فلسفة الثـورة
قــراءة في كتــاب
فلسفة الثـورة
فكـــر عبدالناصر
الوطني والسياسي والاستراتيجي
متى اكتشف عبدالناصر بذور الثورة في أعمق أعماقه؟
يقول عبدالناصر: إنّ بذور الثورة لم تكن كامنة في أعماقي وحدي، وإنما وجدتها كذلك في أعماق غيري (....) إنّ هذه البذور، "بذور الثورة" كانت أملاً مكبوتاً خلقه في وجداننا جيل سبقنا...
يقول عبدالناصر: أنا من المؤمنين بأنه لا شيء يمكن أن يعيش في فراغ... حتى الحقيقة لا يمكن أن تعيش في فراغ... الحقيقة الكامنة في نفوسنا، في أعماقنا هي: ما نتصوره أنه الحقيقة أو الحقيقة مضافاً إليها نفوسنا. (تعليق: هنا نلمس الواقعية والنسبية معاً. بمعنى أن الحقيقة إنما هي واقعية ونسبية في آن). (وهنا أيضاً ترك عبدالناصر مفهوم "الثورة" للتاريخ، فهو الذي يخرج من كل ذلك بالحقيقة كلها. ولكن، ومع كل ذلك يطلق عبدالناصر على هذه الخواطر والآراء اسم: فلسفة الثورة).
فإذا كان عبدالناصر لا يمكنه أن يتحدث عن فلسفة الثورة، إنما يمكنه أن يتحدث عن الأمل المبهم والمشاعر ثمّ عن شكل الفكرة المحددة وبعدها التدبير العملي المنفذ في 23 يوليو.
فلسفــة الثــورة
سؤال: لماذا قام الجيش بالثورة؟
أولاً ثورة 23 يوليو كانت تحقيقاً لأمل كبير راود شعب مصر، منذ أن بدأ يفكر في أن يكون حكمه في أيدي أبنائه...
فإذا لم يكن الذي حدث في 23 يوليو تمرداً عسكرياً، وليس ثورة شعبية، لِمَ إذن قام الجيش وقدر دون غيره من القوى (السياسية والحزبية الأخرى) أن يحقّق هذه الثورة؟!..
يقول عبدالناصر: إنّ الهزيمة في فلسطين والأسلحة الفاسدة وأزمة نادي الضباط، لم تكن هذه وراء قيام الثورة، بل كانت عوامل مساعدة على سرعة التحقيق...
من هنا هذا التساؤل الكبير: إذا لم يقم الجيش بهذا العمل، فمن يقوم به؟... (الجيش هو بمثابة الشبح الذي يهدد الملك أحلام الشعب، إذن في رأي عبدالناصر، فليتحول هذا الشبح إلى الملك الطاغية فيبدد أحلامه هو!!) ولكنهم، عبدالناصر ورفاقه، كانوا يقولون: بأن هذا الواجب واجبنا وإننا إذا لم نقم به فإننا نكون كأننا قد تخلّينا عن أمانة مقدسة نيط بنا حملها. (ص20)
ويضيف: كنت أتصور قبل 23 يوليو أن الأمة كلها متحفِّزة ومتأهبة وأنها لا تنتظر إلا طليعة تقتحم أمامها السور، فندفع الأمة وراءها صفوفاً متراصة منتظمة تزحف زحفاً مقدساً إلى الهدف الكبير... وكنت أتصور دورنا دور طليعة الفدائيين، لا يستغرق أكثر من بضع ساعات، يأتي بعدها الزحف المقدس للصفوف المتراصفة المنتظمة إلى الهدف الكبير... (ولكن الواقع كان غير ذلك، مما فاجأ عبدالناصر ورفاقه بعد 23 يوليو، كما يقول).
فلسفة الثورة
قامت الطليعة بمهمّاتها.... ووقفت تنتظر وصول الزحف المقدس..... وطال انتظارها... ولكن كانت الجموع التي جاءت أشياعاً متفرقة وفلولاً متناثرة، (تعليق، في بداية الثورة، جاءت الأحزاب متفرقة، جماعات متناثرة هي التي أحاطت بالثورة من كل جانب، في حين أنّ الثورة كانت تنتظر، كما يقول عبدالناصر، وصول الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير...).
هنا يرى عبدالناصر أنّ مهمّة الطليعة لم تنته في هذه الساعة وإنما منها بدأت..
كنا في حاجة إلى النظام، فلم نجد وراءنا إلاّ الفوضى.
كنا في حاجة إلى الاتحاد، فلم نجد إلاّ الخلاف.
كنا في حاجة إلى العمل فلم نجد إلاّ الخنوع والكسل.
