المحرر - قفزة إلى المستقبل أم عودة إلى الوراء ؟!... ( 1) - الدكتور مصطفى دندشلي
على هامش رسالة جلال السيّد .
قفزة إلى المستقبل أم عودة إلى الوراء ؟!... ( )
بلقم : د. مصطفى دندشلي
نشر الأستاذ جلال السيّد ثلاث رسائل " مفتوحة " موجهة إلى بعض المسؤولين العرب . وأهميّة هذه الرسائل لا تكمن في مضمونها أو في ما تعلنه ، إنما في ما تخفيه وفي منطلقاتها القوميّة البعيدة ، وهذا ما نودّ أن نتوقف عنده قليلاً ، لنحاول أن نلقي بعض الضوء على تفكير جلال السيّد القوميّ واتجاهاته السياسيّة .
انتسب الأستاذ جلال السيّد إلى حركة البعث العربيّ حوالي 1945 ، وتآلفت على الأثر الأول لجنة تنفيذيّة مكوّنة من ميشال عفلق ( عميد ) وصلاح البيطار ، وجلال السيّد ومدحت البيطار.
وحزب البعث الذي نشأ خلال الحرب العالميّة الثانية ، كان لا يزال آنذاك في طور النموّ ويضمّ مجموعة من الطلبة والأساتذة والمثقّفين . ومع تطوّر الأوضاع الداخليّة في سورية والظروف السياسيّة في المنطقة العربيّة كلّها ت أخذ يظهر شيئاً فشيئاً فيما بعد أنّ جلال السيّد كان يمثل داخل حزب البعث اتجاهاً قومياً تقليدياً عنصرياً ذا سمة غسلاميّة ، وذا ولاء مطلق للبيت الهاشميّ في العراق .
وفي انتخابات 1949 التي جرت في عهد الحناوي ، كان السيّد أول نائب بعثيّ ـ عن منطقة دير الزور ـ يدخل المجلس النيابيّ السوريّ . ولكن ما لبث أن ابعد ، بدون ضجة ، عن حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ، في صيف 1955 ، على أثر المحاكمات التي أجريت بعد اغتيال العقيد عدنان المالكي ، ( وجه من الأوجه القوميّة التقدميّة الرائدة في الجيش السوريّ ). ما هي قصة هذا الأبعاد ؟... وما هي أسبابه الحقيقيّة ؟... للإجابة على هذين السؤالين يجدر بنا أن نعود قليلاً إلى الوراء .
الاتجاه اليمينيّ داخل البعث
ظهر داخل حزب البعث العربيّ ، منذ البدء ، اتجاهان قوميان ، وبشكل واضح، عند انعقاد المؤتمر التأسيسيّ الأول في أوائل نيسان 1947 : اتجاه متطرف ورافض للأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة السائدة في المجتمع العربيّ ، واتجاه آخر ، تقليديّ ، يمينيّ ، محافظ . وإذا كان هذا التيار الأخير يضمّ ، بشكل أو بآخر ، معظم العناصر القياديّة الحزبيّة ، إلاّ أنّ الأول كان يضمّ مختلف الفئات الشابة والتي كانت تكون قاعدة الحزب .
وأهمّ المواضيع التي أثارت اختلافات جذريّة في وجهات النظر والتي تبلور حولها هذا التياران هي موضوع الاشتراكيّة والحريّة الفرديّة والقوميّة العربيّة والموقف من الرجعيّة الدينيّة والأنظمة الملكيّة العربيّة .
أمام هذه القضايا ، كان رأي بعض القياديين آنذاك أنّ الحريّة الفرديّة يجب أن لا يقيدها أيّ قيود " وأنّ الاشتراكيّة يجب أن لا تحد من حريّة الأفراد . وأنّ صاحب المعمل ليس هو دائماً ذاك الوحش المستغل لجهود العمال ، بل قد يكون شخصاً مبدعاً ، مخترعاً في الصناعة ، يعود إبداعه على الوطن بالخير والتقدم ".
