إشـكاليّـة الديمـقراطـيّة فـي لبـنـان من خلال الانتخابات النيابيّة الأخيرة في الجنوب اللبنانـيّ في الممارسة والتجربة الشخصيّة : الوقائع و النتائج مستقبليّة
حركة الحوار والثقافة
في لبنان لقاء ثقافيّ ـ حواريّ
في منزل السيد محمد الحاج علي
معركة ( قضاء صور )
مساء السبت ، 12 تشرين الأول 1996
الموضوع : التحضير للمؤتمر الثقافيّ الثامن لحركة الحوار ، تحت عنوان :
إشـكاليّـة الديمـقراطـيّة فـي لبـنـان
من خلال الانتخابات النيابيّة الأخيرة في الجنوب اللبنانـيّ
في الممارسة والتجربة الشخصيّة : الوقائع و النتائج مستقبليّة
الحضـور : بحسب الجلوس ( ومع حفظ الألقاب ): علي نجم ، قاسم محمد طراد ، أحمد العبد خليل، مصطفى دندشلي ، أحمد عبد الله ، إبراهيم الحاج علي ، حسن عجمي ، محمد الحاج علي .
* * *
في بداية الجلسة ، كلمة ترحيب من السيد محمد الحاج علي ...
د. مصطفى دندشلي : ... أحـبّ أن تكون هـذه الجلسة الأخويّة والحميمة ، جلسة حوار ومناقشة وتبادل وُجهات النظر ، تحضيراً " للقاء الثقافيّ الثامن " الذي تنظّمه حركتنا ، حركة الحوار والثقافة في لبنان، يوم الأحد المقبل في صيدا، في العشرين من الشهر الحالي... واسمحوا لي أن أشير بداية إلى أنّ حركتنا، هي ، دون أيّ شك ومنذ البداية ، حركة طموحة... لها طموحات كبيرة، وكبيرة جداً .. وهذه الطموحات الكبيرة ، لا ريب في أنها تتناقض كلياً وجذرياً مع الحالة السّيئة التي يعيش فيها البلد : وهي حالة انحطاط وتقهقر وركود ، وأزمة معيشية عامة ، وضائقة مالية تطال الجميع ، وأزمة اجتماعية عميقة الجذور والأبعاد ، وإحباط نفسيّ ووجدانيّ وقرف سياسي ، إلخ ، إلخ... ممّا هـو معروف لدينا جميعاً ، فلا حاجة للدخول فيه تفصيلاً ... فالناس ، كلّ الناس ، من مختلف الفئات الاجتماعية وطبقاتها ، تهتمّ أكثر ما تهتمّ بقضاياها الخاصة وأمورها الحياتية والمعيشية وتأمين أمورها العائلية اليومية... ففي هذا الظرف بالذات، تأتي مجموعة من المثقّفين، من المثقفين الملتزمين، حقيقة وفعلاً ، بقضايا المجتمع والإنسان ، مجموعة من المثـقّفين الطليعيّين ويتجرأون ويقولون بأننا نسعى ونعمل ونكافح لكي نغيّر ديمقراطياً نحو الأفضل ، لكي نُحدث عملية التغيير الديمقراطي في مجتمعنا، التغيير الاجتماعي والفكري والثقافي وبالتالي الوطني والسياسي ، انطلاقاً من الفكر ومن العقل ومن التنظيم ، انطلاقاً من الحوار ومن طرح القضايا المصيرية بالعمق المطلوب ، على صعيد الثقافة والعلم والمعرفة ، تلك القضايا المتعلقة بالواقع الحيّ المُعاش ، وصولاً إلى التفاعل مع الواقع السياسيّ والاجتماعيّ... هذا رهان كبير واستجابة للتحدي التاريخي الراهن...
فإنّني أرى ، بصدق وبكلّ موضوعيّة وعقلانيّة ، وبكلّ هـدوء فكريّ وتأمل عقليّ وتفاعل واقعيّ ، أرى بأنّ حركتنا ، حركة الحوار والثقافة، هي حركة جريئة... وأعتقد أنّ طروحاتنا التي كنّا قـد أعلنا عنها بالكتابة وعَبْر اللقاءات الثقافيّة التي ننظمها دورياً ، أو الطروحات التي سوف نطرحها مستقبلاً ، ونأمل أن نجعلها أكثر وضوحاً وعمقاً من خلال التجربة والممارسة ، أعتـقد ، أقول ، أنّ طروحات حركتنا الثـقافيّة هي طروحات جديدة في مضمونها ومنهجهـا ، وهي تريد وتطمح إلى أن تكون خلاّقـة ومبدعة في رؤيتها للواقع الاجتماعيّ واكتشافه من جديد بشفافية وموضوعيّة ووضوح وصدق... حركتنا الثقافيّة وطروحاتها وأهدافها المبدئيّة، هي في عمقها وجوهرها، جديدة بالنسبة إلينا: على صعيد الفكر والثقافة والسياسة الوطنيّة الديمقراطيّة في آن معاً .
طبعاً ، بتنا الآن في حالة عامة لا أحد فيها ، من سياسيين وغير سياسيين ، من طموحين للعب دور سياسيّ أو اجتماعيّ أو خلافه ، إلاّ والجميع يتحدّثون عن الثقافة والحركة الثقافية ويعلنون انتماءهم إليها، صدقاً وحقيقة أحياناً ، وتمويهاً وخداعاً في أغلب الأحيان ... فتنشأ هنا وهناك وهنالك، ويوماً بعد يوم ، جمعيات ومجمّعات ثقافيّة ، أحياناً يقـوم بها ويُعلن عنها مَن هم في السلطة السياسيّة العليا ، وكأنهم اكتشفوا من جديد وبسحر ساحر " أهميّة الثقافة " و " المجمّعات الثقافيّة " ، إلخ ... كما أنّ كثيرين من حملة الشهادات ، العليا أو غير العليا ، الطامحين إلى مناصب أو وظائف على مختلف المستويات ، أو مجـرد الظهور الاجتماعيّ أو الوجاهـة الاجتماعية أو بالأحرى الرياء الاجتماعيّ ، يكونون هم في عداد القيادات والمؤسّسين والأصوات الداعية إليها ... فهذا في الواقع وحقيقة الأمر ، تشويه ، أيّما تشويه للثقافة وللمثقّفين الحقيقيّين ، للثقافة الملتزمة وللمثقّف الجذريّ الملتزم . هذه الحالة "الثقافيّة" الجديدة التي ظهرت على السطح في الآونة الأخيرة هي في الحقيقة تزوير للثقافة : هي ثقافة مزيّفة ، وهؤلاء المثقّفون ، حاملو الشهادات ، هم مثقّفون مزيفون .
... وأعتـقد ، بكلّ موضوعيّة وعقلانيّة ، أنّ إحدى الصعوبات الكبرى التي تواجه حركتنا الثقافيّة بطروحاتها الجديدة، الخلاّقة ، أو التي تريد أن تكون خلاّقة ومبدعة ، إنّما ذلك الانتشار الواسع لشعارات تدور جميعها حول : الثقافة والحوار والحركة الثقافيّة والمؤسّسات الثقافيّة ـ وأحياناً يضاف إليها الشعبيّة ، والديمقراطيّة ، والتي قد لا يكون فيها شيء من الديمقراطيّة ولا من الشعبيّة ـ وكذلك أيضاً حول المثقّف ودور المثقّف. ولكن أؤكد لكم ، بكل دراية ومعرفة بالموضوع المطروح، أنّ كثرة الحديث في هذه المواضيع، لا يعني أبداً أنّها قد فُهمت فهماً عميقاً، علمياً ، اجتماعياً ، وأُدركت إدراكاً تاريخياً حقيقياً ، وتكوّنت رؤيـة لهـذه المفاهيم الخطيرة بحدّ ذاتها ، رؤية حقيقيّة وواقعيّة ، للمجتمع وظروف المجتمع في الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً ... إنّ كثرة الأحاديث حول هـذه المفاهيم ، التي هي بذاتـها صعبة ومعقّدة ، وتحتاج إلى دراسات معمّقة ، لا تعني اطلاقاً أنها قد فُهمت بالعمق والوضوح العلمييْن من الناحيـة الاجتماعيّة أو التاريخيّة أو الاصطلاحيّة ... فهي لا تزال تُطلق على عواهنها، دون وقفة تعمّق. غير أنّ هناك في أحسن الحالات، اجتهادات ذكيّة وجيدة. ولكن في حالات أخرى ، فإنّ هذه الاطلاقات هي أقرب إلى الشعارات منها إلى المفاهيم العلميّة الحقيقيّة ...
