النهار ـ ماذا بعد تفريغ المنطقة من المسيحيين ؟! بقلم عبد الحسين شعبان
ماذا بعد تفريغ المنطقة من المسيحيين ؟!
بقلم عبد الحسين شعبان
بدعوة من البابا بينيديكتوس السادس عشر انعقد في الفاتيكان ما بين العاشر والرابع والعشرين من شهر تشرين الأول 2020 مؤتمراً للأساقفة كان عنوانه الأساسي نزوح (هجرة) المسيحيين من الشرق الأوسط، ولعل هذا العنوان يوحي بالكثير من الإشكاليات والتداعيات وبالأخص في إطار العلاقات التاريخية المسيحية – الإسلامية، لاسيما بعد تنامي معدلات الهجرة المسيحية وانخفاض أعداد المسيحيين في الدول العربية المشرقية، والتي قد تبدو للوهلة الأولى وكأن صراعاً خفياً "مسيحياً - إسلامياً" قد دار وما زال يدور في منطقتنا، وربما يتوافق ذلك مع الدعوات التي راجت في سنوات ما بعد انتهاء الحرب الباردة وتحول الصراع الإيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية، إلى شكل آخر يتخذ من الإسلام عدواً أو خصماً عنيداً للحضارة الغربية (المسيحية الطابع)، حسب تخطيطات بعض الاتجاهات المتعصبة والمتطرفة في الغرب.
كان لأحداث 11 أيلول 2001 الارهابية - الاجرامية التي شهدتها الولايات المتحدة أثرها الكبير في إذكاء نار العداوة والكراهية لا للارهابيين والمرتكبين فحسب، وإنما شملت ايضا الإسلام كدين وأتباع وجغرافيا وحضارة وهوية، لاسيما من يمت منهم إلى العرب والعروبة بصلة. كما راجت نظريات تدعو إلى نهاية التاريخ ونزع الإيديولوجيا (العقيدة) تبناها كل من فرنسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون الذي عد الصراع حتمياً بين الحضارات والثقافات، وهو ما حاول بيان المثقفين الستين الأميركيين أن يبرره بلهجة هي أقرب إلى البلاغ العسكري منها إلى النداء الثقافي، بالرغم مما تضمنه من دعوة إلى الحوار، وهو الأمر الإيجابي الذي قد يلتقي معه مثقفون عرب مسيحيون ومسلمون وغيرهم من مواطني دول المنطقة.
لقد شهدت بلداننا العربية المشرقية خلال العقود الأخيرة تزايداً كبيراً في هجرة المسيحيين منها، لاسيما في فلسطين المحتلة، والعراق بعد الاحتلال والانفلات اللا محدود للعنف فيه الذي طاول البلاد والعباد واتسم بتفجير الكنائس وقتل المسيحيين على الهوية وخطفهم مقابل دفع الجزية، إلى غير ذلك من مظاهر التشدد والتطرف والغلو، سواء باسم "الإسلام السياسي" وبعض الطائفيين أو غيرهم ممن تضيق صدورهم إزاء ظاهرة التنوع الثقافي والتعددية الدينية والآخر المختلف، بعيداً عن تعاليم الدين الإسلامي السمحة والقيم التي جاء بها القرآن الكريم والسيرة المحمدية.
كما كان للظروف الاقتصادية والمعيشية العسيرة وبعض الممارسات التمييزية دور في اتساع رقعة الهجرة والنزوح، لاسيما إثر تعاظم الشعور بالاغتراب في ظل أوضاع سياسية قاهرة وأوضاع اجتماعية متزمتة بعيدة عن أجواء الحرية والمساواة والعدالة، وفي ظل بعض مظاهر القمع والتضييق على العمل العام والنشاط السياسي والمهني والمدني.
