سلّوم الدحداح - الدكتور مصطفى دندشلي
مقابلة مع
الأستاذ سلّوم الدحداح
التاريخ: 7 تمّوز 1984 – صيدا
الموضوع: جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا
من خلال التجربة الذاتية(*)
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
***
د. مصطفى دندشلي: أستاذ دحداح، أودّ أن تعطيني صورة عن تجربتك في التعليم والتدريس في ثانوية المقاصد: في أيّ سنة ابتدأت التدريس في المقاصد، ومن هم الزملاء، والمواد التي كنت تدرسها، وكيف كانت علاقتك بالطلاب وبالأساتذة الزملاء بالجمعية؟....
الأستاذ سلّوم الدحداج: ابتدأت التدريس بالمقاصد سنة 1951 – 1952. وكنت أعلّم حتى الصفوف النهائية، أعطي مادة الكيمياء. بقيت أدرِّس هذه المادة فقط لمدة سنتَيْن (2)، بعد ذلك اتصلوا (أي الإدارة) بي وطلبوا مني أن أدرِّس مادة رياضيات في الوقت نفسه. طبعاً أخذت مادة الرياضيات في الصفوف التكميلية، لأنه كان موجوداً أستاذ رياضيات ثانوي، وهو الأستاذ باخوس، إلى أن ألحّوا عليَّ أن أدرّس الصف الثانوي. درَّست صف البكالوريا، وبقيَ معي لمدة معيَّنة بعض الصفوف التكميلية، وصرت أتخلى شيئاً فشيئاً عن مادة الكيمياء لأستاذها، للزميل الأستاذ سعد الدين عوكل الذي كان صديقاً لي ونشيطاً ويحب التقدم. وكنت أنصحه، أنا، أن يدرِّس مادة الكيمياء في الصفوف النهائية، لأنها ملخَّص الدروس التي كان يعطيها في الصفوف التكميلية. وتعاونا سوياً في أعمال المختبر مع بعضنا البعض. وبقيت في ثانوية المقاصد حتى سنة 1969 – 1970.
_______________________________________
*) هنا النص الحرفي للمقابلة التي أجراها الدكتور مصطفى دندشلي مع الأستاذ سلّوم الدحداح. لقد حاولنا أن نحافظ على جوّها العام، ولغتها المحكيَّة، وعفويتها التلقائية، ولم نُدخل عليها أيَّ تعديل أو تغيير في المضمون، سوى ضبط اللغة العربية حتى تصبح واضحة المعنى في الشكل المقصود.
فاقتضى التنويه.
وكانت علاقتي بالإدارة وخاصة مع الأساتذة، علاقة عائلية وثيقة جداً، مفعمة بالثقة التامة، نشكي همومنا التعليمية لبعضنا، ولا سيما أن الأساتذة لم يكن لديهم الخبرة الكافية في عمل المختبر، فكانوا يأتون إليَّ ويطلبون مني بكل ثقة وبساطة أن أعاونهم على الأعمال الاختبارية والقيام بالتجارب. وكان المختبر غنياً جداً، خصوصاً بالنسبة للكيمياء.
وبعد مدة من الزمن، قدَّم "التابلاين" مبلغاً من المال كمساعدة للمقاصد، وكان الاقتراح أن تكون هذه المساعدة مساعدة علمية للمختبر بنوع خاص وللمكتبة. فعملنا لوائح مع كل أساتذة مادة العلوم، لأنني، أنا، بعد فترة من الوقت أصبحت أعلم المواد التالية: فيزياء، وكيمياء، ورياضيات، حتى الصفوف النهائية، وكنت مسؤولاً عن المختبر. فعملنا لوائح كثيرة وعديدة، منتظمة، وأغنيْناه، إلى أن أصبح أهمَّ مختبر بالجنوب، وحتى في بيروت، لم يكن هناك أفضل منه.
نبتدئ بالأستاذ نعمة الله باخوس مدرِّس الرياضيات في القسـم الثانـوي، والأستاذ خير الله كان يدرِّس أدب إنكليزي، والأستاذ سعد الدين عوكل، والأستاذ خليل متى، وكان يدرِّس اللغة الفرنسية قبل أن أدخل إلى المقاصد بـ (40) سنة. كان هناك أيضاَ الأستاذ حكيتي وهو مشهور ويدرِّس أدب فرنسي، فقد كان يأتي من بيروت وفي المدة الأخيرة لم يعد يستطيع أن يأتي إلى صيدا، فجاء مكانه الأستاذ شيخاني، واستمر بالتدريس بعده. ثم الأستاذ ضياء فحص الذي كان قد جاء بعد فترة. ويبدو أنه لم يكن موجوداً في المقاصد، وكان يدرِّس ربما في مدينة صور. كنت أدرِّس أنا في دير مشموشة وفي الوقت نفسه بالمقاصد. وأتت لرؤيتي إلى الجبل ”الكفور”، هيئة الجمعية وطلبت مني أن أستلم التدريس عند الصبيان. فقلنا لهم: فليكن، لأنني كنت مبسوطاً كثيراً من أول يوم ما تعرَّفت فيه إلى المقاصد وإدارتها وأساتذتها. وتركت كل المدارس التي كنت أعلم فيها ودخلت إلى المقاصد. وكنت مرتاحاً جداً.