اليوم قبل أن نحضر إلى هنا، اجتمعنا في صور، الأخوة هنا وأنا ، مع بعض المثقّفين الذين لهم نشاطات ثقافيّة معروفة . فجرى الحديث طبعاً عن الثـقافة ودور المثـقّف ، إلخ ... فقد لاحظت بوضوح تام ، حتى في أندية عريقة ونشيطة ، وتضمّ مجموعة من المثقّفين لهم اهتمامات وخبرات في هذا الشأن، لفت نظري أنّ هذه المفاهيم الثقافيّة، من الناحية العلميّة والاصطلاحيّة، ما زالت حتى الآن غير واضحة تماماً، وبالعمق المطلوب... وعلى فرض أنّها كانت واضحة إلى حدّ ما ، فإنّنا نلاحظ أنّ هناك فارقاً ، أو حتى هوّة سحيقة ، بين القول والفعل ، بين الفكر النظريّ والممارسة العمليّة ... فإنّنا نلمس من خلال طرح هـذه المفاهيم أو النظريات أو الاصطلاحات ، التي هي صحيحة بذاتها ، ومن حيث منطوقها ، إلاّ أنّها تبقى شعارات مشوّشة وملتبسة في أذهان كثيرين ممن يطلقونها ... فيبدو فيها خليط عجيب من الأفكار والتصوّرات، لا يعتمد أبداً على معرفة واقعيّة أو تاريخيّة أو اصطلاحيّة لهذه المفاهيم التي هي لم تُخلق من العدم أو هبطت علينا من السماء ، أو ورثناها أبّاً عن جدّ ... لا ، أبداً.. هذه المفاهيم، مفاهيم الثقافة والمثقّف، والحوار والديمقراطيّة والتغيير ، إلخ، إلخ، إلخ... لها تاريخها، لها ظروف النشأة والتطوّر ، والانتقال من مجتمع إلى آخر ، أو حتى تطوّرها في المجتمع الواحد من مرحلة إلى مرحلة... فينبغي على الواحد منّا ، كي يستعملها استعمالاً علمياً حقيقياً ، وتكون سلاحاً من أجل التغيير الديمقراطيّ، تغيير الواقع الاجتماعيّ، على الأقل على صعيد الفكر والعقل والنظر، ينبغي على الواحد منّا ، أقول ، أن يلمّ بهذه المفاهيم : مفاهيم الثقافة والديمقراطيّّة والسياسة والحوار ، إلخ ، ويعرفها حـقّ المعرفة . كما أنّـه يجب معرفة الواقع الاجتماعيّ الذي نعمل على تطبيقها فيه : وهنا الأهميّة...
لهذا، فإنّنا نرى بوضوح أنّنا لم نشتغل أبداً ، عندنا في لبنان ، حول هذه المفاهيم : الثقافة أو المثقّف ، الديمقراطيّة أو التغيير وكثير غيرها : فليس من كتابات حول هذه المواضيع ، وفي مختلف الفروع العلميّة والاجتماعيّـة ... هـناك بعض الكتابات النادرة والترجمات التي ظهـرت في الآونة الأخيرة أو المقالات السريعة التي تُـنشر في الصحف بين الحـين والآخـر ، إنّما طابعها في أحسن الحالات هو السجال أكثر منه الطابع العلميّ الصّبور الدقيق ... طبعاً كلّ ذلـك بالمقارنة مع ما يُكتب في هذه المواضيع في مصر ، في سوريا أو خاصة في المغرب العربيّ...
ففي الحقيقة، هذه المفاهيم الاصطلاحيّة هي جـديدة علينا، وقد أخذت في السنتَيْن الأخيرتَيْن تُنشر بعض الكتب حول موضوع الديمقراطيّة والثقافة والمثـقّف، الخ... وهـذه الكتب القليلة جميعها من تأليف غير اللبنانيّين وهي مترجمة عن اللغات الأجنبية. لا ضرر في ذلك على الاطلاق ، بل هي مفيدة لنا في هذه المرحـلة ، فيجب أن نستفيد كلّ الإفادة من ذلك. ولكن ما أريد أن أقوله هو أنّنا نحن اللبنانيّين وتخصيصاً المثقّفين الجنوبيّين أو المؤسّسات الثقافيّة الجنوبيّة، لم نشتغل بعد علمياً واجتماعياً، حول هـذه المفاهيم وهذه المواضيع الجديدة علينا والمعقّدة والصعبة ، وإدراجها في واقعنا الاجتماعيّ الذي له ، في كثير أم قليل ، خصوصيته المميّزة ، إلى هذا الحدّ أو ذاك... فليس هناك في ما أعلم من كتابات، ومن كتّاب لبنانيّين، كانوا قـد بحثوا هذه المفاهيم بالعمق المطلوب، وبالتصاقها ميدانياً بواقعنا الاجتماعيّ المُعاش ... بل بقيت عامة في أحسن الحالات ، إنشائية الصياغة وخطابيّة الأسلوب ، ممّا تثير كثيراً من الالتباس والغموض ، وبالتالي عدم الاهتمام أو التأثير في الرأي العام ...
... كلّ ذلك بالمقارنة مع ما كُتب في هذه المفاهيم الثقافيّة والفكريّة في الغرب. ولكن ولكي نكون موضوعيّين وواضحين ، هناك مثقّـفون لبنانيون كتبوا في ما بين الحربين وفي مرحلة الانتداب وما بعدها في مرحلة الاستقلال . وكان هناك محاولات ثقافيّة غاية في الأهميّة ، على سبيل المثال : النّـدوة اللبنانيّة ومؤسّسها ميشال أسمر ، إلخ ... وهناك أدباء وشعراء وسياسيون وصحافيون ، كتبوا سواء باللغة العربيّة أو باللغة الفرنسيّة ، ولهم إسهامات مهمّة في هذا الشأن ... والصحافة لعبت دوراً كبيراً. ولكن ما أقصده تحديداً هو أنه لم يُكتب حول هذا التيار الثقافيّ أو تلك التيارات بعامة، التيارات الثقافيّة ، وعن المثقّفين ودورهم في مختلف المستويات بصورة شموليّة وتاريخيّة محدّدة . هنا ، في ما أعتـقد ، يأتي دورنا ، دور المثـقّف ، دوره في تكوين الوعي التاريخيّ والاجتماعيّ ، وعي الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ في ماضيه وفي حاضره ...