وتذكر أيضاً بعض الكتابات الحزبيّة أنّه " كان هناك غلو في النظرة القوميّة ". وأنّه ساد في تلك الفترة جوّ الحزب شيء " من الغلو القوميّ الذي كان يرافق السنوات الأولى لنشأة الحزب ، والذي لم يكن بعيداً كلياً عن التأثر بالجوّ الفكريّ والعاطفيّ الذي أثارته النازيّة في البلاد العربيّة الذي اختلطت فيه النظرة القوميّة التقليديّة القائمة على الاعتداء بالماضي والأمجاد والنّسب ... بنتف من الأفكار الشائعة عن العنصريّة والنظرة البيولوجيّة ". وهذا ، كما سيتضح فيما بعد أنّ من حاملي لواء هذا التيار وهذا المفهوم هو جلال السيّد سواء كان داخل المؤتمر الأول أو داخل الحزب .
أما فيما يتعلق بالموقف من الأنظمة الملكيّة ، فكان يتصف بالاعتدال ، حتى أنّ دستور الحزب " لم ينص على جعل الحكم نظاماً جمهورياً ، بل اكتفى بجعله نظاماً نيابياً دستورياً . والسبب كان إتاحة الفرصة أمام الحزب ليتأسس وينتشر في النظام الملكيّة وحتى لا تقام العراقيل في وجهه من أجل ذلك ".( )
هذه هي الخطوط العريضة للاتجاه اليمينيّ داخل حزب البعث في المرحلة الأولى، والأستاذ جلال السيّد يمكن أن يعتبر في هذا الصدد من العناصر القياديّة الأساسيّة بل ومن المنظرين لهذا الاتجاه . والحقيقة تقال أنّه من هذه الناحية ، لا يزال منسجماً كلياً مع نفسه ، ومتمسكاً بخطّه ، ومعلناً آراؤه ومدافعاً عن موقفه السياسيّ ، خلاف كثيرين غيره . وللتدليل على ذلك ، ليس لنا إلاّ أن نعود إلى كتاباته وتصريحاته ومواقفه السياسيّة .
جلال السيّد والعائلة الهاشميّة
في الرسالة التي وجهها جلال السيّد إلى الملك حسين يقول : " إنّني أشعر بحنين إليك وبعاطفة نحوك . فولائي العفوي هو لك ، برغم الأمواج الصاخبة التي وجهها الخصوم نحوك "... ونستطيع أن نضيف : حتى ولو كان هؤلاء الخصوم هم الجماهير العربيّة والرأي العام العربيّ، بينما الدعم الأساسيّ والأول لجلالته من قِبَل بريطانيا ثمّ الولايات المتحدة الأميركيّة .
ولكن من أين يأتي هذا " العطف والحنين والولاء " لأسرة وشخص الملك حسين ، لتوضيح ذلك ، يذهب جلال السيّد إلى الاعتقاد أنّ في التاريخ العربيّ انتفاضتان أو " رسالتان "، الأولى فجرها الإسلام على يد الرسول محمد " الذي نقل الأمة العربيّة من حال القبيلة إلى حال الدول ".
وبعد مرحلة الضعف والانحطاط التي استمرت قروناً ، ظهر " الكوكب الجديد وهو الحسين بن علي رضي الله عنه ، قائد الثورة العربيّة في العصر الحديث ". " فنفخ في النفس العربيّة ، وهزّها هزاً عنيفاً بعثها من مرقدها ... فنهضت نهضتها الحديثة ".
فجلال السيّد قد ساوى إذن بين الدور التاريخيّ الذي قام به النبي محمد ، وبين الدور الذي لعبه " شريف مكة " باسم البيت الهاشميّ ، وإذا كانت هذه " الشكليات " التاريخيّة ، لا تستأهل النقد أو الردّ ، إذ أنّ القارئ أو الإنسان العربيّ العادي ، يعرف تمام المعرفة ، جوهر الخطّ السياسيّ بشتّى فصائلها وفروعها .
إلاّ هناك بعض الملاحظات السريعة ، نوردها فقط للتذكير . والأستاذ السيّد من غير شكّ يعرفها ولكنّه تناساها .
إنّ جلال السيّد لم يلمح لا من قريب أو بعيد " بالحلف غير المقدس " الذي كان معقوداً بين بريطانيا قبيل وفي أثناء الحرب العالميّة الأولى وبين العائلة الهاشميّة والذي هو لم يكن أبداً لمصلحة الأمة العربيّة ز وهذا الحلف الذي استمر إلى وقت قريب والذي كان من نتائجه خلق المملكة الهاشميّة العراقيّة التي زالت من الوجود ، والمملكة الأردنيّة الهاشميّة القائمة حتى الآن ، قد حل الآن محل حلف آخر هو أيضاً غير مقدس ، ولكن في هذه المرة ، مع الولايات المتحدة الأميركيّة .
