غربة اللغة العربية وسط أبنائها
غربة اللغة العربية وسط أبنائها
تعاني اللغة العربية في الوطن العربي غربة وسط بعض أبنائها - في أيامنا تلك - وهذا أمر ليس مستحدثاً على اللغة العربية؛ فهي تتعرض لأشكال مختلفة من الغزو بين الوقت والآخر. وتختلف أشكال هذا الغزو من بلد إلى بلد عربي آخر، حسب المؤثرات والظروف المختلفة للمجتمع.
ويحاول القائمون على اللغة أو المهتمون بأمرها دق نواقيس الخطر أو التصدي لهذه الغزوات. ولا يمكننا في هذا المقام أن نتناول كل بلد عربي على حدة للبحث في أمر اللغة العربية عنده، ولكننا سنمثل ببلدين عربيين هما: جمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية لتباين الظروف والأسباب، والاشتراك في النتيجة. ونود أن يكون حديثنا في هذا الموضوع من خلال محورين هامين هما ملامح تلك الغربة أو الغزو على اللغة العربية، وأسباب هذه الظاهرة وعلاجها.
1 - ملامح تلك الغربة أو الغزو على اللغة العربية:
وتظهر ملامح تلك الغربة في مظاهر عدة، وأهم مظهر لذلك هو:
أ - الابتعاد المتعمد عن اللغة العربية، ولا نبالغ إذا قلنا الكره الواضح لدى بعض الناس لهذه اللغة، وهذا قد يكون بدعوى صعوبة اللغة وصعوبة قواعدها.
وصعوبة اللغة علة يتعلل بها كثير من الناطقين بالضاد على اختلاف بلدانهم، وبينما نجد بلداناً عربية تعاني من الازدواجية بين اللغة الفصحى واللهجة العامية، ونظن أن هذا سبب أساسيّ لضعف اللغة العربية كما في مصر مثلاً، نجد بلداناً عربية أخرى قد لا تعاني بنفس القدر من تلك الازدواجية، حيث تكون اللغة المتحدث بها في غالبيتها لغة عربية فصيحة مثل السعودية مثلاً، ولكن نجد أيضاً لدى الكثير من أبنائها ضعفاً على المستوى القواعدي والجمالي للغة.
ب - من ذلك أيضاً الانسلاخ السلوكي عنها، وهذا أيضاً يختلف من بلد إلى بلد عربي آخر بحسب انفتاح هذا البلد وتشربه للمؤثرات الأجنبية ومحاولة الطبقات المختلفة في المجمع لإحلال اللغات الأجنبية المختلفة محل اللغة العربية، فقد نجد بعض الأسر يتحادث أفرادها فيما بينهم باللغة الأجنبية، وقد يصل التأثر حد الاختلاط الذي لا يستطاع فيه معرفة الأصيل من الدخيل. وقد سمعت مشرفة على روضة للأطفال في إحدى الدول العربية، وهي تدعوهم لدخول الفصل وتقول لهم: "يا لاَّ جُوَّ، جُوَّ"، أي اذهبوا ويفهمها الأطفال لا يستغربون ما تقول. وقد يكون هذا الانسلاخ مصحوباً بالسخط على ذلك المجتمع.
جـ – ومن ملامح تلك الغربة أيضاً تلك الكثرة الملحوظة من الأسماء الأجنبية تأثيرها النفسي الكبير على الجو العام في ذلك البلد.
د - والأسماء الأجنبية لا تقتصر فقط على المحلات والشركات، ولكنها تنسحب أيضاً على الأشخاص حتى أنه بات من الضرورة أن يحمل البعض معه ترجمة لاسمه حين يعرف بنفسه.
أسباب هذه الظاهرة وعلاجها
إذا تحدثنا عن أسباب هذه الظاهرة فسنجد أنها مرتبطة تماماً بما تحدثنا عنه في ملامح، فما نلحظه من كره للغة العربية في المجتمع العربي وابتعاد البعض عنها نجده مرتبطاً في أصله بجهل هؤلاء باللغة العربية وقديماً قالوا: "الناس أعداء ما جهلوا".