وهذه الاصطلاحات : ثقافة ومثقّف ومثقّفون وديمقراطيّة وديمقراطيون ، هي في الواقع اصطلاحات جديدة علينا، ولم تدخل في أدبياتنا إلاّ منذ وقت حديث ، ولربما في ما بعد الحرب العالميّة الأولى ، وهي بالتالي جديدة الاستخدام في اللغة العربيّة... ففي تاريخنا الفكريّ والفلسفيّ أو الدينيّ أو الأدبيّ أو العلميّ، لم نستعمل أبداً تعبيرات: ثقافة أو مثقّف، على سبيل المثال... كنّا نستعمل تعبيرات : عالم أو علماء ، أديب أو أدباء ، شاعر أو شعراء ، فقيه أو فقهاء ، كاتب أو كتّاب، إلخ... وإنّما كلمة مثقّف ، ولفظة ثقافة ، في المعنى الاصطلاحيّ الذي نستعمله الآن في أدبياتنا ، الفكريّة أو الاجتماعيّة أو السياسيّة ، هي تعبيرات حديثة ...( ولقد ذكرنا ذلك كلّه وشرحناه وفسّرناه وأعلنا موقفنا منه في منشورات حركة الحوار والثقافة ، وخصوصاً في الكتاب الثاني منها ...). إذن ، فإنّ تاريخيّة هذا الاصطلاح " ثقافة " أو " مثقّف " لم تُكتب بعد ولم توضّح بصورة علميّة تاريخيّة دقيقة وتفصيليّة ...
فما أريد أن أقوله هو أنّ عندنا كثيراً من المفاهيم نستعملها ونرفعها كمبادئ وأهداف ، فيجب علينا ، كحركة حوار وثقافة ، أن نوضّحها وأن نشرحها وأن ننشرها وأن نعمّمها ... ولكن ، لا يجوز أبداً أن يُقتصر ذلك على ما يمكن أن نسميَه : " النظريات المجرّدة "... فلا يجوز أن تكون حركتنا هي حركة ثقافيّة غيبيّة ، تجريديّة ، أو حتى طرح هذه القضايا على صعيد العقل المجرّد ، وبعيداً عن الواقع الحيّ المُعاش . لا ! نحن ، كحركة ثقافيّة ، يجب أن نكون ، وهذا ما نطمح إليه ، وما يجب أن نُلزم أنفسنا به ، حركة تُقرن البحث النظريّ بالممارسة العمليّة ، ومن على الأرض . وأن يكون هناك تفاعل بين الفكر وبين الواقع الموضوعيّ ، الاجتماعيّ ، الثقافيّ ، التاريخيّ . والأهميّة الأولى ، في رأيي ، إنّما هي للواقع المُعاش ، الملموس على الأرض ، بكلّ تعقيداته وجزئياته وتفصيلياته الماديّة والمعنويّة ، الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو السياسيّة ...
من أجل ذلك ، وكنموذج لمواقفنا ولرؤيتنا للأمور ولبحثنا لمختلف القضايا ، وكنموذج فقط لا غير، اخترنا موضوع لقائنا المقبل وهو اللقاء الثقافيّ الثامن، حول الانتخابات النيابيّة في الجنوب اللبنانيّ . فلاختيار هذا الموضوع وصياغته بهذا الشكل، له معنى في ذهني كبير ، وربما يكون هناك كثير ممّن لم يدركوا بعمق ، ماذا نقصد بطرحنا موضوع الانتخابات النيابيّة الأخيرة ، وفي الجنوب اللبنانيّ ، وعقد الحوار والمناقشة العامة حوله وإشراك معنا في النقاش مثقّفين من التيارات الثقافيّة في الجنوب اللبنانيّ ، وطرح في الوقت ذاته إشكاليّة الديمقراطيّة في لبنان ... ولماذا وُجهت الدعوة إلى عدد محصور من المثقّفين من مختلف الاتجاهات السياسيّة والوطنيّة ؟... ماذا يعني ذلك ؟... إنّني أقصد من وراء ذلك أموراً كثيرة أهمها هي : أولاً وقبل أيّ شيء آخر ، تفاعل الفكر مع الواقع الاجتماعيّ ـ التاريخيّ في مرحلة زمنية محدّدة ، مع الحدث السياسيّ الذي حصل والذي شارك فيه كلّ واحد منا ، بشكل أو بآخر ، وكان له موقف واضح أو ضمنيّ ، صريح علنيّ أو موقف مراقب هامشيّ... ودور المثقف، في ما أرى، أن يلتقط الحدث، أن يستوعب الحدث التاريخيّ ـ الاجتماعيّ، وأن لا يقف منه موقفاً غير مبالٍ ، وكلّ ذلك بهدف أن يدركه وأن يفهمه وأن يعطي عليه حكماً نقدياً، اعتراضياً ، في أبعاده المتنوّعة ... أنا ، على سبيل المثال ، قد عشت هذا الحدث التاريخيّ ، أيّ الانتخابيّ ، وكان لي موقف معيّن سلباً أو إيجاباً أو لا مبالياً ... وأراه من زاوية معيّنة ، أفهمه من زاوية معيّنة : الآخر كذلك ، أنت أو هو أو أنتم جميعاً ، قد عايشتم أيضاً هذا الحدث . فرؤياكم له قد تكون من زاوية أخرى ، وهي فعلاً من زاوية أخرى... وقد تكون رؤياكم ورؤياي مكمّلتان لبعضهما البعض أو متناقضتان ، أو في حالات كثيرة تختلفان الواحدة عن الأخرى في كثير من الجوانب ... هذا التفاعل بين وُجهات نظر متعدّدة ، بين الآراء المختلفة ، حول حدث معيّن ، هو إغناء لرؤيتنا ، للواقع الذي نعيشه ، وكلّ ذلك من أجل أن نفهمه وندركه حقيقة ، ومن كلّ الجوانب وفي أبعاده المتنوّعة ، ولربما أحياناً المتناقضة ...
هذا هو ما أراه لدور الحركة الثقافيّة في أحد وجوهها ... فهل يعني ذلك أنّ هذا العمل أو هذا التوجّه ترفٌ فكريّ وطرح الأمور والقضايا على صعيد نظريّ ؟!... لا ، أبداً !!... على الأقل في ذهني ، بعيدٌ ذلك كلّ البعد ، في مفهومي وتصوّري ... كذلك يمكنني أن أؤكد أيضاً أنّ ذلك بعيدٌ عن منطلقات حركتنا الثقافيّة ونشاطاتها وأهدافها ... الغاية من عقد هذا اللقاء حول الانتخابات اللبنانيّة في الجنوب هي، في أذهاننا ، محاولةٌ متواضعةٌ ، عن طريق الحوار مع الآخرين ، وفتح باب النقاش بمشاركة الآراء الثقافيّة الأخرى ـ وهي مهمّة ـ محاولةُ فهم هذا الحدث التاريخيّ الانتخابيّ ، انطلاقاً من واقعنا الجنوبيّ ، وإدراكه إدراكاً حقيقياً موضوعياً ، ومن زواياه المختلفة إن أمكن ، وانطلاقاً أيضاً من الحوار والنقاش واحترام رأي الآخر . وأن يشارك في هذا الحوار والنقاش مثقّفون متعدّدو الاتجاهات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة ولديهم الرغبة في الحوار والإمكانية لمتابعته ، كلّ ذلك حتى تكون رؤيتنا لهذا الحدث الانتخابيّ المحدّد في الزمان والمكان ، رؤية ميدانيّة ، ملموسة ، عميقة ، صحيحة ، سليمة . ونطرح بالتالي على أنـفسنا هذا السؤال المقلق ، المستفز ، المثير : ما العمل ؟!.. كيف يمكن في الحاضر والمستقبل وفي سيرورة عملنا وجهدنا ، الفكريّ والسلوكيّ والفعليّ ، أن نؤثر في الظواهر الاجتماعيّة الواقعيّة، وفي الأحداث الموضوعيّة في مجتمعنا ، انطلاقاً من مجتمعنا المحليّ وانتهاء بالمجتمع الأشمل ؟!... نحن بذواتنا أو الأجيال اللاحقة ، التي تأتي بعدنا، وتتابع المسيرة وما كنا قد بدأناه قليلاً أو كثيراً ، هزيلاً أو ضخماً !!...