والجدير بالذكر، أن هجرة المسيحيين لم تقتصر على طائفة دون غيرها بل شملت مجمل طوائفهم المختلفة من كاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت وغيرهم، مما حدا بمؤتمر الأساقفة المنعقد في الفاتيكان الى التوقف عند التحديات التي تواجه المسيحية المشرقية بشكل عام لاسيما بعد أن اتخذت هذه الهجرة طابع الظاهرة المستشرية، فقد انخفض تعداد المسيحيين انخفاضاً كبيراً، فبعدما كانوا قبل قرن من الزمان يشكلون نحو عشرين في المئة من سكان المنطقة بات عددهم اليوم لا يزيد عن خمسة في المئة ومازالت النسبة مرشحة للتناقص السريع، إذا استمرت ظاهرة الهجرة هذه، وبالتالي فإن هذا الأمر سيؤدي إلى إفراغ الشرق الأوسط من المسيحيين - على حد تعبير سمير خليل سمير ــ وهو قس يسوعي مصري مقيم في بيروت، ساهم في التحضير والإعداد لمؤتمر الأساقفة المذكور.
قد يرى بعضهم أن مثل هذا الافتراض غير واقعي، لكن ومن خلال مراجعة الجداول الإحصائية نرى أن نسبة المسيحيين في تركيا مثلاً كانت في أوائل القرن الماضي عشرين في المائة (في ظل الخلافة العثمانية – الإسلامية) لتصل هذه النسبة حالياً إلى 0.2 في المائة. وانخفض عدد المسيحيين في العراق منذ احتلاله العام 2003 إلى معدل النصف نتيجة استهدافهم في ظل الإرهاب والأوضاع الأمنية المنفلتة.
أما في فلسطين فقد تراجع عدد المسيحيين من ستمئة ألف نسمة إلى نحو خمسين ألف نسمة (يوجد سبعة وأربعون ألفاً منهم في الضفة الغربية وثلاثة آلاف في قطاع غزة، وهم يشكلون اليوم زهاء 1.25 في المئة من سكان الأراضي المحتلة بعد العام 1967، والبالغ إجمالي عددهم نحو أربعة ملايين نسمة) كما انحسر عدد المسيحيين في القدس بسبب الضغوط الصهيونية التي عملت على تهجيرهم وإجلائهم ونزع الجنسية عنهم، فبعد أن كانوا نحو خمسة وأربعين ألفاً في مطلع الأربعينات من القرن الماضي لم يبق منهم اليوم سوى أقل من خمسة آلاف.
عملت إسرائيل، ومنذ قيامها، على تهجير المسيحيين وفصلهم عن المسلمين، بهدف تفريغ فلسطين المحتلة منهم بزعم أن الصراع القائم ليس إلا صراعاً دينياً بين اليهود والمسلمين، في محاولة لطمس حقيقة الصراع الذي يتخذ طابعاً كيانياً حقوقياً وطنياً بين شعب احتلت أراضيه (مسلمون، مسيحيون، ودروز ومن كان فيها من اليهود) وبين مغتصب ومستعمر استيطاني إجلائي، وبزعم إسرائيلي بسماوية الصراع، وإنْ كان يتعلق بأرض الله الموعودة لشعب الله المختار، وبالتالي فطابعه الصهيوني هو طابع إلغائي، إقصائي، تناحري لا مجال فيه لحل سلمي، ولا يمكن حله إلا بالقضاء على الطرف الآخر من خلال تهجيره وإجلائه، لإحلال المستوطنين الجدد محله.
ومن هنا ليس مستغرباً بعد اثنين وستين عاماً على قيام دولة إسرائيل في 15 أيار 1948 إثر صدور قرار التقسيم عن الأمم المتحدة أن تطرح مشروع قانون عنصري للجنسية، يستهدف المواطنين العرب من المسلمين والمسيحيين على السواء، وخصوصاً اشتراط أداء قسم الولاء لدولة "إسرائيل اليهودية الديموقراطية" (النقية)، مما يعني عملياً استثناء حوالي عشرين في المئة من الفلسطينيين أهل البلاد الأصليين من قانون الجنسية في إجراء تمييزي استعلائي غير مسبوق.
