الجزيرة - قوي الحراك السياسي الجديدة في مصر
المصدر:الجزيرة
الثلاثاء 4/3/1432 هـ - الموافق 8/2/2011 م (آخر تحديث) الساعة 19:45 (مكة المكرمة)، 16:45 (غرينتش)
قوي الحراك السياسي الجديدة في مصر
عمرو الشوبكي*
أطلق مصطلح قوى الحراك السياسي الجديد على التيارات والتجمعات السياسية التي رفضت الانخراط في أحزاب المعارضة التقليدية، وانتقدت خطابها وأساليبها، وأسست تيارات جديدة خارج إطار الشرعية القانونية للنظام السياسي القائم.
ولعل أبرز هذه التيارات هو حركة كفاية التي تأسست عام 2004، وأعقبها حركات شبابية جديدة مثل حركة 6 أبريل، والحملة الشعبية لدعم البرادعي وغيرها من التجمعات الشبابية على مواقع الانترنت والفيس بوك. كما فتح الواقع السياسي المصري الباب أمام تصاعد نمط جديد من قوى الحراك الاجتماعي غير المرتبط برؤية سياسية أو حزبية، وينتمي إلي نفس الموجه الجديدة من قوى الحراك السياسي من زاوية عدم ارتباطه بالأحزاب القانونية وصعوبة السيطرة عليه من قوى منظمة، وإمكانية تفجره بشكل تلقائي كما جري في مدينة المحلة الكبرى ذات الطابع العمالي في 2008 بعد أن شهدت حوادث عنف واسعة وعفوية.
أولا: قوى "الجمود السياسي" أم القوى التقليدية
عرفت مصر تحولا نحو التعددية الحزبية المقيدة عام 1976 بقرار من الرئيس الراحل أنور السادات، ومنذ ذلك التاريخ حافظت على هذه التعددية المقيدة لما يقرب من 35 عاما، فبقي هناك حزب كبير مرتبط بجهاز الدولة هو الحزب الوطني الديمقراطي الذي مثل الطبعة الثالثة من أحزاب الدولة المصرية التي نشأت في أعقاب ثورة يوليو، فالأول كان الاتحاد الاشتراكي العربي، التنظيم السياسي الواحد الذي تأسس في ستينات القرن الماضي، والثاني كان حزب مصر العربي الاشتراكي الذي ولد عام 1976 برعاية الرئيس السادات وبزعامة رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت الراحل ممدوح سالم، وعاش عامين فقط إلي أن قرر الرئيس السادات النزول بشكل مباشر إلي "الشارع" وأسس في عام 1978 الطبعة الثالثة من أحزاب النظام الجمهوري وهو الحزب الوطني الديمقراطي الذي ظل في السلطة منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.
ويقف كثير من المراقبين أمام دلالة انتقال كل نواب وأعضاء حزب مصر السابق إلي حزب الرئيس السادات بمجرد إعلانه، ونهاية "الحزب القديم" الذي كان يضم الملايين في ساعات، وهو أمر نادر التكرار ويدل على أن قوة الحزب الحاكم تكمن في ارتباطه بالرئيس وبجهاز الدولة.
وقد انعكس هذا الوضع غير الديمقراطي (في النشأة والممارسة) للحزب الحاكم على أحزاب المعارضة، فلم تعرف معظمها انتخابات ديمقراطية حقيقية على موقع رئيس الحزب، وفشلت في تجديد خطابها السياسي والتواصل مع الشباب والتيارات السياسية الجديدة، وبقي زعمائها في قيادتها حتى وفاتهم باستثناء انتخابات حزب الوفد التي أسفرت عن فوز الدكتور السيد البدوي رئيسا للحزب بعد انتخابات ديمقراطية غير مسبوقة في تاريخ الأحزاب المصرية، وبعد أن اعتادت الأحزاب المصرية على انتخابات تنتهي إما بالانشقاق أو بالمحاكم أو بالحد الأدنى بالشتائم والسباب.
