د. دندشلي - مقابلة مع الأستاذ حافظ الجمالي عن شخصية د. مدحت البيطار
د. مدحت البيطار في سطور:
كـان يُعطي كلّ شيء دون مقابـل، ويضحي بكلِّ شيء، ولا يطلب شيئاً لنفسه… وكان يقول: لقد هُضِم حقِّي…
الأستاذ حافظ الجمالي:
هذا الشخص، د.مدحت البيطار، عرفته منذ زمن طويل. وقد كان له حتى أثناء الدراسة في معهد الطب في الجامعة السورية في دمشق، كان له نشاط رياضي وكشفي بارزاً… ولكن كشخصية، إنّما هو نموذج للوداعة والطيب وحسن الإخاء والتعامل باحترام مع كل الناس. أظنّ أن ما كان ينقصه باستمرار هو شيئان: أولاً، لا يمكن أن يتمتع بنفوذ عام على أعضاء الحزب، بمعنى أنه لا يفرض نفسه كشخصية كبيرة. ثانياً: تفكيره مملوء بما يسمّى بـ "الحس السليم" bon sens، ولكن دون بهرجة، دون أي "فلسفة"، (بمعنى فذلكة وحب الظهور)، ولكن بشكل بسيط وطبيعي، ممّا يوحي بأنه ليس عظيم الثقافة، على حين أن فضائله وحسن أحكامه كانت دائماً تتجلّى في كل المواقف. وإنني كنت ألمس منه حسن التفرّس والخبرة والسلامة المنطقية والمشي مع العقل والبُعد عن التطرُّف، وبصورة خاصة كراهية التحزُّب (بمعنى التعصُّب)، وهذا "الانفلاش" وكراهية "الشِّلليّة"…
س: … عندما كان يقع بعض الخلافات بين قادة حزب البعث العربي الاشتراكي أو أعضائه هل كان هو يميل إلى التوافق ورأب الصدع ويلعب دور التوفيق بين الأفرقاء؟…
ج: دوماً، دوماً،… كان دائماً يحاول مثلاً مع أكرم الحوراني ومع ميشال عفلق ويقوم بجهد جبار ومتصل، ولا سيّما وأن الشخصين يثقان به، لشدّة طيبته، لإصلاح ذات البين بينهما. لذلك كان يقوم بمُهمة المصلح، إذا صحّ التعبير، بمهمة الموفِّق. والواقع أنه كان يقوم بهذه المُهمة وهو مؤهل لها. ذلك أن كل صفاته كانت تحمله على أن يكون مؤهلاً لهذه الصفة. ومن المؤسف، أن كل هذا مع ذلك لم ينجح: نجح جزئياً، وفي لحظة معيَّنة،…
س: … كان مؤسِّساً لعدد من الفرق الكشفية وكان دائماً رئيسها. والرئيس في هذه الحالة لا بدّ إلاّ وأن تتوافر فيه بعض الصفات القياديّة، فهل انعكس ذلك على مستوى حركة البعث العربي والحزب إجمالاً فيما بعد في العمل السياسي؟!…
ج: …لا، لأنه قد كانت فرقاً كشفية، وكان يتميّز هو بكونه طبيباً، وأنه من الضروري لكل فرقة كشفية أن يكون فيها طبيب، وهو طبيب طوعي (مجاني). ثم إنه هو أكبر من كل العناصر الأخرى التي دخلت تحت قيادته، فكانت له صفة مؤسس. وهو في الأصل كان في "الحزب الوطني" (أو بالأحرى الكتلة الوطنية)، ولكنه بسرعة انحاز ومنذ البداية إلى حركة البعث العربي، وذلك في الوقت الذي كان فيه جميل مردم وجماعته يتحركون لأن يكون معهم.
س: … هل كان يتمتع بشيء من الشعبية في دمشق، في أحيائها الشعبية مثلاً؟
ج: … شعبية محدودة، وله معارف كثيرة قطعاً، ولكن معارف معرفتهم محصورة بأنفسهم ولم يكونوا قادة شعبيين يؤثرون في الأحياء مثلاً ككل، وبالتالي يوجِّهونه جزئياً على الأقل في اتجاه معيَّن. فضمن هذه الظروف، ما كان يفرض نفسه كزعيم ولا بشكل من الأشكال، كان دائماً يبدو كأنه من الأعضاء العاديين، وكان دائماً من الرأس حتى أخمص القدمين، كما نقول، كل أعضاء الحزب من القيادة: من ميشال عفلق ونازلاً، كانوا يرون فيه عنصر التهدئة الضروري للأزمات.