والمقاصد أول مدرسة نظَّمت نفسها وأنشأت الكادر للأساتذة والمعلمين، وجُعل ملاك خاص للمقاصد ووضعت الإدارة ملاكاً للأساتذة قبل ما يُنشأ الملاك الرسمي: كانت المقاصد قبل ذلك قد أقامت ملاكاً خاصاً لها. وعندما صار هناك "ملاك رسمي"، انتقلت من ملاكها الخاص إلى الملاك الرسمي، وأصبحنا بالملاك الرسمي الذي سرى مفعوله على تنظيم ملاك المقاصد. وهذا ما كان يحمي كل المعلمين في الملاك الرسمي. وهنا أقول: ما كانت المقاصد تفرّق أو تميّز بين الأساتذة، مهما كانت طائفته، فكان الأستاذ أو المعلم ينتسب إلى الملاك ذاته.
س: الإدارة التي عاصرتها، مَن هي في تلك الفترة؟
ج: الأستاذ شفيق النقاش، هو المدير، السنة الأولى والوحيدة التي درَّست تحت إدارته، وتعيّن بعد ذلك بوزارة التربية ”مفتش عام”. بعدها تغيَّر علينا إدارات عديدة. أذكر الأستاذ عانوتي، بعد ذلك جاء الأستاذ عبد المجيد لطفي، ومن ثمَّ تعيَّن المدير بالوكالة، وأذكر أن آخر سنة لي بالمقاصد كان الأستاذ العدناني.
س: في الصفوف الثانوية، كم كان عدد طلاب الصف الواحد؟
ج: أول ما دخلت سنة 1951 – 1952، كانت المقاصد هي الوحيدة التي يوجد فيها عدد كامل في الصفوف الثانوية: يعني بالكامل، من فوق العشرين طالباً. ووصلنا في وقت صار هناك إقبال منقطع النظير على التعليم في المقاصد، وأصبحنا عند وصول العدد إلى 36 طالباً، "نسكِّر" الصف بالبكالوريا. حتى جاءني يوماً الأستاذ صلاح طه البابا، وقال لي: ”أنا لا أعرف، بتحمل ما بتحمل هذا العدد الكبير، أنتم أصبحتم مسؤولين عن كل ذلك؟”...
إن العدد 30 طالباً، نحن نعتبر هذا تجاوزَ الحدِّ المطلوب. وهنا أخذت أقنع زملائي الأساتذة بأنه قد صار عندنا في المقاصد إقبال شديد، فيجب أن يقبلوا معي وأن نقبل أكثر من ذلك العدد. في مواد الرياضيات والعلوم، نحن لا يهمنا العدد ولا يؤثِّر علينا، لأن هذا العمل الذي يقوم به الأساتذة، وكلهم موجودون، وتصحيحنا للمسابقات سريع، وإنما الأساتذة الذين كانوا يتعذبون هم أساتذة الأدب العربي والفرنسي، فكنت أحاول أن أقنع، مثلاً الأستاذ شعبان بركات حتى يقبل عدد 36 طالباً في الصف. وكل الطلاب الذين يأتون إلى المقاصد، لا تقبلهم الإدارة إلا بتعهدي الخاص، أنا سلّوم الدحداح.
س: إذاً، لقد كان الإقبال على التسجيل في المقاصد جيداً والمستوى جيداً أيضاً، فما هو تفسيرك لهذه النهضة العلمية في ثانوية المقاصد في تلك المرحلة؟!...
ج: تفسيري: إهتمام الإدارة والجمعية، فقد وضعوا كل اهتمامهم من أجل رفعة شأن المقاصد. ”شو ما طلبت يمكنك أن تطلب”، عندما تذكر للإدارة كلمة ”بتفيد” الطالب، ”ولو كانت مليون ليرة”، لا يبخلون علينا بشيء.
س: هل إن عامل قبول شهادة المقاصد في جامعات المصرية والذهاب لمتابعة التخصص العالي في مصر، كان له أثَر في الإقبال على ثانوية المقاصد، لأن الطلاب خريجي الصفوف النهائية، كانوا مقبولين بالجامعات المصرية؟
ج: أنا بما يختص بي، أقول إنه ما كان هذا هو العامل، لأنه أنا كنت أعطي جميع طلاب القسم الفرنسي، وطلاب القسم الفرنسي لم يكونوا يرغبون في الذهاب إلى مصر،(!!)، بل نادراً إذا ما ذهبوا، كان الطلاب من القسم الإنكليزي يذهبون إلى مصر.