أما بالنسبة للإخوان المسلمين فقد كانوا أبناء مخلصين للسياق الذي وضعهم فيه الرئيس مبارك، والذي تميز بعدم الإقدام على أي مواجهة إستئصالية أو شامله معهم، واختاروا إستراتيجية "المواجهة المحسوبة " التي لا تميل إلي أسلوب المواجهة الشاملة مع خصومه السياسيين، وأبدا النظام حرصا على الاحتفاظ ببنية الإخوان المسلمين التنظيمية متماسكة دون انقسام يفتتها، وأن يكون الضغط المفروض عليها ضغطا محسوبا يضعها في موقع الدفاع ويقلص من قدرتها على المبادرة دون الدخول في مواجهة صفرية تؤدي إلي انقسام التنظيم لأكثر من جماعة قد يمارس بعضها عمليات تحريض ومواجهة مفتوحة ضد النظام لا يحكمها أي رادع تنظيمي.
وقد أدت هذه السياسة إلي وضع الإخوان هدف الحفاظ على وحده الجماعة، كقيمة عليا في حد ذاتها يجب الدفاع عنها، وبدت الدولة أيضا وكأنها ليست ضد "هذه القيمة " بشرط ألا تتجاوز في نشاطها وفاعليتها التنظيمية "الخطوط الحمراء"، بشكل يؤدي إلي تهديدها النظام القائم، وهذا ما جعل هدف الاستبعاد الحالي للجماعة ذو طابع إقصائي وليس استئصالي، أي إقصائها بقدر الإمكان من المجال السياسي خاصة البرلمان دون العمل على استئصال كامل لكيان الجماعة. والمؤكد أن هناك ثمن لا بد وأن يدفعه النظام والإخوان المسلمين لنجاح عملية "الدمج الآمن" للإخوان في العملية السياسية، فالإخوان قادمون من خارج تراث الدولة المدنية المصرية، والنظام الجمهوري، بل كانوا نقيض له في بعض الفترات، ترتاب فيهم أجهزة الدولة ولا تعرف عنهم إلا صورة نمطية سلبية صنعتها مبالغات الأجهزة الأمنية وأخطاء الإخوان وخاصة السابقة منها، وبالتالي فإن عملية "التطبيع" هذه بين النظام والإخوان لن تكون بالمسألة السهلة، لأن برنامج الإخوان وجانب كبير من أفكارهم غير منسجم مع قيم الديمقراطية ومبادئها، كما أن النظام لم يطور من قدراته وكفاءة عناصره حتى يستطيع أن ينافس الإخوان وباقي قوى المعارضة في ساحة الانتخابات الحرة وليس عبر الاعتقال والحصار الأمني.
ثانيا: الطريق إلي قوى الحراك الجديدة
1 ـ تدهور أداء الدولة
شهدت مصر في الفترة الأخيرة مجموعة من الحوادث "الصادمة" التي عكست حجم التدهور الذي أصاب الأداء العام لمؤسسات الدولة، وطريقة التعامل مع المشكلات المختلفة. فمنذ غرق العبارة المصرية في عرض البحر الأحمر منذ أكثر من أربع سنوات والحديث لا ينتهي على التدهور الذي أصاب أداء الدولة المصرية، عمقه كثير من القرارات العشوائية منها مثلا قيام الحكومة بإعدام الخنازير التي تربى وسط المناطق السكنية، لمواجهة ما عرف بوباء أنفلونزا الخنازير. والحقيقة أن قرار الحكومة بإعدام الخنازير وتراجعها عن ذلك، ثم قيامها بذبحها، رغم أن منظمة الصحة العالمية اعتبرته قرارا خاطئا ولا مبرر له، دل على تخبط واضح، خاصة إنه تجاهل مصالح عشرات الآلاف من المواطنين الذين يعملون في هذا المجال. والسؤال البديهي الذي كان يجب أن يطرح أولا، هل هناك حاجة طبية لذبح الخنازير من أجل مواجهة الوباء؟ الإجابة القادمة من المنظمات العالمية ومن بعض الأطباء المتخصصين أنه لا حاجة لذبح كل الخنازير. وقد ارتبك أداء الحكومة طوال تلك الأزمة واتهمها البعض بأن قرارها وراءه دوافع طائفية، - وهو أمر غير صحيح - ولكن دفاعها عن نفسها كان باهتا ومرتبكا، وفشلت في إرجاع المشكلة إلى أصلها أي البعد الصحي والاجتماعي.
