الشرق العربي - البعث الذكرى الحادية والأربعين للتجربة المرة
صحيفة الشرق العربي
تقرير خاص
البعث
الذكرى الحادية والأربعين
للتجربة المرة
(التجربة المرة) عنوان ليس من اختراعنا. وإنما هو العنوان الذي عبر به أمين عام سابق للحزب هو السيد منيف الرزاز عن تجربته، وحسبك. كان للسيد منيف الرزاز مرارته الحزبية والوطنية والقومية.
ومن جهة أخرى كان للوطن مراراته.. كما كانت للمواطن الفرد والمجموع.
مرارات منيف الرزاز جوانية داخلية وهي بذلك ذات نكهة أقرب ما تكون لنكهة البوح والشهادة والإقرار.. بينما التعبير عن مرارات الآخرين أقرب إلى الشكوى والتثريب، ولا بأس من كلا السياقين إذا كان المقصود بالنهاية الولوج إلى عالم أفضل للإصلاح.
ـ تمهيد:
ليس لنا في سياق ذكرى تأسيس البعث إلا أن نقر بأن حزب البعث كان بعد تأسيسه جزءاً من النسيج السياسي السوري. وكانت له منطلقاته وطروحاته وأفكاره وأهدافه، التي يحق لنا أن نتفق أو نختلف معها، مع الاعتراف لأصحابها بحقهم في الطرح وحريتهم في الحوار..
كان رواد البعث من أكثر الناس مطالبة بالحرية والديمقراطية ولكن ما إن آل أمر السلطة إليهم حتى وأدوا الحرية والديمقراطية في قطرنا، وتواصوا بذلك طبقاً بعد طبق.
انبثقت فكرة تأسيس الحزب في ذهن شابين كانا يدرسان في فرنسا صلاح البيطار وميشيل عفلق، متأثرين إلى حد بعيد بطروحات عصر النهضة الفرنسي وانضم إلى الشابين ثالث طامح للزعامة هو السيد أكرم الحوراني بمجموعته (العربي الاشتراكي). يقال بأن عنوان البعث كان أصلاً من وضع مفكر رابع هو زكي الأرسوزي وأن كلاً من عفلق والبيطار سطا على جهده وسرق التسمية منه.
لفترة بقي حزب البعث بلا مضمون عقائدي حقيقي سوى بضع كتابات لعفلق أو محاضرات للبيطار، أو سياسات للحوراني حتى اعتمدت (الاشتراكية العلمية) مضموناً عقائدياً للبعث العربي بعد أن انتزعت من إطارها الأممي وغرست في إطار قومي. وظل البعث فترة يحتفل بحميمية بميلاد لينين على مستوى الدولة والحزب. ولم تتوقف هذه الظاهرة حتى 16 تشرين ثاني 1970. حيث بدأت ملامح المادية الماركسية تتلاشى من الطروحات الرسمية، وإن بقيت مسيطرة على صعيد الفكر والثقافة، وظل البعثيون يقدمون أنفسهم على أنهم (تقدميون يساريون) والخلاف بين البعثي والشيوعي لم يكن على الفلسفة أو الفكرة بقدر ما كان على السلطة والموقع. مؤسسو البعث الثلاثة /البيطار وعفلق والحوراني/ حكم عليهم بالردة فيما بعد، وأقصوا عن الحزب.
البعث (1)
منهجية
الاستئصال .. والإقصاء.. وكسر العظم
لا ندري إذا كان مثقف بعثي أصيل، غير مستلحق، سيقبل في مراجعة ذاتية أن يعترف على أن منهجية الاستئصال والإقصاء وكسر العظم كانت بنيوية في تركيب الذات البعثية، وفي وسائل تعاطيها مع (الأخر)، والآخر هنا كما سنبين بعد قليل في أضيق دوائره، وفي معناه الفلسفي المجرد، ولا نقصد الآخر: السياسي أو الفكري أو العقائدي، الذي شملته هذه السياسات بشكل أعنف أعمق.
منهجية الاستئصال للمخالف أو إقصاؤه بعد كسر عظمه حرمت الحزب من جسور التواصل، وسدت آفاق الحوار، وجففت ينابيع النصيحة، وأطلقت العنان لمنهجية (الاستتباع) و(المحسوبية) ومن ثم تراكمية الفساد.
سنتحدث عن التجربة الحزبية في إطارها الحزبي، لن نمر أبداً على الطريقة التي عامل بها الرفاق مخالفيهم من الإخوان المسلمين، والليبراليين، والشيوعيين الذين خرجوا عن إرادتهم.