وإذا بحثنا عن أسباب هذا الجهل المتواصل للغة فسَنَتُوه في تلك الأسباب، ولكن هناك سببين أساسيين أمام أعيننا.
السبب الأول: التعليم:
وأخص هنا التعليم في مراحله المختلفة إلى نهاية المرحلة الثانوية؛ حيث ينقسم التعليم إلى تعليم حكومي وتعليم خاص، فإذا ذهبنا إلى المدارس الحكومية، فإننا نجد الأمر قيد "الحظ"، والحظ وحده هو الذي يسوق مدرساً متمكناً من الفهم والتوصيل للطلاب، وهذان أساسان تقوم عليهما العملية التعليمية؛ لأننا نجد كثيراً من المدرسين غير قادرين على فهم المادة العملية المنوطين بتعليمها، أو أنهم تنقصهم القدرة على التوصيل للطلاب.
وإذا كان هذا هو حال هذه الفئة من المدرسين، فماذا يكون حال طلابهم؟!
أما المدارس الخاصة أو الأجنبية فإنها برغم ما تملكه من إمكانات، إلا أنها توجه إمكاناتها نحو اللغات الأجنبية وليس اللغة العربية، ويهتم أصحاب تلك المدارس أو القائمون على إدارتها - دائماً - بتغيير سلسلة الكتب الخاصة بالطلاب بعد تقييم نتيجتها مع الطلاب، ولا يهتم القائمون على اللغة العربية بالاستفادة بالمناهج المختلفة لدراسة اللغات الأجنبية، التي قد تفيد بوصفها نوعاً من التطوير في المنهج الذي ربما يكون من أسباب ابتعاد أبنائنا عن هذه اللغة الثرية.
وقد توقفت عند طلاب المرحلة الثانوية؛ لأنه إذا كان هذا هو الحال مع الطلاب فماذا عساه يكون حالهم حينما يتخصص بعضهم في دراسة اللغة العربية في الجامعة؟ فإذا كانت الجذور مخلخلة وغير ثابتة فماذا عساها تكون الساق والأوراق؟
السبب الثاني: المجتمع
وقد ذكرت قبلاً أني أعتبر ظاهرة الانسلاخ عن اللغة هي في حقيقتها انسلاخ عنالمجتمع، وهذا عند من يسعون إلى الذوبان في المجتمعات الأجنبية المختلفة اغتراراً منهم بهذه المجتمعات، وظنهم بأنها تمثل الحضارة والتقدم والرقي، أما هم فيعيشون هم ولغتهم في تخلف وتقهقر يريدون الهرب منه والارتماء في أحضان المجتمعات الأجنبية عله ينتسب إليها.
وهذه النظرة خاصة بفئة من المجتمع العربي ممن يتناولون الأمر بالتفكير والفلسفة، ولكننا نجد فئات من المجتمعات العربية تختلف عندها أسباب الانسلاخ، فقد يكون السبب هو التباهي أو التعالي أو تجهيل ما عداهم. ولا شك أن ذلك دليل على انحدار مستواهم الفكري أو الثقافي أو المادي؛ لأننا إذا استعرضنا نموذجاً من هذه المجتمعات الأوروبية فسنجد العكس تماماً، ففي ألمانيا مثلاً يظهر الاعتزاز بلغتهم الألمانية من فرضها في كل المجالات، فاللغة الألمانية هي اللغة الوحيدة التي يمكن أن تسمعها في كل وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وقد نسمع ونرى أعمالاً فنية وسينمائية من دول مختلفة، ولكنها لا تعرض إلا باللغة الألمانية، حتى ما هو خاص بالأطفال من أفلام كرتونية أو ألعاب… إلخ.