وقد شهدت البلاد حادثة دخول قمح فاسد غير صالح للاستخدام الآدمي، دون أن تستوقفه أي جهة رقابية أو صحية، رغم وجود ثلاث جهات مخصصة لهذا الشأن، وهي الحجر الزراعي التابع لوزارة الزراعة، والحجر الصحي التابع لوزارة الصحة، والهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، مما دفع النائب العام لإصدار قرار بإعادة شحنة القمح إلى روسيا مرة أخرى، وردّ أموال الدولة من جانب الشركة الخاصة التي قامت باستيراده، والمؤسف في الأمر أن مناقشات مجلس الشعب حول تلك الصفقة لم تؤخذ بشكل جدي منذ بداية تقديم العديد من طلبات الإحاطة حول الموضوع، إلى أن قام النائب العام بفتح التحقيق في الموضوع.
وتكرر سوء الأداء وعشوائيته ليشمل مجالات أخرى امتدت إلى حوادث مميتة على الطرق، وتراجع في الخدمات العامة من صحة وتعليم ومواصلات وغيرها، وتزايد حالات التعذيب، وغياب الثقة في مؤسسات الدولة بما فيها تلك التي تمتعت بسمعة طيبة واحترام.
ورغم أن الدولة المصرية اعتادت تاريخيا أن تتخاصم مع المعارضين السياسيين، ولكننا لأول مرة نشاهد الدولة غير السياسية تتخاصم مع المواطنين غير السياسيين، الذين تقف طموحاتهم عند حدود وسيلة انتقال آدمية لا تزهق أرواحهم، ومياه صالحة للشرب لا تختلط بمياه الصرف الصحي، وبيت متواضع لا يسقط على رؤوسهم، وحد أدني من العدالة والكرامة الإنسانية.
والمؤكد أنه لا ينتظر أن تقدم الدولة في مجتمع عسر كمصر، خدمات متطورة وحديثة لمواطنيها، كتلك التي تقدمها الدولة في بريطانيا أو فرنسا، على سبيل المثال، إنما كانت الدولة في مصر دائما ذات تقاليد (بما فيها أجهزتها الأمنية) منذ تأسيسها بصورة حديثة على يد محمد على في 1805، قادرة بكفاءتها النسبية وبتقاليدها أن تحد من أخطاء السياسة، وظل جانب كبير من هذه المؤسسات حاميا للمواطن من بطش السياسة وانحرافها، وقادرا على تقديم الحد الأدنى من الخدمات للمواطنين البسطاء ولو بكفاءة محدودة.
وأدى تراجع احترام القانون وفرض هيبة الدولة (غير الأمنية) على المجتمع وتدهور أداء مؤسسات الدولة وعشوائيته، إلى انتقال الحكومة من حالة إدارة العمل اليومي إلى حالة إدارة التسيب اليومي، واستقر الجمود في السياسة الذي انتقل بدورة إلى الإدارة والمؤسسات العامة والخاصة، وأصبح من الصعب أن نرى رقابة سياسية أو قانونية جادة أو فاعله على الأداء العام وعلى مؤسسات الدولة.