من هنا أخذت الثورة شعارها: النظام، الاتحاد، العمل.
* * *
بعد كل ما سمع عبدالناصر ورأى من فوضى وأنانية، وخلافات مستحكمة بين القوى السياسية والاجتماعية والحزبية، انتهى إلى نتيجة مفادها كان لابد من أن يقوم الجيش بالذي قام به في 23 يوليو. ليس هناك مهرب أو مفر!
لذلك وجدت الطليعة نفسها تعيش في ثورتَيْن:
1) ثورة سياسية تردُّ بها حق الشعب في حكم نفسه بنفسه من يد طاغية (الملكية) أو من جيش الاحتلال في أرضه.
2) ثورة اجتماعية تتصارع فيها الطبقات في المجتمع من أجل تحقيق العدالة شعوب مرّت بهاتَيْن الثورتَيْن ولكن بفاصل زمني طويل، أما نحن فإنّ التجربة جعلتنا أن نعيش الثورتان معاً في وقت واحد.(ص27).
فلسفة الثورة
ولكن لكل ثورة ظروف مختلفة عن الأخرى، تتنافر تنافراً عجيباً وتتصارع تصارعاً مروعاً!
1) إنّ الثورة السياسية تتطلب لنجاحها وحدة جميع عناصر الأمة وترابطها وتساندها في سبيل الوطن كله.
2) الثورة الاجتماعية، من أول مظاهرها، تزلزل القيم وتخلخل العقائد وتصارع المواطنين مع أنفسهم أفراداً وطبقات.
من هنا تحكُّم الفساد والشك والكراهية والأنانية...
- لذلك ضاعت ثورة عام 1919 ولم تستطع أن تحقّق النتائج المطلوبة: أي ثورتَيْن سياسية واجتماعية في وقت واحد.
انطلاقاً من تحليل فشل ثورة عام 1919، أدرك عبدالناصر أنّ نجاح ثورة يوليو يتوقف على إدراكها الكامل لطبيعة الظروف التي نعيشها فيها من تاريخ وطننا... فكان لابد من أن نسير في طريق الثورتَيْن معاً.
وحين سرنا في طريق الثورة السياسية، خلعنا الملك فاروق من عرشه وسرنا خطوة مماثلة في طريق الثورة الاجتماعية فقررنا تحديد الملكية. إنّ المنفذ الوحيد إلى النجاة، هو أن نحتفظ بسرعة الحركة والمبادأة وبالقدرة على أن نسير في طريقَيْن في وقت واحد: هكذا شاء القدر وتاريخ شعبنا والمرحلة التي نمرّ بها اليوم.
* * *
ماذا تريد أن نصنعه؟ وما الطريق إليه؟ إني أعرف تمام المعرفة الإجابة عن السؤال الأول. وهذه المعرفة يدركها الجميع. (الهدف: التحرر والاستقلال..) أما الإجابة عن السؤال الثاني، ما الطريق إلى الوصول إليه؟ لقد تغير كما لم يتغير أي شيء آخر. هذا هو موضوع الخلاف الأكبر في هذا الجيل.
فلسفة الثورة
- لا خلاف في أننا جميعاً نحلم بمصر المتحرّرة المستقلة القوية أما الطريق الثاني إلى التحرّر والقوة، فتلك عقدة العقد.
لقد واجه عبدالناصر هذه العقدة قبل 23 يوليو وبعدها هنا يستطرد عبدالناصر يبحث عن ماهية العمل الإيجابي، نوجده في فترة الشباب في الحماسة. ثمّ في تنظيم المظاهرات، وبعدها في تدبير عمليات الاغتيالات للسياسيين وبخاصة الملك... حتى أنه أخيراً أنّ كل ذلك ليس هو العمل الإيجابي، ذلك أنّ المسألة أعمق جذوراً وأكثر خطورة وأبعد أغواراً. من هنا، بدأنا نرسم الخطوط الأولى التي تحقّقت مساء 23 يوليو ثورة منبعثة من قلب الشعب، حاملة لأمانيه، مكملة بنفس الخطوات التي خطاها من قبل على طريق مستقبله.
طُرح سؤالان: ماذا نريد؟ الجواب: استقلال مصر وتحرّرها ولكن ما الطريق، أو ما العمل؟ فهو لم يتوضّح حتى يوليو في الحقيقة: الحركة في يوليو، لم تكن إلاّ الخطوة الأولى على الطريق لقد شاء لنا القدر أن نكون على مفترق الطرق من تاريخنا.