أشير هنا عَرَضاً إلى أنّ ذاكرتنا ، وذاكرتنا التاريخيّة ، هي ذاكرة ضعيفة ، ذاكرة قصيرة، ذاكرة غير تراكميّة ، ذاكرة تعيش يوماً بيوم ، بل ساعة بساعة ، فتنسى سريعاً اللحظات السابقة ، مع كوننا كنا قد عايشناها، وشاركنا فيها ... ولربما لا تكون هذه الحالة هي خاصيتنا نحن بالذات ، وإنّما هي صفة عامة ، تختصّ بها الشعوب بأسرها ، إذا لم نعتمد التدوين والشهادة الصادقة والرؤية الموضوعيّة والمراقبة النافذة الناقدة الدقيقة، بمعنى إذا لم نسجل هذا الحدث بكل أمانة وموضوعيّة...
ولأعطيَ هنا مثلاً بسيطاً ، كلنا يعرفه معرفة تامة وهو الانتخابات النيابيّة لعام 1992 . لقد عشنا هذه الانتخابات ، وتفاعلنا معها ، وكان لنا موقف منها ، مشاركاً أو معارضاً ، سلباً كان هذا الموقف أو إيجاباً . ولكننا نرى أنّها تسير في ذاكرتنا نحو النسيان شيئاً فشيئاً ، في تفصيلاتها بداية ، ومن ثمّ في مجملها وفي نتائجها ، وننتقل هكذا بعدها إلى أحداث أخرى ، ونندمج فيها بعواطفنا وبوجداننا ، ونخلّف وراءنا الأحداث السابقة ، دون أن نستوعبها أو أن ندركها أو أن نفهمها فهماً علمياً ، تاريخياً ، موضوعياً ، لكي نستخرج منها العِبَر والدروس، والتحضير لرؤية المستقبل ، رؤية جديدة . إنّنا دائماً ننطلق من الصفر . يغيب عن ذاكرتنا الماضي القريب . فليس هناك من تراكم معرفيّ لاستخلاص العِبَر ، دائماً ننطلق من جديد : من هنا ، برأيي ، التخبط في العمل والضياع في السلوك ... فأعود إلى سؤالي حول الانتخابات النيابيّة لعام 1992 : مَن منّا حقيقة مَن يتذكّرها في تفصيلاتها، وفي مداخلها ومخارجها، ونتائجها ، سوى شيء قليلٍ باقٍ من العموميات التي هي بدورها سوف تزول تدريجياً مع الزمن ... لقد باتت كما نقول ، ودخلت " الذكريات التاريخيّة "، أو وُضعت على رفّ من رفوف " المتحف التاريخيّ ". فهذه الحالة العامة الشائعة ، أعتبرها من أكبر الأخطاء التي يرتكبها المثقّفون في عموميتهم . هنا دورهم ، دورهم التاريخيّ ، النقديّ . دور المثقّف ودور الحركات الثقافيّة هو ليس فقط أن تعيش الحدث التاريخيّ ، أو ظاهرة من الظواهر الاجتماعيّة والسياسيّة، أو أن تتفاعل معها وحسب ، وإنما دورها أن تنتقد هذا الحدث التاريخيّ ، أن تتخذ موقفاً منه، وأن تكون شاهدة عليه ، بوعي وإدراك وموضوعيّة ، وأن توثّقه وأن تنقله إلى الأجيال اللاحقة، وأن تنقل صورة واقعيّة نقديّة صحيحة عنه ، حتى يمكن أن يكون هناك ما نسمّيه : عملية التواصل ، وعمليّة التراكم، من أجل فهم الحركة التاريخيّة ، في مجراها التطوّري .... طبعاً ، وهذا شيء بديهيّ معروف : فكيف يمكن للأجيال المقبلة أن تعرف الظروف الراهنة وأن تلمّ بها ، وأن تطّلع عليها وأن تدرسها ـ ولِمَ لا !! ـ إذا لم نكتب نحن عن هذه الأحداث ، نحن المعاصرين لها ، كتابات معمّقة ومفصّلة ونترك وراءنا الوثائق عنها ، وثائق موضوعيّة صحيحة ، من أجل تقويم هذا الحدث تقويماً صحيحاً ... إنّني دائماً أردّد هذا القول : لن تسأل أجيالنا المستقبليّة : أولادنا وأحفادنا وأحفاد أحفادنا ، إذا كانت الظروف التي نعيشها الآن سيّئة . ولكنها سوف تسأل ، وبحقّ ، عمّا فعل المثقّفون لمواجهتها . ليس المهم أن تَلْعَنَ هذه الظروف السيّئة القائمة الرديئة ، وإنّما أن تتخذ الموقف المناسب الجريء، الرافض ، الناقد لها ...
لذلك وتوضيحاً منّي لهذا الموقف ، أودّ ، إذا سمحتم لي ، أن أشير إلى ذلك إشارة عابرة ، وهو أنّني الآن ، عن طريق مركزنا الثقافيّ في صيدا ، أقوم بعمل توثيقيّ ، دقيق ومفصّل ، ومن خلال الصحافة اللبنانيّة ، للانتخابات النيابيّة الأخيرة التي حصلت في خمس دورات انتخابيّة ، متتالية ابتداء من 15 آب وانتهاء بـ 15 أيلول 1996 ... وسأحاول أن أصدر وأنشر ، لا أريد أن أقول "موسوعة توثيقية " عن الانتخابات النيابيّة الأخيرة ، وإنّما سلسلة من الكتب الوثائقيّة تكون ذخيرة واقعيّة من المعلومات لكلّ باحث في وقتنا الحاضر أو في المستقبل ، وذلك بالاعتماد ، إلى أقصى ما هو ممكن ، على منهج موضوعيّ ، أمين ، صادق ، يفسح في المجال الواسع لكلّ التيارات السياسيّة العامة أن تعبّر عن رأيها ... ولسوف يكون هذا العمل ، في ما لو أُنجز بالشكل الذي أريد وأبغي ، وثيقة تاريخيّة ، مهمّة جداً ، ولم يحصل في السابق عمل بهذا النوع أو الطموح ، فتكون هذه الوثيقة تعبيراً عن الواقع التاريخيّ السياسيّ ، في مرحلة زمنيّة معيّنة محدّدة في المكان وفي الإطار العام .