والمؤكد أن نظام الرئيس مبارك واجه في بدايته تحديا صعبا تمثل في الإرهاب الذي نجح في هزيمته عقب مواجهات أمنية عنيفة، حصل خلالها النظام على دعم أحزاب المعارضة، ومع نهاية عقد التسعينيات استقرت أوضاع البلاد أمنيا وبقي الوضع السياسي على ما هو عليه، حيث تآكل دور النخبة السياسية بعد أن عجز النظام عن فرز نخبة سياسية مؤثرة مؤمنة بخطه أو بحزبه، وتراجعت أيضا أحزاب المعارضة، وتراجع دور النقابات، وخاصة العمالية منها، والتي باتت أقرب إلى مؤسسة حكومية أكثر منها نقابات مستقلة.
ومع خروج السياسة من المجال العام ودخول الفوضى والعشوائية والحلول الأمنية بدلا منها، ومع فقدان قطاع واسع من الجماهير الثقة في كل ما هو شرعي، تحولت الأخيرة إلى الحلول الفردية والاحتجاجات الفردية وظهرت قوي الحراك السياسي الجديد كصرخة احتجاج مدوية على مجمل الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد.
كما عرفت البلاد انتفاضات غير سياسية أكثر خطورة من أي تحركات سياسية منظمة، واتسمت بنفس سمات المؤسسات العامة للدولة من فوضى وعشوائية، وتلك ستكون أكثر خطورة من أي احتجاجات سياسية منظمة تطالب بالإصلاح السياسي وتعديل الدستور، أو احتجاجات اجتماعية ورائها قوى سياسية أو نقابية.
إن مساحات التساهل التي أبدتها الدولة تجاه مظاهر التسيب المختلفة في المجتمع المصري وفي قلب النظام السياسي المصري، دفعت بقطاع واسع من المصريين إلى صناعة ما يشبه الدولة الموازية، كبديل عن غياب الدولة الحقيقية، فعرفنا القوانين الموازية، والهيئات والنقابات الموازية، كما شهدنا الأحزاب الموازية والأحزاب الأصلية، والجماعة المحظورة بجوار الأحزاب القانونية، والقوى السياسية القديمة والجديدة، وتيارات الحراك السياسي والاجتماعي الجديدة التي تحركت خارج شرعية الدولة بالكامل وأسست لشرعية جديدة مكانها الشارع.
والمؤكد أن أداء الدولة المصرية والتدهور والجمود الذي أصابها انعكس على النظام السياسي ودفع قطاعات واسعة من الناس إلي تأسيس حركات احتجاج سياسي واجتماعي جديدة خارج الأطر القانونية والدستورية القائمة التي ضاقت على الجميع ولم يعد من الممكن تصور قدرتها على دمج قوى الحراك السياسي في الشرعية القانونية.
2 ـ انتخابات لا تجلب الديمقراطية
على عكس بعض تجارب التعددية المقيدة في بعض دول العالم التي نجحت عن طريق الانتخابات في تغيير النظم القائمة وإجراء إصلاحات ديمقراطية، فإن الحالة المصرية تبدو بعيدة عن هذه التجارب، وهو الأمر الذي فتح الباب بدوره أمام قوى الحراك السياسي الجديد التي تطالب بمقاطعة الانتخابات لعدم جدواها، وفتحت عمليات التزوير والفوضى التي تشهدها الانتخابات الباب أمام هذه القوى للتشكيك في العملية الانتخابية بل والعملية السياسية برمتها.
وباستثناء انتخابات الأندية والنقابات المهنية من الصعب اعتبار انتخابات مجلسي الشعب والشورى، والانتخابات المحلية تحمل أي آلية لتداول السلطة أو تتمتع بشروط النزاهة الواجب توافرها في أي انتخابات ديمقراطية.