في الأيام الأولى لانقلاب الثامن من آذار سنة 1963 الذي تم الإعلان عنه بذريعة إحياء مشروع الوحدة والذي توافق فيه البعثيون مع مجموعة كبيرة من الضباط الوحدويين كان ثمة حوار داخلي، بإمكانك أن تسميه صراعاً. ثم حسم الصراع في 18 تموز من العام نفسه.
انتصر البعث على الآخر الحليف، كانت الانقلابات، قبل اليوم، في سورية على كثرتها انقلابات بيضاء.. يحرص ضباط الجيش الذين مردوا على هذه اللعبة، فهم بين غالب ومغلوب، أن يحقنوا دماء بعضهم مع توفير حد من الكرامة والاحترام.
ولكن الذي حصل في الثامن عشر من تموز سنة 1963 كان مغايراً، كانت ثمة مجزرة بعثية حقيقية بكل أبعاد الكلمة.. كان ضحاياها نخبة من زهرة شباب الوطن وقياداته العسكرية. وأثبت حزب البعث عجزه عن إدارة حوار مع حليف هذه واحدة، وعن العفو والتسامح عند المقدرة وهذه الثانية.
ثم كان الصراع (البعثي ـ البعثي) لا يقل ضراوة عن الصراع مع بقية القوى السياسية والاجتماعية. فقُتل صلاح البيطار غيلة في باريس، ومحمد عمران في لبنان، وأُعدم سليم حاطوم بعد أن وضع على خازوق، وكذا بدر جمعة، وقيل إن عبد الكريم الجندي قد انتحر وكذا زوجته. وسجن صلاح جديد مدى الحياة، ولم يخرج نور الدين الأتاسي من السجن إلا وقد أشرف على الموت، وهو رئيس جمهورية سابق. وسجن يوسف زعين، وهو رئيس وزراء سابق، قرابة عشرين عاماً، كما سجن أعضاء القيادة القومية الذين اعتقلوا في تشرين ثاني 1970 ومنهم عرب غير سوريين قرابة عشرين عاماً أيضاً، وطورد الكثير من البعثيين خارج إطار الوطن فعاش ميشيل عفلق وأكرم الحوراني طريدين، وكذا أمين الحافظ، رئيس جمهورية سابق، وشبلي العيسمي وإبراهيم ماخوس، ثم في حلقة أخرى من حلقات الصراع نفي رفعت الأسد وهو شقيق الرئيس الراحل خارج القطر، ولم يسمح له بالعودة للمشاركة في تشييع أخيه، وقيل عن رئيس وزراء سابق اتهم بالفساد أنه انتحر.
هذه شواهد نمر عليها عفو الذاكرة، دون متابعة ولا استقصاء لنوضح كيف اختفت سياسات الحوار بين الرفاق أنفسهم المتفقين على (المنطلقات) و(الأهداف)، وكيف أنهم عجزوا لسبب أو لآخر أن يديروا عملية حوار حضاري تصون قدرات الحزب وطاقاته، وتضعه على مدرجة الاصطفاء النخبوي لتعزيز قوة أصحاب المبادئ فيه، وعزل أصحاب المصالح وحراسها.
في كل هزة غربال، كان ينزوي نفر من مفكري الحزب وقياداته التاريخية على مستويات مختلفة ليفسحوا المجال إلى العناصر العالقة التي لم تر في الحزب (الحاكم) إلا عربة جاهزة لبلوغ الأهداف الشخصية..
في المراحل النضالية الأولى، ويوم وصل الحزب إلى السلطة كان تعداد الأعضاء العاملين ألفاً أو يزيدون. يوم وقف رئيس الجمهورية أمين الحافظ ليردد على مسامع الشعب السوري..
تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل
يقال اليوم إن الحزب قد أصبح حزباً مليونياً.. !!
فإذا كان الحزب أو قادته أو المتغلبون فيه، قد عجزوا عن تنظيم عملية حوار داخلي فيه، وقد عجزوا عن إدارة الشأن الحزبي بالأسلوب (الديمقراطي) المعتمد على رأي الأكثرية الحزبية، فأنى لهذه المجموعة من الناس أن تنظم حواراً مجتمعياً أو حواراً سياسياً.. وهي لم تعرف في إطرها الداخلية إلا سياسات الاستئصال والإقصاء وكسر العظم ؟!
هذه حقيقة لا يجوز أن تغيب عن ذهن أي متابع للشأن الحزبي الداخلي، هذه السياسات التي لم يعرف الحزب حتى على مستواه الداخلي غيرها، فصفيت قياداته وغيبت في الزنازين أو شردت وراء الآفاق هي التي خدت الأخاديد على وجه الوطن وأفقدته وحدته وقوته على السواء.
إن أي مراجعة حزبية لا تعترف بهذه الحقيقة ولا تتوقف طويلاً عندها لتتساءل: ماذا فعلنا برفاقنا ؟ ومن ثم ومن باب أولى ماذا فعلنا بشعبنا ستكون مراجعة ليست بذات بال.