هنا ، وأنني أتطرّق إلى جميع هذه الأمور التفصيليّة، في ما بيننا ، حتى نستطيع أن نتفاهم، نحن ، هذه البوتقة المثقّفة ، ويتوضّح جوهر تفكيرنا ومنطلقاتنا وتطلعاتنا ونطرح التساؤل علينا : لماذا اخترنا موضوع " اللقاء الثقافيّ الثامن " في صيدا في 20 الشهر الحالي ، حول الانتخابات النيابيّة الأخيرة في الجنوب اللبنانيّ ؟!... في الجنوب اللبنانيّ ؟... لماذا ؟... ذلك أنّني أرى ، في جوهر تفكيري ، أنّ على المثقّف أن يتفاعل بالدرجة الأولى ـ كما قلت ـ مع الواقع الاجتماعيّ المحليّ الذي يعيش فيه ، أن يتفاعل مع واقعه الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ ، مع واقعه الحيّ ... فأنا مواطن ، إنسان يعيش في منطقة الجنوب اللبنانيّ : فأنا لست ابن عكار، ابن البقاع ، ابن بيروت، ابن جبل لبنان ، وإنّما أنا ابن الجنوب ، وابن صيدا ، فيجب واقعياً ، عملياً ، أن أتفاعل بداية مع هذا الواقع الاجتماعيّ ، مع هذا المجتمع المحليّ الذي أعرفه بالمعايشة، وكذلك في ما بعد ، بالفكر والعقل والبحث العلميّ . ولكن هذا المجتمع المحليّ ، ليس هو جزيرة منفصلة ومقطوعة عن المجتمعات الأخرى. بل أكثر من ذلك ، فأنا لا أستطيع أن أعرف علمياً وأن أفهم وأدرك مجتمعي المحليّ إدراكاً علمياً ، موضوعياً ، إلاّ بارتباطه بالمجتمعات المحيطة به ، والمتفاعلة معـه على شتّى المستويات الحياتيّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ، في الماضي والحاضر والمستقبل . فلا أستطيع أن أعرف مجتمعي المحليّ الصغير ، إلاّ إذا دخلته ونظرت إليه من إطار مجتمعي الكبير ومجتمعي الأكبر ، حتى أصل في نهاية المطاف إلى المجتمع الإنسانيّ ككلّ . فأنا لا أستطيع أن أتفاعل بشكل مؤثر ، بطريقة أو بأخرى ، وأكون إيجابياً في تفاعلي مع المجتمع الوطنيّ العام أو مع المجتمع الإنسانيّ الأكبر ، إذا لم أكن فاعلاً ومؤثراً في مجتمعي المحليّ . وبكلمة مختصرة ، فإنّ العلاقة بين المجتمع المحليّ والمجتمع الوطنيّ العام إنّما هي علاقة تفاعليّة جدليّة وتبادليّة التأثير والتأثر ... إذن ، إنّني أرى أنه من واجبي ، بداية ، أن أفهم واقعيّ أنا كجنوبيّ ...
وفي ما يتعلق بالانتخابات النيابيّة الأخيرة ، فأنا كابن صيدا ، شاركت في هذه الانتخابات محلياً ، قد أكون عرفت كيف جرت وكيف تمّت التحالفات ، والتأثيرات المختلفة وموازين القوى الانتخابيّة والضغوطات كيف حصلت ، إلخ... في مدينتي وفي قضائي ومن زاويتي الخاصة... ولكن أن تأتيَ مثلاً وتقول لي كيف حصلت الانتخابات في صور ، فهنا ليس لديّ إلمام ميدانيّ ، علميّ ، موضوعيّ ، تفصيليّ ،من غير طريق ما تكتبه الصحف، أحياناً بل غالباً ما يكون بطريقة مجتزأة ، محرّفة ، منقوصة أو مشوّهة ... أو غير حقيقيّة وغير صادقة ، أو ما جاءت به إنّما هو إشارة أو إشارات سريعة وجانبيّة ، جزئيّة غير كافية إطلاقاً . وهكذا الأمر في منطقة النبطية ، أو في أيّ منطقة أخرى من مناطق الجنوب ، بنت جبيل ، جزين ، إلخ...
فالفكرة الأساسيّة في جميع ما ذكرت هي التالية : نحن كجنوبيّين ، فإلى أيّ مدى يمكننا ، عن طريق الحوار، وعن طريق إشراك في حوارنا ، مثقّفين من تيارات واتجاهات مختلفة وإدخالهم معنا ، في هذا اللقاء الثقافيّ الحواريّ ، وأن يُعبّر كلّ واحد عن وُجهة نظره ويُبدي رأيه في ما حدث، انطلاقاً من الواقع ، من الحدث السياسيّ ـ التاريخيّ الذي عاشه وعايشه . فيكون ذلك في الحقيقة إغناء للواحد وللآخر ... هذه هي الفكرة الأساسيّة لعقد هذا اللقاء الثقافيّ الثامن في أواخر الشهر الحالي . وهذه هي طريقة منهجيّة في العمل وفي التفكير وفي طرح قضايا الحوار والنقاش . وهو منهج موضوعيّ تعتمده حركتنا الثقافيّة في نشاطاتها السياسيّة والاجتماعيّة المتنوّعة . وأتمنّى في هذه المناسبة وفي هذه الجلسة الحميمة ، أن نناقش في صوابيّة هذه المنهجيّة ، حتى تصبح القناعة بها صحيحة لدى الجميع ، وبصحّتها وبجدواها في الممارسة والعمل ... أي أن نقتنع كلياً بهذه الفكرة وبهذه الطريقة في البحث والنقاش حتى نستطيع بعد ذلك أن نتوصل إلى نتائج عمليّة ، واقعيّة تُغني الموضوع ...
وهنا ، أتقدم إليكم باقتراح ، لندرسه ونناقشه في ما بيننا الآن أو في ما بعد ، وهو أنّه بعد هذا اللقاء الحواريّ الذي سوف نعقده في العشرين من الشهر الحالي والذي سندعو إليه ما بين العشرين والثلاثين من المثقّفين وأعضاء الهيئات الثقافيّة في الجنوب اللبنانيّ ، أن نقوم بتنظيم لقاء آخر بعد شهر ، أكثر أو أقل ، من اللقاء الثقافي الثامن ، يضمّ هذه المرة بعض السياسيّين والحزبيّين، الذين خاضوا المعركة الانتخابيّة الأخيرة ونجحوا فيها ، بدخولهم في اللائحة الموحّدة ، أو ، وهذا الأهمّ ، الذين لم يحالفهم الحظ ، وهم كُثُر ، وننتقي منهم عدداً كي يشارك معنا في لقاء يُعقد من أجل مناقشة الموضوع نفسه ، وإن كان بصيغة أخرى ... إنّ هؤلاء وأولئك أيضاً ، لا شك في أنّ لهم وُجهة نظر ولهم رأي خاص من خلال التجربة ، سلباً أو إيجاباً ، ولهم تقييم للموضوع الانتخابيّ في الجنوب اللبنانيّ ، فلا يجوز أن أنطلق من موقف آحاديّ وهو أنّني أنا وحدي من يرى الحقيقة ، والآخرون على خطأ .. لا ، هناك أشخاص ترشحوا للانتخابات ولم ينجحوا ... ولم يحالفهم الحظ ... وآخرون فازوا من ضمن اللائحة التي يُطلق عليها " لائحة السلطة "، بشكل مباشر ـ أغلبيتهم العظمى أو الساحقة ـ أو بشكل غير مباشر ... فننتقي منهم جميعاً عدداً محصوراً من الأشخاص الذين لديهم الاستعداد للدخول معنا في حوار ديمقراطيّ ونقاش صريح وواضح ... وكذلك انتقاء واختيار بعض القيادات الحزبيّة المثقّفة ، في هذا الاتجاه وفي هذا التوجه ... واختيار أيضاً أشخاصاً مثقّفين متسيّسين لهم إلمام ودراية بالعمل السياسيّ والتجربة السياسيّة والحركة السياسيّة والممارسة السياسيّة .... أطرح عليكم مناقشة هذا الموضوع ، وإذا قررتم ذلك فندعوهم إلى لقاء ، كذلك محصور وضيّق العدد ، في وقت لاحق ، نُحدّده في ما بعد ... ويُطرح عليهم للحوار والنقاش السؤال ذاته مع بعض التعديلات الضروريّة والمناسبة لوضعيتهم السياسيّة .. ومن ثمّ سوف نرى كيف ستكون أجوبتهم ، مقارنة مع نتائج لقائنا ... وأنّ رؤياهم للحدث الانتخابيّ ، هل تتوافق مع الرؤية السياسيّة والثقافيّة التي سوف نتوصل إليها في حلقتنا الدراسيّة المقبلة ؟!... أين الالتقاء وأين الاختلاف ؟!... ما هو اختلاف زوايا الرؤية السياسيّة ومنطلقاتها ونتائجها ؟!... أو ربما ، من خلال تجربة هؤلاء السياسيّين والحزبيّين ، هل هي أعمق وأكثر ملامسة للواقع منّا ، من معرفتنا ، نحن جميعاً كمثقّفين ؟!... وهل لديهم معرفة سياسيّة وواقعيّة أكثر من معرفتنا نحن ، وذلك بسبب كونهم إما مرشحين ، أو يتمتعون بعلاقات سياسيّة أو اجتماعيّة ، داخليّة أو خارجيّة ، أو كانوا "كمُسْتَنْوبين"، أصحاب حظوظ بدخولهم في قوائم الموالاة أو المعارضة المعروضة " للبازار " الانتخابيّ ؟!...