وقد شهدت مصر طوال العام الماضي عدد من الانتخابات التكميلية في مجموعة من الدوائر اتسمت بغياب النزاهة وعادت انتخابات مجلس الشورى لتشهد ضعف المشاركة الانتخابية وعمليات تزوير واسعة شملت تسويد غير مسبوق للكشوف الانتخابية، وتحدثت كثير من منظمات المجتمع المدني التي راقبت انتخابات الشورى عن نسبة مشاركة بلغت حوالي 3% وحولتها أجهزة الدولة إلي 30%.
والمفارقة أن مصر اعتادت أن تشهد تزوير في الانتخابات عندما ينجح مرشحي المعارضة والإخوان المسلمين في تهديد المرشح الحكومي، فتتدخل أجهزة الدولة الإدارية والأمنية لصالح المرشح الحكومي إذا كان الخصم معارضا وخاصة إذا كان من الإخوان المسلمين، ولكن ما جرى في انتخابات الشورى أن التزوير تحول إلي ثقافة وممارسة عامة يقوم بها كل المرشحين وتحولت الانتخابات لحالة من الفوضى والعشوائية مورست فيها عمليات بلطجة وشراء أصوات واسعة، في ظل غياب كامل لرقابة الدولة وأجهزتها الأمنية.
ولم يطبق النص القانوني الذي وضع حد أقصى لنفقات المرشحين، وجري تجاوزه بالكامل أثناء كل الانتخابات السابقة، وتصاعد استخدام المال بصورة واسعة، أدت إلي تراجع ليس فقط نواب السياسة إنما أيضا "نواب الخدمات" الذين اعتاد الناخبون أن يتفاعلوا معهم، لصالح نموذج جديد ظهر في انتخابات 2000 وتعمق في انتخابات 2005، وسيكتسح في الانتخابات المقبلة، وهو نموذج نواب "شراء الأصوات".
فقد عرفت الانتخابات التشريعية المصرية منذ عام 1976 دور مستمر لنواب الخدمات، الذين اعتادوا أن يترشحوا على قوائم الحزب الحاكم أو كمستقلين وأحيانا على قوائم أحزاب المعارضة وخاصة حزب الوفد، لتقديم مساعدات لأبناء الدوائر المختلفة من رصف طرق وبناء مدارس ومستوصفات طبية، ومساعدتهم على إيجاد فرص عمل وغيره.
ومع عجز جانب كبير من هؤلاء النواب على تقديم مثل هذه الخدمات لأبناء الدوائر المختلفة، ومع عدم رغبة كثير من الوزراء لتلبية مطالب نواب الخدمات من أعضاء الحزب الوطني، عجز جانب كبير منهم على تنفيذ معظم وعوده الانتخابية في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية، وتراجع قدرة الدولة والحزب الحاكم على تنفيذ الوعود الانتخابية التي قطعها نواب الخدمات على أنفسهم وخاصة في انتخابات 2000.
وأدى هذا الوضع إلي قيام نواب شراء الأصوات بالإحلال ولو جزئيا محل نواب الخدمات، وطغت على السطح عمليات شراء أصوات لم تشهدها مصر طوال تاريخها المعاصر، وبدا أمرا مؤلما تدافع بعض المصريين نحو بيع أصواتهم لمن يدفع، بعد أن تأكدوا أنهم لن يروا هؤلاء النواب مرة أخري، ففضلوا بيع أصواتهم لمن يدفع نتيجة غياب نواب السياسة وتراجع قدرة معظم نواب الخدمات على تقديم أي شيء يذكر لأبناء دوائرهم.
إن أخطر مؤشرات انتخابات مجلسي الشعب والشورى تتمثل في تراجع دور "المؤسسة الحزبية" في العملية السياسية والانتخابية وتصاعد دور الجماعات غير المرخص لها قانونيا كالإخوان المسلمين والجماعات الاحتجاجية الجديدة.