ثمّ أنّ الأستاذ السيّد لم يشأ أن يذكر شيئاً ، ولا يمكن أن يذكر شيئاً لأسباب في نفسه ، وهي لا تخفى على أحد ، العلاقة والاتصالات الرسميّة التي كانت قد تمّت مرات ومرات بين الأمير ثمّ الملك عبد الله ، جدّ الملك الحالي للأردن ، وبين المسؤولين الرسميين للحركة الصهيونيّة العالميّة ولدولة إسرائيل .
على كلّ حال ، ليس هذا هو موضوع الحديث ، فإنّ لذلك مجالاً آخر . والذي نريد أن نصل إليه الآن هو أنّ ولاء الأستاذ جلال السيّد للعائلة الهاشميّة ، كان له نتائج سلبيّة ومواقف عمليّة. فهذا ما نريد أن نوضحه .
الوحدة العربيّة بأيّ ثمن
يؤكد الأستاذ جلال السيّد، في حديث أجريته معه في 16 آب 1965 في دمشق ، أنّ حزب البعث العربيّ ، منذ البدء ، كان منصبّاً بكليته لتحقيق الوحدة العربيّة . وأنّ الصفة الاشتراكيّة لم تضف إليه إلاّ تحت ضغط ما يسميه بالعناصر " المتطرفة "، وقبلت كما أرادوها . وإذا كان بعض القياديين في ذلك الحين قد رضوا أن ينص دستور الحزب سنة 1947 على العمل لتحقيق الاشتراكيّة، فذلك لأنّ " جوّ المؤتمر كان يوحي آنذاك بأنّ الاشتراكيّة تأتي في المرحلة الثانية بعد تحقيق الوحدة العربيّة ".
الدليل الذي يسوقه الأستاذ السيّد ، هو ، كما ذكرنا سابقاً ، أنّه لم يرد في دستور البعث ذكر النظام الجمهوريّ . ويضيف قائلاً : " مع أنّ الرأي العام في داخل حزب البعث جمهوريّ النزعة ، إلاّ أنّ الحزب ـ وكان من الأصح ـ أن يقول بعض قيادي الحزب ـ لا يستطيع أن يجعل من الجمهوريّة سبباً في دوام التجزئة العربيّة . فقد لا تتحقق الوحدة إلاّ في نظام ملكيّ ، أيّ لا يجوز أن تحول الملكيّة دون قيام وحدة بين البلاد العربيّة ".
ولكن هذا الرأي كان مرفوضاً ، كلا وتفصيلاً ، من قِبَل قواعد الحزب الشابة ، عندما أراد قياديو الحزب أن يعطوا لهذا الاتجاه ترجمة عمليّة ويحولوه إلى حيّز التنفيذ .
وهنا يطرح السؤال عن مفهوم جلال السيّد للأمة العربيّة ، فهو يرى ، انسجاماً مع ما سبق "أنّ الأمّة العربيّة ... هي كلّ العرب : العمال وأرباب العمل والفلاحون وأصحاب المزارع والمثقّفون والجهال والطليعيون والمتخلفون والجنود والضباط والفقراء والأغنياء والإقطاعيون والرأسماليون وكلّ حيّ يحويه الوطن العربيّ "...
إنّ هذا المفهوم للقوميّة أو للوحدة العربيّة ، غني عن أيّ تعليق . فهو أقرب بكثير إلى المفاهيم القوميّة التي كانت سائدة في أوروبا في القرن الماضي ، منه إلى المفهوم القوميّ الحديث .