هذه صيغة ، الصيغة الأخرى والمتمّمة للأولى ، وهي التي كنت قد توافقت مبدئياً مع أعضاء الحركة في بعض المناطق ، خصوصاً في زحلة ، على أن نقوم بعقد لقاءات وحلقات دراسيّة في مختلف المحافظات اللبنانيّة حول موضوع الانتخابات كذلك ، كلّ في واقعه وفي ظروف منطقته وواقعه السياسيّ والمحليّ ... وذلك على النمط ذاته الذي قمنا به في الجنوب ... أن يكون لقاؤنا المقبل في البقاع، وبعد ذلك إذا أمكن في طرابلس والشمال ، ومن ثمّ في بيروت وجبل لبنان ، إلخ...
طبعاً هذا الجهد الكبير يحتاج إلى تضافر جهود وطاقات وإمكانات كثيرة ومتنوّعة حتى يمكن تحقيقه على الوجه الأكمل ، ويحتاج أيضاً إلى وقت وفترة زمنيّة تتراوح بين 4 و 6 أشهر ، حتى نستطيع أن نلمّ بالموضوع من مختلف جوانبه ... فأنا بذهني ، ولست أدري إذا كنتم توافقونني في هذا التصوّر ، وسوف نتناقش حول هذا الموضوع ، أنّ ما نقوم به وما نزمع على القيام به إنّما هو محاولة ، محاولة متواضعة ولكنها جديّة من حركة الحوار ، وبتضافر كلّ الجهود ، حتى نلمّ من مختلف الزوايا وفي المناطق المتعدّدة والمتنوّعة ، بكيفيّة إجراء الانتخابات النيابيّة في لبنان لعام 1996 . فكيف تجري هذه الانتخابات في مجتمعاتنا على صعيد تكوين اللوائح ، والتحالفات الانتخابيّة والسياسيّة، والتأثيرات المتنوّعة ، سياسيّة ، ماليّة ، وخلافه ، والضغوطات في شتّى أشكالها ، وعمليات الترهيب والترغيب ، والآليّة الانتخابيّة التي تتمّ على الأرض ، وسلوك المواطن العاديّ الانتخابيّ، أو حتى المثقّف وغير المثقّف، أصحاب المهن الحرّة على تنوعهم، والأساتذة جميعهم وكلّ من جهته ، كيف يحدّدون مواقعهم من هذا الحدث الانتخابيّ التاريخيّ ، وموقفهم الفعليّ والسلوكيّ في الظرف الراهن... هذه العمليات الانتخابيّة النيابيّة وغير النيابيّة، هي في الحقيقة وواقع الأمر ، معقّدة أشدّ التعقيد ، في آلياتها ومضامينها الاجتماعيّة والفكريّة ووعيها السياسيّ العام والعميق في آن : فهناك الظاهر والخفيّ ، النظريّ والعمليّ، المراقبة السطحيّة والاستقراء الخارجيّ، والمعايشة الحياتيّة والمعاناة اليوميّة التفصيليّة لهذا الحدث . فرق كبير ـ على صعيد العلم والمعرفة العلميّة الموضوعيّة ـ بين هذا وذاك ... كلّ ذلك ـ وهذا لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا ـ بهدف التأثير الفعليّ والعمليّ في الواقع الاجتماعيّ ، في مجرى الأحداث السياسيّة المحليّة والوطنيّة ، بقدر الإمكان وما هو متوافر لنا من هامش (وهو كبير، في ما أرى ) للتحرك والتفاعل المؤثّر ، والنشاط الثقافيّ الوطنيّ السياسيّ، الحرّ الديمقراطيّ .
هنا يُطرح السؤال المقلق والإشكاليّ ، بالعمق والجدّية المطلوبَيْن : هل فعلاً الانتخابات في لبنان قد دلّت وبرهنت على أنّ النظام السياسيّ والاجتماعيّ هو نظام ديمقراطيّ ؟!... من أجل ذلك ، ومحاولة منّا للإجابة عن هذا التساؤل ذي الأوجه والإجابات المتعدّدة ، كنّا قد صغنا هذا التساؤل أو هذا السؤال ، وجعلناه عنواناً وموضوعاً للقائنا المقبل ، على هذه الصيغة : " إشكاليّة الديمقراطيّة في لبنان : من خلال الانتخابات النيابيّة الأخيرة في الجنوب اللبنانيّ . وهناك أيضاً إشارة أو بالأحرى تحديد الموضوع ومحاور النقاش ، وهي التي نشدّد عليها كثيراً : في الممارسة العمليّة والتجربة الشخصيّة ، وقائع ونتائج مستقبليّة ... هذه النقطة الأخيرة التي هي ، في الواقع ، تهمّني كثيراً ، بل هي النقطة الجدّية ، والجديدة ، وإذا سمحت لنفسي لأن أقول : النقطة الإبداعيّة الخلاّقة في طرح الموضوع ومناقشته . أما في ما عدا ذلك ، فقد تحدثت عنه الصحف والمجلات والمقابلات الإذاعيّة والتلفزيونيّة بشكل واسع ، ومتنوّع . فلا شيء هناك لمستزيد في هذا النطاق ، ولن نستطيع أن نقول جديداً في الموضوع ... فهذا " الخط الأخير " هو الذي يعنيني بالدرجة الأولى ويهمّني لطرافته وصعوبته في آن معاً .. فنحن لا نريد أن نقع مرة أخرى وثانية وثالثة في التنظير ، كما نقرأ ذلك في الصحافة كلّ يوم ... بل ما نريده وما نبغيه ونهدف إليه ، في هذه المناسبة ، وكلّ مناسبة أخرى ، هو أن ننطلق من على " الأرض "، من على " الواقع " الاجتماعيّ ، الحيّ المُعاش ... أنت كمواطن ، كناخب ، كممارس حقك الانتخابيّ الديمقراطيّ : كيف تفاعلت مع هذا الحدث وكيف تعاملت معه ، سلباً أم إيجاباً ، موقفك منه وملاحظاتك عليه من خلال تجربتك الشخصيّة : في قريتك ، مدينتك ، محيطك الاجتماعيّ والسياسيّ ، المحليّ أو الوطنيّ العام ... فنحن لا نريد تنظيراً ، أو بعداً عن الواقع والوقوع في الغيبيّة : بل حقائق ووقائع ماديّة ملموسة ، أن نفهم الواقع كما هو موضوعياً ، ومن ثمّ ، ومن ثمّ فقط ، يمكننا تفسيرها وشرحها وربطها بالإطار الشامل أو بالنظام السياسيّ والاجتماعيّ العام للبلد ... إذن ، التنظير يأتي لاحقاً ، في ما بعد ...
