، همومَه ومشاغِلَه وقلقَه الفكريّ والسياسيّ ... وقال لي ، وبالحرف الواحد على وجه التقريب : إننا نعيشُ في ضَياعٍ وتخبطٍ شاملٍ . اجتماعاتٌ واجتماعاتٌ واجتماعاتٌ لا تنتهي ... وعلى كَثْرتِها ، فهي قليلةُ الثمرات ... حتى أنني لا أعودُ إلى المنزلِ غالباً متأخراً ، إلاّ وأنا منهَكُ القوى ، ومتعبُ الأعصاب ، ومشوّشُ التفكير ... فلم يعد لديّ الوقتُ الكافي والضروريّ لقراءة صحيفة أو مجلة أو كتاب ... إنني أشعر أنّ الوضعَ إذا استمر على هذا المنوال ، سيتحجر عقلي وسيتجمَّد فكري ، وسأصبحُ عاجلاً أو آجلاً جاهلاً ، على الحقيقة ... بل وأقول لك ، إذا سارت الأمور على ما هي عليه الآن ، فإنّ الجهلَة في لبنان سيزدادون 128 جاهلاً آخرين ... فقلت له : هذا قول خطير ، أستاذ جوزيف !!. هل هذا للنشر ؟!.. فردّ فوراً : هذه حقيقة واقعيّة ، وإنني إذ أقولها لك ، فإنما لتعلنَها ...
ثم التقيت به ، مرة أخرى ، في شهر شباط أو آذار من هذه السنة ، فيما أذكر ، لأدعوَه أيضاً للمشاركةِ في مؤتمر سياسيّ ـ فكريّ حول " مفهوم الدولة في لبنان " بين العاشر والحادي عشر من شهر أيار الماضي ... فكان اعتذاره أيضاً قاطعاً . وقال في جلسة حميمة في المجلس النيابيّ : إنني مرهقٌ أشدّ الإرهاق . إنني أنتظرُ عطلة عيد الفصح والعطلة الصيفيّة ، حتى أستريحَ وأتوقفَ عن أيِّ عمل كان . أريدُ أن أستريحَ قليلاً ... فكانت إذ ذاك تشوبُ حديثَه ، كما أذكرُ تماماً ، مسحةٌ من التشاؤم والتعب ، حتى لا أقول القرف ... وقد ذكرّته أثناء الحديث بما قاله لي سابقاً عن الجهل ، والجهلة ، والجهالة ، فقال : إنني أصحح القول لأوضح أنه سيزدادُ الجهلةُ في لبنان مائةَ شخصٍ أو يزيد قليلاً ... فهناك عدد من النواب ، السياسيّين المثقّفين ، الذين يبذلون جهداً فكرياً وسياسياً ممتازاً ومشكوراً ...
وكانت هي المرةُ الأخيرةُ التي التقي به وأراه فيها ... وبعدها بأشهرٍ قليلة كانت وفاتُه مفاجأةً لنا ، وحدثاً مؤلماً ومثيراً ومحزناً .... فقد خَسِرْنا بوفاته الصديقَ الوفيّ ، والمفكر السياسيّ ، والصادقَ في أفكارِه ومبادئِه وأخلاقياتِه . فإليه منا تحيةً صادرةً من القلبِ والعقلِ معاً ، تحيةَ وفاءٍ وعهدٍ بمتابعةِ المسيرة في نشرِ مبادئ الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان التي ناضل وضحّى من أجل تحقيقها .
وإذا كان لنا من كلمةٍ أخيرةٍ نقولُها في هذا المجال ، فهي أنّ الأستاذ جوزيف مغيزل قد مات جسدياً في 29 أيار 1995 ، غير أن فكرَه السياسيّ ، الديمقراطيّ ، الأخلاقيّ ، العروبيّ ، فهو باقٍ حياً ، ومَعْلَما منيراً في طريق النضال في لبنان : فلن يموت أبداً ...