س: … ولكنه لم يستمر في قيادة الحزب. ويبدو أنه في عام 1947 حصل بعض النفور بينه وبين الأستاذ صلاح الدين البيطار، هل لديك معلومات حول هذا الموضوع؟…
ج: … طبعاً السبب أن د. مدحت البيطار، بما له من رصيد سياسي سابق، كان يظنّ أنه سيكون مرشحاً للحزب في الانتخابات النيابية (التي كانت ستجري عام 1947). غير أن حزب البعث كان قد مال إلى اختيار مرشحه في شخص الأستاذ صلاح الدين البيطار. ذلك أن الأستاذ صلاح الدين البيطار كان يملك من الوزن الشخصي ما يستطيـع أن يبرز بين الحزبيين وحتى على مستوى الأحزاب الأخرى، أكثر من د.مدحت البيطار. كان الأستاذ صلاح الدين البيطار يبرز أكثر ثقافة، أكثر وعياً، أوضح عقلاً، إلخ… في حين أن الآخر، على الرُّغم من اتِّصافه بكثير من هذه الصفات، ولكن كان لا يملكها إلى هذه الدرجة نفسها. وثانياً، لا يفرض نفسه بها. بمعنى آخر، أنه لم يكن شديد الاعتداد بشخصيته، ولم يكن ينظر إلى نفسه كقائد سياسي. وأيضاً لم يتحمل في الواقع مسؤوليات قيادية إلاّّ في الزمن الأوَّل، في البدايات الأولى من تأسيس حركة البعث. والسبب في ذلك أنه كان مثقلاً بهموم عائلية، كانت تضطره إلى العمل خارج القطر السوري، فيذهب بصورة خاصـة إلى الكويت ويغيب مدة من الزمن هناك. هذا الغياب الطويل الذي سببه في الدرجة الأولى مادّي، كان يغيِّبه عن ساحة الحزب، وبالتالي فإن الذي استمر وبقي كان يستفيد أكثر بطبيعة الحال. الأستاذ صلاح الدين البيطار كان دائماً وباستمرار موجوداً… من هنا، خسر د.مدحت البيطار نوعاً ما.
س: … ثقافة مدحت البيطار السياسية، كيف تقيِّمها؟! وهل كان يقرأ؟…
ج: كان يقرأ قليلاً، على الرّغم من أنه كان عنده مكتبة جيّدة، ممّا يعني حبَّه للاطلاع، ولوجود لديه هذه المكتبـة القِّيمة كان ينبغي أن يفرض نفسـه (على الحزب وعلى البعثيين على حدٍّ سواء). ومع ذلك، أنا أظنّ بأن كثرة أصدقائه الفُرادى المختلفيـن، كثرة قيامه بواجباته الطبيَّـة تجاههم لخدمتهم للتداوي هنا وهناك، إلخ… كل هذا كان يصرفه بالتالي عن الاهتمام في الثقافة. وأظنّ أن المكتبة التي اشتراها وهي مكتبة غنيَّة، اشتراها عندما كان سفيراً، حيث غاب عن المسرح السياسـي الفعلي وغاب أيضاً عن المسرح الدمشقي حيث كان له كثير من الأصدقاء. وأرى أنه في ذلك الحين، انتبه إلى حدٍّ ما وأسس مكتبة محترمة…
س: … لماذا كان يعمل كطبيب في محافظة حوران وليس في دمشق، ألم يكن دمشقياً؟!…
ج: … نعم، هو دمشقي طبعاً. وكان يعمل كطبيب في حوران، لأنه كان موظفاً لدى الحكومة، كان موظفاً في "هيئة الإغاثة"، واستلم رئاسة مصلحة الأطباء في "هيئة الإغاثة". ولمدة معيَّنة. من هنا كان يعمل هناك في حوران كطبيب وكموظف. رحمه الله، وإنني أتأسف عليه من كل قلبي……