من هنا ، في ما أرى ، أهميّة حركتنا الثقافيّة ، حركة الحوار والثقافة في لبنان ، لمحاولتها المتكررة والدائمة للالتصاق بالواقع الاجتماعيّ ، ومعايشة الحدث التاريخيّ وإدراكه من الداخل ، من خلال الممارسة الفعليّة . نحن لا نُنظّر ... ولا نَنْظر إلى الحدث التاريخيّ الانتخابيّ ، أو أيّ حدث اجتماعيّ أو تاريخيّ آخر ، من منطلقات تجريديّة ، أو تأمليّة عقليّة ، أو تصوّريّة ذهنيّة ، أحياناً ذكيّة ومهمّة ، وأحياناً أخرى لفظيّة إنشائيّة لا معنى لها ولا طائل تحتها ...
إذن ، إذا أردنا أن نشير إلى تصوّر العلاقة بين ما هو تنظيريّ وما هو حقائق واقعيّة ملموسة ، فإنّ التنظير يأتي في ما بعد ... فأنا لست على الإطلاق ضد " التنظير "... وكما تعلمون ، فأنا أستاذ مادة الفلسفة سابقاً . والفلسفة قوامها التحليلات العقليّة ، التأمليّة والتصوّرات التجريديّة والتي قد لا تلامس الواقع الماديّ المحسوس ، وقد تلامسه عن بُعد ... فأنا تخصّصي السابق هو الفلسفة الإسلاميّة العربيّة ، ولكني كنت في ما بعد قد " طلّقت " الفلسفة ، وإن لا أزال أحنُّ إليها وأتابعها ولكن بعد معرفة الواقع أو الوقائع الاجتماعيّة الموضوعيّة ... فالفكرة الأساسيّة التي أتمنّى أن يُركّز ويرتكز عليها حوارنا الآن ، نحن كأعضاء ومؤسّسين في حركة الحوار والثقافة في لبنان، في هذه الجلسة الحميمة ، هي أن نتحاور في ما بيننا وأن نتناقش من أجل توحيد وُجهة نظرنا الفكريّة والمبدئيّة وتكاملها وانسجام رؤيتنا لمنهجيّة عملنا ... وذلك تحضيراً للقائنا الثقافيّ يوم الأحد المقبل... لذلك يجب أن نكون موجودين بكثرة ، نحن أعضاء الحركة وأصدقائها ، وأن يدلو كلّ واحد منّا بدلوه الفكريّ ويبدي وجهة نظره الخاصة في الموضوع المطروح للنقاش ... لهذا فمن الأهميّة أن تتكرر بيننا هذه اللقاءات الحواريّة ، حتى تكون جميع الأمور واضحة في ذهننا ، وأن نحقق بداية التوافق الفكريّ والانسجام المنهجيّ في العمل والسلوك ...
أعود الآن وأطرح أيضاً للبحث والنقاش سبب اختيار هذا الموضوع والهدف المتوخّى من ورائه : أقول بداية إنه قد يتبادر إلى أذهان البعض أنّ الديمقراطيّة ، كاصطلاح ومفهوم ، شيء واضح كلّ الوضوح ... النظام الديمقراطيّ : واضح !!... لا ، أبداً !!... إنّني أرى أنّه من أصعب المفاهيم على الإطلاق وأعقدها وتنوّعها تاريخياً واجتماعياً وفلسفياً ، إنّما هو مفهوم الديمقراطيّة ... فهو لا يختلف بين مجتمع وآخر فقط ، وإنّما أيضاً في المجتمع الواحد ، في تطوره من الماضي إلى الحاضر ، وباختلاف المذاهب السياسيّة والفلسفيّة والاجتماعيّة ... لذلك وانطلاقاً من هذه الاعتبارات، فإنه يثير كثيراً من الخلافات في وُجهات النظر ، منذ أكثر من قرن ونصف القرن من الزمن . وهناك أيضاً مفاهيم أخرى لا تقل التباساً وغموضاً من مفهوم الديمقراطيّة ، منها على سبيل المثال لا الحصر: مفهوم الثقافة والمثقّف ، ومفهوم الدولة ، إلخ.. فهو مفهوم صعب وملتبس ومتداخل : مفهوم الديمقراطيّة !!... فتتشابك فيه وتتصل مستويات أخرى من العلوم وفروعها منها: القانون الدستوريّ، طبعاً ، ولكن له علاقة أيضاً بالفلسفة وعلم النفس والأخلاق وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد... ويتداخل مفهوم الديمقراطيّة بمختلف مدارس العلوم السياسيّة ومذاهبها ... ومن حيث التطبيقات ، بتطوّر المجتمعات وتقدّمها : الصناعيّ والتكنولوجيّ ومستوى وعيها الحضاريّ ... فمفهوم الديمقراطيّة إنّما هو مفهوم في الحقيقة وواقع الأمر متشعّب ، ويثير كثيراً من الجدل والسجال . فيجب أن يتحدّد وأن نُحدّد رؤيتنا له من حيث الشكل ومن حيث المضمون، وماذا نريد من الديمقراطيّة ؟!!.. وحتى، نتيجة لذلك ، تعريف الديمقراطيّة ومفهومها : فليس هناك من اتفاق على الإطلاق أو تفاهم ، لا في الشكل ولا في المضمون ، ولا في المنطلقات الفلسفيّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة ... هذه نقطة أساسيّة أشدّد عليها كثيراً ، حتى تكون واضحة في الأذهان .
ويدخل هنا أيضاً تطبيقات الديمقراطيّة في العالم الثالث وأشكالها ومصادرها وتنوّع أنظمتها حتى الاختلاف والتناقض ... فالمنطوق واحد : الديمقراطيّة . فهذا المنطوق الواحد يُطبّق بأشكال مختلفة وبمضامين متنوّعة بل ومتناقضة في معظم دول العالم اليوم : من الولايات المتحدة الأميركيّة إلى جمهورية الصين الشعبيّة الديمقراطيّة ، ومروراً بدول أوروبا الغربيّة والشرقيّة ودول الشرق الأوسط ومنها الدول العربيّة ... فهذا المنطوق الواحد ، والذي يسمّى بالفلسفة المعقول أو المفهوم Concept ، محتواه النظريّ والتطبيقيّ يختلف إذن من واقع إلى آخر ، ومن مجتمع إلى مجتمع ... وفي العالم الثالث ، وفي المجتمعات حديثة الاستقلال ، يختلف كذلك من بلد إلى بلد ... بل وأكثر من ذلك ، ففي المجتمع الواحد ، يتطوّر هذا المضمون ، الذي هو الديمقراطيّة ، في التطبيق ، بحسب تطوّر المراحل وتطوّر المجتمع. مثلاً ، ممارسة الديمقراطيّة وتطبيقها في بريطانيا الآن، عام 1996، تختلف عن ممارستها ومفاهيمها في القرن الثامن عشر أو في القرن التاسع عشر ، وهكذا... وكذلك الأمر في بلد كفرنسا أو ألمانيا أو إسبانيا، أو إيطاليا، إلخ.. أشكال الديمقراطيّة، مضامين الديمقراطيّة، ممارسة الديمقراطيّة ، الأنظمة الديمقراطيّة عَبْر الانتخابات النيابيّة وتقسيم الدوائر الانتخابيّة ، كلّ ذلك يختلف من مرحلة إلى مرحلة وحتى في البلد الواحد ...