هنا يأتي موقع الجغرافيا والمكان: ذلك أنّ مصر كانت معبراً للغزاة ومطمعاً للمغامرة. وإنه لا يمكن إغفال تاريخ مصر الفرعوني ثمّ تفاعل الروح اليوناني مع روحنا، ثمّ غزو الرومان، والفتح الإسلامي وموجات الهجرة العربية التي أعقبته، ثمّ التوقف أمام الظروف التي مرّت على مصر في القرون الوسطى. وإذا كانت بداية الحروب الصليبية في أوروبا، فقد كانت بداية عهود الظلام على وطننا. وفي تلك العهود، وبخاصة عهد المماليك، أصبح الطغيان والظلم والخراب، طابع الحكم في مصر. (الحديث بمرارة عن عصر المماليك، والفترة التي تكوّن فيها الإقطاع).
فلسفــة الثـــورة
إذن عهد المماليك، عهد الطغيان والظلم والخراب. مصر تحكمها وحوش ضاربة، يعتبرونها غنيمة سائغة، هي الفترة التي تكوّن فيها الإقطاع. مص دماء الحياة من عروقنا وسحب بقايا الإحساس بالقوة والكرامة. طوال عهد المماليك قد كان عهد الآلام...
من هنا كان الموقف الثورة موقفاً سلبياً في بداية الأمر. يقول عبدالناصر: إنّ كثيرين يقفون من الثورة موقف المتفرّج الذي لا يعنيه من الأمر إلاّ مجرد انتظار نتيجة معركة يتصارع فيها طرفان لا تربطه بهما علاقة، وما هذا إلاّ رواسب حكم المماليك.
بعد عهد المماليك جاءت الحملة الفرنسية. وورثت أسرة محمد علي كل ظروف المماليك. وبدأ اتصالنا بأوروبا والعالم. بدأت اليقظة الحديثة بسرعة وفجأة. لقد تطور المجتمع الأوروبي خطوة خطوة. أما في مصر فقد كان كل شيء مفاجئاً... بسبب ذلك، عدم وجود رأي عام قومي وطني متحد...
هنا عبدالناصر يعطي صورة عن التناقض الاجتماعي والثقافي وبالتالي السياسي في المجتمع المصري قبل الثورة، فيقول: الأب فلاح معمّم، والأم تركية، والأبناء في المدارس الإنجليزية والبنات في المدارس الفرنسية.. وكل هذا بين روح القرن 13 ومظاهر القرن 20.. هذه هي الأصول التي تحدّرت منها أحوالنا اليوم...
إذن، ما هو الطريق وما هو دورنا؟!..
الطريق هو الحرية السياسية والاقتصادية، أما دورنا فهو الحراس فقط كل عملنا تحديد معالم الطريق، وأن نجمع شمل الناس جميعاً ونتكلم بصراحة. وأن نخاطب عقول الناس. هنا يبدو بوضوح فكر عبدالناصر التكتيكي حيث يقول: يجب علينا الآن أن نتحرر من آثار الماضي ومن الألفاظ والشعارات البراقة وأن نقدم على ما نتصور أنه واجب مهما كان الثمن من شعبينا ومن الهتاف بحياتنا والتصفيق لنا. (وهي إشارة ضمنية وإنما واضحة أنّ الثورة بقيادة عبدالناصر في البداية لم تكن تتمتع بشعبية واسعة). لقد قيل: أغضبت الثورة في البداية كل الناس وهذا ليس المهم بنظر عبدالناصر، وإنما العامل المؤثر في الموقف هو العمل لصالح الوطن. لقد أغضبت الثورة كبار الملاك، القيادات السياسية القديمة، عدداً كبيراً من الموظفين.
هذا هو دورنا الذي حدده لنا تاريخ وطننا، ولا مفرّ أمامنا من أن نقوم به، مهما كان الثمن الذي ندفعه.
* * *
بعد أن طرح الموضوع على مستوى الزمان (التاريخ)، يأتي الآن عبدالناصر إلى تعريف حدود المكان بالنسبة إلى مصر. هنا فإننا نجد عبدالناصر، خريج كلية أركان حرب، يحدّد سياسة الثورة بعد 23 يوليو في ظروف المكان وينظر إلى السياسة نظرة استراتيجية. فلا يحصر اهتمامه في شؤون مصر الداخلية فقط وإنما أيضاً يدير البصر حول خارج حدود بلاده وكيف يمكن أن يعيش مع غيره في المنطقة. وكيف.(ص62).
* * *
طلائع وعي العربي لعبدالناصر: التظاهرات ضد وعد بلفور أثناء الدراسة / ثمّ الشعور العربي تطور من العاطفة إلى دراسة تاريخ حملات فلسطين في كلية أركان حرب.