إن ساحة الشرعية في النظم الديمقراطية، هي الساحة التي لا يتم فيها فقط صراع صحي بين الأفكار والتوجهات السياسية والحزبية، إنما أيضا هي "المصفاة" التي عبرها يتم السماح بوجود قوى جديدة تدمج في الساحة السياسية وفق شروط النظام الديمقراطي، وتساهم في خلق قواعد جديدة للمنافسة تدفع القوى الحزبية القديمة نحو ابتكار وسائل جديدة من أجل البقاء والاستمرار في ساحة المنافسة الشرعية، أو تعجز عن التجديد والتطور فتنهار وتغيب عن ساحة المنافسة.
لقد امتدت مثالب الانتخابات المصرية من بعدها السياسي والديمقراطي لتصل أيضا إلي جوانبها الإجرائية بكشوف غير دقيقة تضم الموتى والأحياء، وبفوضى عارمة في اللجان، بالإضافة لحالات البلطجة والتزوير الجماعي التي تشهدها معظم اللجان الانتخابية حتى لو كانت بين "الحلفاء" من أعضاء الحزب الوطني والمنشقين عنه أو المستقليين المرتبطين به.
ولعل هذه المشاهد تجعل هناك استحالة لأن تصبح الانتخابات في مصر آلية لتداول السلطة، لأن المعضلة ليست فقط في التدخل السياسي والأمني الذي يمكن حصاره بالضغوط الشعبية والسياسية، إنما في مجمل العملية الانتخابية بجوانبها الفنية والإدارية وانتهاء بسلوك المرشحين والناخبين، وهو الأمر الذي يجعل الانتخابات بوضعها الحالي غير مهيأة لأن تكون آلية لتداول السلطة، وهو ما أدى إلى ظهور قوى الحراك السياسي الجديد التي خرجت في ظل حالة عدم ثقة شبة كامل في العملية الانتخابية، وتدهور كبير في أداء مؤسسات الدولة، فكان لابد من "صرخات الاحتجاج" المتتالية التي عبرت عنها قوى الحراك السياسي الجديدة.
ثالثا: قوى الحراك السياسي الجديد
عرفت قوى الحراك السياسي الجديد موجتين رئيسيتين الأولى في عام 2004 قادته حركة كفاية والثانية كانت مع عودة الدكتور محمد البرادعي في فبراير 2010.
1 ـ حركة كفاية بداية طريق الاحتجاج
ظهرت حركة كفاية في 2004 كصرخة احتجاج على الجمود والتكلس داخل النظام السياسي المصري، ونجحت كفاية وأخواتها في تحريك كثير من المياه الراكدة وإلقاء الضوء على مشكلة الديمقراطية في مصر، خاصة أن ثقافة الاحتجاج التي فجرتها نجحت أن تنتقل إلى الشباب بظهور حركة 6 أبريل وتجمعات المدونين وما عرف بتيار الاستقلال بين القضاة والصحفيين وأساتذة الجامعات.
وبدا واضحا أن هذه القوى نجحت في الاحتجاج على الوضع القائم وفشلت في خلق بديل قادر على البناء ومقنع للجماهير، ولأن كل الحركات السياسية التي شهدها المجتمع المصري في السنوات الست الماضية كانت بدائل احتجاجية اعتمدت على الصوت العالي والصراخ ضد الفساد وغياب الديمقراطية، ولكنها لم تبن تيار مؤثر يقنع الجماهير بأنه بديل حقيقي للنظام.
والمؤكد أن "الصوت الاحتجاجي" مطلوب لفترة ولكن ليس دائما، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتقبل إلي الأبد حركة احتجاجية قد تؤثر في الناس لفترة وتثير إعجابهم من بعيد ولكنهم لن يثقوا فيها ولن يدعموها إذا ظلت إلي الأبد فقط صوت احتجاجي.