س: المستوى في صفوف البكالوريا، كيف كان ومستوى النجاح أيضاً؟
ج: المستوى كان ممتازاً جداً. والنجاح أكيد، إنما كنا نشكوا من ضعف اللغة الفرنسية وأيضاً الإنكليزية. فإذا كان يحصل أيُّ نقص أو ضعف أو تقصير في بعض المواد، فلأن الطلاب لا يفهمون ولا يستوعبون اللغة الفرنسية أو الإنكليزية التي يدرسون بها...
س: لو قمنا بمقارنة بين المقاصد وبقية المدارس في صيدا، هل هي أضعف من بقية المدارس الأخرى باللغة الأجنبية أم بمستوى متساوٍ؟
ج: أضعف باللغة الفرنسية، إنما جاءت فترة تفوقنا على مدارس الجنوب كلها بالفرنسي، يعني أنا كنت أعين الأستاذ الفرنسي ”بحشريتي”، أن نعمل معهم ونخلق من الطلاب مستوى متقدماً، حين أتكلم معهم بالفرنسي، وأقوم كل أسبوع أو أسبوعين، عندما تسمح لنا الإدارة، أن نأخذهم نزهة، فنقيم درساً بالهواء الطلق ونذهب مسافات بعيدة وأحاديثنا كلها وهي محادثات باللغة الفرنسية على الطريق. بعد ذلك أعطيهم كل يوم مع الوظيفة في مادة الرياضيات درساً في الخط، وكنت عضواً بلجنة تعليم الخطوط الأجنبية. بعد ذلك صرت أعطيهم سطرين أو ثلاثة ترجمة من العربي إلى الفرنسي، ويضعوا الترجمة بأول وظيفة. حتى وصلنا إلى شهادة البريفيه الفرنسية، فنجح كل الذين تقدموا إلى شهادة البريفيه الفرنسية، أذكر منهم وكان على رأسهم، هيثم شهاب (الذي درس الطب في اليسوعية). برز عندنا نخبةُ طلابٍ في مرحلة المتوسط، وبعد ذلك في الثانوي لم يعد هناك بكالوريا فرنسي، وإنما كان هناك بريفيه فرنسية. أذكر لك قضية الفرنسي: إذ كنا نحضرهم للبريفيه الفرنسية التي تجري بسفارة فرنسا. وهذه قد كان كل تركيزها على اللغة الفرنسية، يعني قد كان نصف العلامات على اللغة الفرنسية والنصف الآخر على باقي المواد.
س: هل أنت من المحبذين لتعريب العلوم والرياضيات؟ يعني من خلال ما لاحظته وأنت أكدته أن طلابنا إجمالاً كانوا يعانون ضعفاً في اللغات الأجنبية، فرنسي أو إنكليزي، مما كان ذلك معيقاً لفهمهم للمادة، فبرأيك، هل ممكن تجاوز هذه العقبة بتعليم الرياضيات والعلوم باللغة العربية مع تقوية اللغات الأجنبية كلغات؟!...
ج: التعريب، كان قد طُلب مني مقال وقدمته للجمعية وللمدرسة. ولكن، للأسف، لم يُنشر. التعريب شيء والتعليم باللغة العربية شيء آخر. التعريب للعلوم ينبغي إيجاد تعابير لازمة (مناسبة أو متطابقة) لهذه المادة وهذه التعبيرات غير موجودة. سنبقى نستعير كلمات أجنبية ونضعها في مكانها، وهذا ”بيطلع” شيء يسمونه فرانكو-آراب..
والتعليم باللغة العربية اختبرناه مدة طويلة، ما نجح، لأن تعليم العلوم باللغة الأجنبية، يساعدنا على تعليم الطلاب لغة أجنبية. فلماذا نترك هذه المادة الأساسية، العلوم باللغة الأجنبية، كي يأتوا ويتعلمونها (العلوم والرياضيات) باللغة العربية؟... حتى تعريب دراسة الطب ما نجح. وأنا بعد أن تركت المقاصد، طلب مني الدكتور حسن الشريف مدير ثانوية المقاصد فيما بعد، وقال لي: أنا أريد أن يتعلموا ويعبروا باللغة الفرنسية، الرياضيات التي يتعلمونها باللغة العربية. قدَّرْت أنا هذه المبادرة وكنت أعطي بالأسبوع يوماً أو يومين، التعبيرات الفرنسية عن طريق المحادثة، مادة الرياضيات والعلوم. فأعطت نتيجة جيدة.