(2)
الأهداف
الوحدة .. الحرية .. الاشتراكية
وتقرير التنمية العربية
في سياق آخر من سياقات استجلاء تجربة البعث المرة. لابد للمرء أن ينسب ما تحقق من أهداف البعث إلى الزمن المتاح (واحد وأربعين عاماً) وهي الفترة التي انفرد بها البعث بالسلطة ومايزال.. بالتحقيق ستقودنا نسب الإنجاز إلى نتائج عكسية.
تحولت (الوحدة العربية) التي جاء انقلاب الثامن من آذار ليرفو جرحها الساخن إلى حديث خرافة، تصم صاحبها بالطوباوية أو السذاجة. وتواضع الناس من الحديث عن الوحدة العربية إلى الحديث عن الوحدة الوطنية التي خد البعث في أديمها الأخاديد. لا نريد أن نتوقف كثيراً عند السبب الذي جعل أميناً عاماً للحزب مثل منيف الرزاز يطلق على حزب قومي عربي هو حزب البعث العربي الاشتراكي اسم (حزب الطوائف!!). فلقد تفنن البعث في اختراع تسميات التجزيء، ففرز الناس إلى: تقدمي ورجعي. وأسس لمشروع الحقد الطبقي، واعتبر الحقد المجتمعي مقدساً.إذا ذُكر التجار في أدبيات البعث فيجب أن يشار إليهم بـ(صغار الكسبة والحرفيين)، لأن الكبار كانوا خارج القوس البعثي. وإذا ذكر المثقفون وجب أن يقيد الذكر بـ(المثقفين الثوريين) لأن الآخرين يجب أن يلقوا في زوايا الإهمال.
حتى على الصعيد الحزبي نفسه مُيز البعثيون إلى يمينيين ويساريين، وادعى كل فريق لنفسه لقب اليسار وتمدح به.
تبخر مشروع الوحدة ليتحول من خطة واقعة إلى أمل ثم إلى حلم ثم تحولت المطالبة بالوحدة العربية إلى الحديث عن تضامن عربي ومحاور عربية في سياق يمزق الكبد ويدمي الفؤاد.
أما الحرية فقد غدا سقفها في عهد البعث أرضاً، وصودرت آفاقها ليس على المستوى السياسي وحده وإنما على المستوى الثقافي والاقتصادي والاجتماعي.
هل يستطيع أي مثقف بعثي أن يفسر في مجتمع يموج بالتعدديات والإثنيات معنى عبارة (لا حرية لأعداء الشعب). ثم من هي الجهة المخولة بفرز الناس إلى أعداء الشعب وأوليائه ؟!
شكلت المادة الثامنة من الدستور صورة من صور الانتداب، ووضعت الحزب في مقام المندوب السامي، حيث اعتبرت فريقاً من المواطنين أوصياء على الآخرين، بما صار في أيديهم من أدوات القوة والإكراه في غفلة من عين إنسان الوطن ؟!
مشروع الحرية البعثي مع إصرار البعثيين على ترداد لفظها في أهدافهم يضعهم أمام ثنائية مخجلة بين الشعار والتطبيق.
أما الاشتراكية، التي فهمت عند الكثيرين وبعيداً عن الأبعاد الفلسفية أو العلمية، على أنها توزيع أكثر عدلاً للثروة الوطنية، فتمثل كوميديا من نوع آخر. البعث مايزال يردد الاشتراكية شعاراً حتى وهو يسعى للانخراط في الشراكة الأوروبية، ويلح على فتح الأبواب أمام الشركات المتعددة الجنسية خاطباً ودها !!
أي مواطن سوري قادر على أن يرصد من موقعه حجم المعاناة اليومية للإنسان وتفاقم هذه المعاناة، يستطيع أن يرصد توسع قاعدة الفئة المجتمعية تحت خط الفقر، وتبخر الطبقة الوسطى التي كانت سواد المجتمع السوري. اعتراف رئيس الجمهورية بشار الأسد بالخلل الكبير في السياسات الاقتصادية في خطاب القسم كان صارخاً.
ثم هل يحق لنا أن نتساءل عن حظ سورية من تقريري التنمية العربية ؟! هذان التقريران اللذان أشارا إلى حالة في العالم العربي تثير الإشفاق والازدراء.. إلى أين أوصلتنا قيادة البعث خلال أربعين عاماً ؟! من الذي جعل شعبنا أو شعوبنا مضرب المثل العالمي في التخلف والمهانة والفقر والانحطاط ؟! عندما يخاطبنا توماس فريدمان (هذا واقعكم يا عرب فماذا أنتم فاعلون) فإنه يطعن الضمير الحضاري لإنسان هذه الأمة مهما كانت رؤيته وانتماؤه. فهل نستطيع أن نعتذر للآخرين بأثر البعث فينا ؟!