والسؤال المطروح لماذا شهدنا هذا العدد الهائل من حركات الاحتجاج وقوى الحراك السياسي الجديد، والتي فشلت رغم حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي الكبيرة الموجودة في الشارع أن تؤسس بديلا للنظام القائم؟
إن الإجابة على هذا السؤال تعود بنا إلي تجربة حركة كفاية التي ظهرت في 2004 كصرخة احتجاج على الجمود والتكلس داخل النظام السياسي المصري، وحين انطلقت حاملة هذه الصرخة إلي الواقع نقل إليها هذا الأخير كثير من أمراضه وفشلت في التواصل مع الناس وتراجع دورها مؤخرا.
ومن المهم التمييز بين مسألة مواجهة الوضع القائم بالاحتجاج، وبين مواجهته ببديل قادر على البناء، ولأن كل الحركات السياسية التي شهدها المجتمع المصري في السنوات الست الماضية كانت بدائل احتجاجية اعتمدت على الصوت العالي والصراخ ضد الفساد والقهر وغياب الديمقراطية، ولكنها لم تستطع أن تبني تيارا مؤثرا بين النخبة و الجماهير، وظلت فقط حالة من الصخب أخرجت طاقة هائلة من الكبت والإحباط و في وقفات احتجاجية متفرقة.
2 ـ 6 أبريل حدود النجاح في العالم الافتراضي
حين ظهرت حركة 6 أبريل قدمت نفسها باعتبارها الحركة النقية "المنزهة" عن أخطاء الأحزاب السياسية الأخرى والخالية من "شوائب" الأجيال الأكبر سنا، على اعتبار أنهم جيل ثوري نقي، معظمهم من شباب العشرينات حديثي التخرج الذين عاشوا أحلام النقاء الجيلي والسياسي، ونظروا لأنفسهم باعتبارهم نموذج للتطهر والخلاص الذي على أيديهم ستأتي الثورة والتغيير.
ومن المعروف أن الحركة تصاعد تأثيرها بعد أن استثمرت إضراب عمال المحلة في 6 أبريل 2008، وأسست حركتها معلنة أنها ستقدم نموذج "تطهري" جديد يتجاوز كل أمراض الساحة السياسية المصرية.
والمؤكد أن ضعف الأحزاب السياسية وحصار منظمات المجتمع المدني وغياب أي أفق لتداول سلمي للسلطة، أدى إلي قيام قطاعات واسعة من الأجيال الشابة إلي التمرد وتأسيس حركات جديدة تعتمد في تواصلها على الفضاء الالكتروني بدرجة كبيرة.
والمؤكد أن 6 أبريل قد نجحت في بدايتها في استقطاب قطاع معقول من الشاب الراغبين في ممارسة العمل السياسي (وليس كل الشباب)، وانضم إليها في أسابيع قليلة أكثر من 70 ألف مصري على الانترنت، وشهدت ساحات الحوار فيها مناقشات واسعة لم تخلو من تنوع وصل أحيانا إلي حد التشتت.
والمؤكد أن هناك ملامح خاصة للاستخدام السياسي لعالم النضال الإلكتروني دفعت الشباب إلي التواصل معه أولها احباطات الواقع السياسي الطارد، في مقابل التعبير الحر عن كل الهواجس والطموحات والأحلام الشخصية والعامة مباشرة على الشبكة العنكبوتية، دون الحاجة لوصاية جيل آخر أو رقابة رئيس في العمل أو توجيهات مسئول كبير أو قيادة حزبية، فعبر شبكة الإنترنت كل شخص "زعيم بمفرده" وأن هذا النزوع الهائل للشباب نحو الانترنت يعني أن هناك مجال واسع للتعبير عن النفس غير موجود في الواقع العملي.
إن هناك سلسلة من الاحباطات والصعوبات الواقعية دفعت هؤلاء الشباب إلي الانخراط في حركة تقوم فكرتها على "البديل النقي" الذي سيغير مصر من أولها إلي آخرها، وفتح له فضاء العالم الافتراضي أحلام واسعة، فانتخب رؤساء للجمهورية وهاجم الحكومة والمعارضة.