والذي قد لا يعرفه البعض أن اللغة الألمانية لغة صعبة التعلم، وهي لغة فقيرة في عدد جذورها اللغوية، وهم يلجئون دائماً للنحت والاشتقاق، ويضيفون عدداً من الحروف قبل بداية جذر أو بعده لتكتسب الألفاظ معاني مختلفة تماماً. وهذا لا يوجد عندنا في اللغة العربية؛ حيث يكون هناك دائماً علاقة بين جذر الكلمة واشتقاقاتها المختلفة؛ مما يسهل الربط بين الاشتقاقات المختلفة، هذا بالإضافة إلى تشابه كثير من القواعد النحوية بين اللغة العربية واللغة الألمانية كالحال والمفعول به والمضاف.
ولا نظن أن كل الطلاب في ألمانيا محبون للغة، بل إن منهم من يرونها لغة صعبة التعلم، ولكن لم نجد من الألمان من خرج إلينا؛ لينسلخ عن لغته ويتنصل منها بدعوى صعوبتها وعدم القدرة على تحصيلها، وأن لغات أخرى كالإنجليزية مثلاً أسهل منها. وذلك لأمر هام يغيب عن هؤلاء وهو أن لغتي هي أنا. هي ذاتي، هي وجودي هي كياني، هي حضارتي وتاريخي، أما لغة الآخر فهي لغة الآخر وليست أنا.
ومن الأسباب الخاصة بالمجتمع أيضاً نظرة المجتمع الغربي للمجتمع العربي على أنه سوق لتصريف منتجاته، وأيضاً انفتاح الثاني على الأول، وقد تمثل ذلك في قيام شركات استثمارية مختلفة الجنسيات في الوطن العربي يكون عائد العمل بها مربحاً، مما دفع بأجيال من العرب تسعى جاهدة لإتقان اللغات الأجنبية المختلفة، وتكتفي من اللغة العربية بمجرد نطقها إن نطقت بها.
ولا يُحمل كلامي في مجمله دعوة لنبذ اللغات الأجنبية والابتعاد عنها، بل على العكس فأنا من أشد المتحمسات لدراسة اللغات الأجنبية والتفوق فيها، ولكن على أن أكون أشد تفوقاً للغتي وحبًّا.
ولعلنا لا نندهش حينما نعلم أن التكامل بين بلدان الوطن العربي يمكن أن يتم حتى في الحفاظ على للغة العربية باستفادة كل دولة عربية بما لدى الأخرى من وسائل الحفاظ على اللغة ومحاربة أساليب الغزو المختلفة.
ومن أهم الحلول التي يجب أن يتجه إليها هو تحفيظ القرآن الكريم في مراحل التعليم المختلفة، ووضع خطة شاملة تنتهي بختم القرآن الكريم مع نهاية الدارسة أو ما يعادلها، أو حتى تكمل في الجامعات على اختلافها، فغني عن القول ما للقرآن الكريم من أثر في استقامة اللسان واللغة والبيان، ناهيك عن استقامة الجسد والروح، ولكن على ألا يكون الأمر وكأنه إلحاق عقاب بأبناء العربية، فيجب البحث في أفضل الوسائل وأكثرها تأثيراً وجذباً لأبنائنا، ويستفاد في ذلك بما تقوم به السعودية على أن تدرأ جوانب الضعف والنقص عندهم ليتكامل الهدف مع آليات تنفيذه.
وهل يمكن أن تتمثل الدول العربية بما يحدث في بعض مناطق المملكة السعودية في اختيار أسماء المواليد؛ حيث يمتنع تسجيل اسم المولود إن كان اسماً أجنبيًّا، وهل يمكن أن يعمم ذلك أيضاً على أسماء المحلات والشركات؟
إن لمجامع اللغة العربية في الوطن العربي دوراً هامًّا وللهيئات المعنية والجمعيات الرسمية والأهلية كذلك، ولكن الدور الأكثر أهمية – في نظري – هو وجوب البحث في كيف يمكن لكل عربي أن يكون فاهماً للغته متقناً لها معتزًّا بها فخوراً بانتسابه إليها.