نحن نؤمن أن الاعتزاز بالانتماء هو صلب الهوية الحضارية ولكنك تفجع حين ترى كثيرين من أبناء وطنك في مهاجرهم يسرون إليك أنهم يشعرون بالخجل من هذا الانتماء.
نؤكد هذا الكلام ليس للتثريب وإنما هو للشكوى لنفتح العين على الحقيقة للاعتراف بالجريرة، ومن ثم فتح الآفاق للإصلاح الحقيقي الذي يعتبر الشراكة الوطنية نقطة الانطلاق.
(3)
البعث
وإنجاز الجولان
هل يمكن لمواطن أن يتناسى أن حزب البعث هو الذي أضاع الجولان، هو الذي أشعل نار حرب بلا استعداد،ودق طبولها وحرض عليها ثم خرج بعد الهزيمة مزهواً بمنطق أننا قد انتصرنا لأننا بقينا !!
لماذا لا تزال أسرار سقوط الجولان غائبة عن الدرس والاعتبار؟! عضو قيادة قومية معتبر، قضى في السجون السورية قرابة عشرين عاماً، يؤكد أن ما حدث في تشرين ثاني 1970 كان بسبب مطالبة القيادة القومية يومها بتقرير مفصل يشرح ويفصل أسرار النكسة وأبعادها.
لم تكن مأساة حزيران في ضياع جزء عزيز من أرض الوطن فحسب، وإنما في نقل الأمة أجمع من المطالبة بفلسطين، كل فلسطين، إلى المطالبة بهذه الأجزاء التي انتزعت بتلك السهولة لتجعل سيناء والجولان والضفة الغربية ثمناً لأرضنا الأولى في فلسطين أليس هذا هو فقه السلام الذي ذهب على أساسه البعث إلى مدريد (الأرض مقابل السلام) ؟ حيث قبل البعث أن يدفع جزءاً من أرضنا ثمناً لجزء آخر سبق أن اغتصب منا في معادلة مريبة ماتزال الأمة أجمع بحاجة إلى من يفك طلاسمها ويعبر عن رموزها !!
(4)
بين البعثيـن
وفي جناح الأمة الشرقي حكم البعثان (السوري ـ العراقي) أربعين عاماً. كان العداء بينهما على الطريقة الإقصائية ذاتها التي لا تقبل الآخر ولا تطيقه حتى ولو كان رفيقاً يستند إلى نفس المنطلقات، ويتطلع إلى نفس الأهداف. وعلى الرغم من التدابر الكامل إلا أن التماثل في سياسات البعثين كان قائماً على أساس قطع الجسور مع الشعب وقواه المدنية والسياسية، وفرض الوصاية على المجتمع، وتمزيق الوحدة الوطنية تحت عنوانها المضيء بممارسات وسياسات تقوم على الاستئصال والإقصاء.
ثمة أمران أساسيان ربطا بين البعثين ربطاً وثيقاً هما: صناعة الهزائم المخزية كما في الخامس من حزيران وحرب الخليج الثانية أو في الواقعة المروعة في سقوط بغداد. والمقابر الجماعية التي ملأت الرحب في البصرة وحلبجة أو في حماة وتدمر.
(5)
القانون 49
كان القانون /49/ لسنة 1980 الذي يحكم بالإعدام على جميع منتسبي جماعة الإخوان المسلمين في سورية ـ جماعة دعوية سياسية لها مرتسمها الواضح في بنية الشعب السوري، والذي نفذ بأثر رجعي على بضعة عشر ألفاً من أبناء هذه الجماعة وأنصارها، وكانت محاكمة الواحد منهم أحياناً لا تزيد على الثلاثين ثانية.
استدرنا بالسؤال لبعض قيادات هذه الجماعة، هل يمكن أن تعاملوا البعثيين إذا مكنتم كما مكنوا بالمثل ؟
أجابوا: إن التيار القومي يعبر عن حالة سياسية وفكرية ومجتمعية قائمة، وحزب البعث أحد روافد هذا التيار. إن التفكير باستئصال حالات كهذه هي محض الغباء..
هذه بعض ملامح البعث في مرآة الآخر من غير تتبع ولا استقصاء.. ربما يحق للبعثي أن يدافع عن نفسه ولكن الواقع الذي يحيط به يحرجه عند الجواب. ليس من الغريب أن ننقل في هذا السياق عن قيادي بعثي كبير قوله: كلما تأملت تجربتي الذاتية في إطارها الحزبي والوطني قلت: يا ليتني كنت تراباً.
8 / 4 / 2004