إن المجتمعات الصحية هي التي تتفاعل مع الشباب المتمرد بأفكاره الجريئة والحالمة، وتضيف إليهم عبر تفاعل مؤسساتها السياسية والاجتماعية والنقابية معهم، فتنقل لهم خبرة الممارسة المؤسسية وتقاليد العمل الجماعي والعقلانية، وتحول التمرد والاحتجاج إلي طاقة إبداع وتطوير، وهكذا تطور المجتمعات عبر نظم تنفتح أمام الجديد لتعقلنه، وجديد يدمج في النظام ليطوره ويضفي عليه بعض الحيوية.
ولأن هذا غير موجود فبقيت احتجاجات الشباب تعبر عن جانب من المجتمع وشريحة من الشباب، وبجوارها احتجاجات "الكبار" من الموظفين والعمال، واحتجاجات السياسيين أمام نقابة الصحفيين، وصرخات الإصلاحيين أو همسهم داخل النظام وخارجه، وفي كل الأحوال سيبقى كل طرف منعزلا عن الآخر، ولا يمكن لظاهرة "الاحتجاج عبر النت" أن تحدث عملية التغيير والإصلاح السياسي، إلا إذا خلقت جسرا قادرا على التواصل مع الواقع السياسي والاجتماعي المعاش بأجياله المختلفة وبظواهره الصحية، لا أن يكون مجرد صوت احتجاج على السلبيات والاحباطات المختلفة.
3 ـ تيار البرادعي أو الموجه الثانية من الحراك السياسي
مع عودة الدكتور محمد البرادعي إلي مصر في فبراير 2010، ولدت الموجه الثانية من الحراك السياسي، وتكررت المخاوف مرة أخري من تكرار نفس الأخطاء السابقة، فالرجل حرك مياه راكدة كثيرة، وبدا أمام الرأي العام في صورة "رجل الدولة" الذي احتل مكانه دولية مرموقة، وراغب في إصلاح أحوال وطنه، وحرك في الناس قيم الحداثة والديمقراطية والمهنية والاعتدال، وكسر جزئيا ثنائية الوطني والإخوان، وأثبت تيار واسع لدى الرأي العام والنخبة المصرية أن هذا المجتمع لازال ينبض بالحياة وأن تعاطفه مع الرجل كان في نفس الوقت اختيارا لقيم غابت أو غيبت عن المجتمع المصري.
وبدا هناك فارق بين الحالة التي مثلها البرادعي وبين الأدوات التي اختارها، فقد حصل على تعاطف فطري ناله من قبل قطاع واسع من الرأي العام والنخب المختلفة وشرائح عليا من الطبقة الوسطي لم تمارس العمل السياسي من قبل، وبين أدواته مثل الجمعية الوطنية للتغيير التي تسرع في تأسيسها عشية عودته من الخارج دون أي حوارات عميقة بين أعضائها ومعايير جديدة لاختيارهم تختلف عن التي سادت الموجه الأولي من قوى الحراك السياسي.
لقد اتبعت الحكومة مع "حراك البرادعي" أسلوب "دعهم ينقسموا من داخلهم" وتناست إنها مسئوله عن إفقار الحياة السياسية وتجريف المجتمع من السياسة والسياسيين، وتغيب التقاليد الديمقراطية عن المجتمع وبالتالي عن حركاته السياسية ونقاباته ومجتمعه الأهلي.
إن هناك رغبة في الإصلاح لدى قطاعات واسعة من المصريين، وهناك حراك سياسي جديد أنجز الكثير على أرض الواقع فخلق ثقافة احتجاج في الشارع ومارس ضغوط مختلفة على النظام، ولايزال أمامه الكثير لينجزه في عملية التغيير والإصلاح السياسي.
______________
خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية.
أعد الباحث هذه الورقة قبل نحو شهرين من اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي فجرها شباب قوى الحراك السياسي الجديد في مصر يوم 25 يناير 2011.(المحرر)