القبيلة العربيّة مصدر المقدسات القوميّة
وهناك أيضاً مفهوم خاص وبدائيّ للقوميّة العربيّة ، يتبناه ويدافع عنه الأستاذ جلال السيّد . فهو يقول في رسالته في جريدة الهدف في 21 ـ 7 ـ 1964 :
" أنّ المرء لا يحتاج إلى ذكاء ولا إلى إمعان نظر من أجل أن يعرف أنّ حزب البعث يميل إلى امتهان القبيلة العربيّة ويقف منها موقف المعادي . والقبيلة العربيّة ليست تلك الجماعة البشريّة التي تجوب الفيافي والقفار ، تسوق ابلهاً وترعى أغنامها ... " فهي قد استوطنت اليوم ، وعندها مقدسات ومثل عليا هي عصارة الخلق العربيّ . وقد لا تطيق القبيلة تلك المُثُل ولكنّها تقدس الذين يطبقونها ... والقبيلة تقدس الأمانة والثدق والوفاء والسخاء ... ( إلخ ) وتحترم من يمثل هذه الصفات وتحتقر من يبتعد عنها . ولا يزال الخوف ومخلفات الأجيال الماضية هي التي تحكم القبيلة . كما أنّ القبيلة قد خدمت القضية القوميّة من حيث تشعر أو لا تشعر . فهي لم تعترف بالحدود المصطنعة التي قامت بين الأقطار العربيّة ... كما أن اسم الفرديّة قد أطلق عليها وحدها عندما اندمج العرب في الخضم العالميّ الإسلامي "...
ولكي يبرهن على وجهة نظره هذه وعلى العلاقة الوثيقة بين القبيلة والقوميّة ، يلتجئ الأستاذ جلال السيّد في نفس الرسالة ، إلى النازيّة الألمانيّة ، فيضيف :
" ولقد كان هتلر في أيامه الأخيرة يتحدث عن روح الأمة الجرمانيّة وعن إيحاءات تلك الروح ووجوب الاستجابة لها ثمّ انتقل بعد ذلك يتحدث عن إرادة القبيلة الجرمانيّة . وليس يضر العرب في شيء أن يستمدوا الأعراف العربيّة من مصطلحات القبيلة وما تبقى فيها من مقدسات ".
إذن المفهوم القومي العربيّ للأستاذ جلال السيّد ، هو مفهوم عرفيّ ، عنصريّ . وهو بذلك يعطي أهميّة كبرى لصفاء الدم . فالقوميّة الأصليّة ، برأيه ، هي في القبيلة وأما القوميات خارجها فإن هي إلاّ قوميات مزيفة . وفي نفس الحديث الذي أجريته معه عام 1965 يؤكد " بأن القبيلة العربيّة احتفظت برغم تقلبات العصور والأحداث ، بصفاء ونقاوة الدم العربيّ الأصيل . وقد فقد العرب الحاليون ، بحكم الاختلاط مع شعوب وأجناس أخرى مختلفة ، هذه الميّزة للقبيلة ، وكلّ صفاتها والتي بدونها تفقد العروبة معناها الأصيل ".
مشروع الوحدة السوريّة ـ العراقيّة
هذه هي بعض المفاهيم القوميّة التي كان يتبناها الاتجاه اليمينيّ داخل حزب البعث في سنيه الأولى . ومن رواد هذا الاتجاه ، كما بينا ، هو جلال السيّد مع بعض قيادي الحزب الآخرين . لكن ربما أقلّ حماسة أو صراحة منه .
وهذه المفاهيم ، وفيما يتعلق منها بالوحدة العربيّة على الأخصّ ، لم تكن مفاهيم نظريّة ومجرّدة ، بل كان دائماً يحاول ، بطريقة أو بأخرى ن إعطاءها شكلاً تطبيقياً .
والمناسبة جاءت بالفعل للانتقال من مجرد النظريّة إلى حيّز التنفيذ ، في عهد سامي الحناوي ، على أثر الانقلاب العسكري الثاني الذي قام به في 14 آب 1949 ضدّ حسني الزعيم . فجرت الانتخابات النيابيّة في نفس السنة والتي أدّت بأكثرية برلمانيّة من حزب الشعب . وتألفت على الفور حكومة من بين أعضائه .
وارتباط حزب الشعب بالنظام الملكيّ العراقيّ لم يكن سراً . وسعيه الحثيث ونشاطاته السياسيّة العلنيّة أو الخفية لتحقيق وحدة سورية مع العراق ، يعرف بها القاصي والداني ، كما أنّ الاتصالات من قبل الحكومة العراقيّة مع مختلف الأندية والأحزاب السياسيّة التقليديّة ، كانت تجري على قدم وساق ، حتى أن الرأي الشائع في الأوساط السياسيّة في ذلك الوقت ، كان أنّ تطبيق هذا المشروع اصبح قضية شكليات .