وقد حاولت إسرائيل التستر على فظائعها المرتكبة في المنطقة لاسيما خلال اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية والتي عملت على تغذيتها بادعائها أن بؤرة الصراع في الشرق الأوسط لم تكن الصهيونية ودولة إسرائيل بدليل أن الحرب العراقية – الإيرانية والتي استمرت ثماني سنوات بالكمال والتمام، كانت حرباً طائفية إسلامية – إسلامية بين عراق "سنّي" و إيران "شيعية" ولم تكن إسرائيل طرفاً فيها، ومن ثم وعلى إثر الغزو الذي قامت به القوات العراقية للكويت العام 1990 قالت إسرائيل إن الحرب عربية – عربية، لاسيما بعد مشاركة القوات العربية قوات التحالف في عملية تحرير الكويت وشن الحرب على العراق في ما بعد، وكانت إسرائيل أكثر الدول غبطة عند فرض مجلس الأمن الدولي الحصار على العراق، والأكثر انتشاء عند إقدام بول بريمر على حل الجيش العراقي وتفكيك ماكينة الدولة وإضعاف الوحدة العراقية، وتمهيد السبيل للطائفية السياسية.
ومن تداعيات الوضع العراقي إثر الحرب العراقية – الإيرانية والحصار الدولي وفرض العقوبات عليه ازدياد معدلات هجرة المسيحيين، ولكن سنوات الاحتلال كانت الأكثر قسوة والأكثر هجرة حيث أدّت إلى تهجير نصف المسيحيين تقريباً ونزوح أعداد أخرى من البصرة وبغداد والموصل وكركوك وغيرها إلى شمال العراق (كردستان) طلباً للأمان ريثما يتم انتقالهم إلى المنافي البعيدة، كما اكتظت دول الجوار (سوريا والأردن ولبنان) بعشرات الآلاف من المسيحيين العراقيين الذين اضطروا لمغادرة الوطن حفاظاً على أرواحهم، في انتظار أدوارهم للهجرة، لاسيما بعد استهدافهم من قبل الجماعات الإرهابية المتطرفة في ظل الانقسام والتشظي الحاصل في البلاد، علماً بأنهم ليسوا طرفاً في الصراع السياسي الهادف للوصول الى السلطة ومراكز النفوذ والقرار. ولكن استهدافهم جاء في إطار خطة الاستهداف العام وفي سبيل تفريغ العراق من مسيحييه الذين قدموا للعراق وللأمة العربية على مدى تاريخهم خدمات جليلة، على جميع الصُعد الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والأدبية والفنية والتاريخية والقانونية والعلمية.
لقد جعل الإرهاب من المسيحيين هدفاً سهلاً، وضحايا جاهزين لفرض نمط سياسي وديني واجتماعي معيّن، في إطار صراع أصولي ـــ طائفي ومذهبي وإثني، فغالباً ما كان يُشكك في أصولهم وولائهم وانتماءاتهم الوطنية، وينسى هؤلاء المشككون أن مسيحيي الشرق هم أهل الشرق، والمسيحية موجودة في منطقتنا قبل الإسلام، وأن السيد المسيح شرقي بتراثه وليس غربياً، فالمسيحيون ليسوا طارئين أو مهاجرين جاءوا ليستقروا في هذه البلاد. إنهم ليسوا رعايا، بل هم مواطنون لهم الحقوق وعليهم الواجبات ذاتها التي على الآخرين. وإذا افترضنا حقوقاً للمواطنة، فينبغي أن تقوم على أساس المساواة وعدم التمييز بسبب الدين أو العرق أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي أو غير ذلك.
نحن نتفهم معنى اضطرار المسيحيين للهجرة من إسرائيل تحت ضغوط السياسة العنصرية الاستعلائية الإجلائية الإسرائيلية، لكن ما يحدث في البلاد العربية والمشرقية من تهجير للمسيحيين ما هو إلا رسالة سلبية للعالم أجمع تؤكد أن مجتمعاتنا تضيق بالتنوعات الثقافية والاختلافات الدينية، لاسيما لغير المسلمين، ولعل ذلك سيكلف المسلمين أثماناً باهظةً قبل غيرهم، فهو خسارة للطاقات والكفاءات وتفريغ للبلاد من أهلها الأصليين الذين يشكلون جزءًا أساسياً ومهما من حضارتنا وتاريخ مجتمعاتنا وشعوبنا، ولا يمكن تصور بلدان عربية ومشرقية دون وجود مسيحي مؤثر في المشهد العام.