فلسفــة الثــورة
ومن ثمّ دراسة المنطقة. ثمّ بدأ الفهم ينضج وأنا طالب في كلية أركان الحرب عندما بدأت أدرس حملة فلسطين ومشاكل البحر المتوسط بالتفصيل. ولما بدأت أزمة فلسطين، كنت مقتنعاً بأنّ القتال في فلسطين ليس القتال في أرض غريبة وإنما هو واجب بحتمية الدفاع عن النفس. (ص66)
وهنا شعر عبدالناصر من خلال التجربة والنظرة الاستراتيجية أن نطاق سلامة بلدنا يقضي علينا أن ندافع عن حدود إخواننا الذين شاءت لنا أحكام القدر أن نعيش معهم في منطقة واحدة...
بعد حرب فلسطين، كانت المنطقة كلها في تصوّر عبدالناصر قد أصبحت كلاً واحداً. كان ذلك كله طبيعياً مع الصورة التي رسمتها التجارب في نفسي: منطقة واحدة الظروف نفسها، العوامل نفسها، بل القوى (؟ ) عليها جميعاً هي نفسها أيضاً. وكان واضحاً أن الاستعمار هو أبرز هذه القوى. حتى إسرائيل لم تكن إلاّ أثراً من آثار الاستعمار.
أهمية توحيد الكفاح. وكفاحنا الواحد خير لنا ولشعوبنا. إننا أقوياء، ولكننا لا ندرك مدى قوتنا. وعناصر قوتنا ثلاثة مصادر: 1) إننا مجموعة من الشعوب المتجاورة مترابطة بكل رباط مادي ومعنوي. ولشعوبنا خصائص ومقومات وحضارة انبعثت في جوها الأديان السماوية المقدسة الثلاثة. 2) أرضها نفسها ومكانها على خريطة العالم. ذلك الموقع الاستراتيجي الهام. 3) البترول الذي يعتبر عصب الحضارة المادية. وهو حقيقة مادية تقرّرها الإحصائيات. (ص 79)
فلسفة الثورة
هذا عن الدائرة العربية. إذن نحن أقوياء حين نحسب بالأرقام مدى قدرتنا على العمل وفهمنا لحقيقة قوة الرابطة بيننا فينا هذه الرابطة التي تجعل من أرضنا منطقة واحدة لا يمكن عزل جزء منها عن كلّها، ولا يمكن حماية مكان منها بوصفه جزيرة لا تربطها بغيرها رابطة.
هذا عن الدائرة العربية التي لا مفر من أن ندور عليها وأن تحاول الحركة فيها بكل طاقاتنا، وهي الدائرة العربية. (ص 81)
* * *
ملاحظات سريعة:
1) عبدالناصر مشبع بدراسة التاريخ، وتاريخ المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بصورة خاصة. وهذا واضح تمام الوضوح من خلال قراءة كتيّب فلسفة الثورة وتحليله ونظرته الإستراتيجية لطبيعة المكان وظروف الزمان.
2) ولدى حديثه عن الدائرة الأولى، الدائرة العربية، فهو لا يتحدث كقومي عربي من المشرق العربي، وإنما كوطني مصري يرى أن مصير مصر مرتبط أشد الارتباط بمصير المنطقة العربية ذات الأصول الواحدة والمصالح المشتركة والمصير الواحد. فهو يتكلم انطلاقاً من وعيه الوطني والثقافي ولربما أيضاً، دون أن يقود ذلك، الديني الإسلامي. وكذلك من خلال التجارب العسكرية ــــــ السياسية التي عاشها. فهنا يبدو عبدالناصر أنه قائد عسكري ـــــ سياسي تجريبي (برغماتيكي) أكثر نظري تجريدي.
3) صحيح أنه عندما وصل إلى السلطة واستلم زمام الحكم لم تكن الأمور، جميع الأمور السياسية وبخاصة الداخلية واضحة تمام الوضوح في ذهنه وفي ذهن رفاقه في تفاصيلها الجزئية وبرامج العمل الموضوعة، وإنما كانت موهبة عبدالناصر الفكرية والثقافية والتاريخ وشخصيته مهيأة وقابلة للتحكم في سير أمور الثورة في خضم الأحداث الصاخبة وتلاطم الأمواج عاتية. فاستطاع بذكائه التكتيكي العميق والهادئ ورؤيته لموازين القوى السياسية الداخلية وبخاصة الخارجية، وبصفته كقائد لثورة 23 يوليو 1952، استطاع أن يتغلب على جميع العقبات وأن يستجيب للتحديات الكبرى في الداخل والخارج.