* * *
إدارة الجلسة : الدكتور مصطفى دندشلي
... والآن ، إنّ موضوعنا لهذه الندوة ، كما نرى ، لهو موضوع على جانب كبير من الأهميّة ، بل وأكاد أقول من الخطورة في ظروفنا الحاضرة ... طبعاً ، لن أستفيضَ في التقديم أو أدخل في التفاصيل ، بل سأترك ذلك كلّه للسادة المحاضرين . وإنّما أودّ أن أشير بكلمة صغيرة فقط إلى أنّ السياسة العامة لمختلف الاتجاهات الاستشراقيّة منذ بدايات القرن التاسع عشر ، إذا لم أذهب إلى قبل ذلك ، وإلى حدّ الآن بصورة إجماليّة ، لم تكن لتنظرَ إلى هذه المنطقة التي نسميها " الوطن العربي "، إلاّ على أساس أنّها فسيفساء من الأقوام وخليط من مجتمعات صغيرة من الأقليات الإتنيّة والقوميّة والطوائف والمذاهب الدينيّة من كلّ لون ومنشأ ...
كذلك ، وكما هو معلوم ، فإنّ الحركة الصهيونيّة العالميّة ، منذ أواخر القرن الماضي وحتى الخمسينات والستينات من هذا القرن ، اتجهت في منحىً أخذت تشدّد فيه وتلحّ على أنّ المنطقة العربيّة والشرق العربيّ والإسلاميّ عموماً إنما يتكوّن من كيانات عرقيّة ولغويّة وطائفيّة ومذهبيّة ، كلّ منها لها حضاراتها الخاصة وثقافاتها المتنوّعة ولغاتها المختلفة ، وتراثها وتاريخها الخاص ... فأخذت تعمل عن طريق مختلف الوسائل السياسيّة والإعلاميّة ونشر الدراسات والبحوث والكتابات التي تُطلق عليها صفة " العلميّة "، من أجل تفتيت المنطقة العربيّة وتكريس كياناتها القطريّة أو العرقيّة ، أو الطائفيّة والمذهبيّة ، إلخ... والنظر إليها دائماً كوحدات اجتماعيّة وسياسيّة صغيرة ، متفرقة الجذور والتّراث في ما بينها ، ومتناقضة المصالح والتطلعات وعلى شتّى المستويات ... كلّ ذلك بطبيعة الحال حتى يكون لإسرائيل هذا الموقع ، هذا الدور المهيمن والمسيطر النافذ ، في منطقة عربيّة شاسعة زُرعت في قلبها ...
من هنا ، كانت قد نشأت مصطلحات سياسيّة ـ دبلوماسيّة أو استراتيجيّة ـ سياسيّة ، وانتشرت منذ أواخر القرن الماضي ، مثل : المسألة الشرقيّة ، والشرق الأدنى ، والشرق الأوسط ، والشرق الأقصى .. إلخ .. إلخ .. الأدنى أو الأوسط أو الأقصى بالنسبة لمن ؟!... طبعاً بالنسبة لأوروبا !... فهي المركز والباقي أطراف بالنظر إليها ، والتسمية أو الصفة التي تُعطى لها ( أي الأطراف ) تُقاس بمدى قربها أو بعدها منها ...