وفي هذه المناسبة ، أصدر حزب البعث بيانه المشهور " حول اتحاد سوريا والعراق " والذي نشرته جريدة البعث في 9 كانون الثاني 1950 . ما هو الموقف الذي اتخذه حزب البعث العربيّ في هذا الموضوع ؟...
في الواقع ، وما هو واضح في هذا البيان ، أنّ حزب البعث ، بشكل عام ، كان يعيش في هذه الفترة ، في حالة ظاهرة من التردد أو من التمزق السياسيّ . فهو من جهة كان يميل إلى تحقيق هدف أساسيّ من أهدافه السياسيّة ومثل أعلى من مثله وهو الوحدة ، ولكن من جهة ثانية كان يخشى ويخاف أن يؤدّي هذا الاتحاد العراقيّ السوريّ ، وهو سيؤدّي حتماً ، إلى زوال النظام الجمهوريّ ، وبسط السيطرة الإقطاعيّة الملكيّة العراقيّة على سوريا ، وامتداد المعاهدة البريطانيّة العراقيّة عليها ، لتكبيلها وعودة النفوذ الاستعماريّ غليها وهي لما تكاد أن تتحرر من الانتداب الفرنسيّ .
لذلك سعى كاتبو هذا البيان أن يخفوا أغراضهم الحقيقيّة والبعيدة وأن يوقفوا بين الأضداد فجاء متناقضاً ".
فهو يذكر أولاً أنّ " الوحدة بالنسبة إلى العرب هي القانون الأعلى والهدف السمى ، إلاّ أنّها لا تكون ممكنة ولا تكون سليمة السير... إلاّ إذا رافقها تقدم الشعب العربيّ نحو الحريّة والاشتراكيّة".
ويضيف بعد ذلك : " فمما لا شكّ فيه أنّ هذه الوحدة المنشودة لن تتحقق دفعة واحدة وفي نفس الوقت ، ولا بدّ أن يتدرج إليها العرب تدرجاً ، أي أن يقبلوا بخطوات عمليّة ومعقولة ، يسعون أن يخفوا محاذيرها إلى أبعد حدّ ممكن ". والشعب العربيّ في سوريا بعد كارثة فلسطين " حوّل أنظاره إلى ما يراه أقرب على الواقعيّة والإمكان زالمتانة وهو تحقيق اتحاد مع قطر عربيّ آخر (وهو العراق )، قريب منه متجانس معه ".
إلاّ أنّ ذلك يجب أن لا " يهدّد استقلال سوريا وجمهوريتها ونظمها المتجهة نسبياً نحو التحرر "، " فالجمهوريّة ، ليست بالنسبة إلى العرب مجرد شكل للحكم وإنّما هي نظام لحياة المجتمع في جميع نواحيه ، لأنّها تعني أولاً الحريّة بأوسع معانيها ، الحريّة الفرديّة ، والحريات العامة ، ونعني حقّ الشعب في السيادة والسلطة والقيادة "...
بعد هذه المقدمة " النظريّة "، ينتهي الحزب إلى تحديد موقفه من مشروع الاتحاد العراقي ـ السوريّ في آخر البيان ، بأن يضع شرطين لتحقيقه :
الشرط الأول : قوميّ " أي أن يطمئن الشعب إلى أنّ الاتحاد لن يفقده السيطرة على مقدراته السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة لمصلحة دولة أجنبيّة . لذلك يشترط الحزب أن تعدل المعاهدة البريطانيّة ـ العراقيّة ... وأن يقتصر مفعول المعاهدة على العراق فلا يتعداها إلى سوريا"..
والشرط الثاني تقدميّ : أي " بأن يضمن بقاء النظام الجمهوريّ في سوريا باتجاهه التقدميّ الاشتراكيّ ... وهذا يستتبع أن تكون رئاسة الاتحاد بالتناوب بين سوريا والعراق ". ( )
ماذا يفهم من ذلك ؟... هل يفهم أنّ قادة حزب البعث في تلك المرحلة وواضعو البيان على الأخصّ ، يؤيدون مشروع الاتحاد العراقيّ ـ السوريّ ؟...
طبعاً ، وهذا ظاهر بوضوح كما رأينا ، ولا يحتاج إلى ذكاء كبير لمعرفته . ومن الأكيد الذي لا يحتمل أيّ مجال للشكّ أنذ ميشال عفلق ، وصلاح البيطار وجلال السيّد ، على وجه التحديد ، كانوا من المتحمسين لتحقيق هذه الخطوة الاتحاديّة مع العراق في ذلك الوقت . وهذا ما يعلنه صراحة في كتابه المفتوح ، المذكور سابقاً والموجه إلى أمين الحافظ .