نأتي الآن إلى لبنان ، إذا أردنا أن نضيّق الإطار على مقاسنا المحليّ ، فلبنان ـ بحسب الدستور ـ بلد جمهوريّ ، برلمانيّ ، ديمقراطيّ منذ تأسيسه حتى يومنا هذا. هنا يطرح السؤال : هل حقيقة وفعلاً ، نظامنا في لبنان هو نظام ديمقراطيّ ؟... هذا سؤال معقّد ، والإجابة عنه أكثر تعقيداً والتباساً ... والدراسات السياسيّة ـ الاجتماعيّة ، الفلسفيّة النقديّة ، قليلة جداً ، أقصد الدراسات العلميّة التاريخيّة التي تربط نظامنا السياسيّ المعاصر والراهن ، بالمراحل التاريخيّة السابقة عليه واللاحقة ، بعهد القائمقامتين وعهد المتصرفيّة ، على سبيل المثال ... طبعاً ، هناك دراسات قانونيّة ودستوريّة عن نظامنا السياسيّ غاية في الأهميّة ، دراسات تاريخيّة حقوقيّة كتبها أساتذة حقوقيّون في منتهى الذكاء والمعرفة التفصيليّة ، ولكنها جميعها تبقى نظريّة ، مجرّدة ، غير نقديّة . فلم تستطع أن تنفذ إلى صلب المشكلة الاجتماعيّة العمليّة وأساسها على الصعيد الاصطلاحيّ والنقد الميدانيّ ، الموضوعيّ العلميّ ... وكلّ ما يُدرّس في الجامعات ، وفي كليات الحقوق بوجه خاص ، إنّما هو نظريات في القانون الدستوريّ ، ودراسات مقارنة ، جيّدة ، ومفيدة ، وذات قيمة علميّة تاريخيّة . ولكنّها تبقى بعيدة عن آليات الممارسة الميدانيّة وطبيعة التطبيقات العمليّة ، وتنحصر في المستوى النظريّ ، ولا تتجاوزه إلى الدراسات الواقعيّة الميدانيّة النقديّة ، حتى الإصلاحيّة منها ...
وهنا لا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى أنّ جميع هذه الدراسات القانونيّة الدستوريّة في لبنان ، هي مستوحاة من الأنظمة والقوانين الدستوريّة وتطبيقاتها في دول العالم الغربيّ ، وبخاصة فرنسا وإنكلترا والولايات المتحدة الأميركيّة . وتلك التي تُدرّس في كليات الحقوق : فهي في أساسها نظريات دستوريّة عامة ، مترجمة عن علماء القوانين الدستوريّة ، بحسب ثقافة الأستاذ المدرّس ، من فرنسا أو إنكلترا أو أميركا ، إلخ... ويدرّسون أيضاً أشكال الديمقراطيّة أو النظام الديمقراطيّ في لبنان ، اعتماداً وانطلاقاً ، وبحسب الدستور أو الوثائق الدستوريّة المتوافرة لدينا ، دون أن يعمدوا إلى القيام بالدراسات الاجتماعيّة الميدانيّة ، والبحوث التطبيقيّة ، ومدى توافق قوانيننا الدستوريّة مع التطبيقات العمليّة، من خلال تطوّر نظامنا السياسيّ ، ولا حول كيفيّة تطبيق " مفهومنا للديمقراطيّة" في مجتمعنا السياسيّ الخاص ... وهنا ، تأتي الانتخابات النيابيّة كأحسن مثال على ذلك !... فليس لدينا دراسات ميدانيّة ، ولا بحوث ميدانيّة ( أو ما يسمّى بعلم الاجتماع الانتخابيّ ) عن كيفيّة تطبيق الديمقراطيّة وممارستها في الانتخابات النيابيّة أو قبلاً ، الانتخابات البلديّة والاختياريّة ...
لذلك طرحنا السؤال في لقائنا المقبل حول : " إشكاليّة الديمقراطيّة في لبنان ، من خلال الانتخابات النيابيّة، في الممارسة العمليّة والتجربة الشخصيّة ... فماذا تعني هنا ، في ذهننا ، إشكاليّة الديمقراطيّة، كمفهوم وكمصطلح سياسيّ ؟!... أولاً، الإشكاليّة مفهوم فلسفيّ من الناحية الاصطلاحيّة، وهـو ترجمة لكلمة Problématique الفرنسيّة . وهي كثيرة الاستعمال في الأدبيات الفلسفيّة والاجتماعيّة . ماذا يعني هذا المفهوم : الإشكاليّة ، في الاستعمال الذي نستخدمه ، نحن ، في سياق موضوعنا ؟... باختصار شديد ، على أن نتوسّع في الشرح والتفسير في مناسبة أخرى : فأنا أطرح سؤالاً ، سؤالاً مقلقاً ، ويتطلب جواباً أو أجوبة ، غالباً ما يكون السؤال غامضاً أو ملتبساً أو حمّال أوجه ... فلا جواب له متفق عليه ، أو يتّصف بالوضوح أو الإجماع... فإذا كنت قد طرحت ، مثلاً ، سؤالاً لا جواب له أصلاً أو لا جواب له مقنع أو سهل الوصول إليه ، فأنا أكون بهذه الحالة قد خلقت " مشكلاً " على صعيد الفكر، أو إذا أردتم ، مأزقاً : فلا حلّ له ، لا في الوقت الحاضر ولا في المدى المنظور ... أو قد يكون للسؤال المقلق والملّح الذي طرحته أو للمشكل الذي أثرته ، عددٌ كثيرٌ من الإجابات. وهذه الإجابات قد لا تكون هي الأخرى واضحة المعالم أو يقينيّة ، صادقة في نتائجها ، أو أنّها هي بذاتها متناقضة بعضها مع البعض الآخر ... هنا أقول بأنّ هذا السؤال الذي طرحناه علينا أو على الآخرين ، هذا السؤال المقلق ، والذي أثار بدوره مشكلاً ، فتحول ذلك كلّه إلى " إشكاليّة " : بمعنى أنّ هذا السؤال المطروح، لا جواب له بصورة يقينيّة ، أكيدة ، تستدعي التوافق الكلّي عليها... أو بتعبير آخر ، يجب أن نعمل جميعاً ونبحث معاً لكي نهتديَ إلى جواب ، إلى جواب ما ، صحيح وسليم وحقيقيّ ، بقدر ما هو ممكن علمياً وموضوعياً ... أو ينتج معنا ويصدر أجوبة عديدة متنوّعة، وأحياناً مختلفة ومتداخلة وأحياناً متناقضة في ما بينها .... فإذن ، وبكلمة واحدة وسريعة ، الإشكاليّة تعني، عندما نستعملها في أبحاثنا وطروحاتنا ، أنّ الموضوع المطروح للنقاش والحوار ـ وهنا ، مثلاً ، الديمقراطيّة ـ أنّ هذا المفهوم متعدّد الجوانب والمشاكل ، متعدّد الأصول والجذور ، ومتعدّد المنطلقات والنتائج ، هذا إذا لم يكن متناقضاً في تكوينه ومحتواه وأشكاله . وسوف تكون ، والحالة هـذه ، الأجوبة عنه قد تُؤدي في النهاية إلى خلافات واختلافات هي الأخرى تعود لتبحث لها عن حلول . فليس هناك إذن من وضوح ، صريح ومتفق عليه في هذا المفهوم المتداول . فهو لا يزال يحتاج إلى جهد عقليّ وفكريّ ، نظريّ وعمليّ ، لتوضيح ما يمكن توضيحه ، وإن كان الاتفاق ، في ما يتعلق بموضوع بحثنا نحن : الديمقراطيّة ، من غير الممكن أن يقع عليه ، ومن باب أولى : الإجماع ... فهناك دائماً أخذ وردّ ، ومحاولات منها ما هو جديّ ومنها ما هو غير ذلك ، وصعود وهبوط، وتطوّر في المفهوم ذاته وتغيّر عَبْر الممارسة والتطبيق في الزمان والمكان، بين المجتمعات، وفي المجتمع الواحد ذاته ... وهنا ، عندما نستعم