فمع، الزمن والهيمنة الأوروبيّة ـ الأميركيّة ، السياسيّة والعسكريّة، على المنطقة، تكرسّت هذه الاصطلاحات في استعمالاتنا السياسيّة اليوميّة وبالتالي في أذهاننا وفي مفرداتنا ، واشتُقّ منها صفات ونعوت ... وهي متداولة بكثرة على ألسنتنا وفي صحافتنا ، وأنشئت الآن صحف ومجلات تحمل هذه التسميات ... كما الاصطلاح الآخر الذي هو متداول أيضاً بكثرة : أعني به " ثقافة أو حضارة البحر المتوسط " ، فيكون هناك إذن : حضارة الشرق أوسطيّة من جهة ، وحضارة حوض المتوسط من جهة أخرى ... فهما حضارتان ليستا نفس الشيء ولا تحملان نفس المضمون ... فموضوع ندوتنا اليوم المطروح للبحث والنقاش ، هو : أين يقع مفهوم هويتنا العربيّة ، وانتمائنا الحضاريّ العربيّ في جملة هذه المفاهيم الجديدة والمستقبلية ؟!… هذا هو السؤال .. وهذا ما سيحاول أن يجيب عنه السادة المحاضرين ...
* * *
كلمة
السيّد محمد حسن الأمين
... شكراً لك أيّها الصديق العزيز ، أكثرُ من ذلك ، فإنّ الدكتور مصطفى دندشلي هو مُفعِّلٌ حقيقيّ للحياة الثقافيّة والفكريّة ليس الآن ، ولكن من زمنٍ بعيد ، في مدينة صيدا والجنوب ، وفي أُطرٍ أوسعَ من ذلك بكثير ... ولعلّ هذا المركز ، المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق في صيدا ، ليس سوى تجسيدٍ عمليّ لهذا الاهتمام الدائم والعميق في حياته وفي سلوكه وفي علاقاته ... وهو يُتيحُ لنا دائماً أن نلتقيَ لنبحث قضيةً جدّية على الأقلّ ، إنْ لم نقل قضية حضاريّة أو بالغة الأهميّة في وجودنا السياسيّ والفكريّ والتاريخيّ عموماً ..
واليوم ، وقد اختار أن يكون موضوعُ هذه الندوة : الهُويّة والانتماء الحضاريّ وحقوق الإنسان في مفاهيم الشرق أوسطيّة الجديدة والمستقبليّة ، فهو يطرحُ موضوعاً بالغ الأهميّة وبالغ الحضور في واقعنا القوميّ وفي واقعنا الإسلاميّ ، وفي واقعنا الوطنيّ اللبنانيّ أيضاً .
والشرق الأوسط ، والآن التعبير النسبيّ للشرق الأوسط : " الشرق أوسطية " ، ليست من المصطلحات الجديدة على ثقافتنا السياسيّة والجغرافيّة والتاريخيّة . فهذا المصطلح موجود منذ زمن طويل . وكنا نستعمل هذا المصطلح دون تحفظ ، نحن العرب وسكان هذه المنطقة ، كنا نُقبِلُ على استعمال مفهوم الشرق الأوسط ... تلاحظون أنّ التسميةَ جغرافيّةٌ صرف .. شرق الأوسط : ولكن بالنسبة لأيّة منطقة هو شرق !!... بالنسبة لمكان ما، للغرب... يعني أنّ أوروبا هي مركز العالم ، وما تبقّى من أطراف العالم ، هي مراكز تُقاس على أوروبا بالنسبة للجهات ، الجهات التي تكون عليها بالنسبة لهذا المركز . فنحن الشرق الأوسط بالنسبة لأوروبا ، التسمية جغرافيّة أولاً . ومن الناحية الثانية ، فإنها تسمية تنسب المركز لأوروبا من جهة ، وبقيّة البلدان هي الأطراف من جهة أخرى . وأيضاً فإنّ مفهوم الشرق الأوسط يرتبط في وجداننا السياسيّ والثقافيّ بمرحلة استعماريّة طويلة في هذه المنطقة ، التي كانت موضوع استعمار وانتداب للاستعمار الغربيّ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) كلمة الدكتور مصطفى دندشلي ، في الاحتفال التكريميّ للوزير والنائب الراحل المحامي جوزيف مغيزل، الذي أقامه المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق في صيدا ، وذلك يوم الجمعة الواقع فيه 8 كانون الأول 1995.
* إعداد وتحرير د. مصطفى دندشلي .