وهو يؤكد " أنّه عندما طرحت فكرة الاتحاد بين سوريا والعراق على بساط البحث في سنة 1949، لم تكن قيادة الحزب ضدها خشية النظام الملكيّ أو النفوذ البريطانيّ في العراق ". " لأنّ النظام الملكيّ ليس نجساً بحيث يمنع الوحدة ويجعلنا نتنازل عنها ، كما أنّ النفوذ البريطانيّ يمكن التغلب عليه ".
إذا كان الأمر كذلك ، فالسؤال الذي يطرح هو : لماذا لم يحقّق هذا الاتحاد إذن ؟... وما هي العوامل التي منعت قيامه ؟...
مما لاشك فيه أنّ المعارضة والمحاربة العنيفة لـه جاءت من القاعدة الحزبيّة والفئات التقدميّة الأخرى وخصوصاً من العناصر القوميّة التقدميّة داخل الجيش السوريّ ، زالوضع السياسيّ قد توتر في تلك الفترة لدرجة أنّ سورية أصبحت على أبواب حرب أهليّة مسلحة . وما اغتيال عدنان المالكي الذي كان على رأس الضباط الذين عارضوا الاتحاد العراقيّ السوريّ ، إلاّ وسيلة من إحدى الوسائل التي اتبعت من قبل القوى السياسيّة اليمينيّة وعلى رأسها الحزب القوميّ السوريّ ، لإزالة العقبات التي تقف في طريقه .
وما إبعاد جلال السيّد من حزب البعث إلاّ لأنّ محاكمات القوميين السوريين وبعض السياسيين التقليديين ، أظهرت عن علاقته ببعض الأوساط العراقيّة التي كانت تعمل بالسر والعلن على ضمّ سوريا إلى العراق .
وهذا ما لا يخفيه جلال السيّد ، وإن كان يعبّر عنه بطريقة أخرى . وهو قد صرّح لي بذلك بمنتهى الوضوح : " في سنة 1949 ـ 1950 قام تيار في الجيش السوريّ ضدّ الاتحاد وضدّ القائلين به . وقد نسب إلي شخصياً هذا المسعى للاتحاد ، فقبلت هذه النسبة . وبذلك أنقذت الحزب من التعرض لتيار الجيش ورضيت أن أكون وحدي المتعرض له ".
* * *
هذا هو جلال السيّد . فآراؤه القوميّة تأتينا من واد سحيق . ويستخدم لغة قوميّة لم تعد مفهومة لجماهير الشعب العربيّ ، مهما حاول أن يضرب على الأوتار الحساسة ، فظروف الأمة العربيّة الآن هي غيرها في القرن الماضي أو في أوائل هذا القرن .
فلا نخدع الأستاذ جلال السيّد بهذه النكسة التي يعيش فيها الشعب العربيّ في الظروف الحالية . واستقراء التاريخ العربيّ الحديث يظهر لنا أنّ الجماهير العربيّة تعيش منذ ما يقرب من نصف قرن ، في أوضاع ثوريّة ، بالرغم من الردات اليمينيّة الظاهرة والمؤقتة .
والتاريخ العربيّ الحديث ، يظهر لنا أيضاً أنّ الأمة العربيّة لم تحقّق تقدمها في مختلف الميادين السياسيّة أو الاجتماعيّة أو الحضاريّة ، إلاّ من خلال النكسات المتعاقبة ، كلّ نكسة وكلّ ردة يمينيّة لم تكن ، في الأعماق وفي المدى البعيد ، سوى تهيؤ إلى قفزة جديدة إلى المستقبل واستعداد لتحقيق مرحلة ثوريّة جديدة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ) أنظر ، جريدة " المحرر "، 29 تشرين الأول 1971 .
1) أنظر ، نضال البعث ، الجزء الأول ـ وهو يحوي على البيانات والنشرات الحزبيّة التي نشرت في فترة ما بين 1943 ـ 1949 . صفحة 168 ـ 171 دار الطليعة . الطبعة الأولى ، تموز 1963 ، بيروت .
1) أنظر ، نضال البعث ، الجزء الثاني ، صفحة 33 ـ 38 .