إذا كانت فلسطين المحتلة تشهد هجرة واسعة النطاق، والعراق بعد الاحتلال شهد إرهابا أعمى اضطر معه المسيحيون إلى الرحيل، فإن المسيحية العربية في سوريا شهدت تراجعاً من 16.5 في المئة في العقود الثلاثة الأخيرة إلى نحو 10 في المئة، وأن نحو سبعمئة ألف مسيحي لبناني هاجروا بعد اتفاق الطائف لتعاظم الشعور بالاغتراب، وأن الكثير من شباب الأقباط في مصر همّهم الرئيس الهجرة، الأمر الذي يدعو إلى وقفة تأمل في أسس المواطنة، ولاسيما مبادئ المساواة والعدالة والحرية، تلك التي تشكل جوهر الفكرة الإنسانية في الهوية والانتماء.
وبالقدر الذي تُحمى فيه الهويات الفرعية وتُصان حقوقها، فإن ذلك سيمثل دعماً وقوة للهوية الوطنية الجامعة، الوعاء الحاضن لكل الهويات الفرعية بكل تشكيلاتها، في إطار مواطنة موحدة تقدم الحقوق الإنسانية على أي اعتبار آخر، ولعل ذلك ما حاول البابا بينيديكتوس السادس عشر التنبيه إليه، في إطار التنديد بالإرهاب الديني في افتتاح أعمال السينودس حول الشرق الأوسط، الذي عقد في الفاتيكان في شهر تشرين الأول 2010 وخرج بتوصيات للكنائس في الشرق الأوسط تدعوها للانفتاح على الكنائس والديانات الأخرى وتبسيط طقوسها القديمة والتوسع في استخدام اللغة العربية عند تأدية شعائرها، وذلك في إطار خطة إصلاحية بدأها الفاتيكان نفسه منذ ستينات القرن الماضي.
إنه ناقوس خطر يقرع وعلينا التفكّر في صوته وصداه، فلقد شكّل المسيحيون في الشرق الأوسط طوال أكثر من أربعة عشر قرناً من الحضور الإسلامي جزءًا مؤثراً في النسيج الاجتماعي والثقافي، لذلك فإن استهدافهم اليوم هو جزء من استهداف المنطقة ككل، بما فيها من مسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم من أتباع الديانات السماوية، من جانب القوى المتنفّذة والقوى الإرهابية والمتطرفة والمتعصبة، خصوصاً تلك التي تريد تصوير النزاع على أنه صراع ديني سماوي، وليس أرضياً حقوقياً، كما هو واقع الحال، إذ إن تفريغ المنطقة من أحد مكوناتها الأساسية، وأعني بذلك المسيحيين، سيجعل الصراع في نظر الكثيرين إسلامياً ــ يهودياً وهو ما تريده الصهيونية وتسعى إليه من محاولات.
شخصياً لا أنظر الى المسيحيين كأقلية، وأشعر بقدر من الانزعاج عند استخدام مصطلح "الأقلية" على المكوّن الثقافي المسيحي أو غيره قومياً كان أم دينياً، على الرغم من أن الأمم المتحدة جاءت على ذكر حقوق الأقليات في إعلان صدر عنها في العام 1992، لكنني أميل الى استخدام مصطلح "التنوّع الثقافي"، سواء كان غالبية أم أقلية، لأن لها خصوصية، وتميّزاً وتاريخاً وعادات وطقوساً مختلفة. وقد يكون مناسباً استخدام مصطلح الاقلية والأكثرية في المعادلات السياسية وفي نتائج الانتخابات النيابية أو غيرها، أمّا بخصوص القوميات والاثنيات والأديان، فأجد أن استخدام مصطلح التنوّع والتعددية أقرب عندي من غيره للتعبير عن الحالة لأنه دليل على المساواة.
لذلك فإني أرى أن مهمة الحفاظ على الوجود المسيحي وصون حقوق المسيحيين في دولنا العربية والإسلامية باعتماد مبادئ الدولة العصرية التي تقوم على المساواة وعدم التمييز واحترام الحقوق الإنسانية هي في الدرجة الأولى مسؤولية إسلامية وعربية وطنية قبل أن تكون مسؤولية مسيحية ودولية، خصوصاً أن الإسلام يعترف بالمسيحية كرسالة سماوية ويؤمن بالإنجيل ككتاب مقدس، في إطار المشترك الإنساني – الإيماني الذي يجمع الديانتين.
( كاتب عراقي)