س: في تلك الفترة التي قضيتها بالمقاصد أستاذ دحداح، كان هناك صعود وهبوط من حيث المستوى. وكان هناك بالتالي صعود وهبوط من ناحية الإقبال؟ فما أسبابها؟
ج: في المقاصد، كان يوجد في تلك الفترة طلاب ممتازون بالرياضيات والعلوم وبشكل مميَّز، كان عندنا طلاب من النبطية. ولاحظت أن شباب النبطية لديهم مستوى من الذكاء رفيع. وهؤلاء كانوا من نخبة الطلاب. وشباب صيدا كذلك ممتازون. إنما جاء ”التابلاين”، وصاروا (الطلاب) يتجهون إلى اللغة الإنكليزية. وفُتحت ثانوية في النبطية، فراح والتحق بها عدد كبير من الطلاب في ذلك الوقت. كذلك جاءتنا ظروف كان العدد كبيراً بالقسم الفرنسي، بعد ذلك جاءت مدرسة الفرير وفتحت القسم الفرنسي في المرحلة الثانوية. ثمَّ ثانوية صور الرسمية، كذلك فُتحت أبوابها، فكان الطلاب يأتون في السابق، من صور، وإن كان العدد قليلاً.
والسبب الثاني، عندما أصبح في الفرير قسم ثانوي فرنسي، فتحوَّل الطلاب في المقاصد من القسم الفرنسي إلى الإنكليزي. هذا التحوُّل وبسبب التابلاين والمصفاة، فإن عدد الطلاب في المقاصد بالفرنسي خفَّ، وصاروا في ثانوية المقاصد مجبرين على أن يقوموا بعملية دمج مواد مشتركة ما بين فرنسي وإنكليزي. فخلق ذلك ضعفاً وعدم ثقة في هذا النوع من الدمج. هذا من حيث المستوى، فقد كانت المقاصد في السابق جيدة.
س: مرة حدثتني عن أسباب ضعف المقاصد أنه يعود لوجود بعثات مصرية.
ج: أقول بصراحة: إنه كان له تأثير كبير وجود البعثات المصرية. هناك أساتذة كانوا يدرّسون وكل واحد منهم حسب كفاءته: كان هناك أستاذ يدرِّس الفيزياء وهو أستاذ قدير جداً، وهذا بقي محافظاً على مستواه كأستاذ فقط. إنما كان يوجد أساتذة اتجهوا اتجاهاً سياسياً. وهناك اتجاهات استعلائيَّة فوقية: ”شو تكونوا أنتم كأساتذة، نحن أتينا موفدين من دولة أعظم وأكبر دولة عربية”.
هذه الذهنية كان لها تأثير كبير جداً. ومنهم من كان عندهم نَفَس خفيفة، يتعلَّقون بالمادة، ومنهم كانوا شرفاء عظيمين. هذا التفاوت، ما كنا نجده بين الشباب اللبنانيين وخاصة الصيداويين. أقول لك كلمة: إن أبناء صيدا الذين دَرَّسوا في المقاصد، أعطوا دم قلبهم وروحهم في التعليم. كنتُ أشعر أنهم لا يفكرون إنهم يعلمون بالمدرسة، بل بالبيت لأولادهم.
س: برأيك، إذن، أن أثر وجود البعثات المصرية شكل انخفاضَ المستوى، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن مدرسة المقاصد هي مدرسة إسلامية، فعلى صعيد الطلاب، هل كان هناك بينهم من مختلف الطوائف والمذاهب؟
ج: كان هناك من جميـع الطوائـف. وأنا عندما دخلت، سمعت اسم مارون واسم أنطوان، وميشال وجوزيف. بالجملة، أنا ولداي الإثنان أخذا البكالوريا من ثانوية المقاصد. وإذا كان عندهم أصدقاء بصيدا، فهم من رفاق المدرسة، وكانت الروح الطيبة جامعتهم، ولا أحد يعرف دين الثاني من رفاقهم الطلبة: يمكن أن يفكروا أن اسمه أحمد وهو مسيحي أو اسمه أنطوان وهو مسلم، إلى هذه الدرجة نراهم مع بعضهم البعض.
إنما بعض ”الشياطين” منهم (من المسيحيين)، يطلع على بالهم يوم الأحد، ويروحوا إلى الإدارة ويقولوا: ”في قداس عندنا”. الإدارة، مراعاة للشعور الديني، تعطيهم إذناً بالخروج. فجئت أنا عند المدير يوماً وقلت له: أنا ”بطرك المسيحية هنا”، أرجوك أن لا تأذن لأحد ليذهب ليصلي في الكنيسة، إلا بعد أن يأخذ ورقة مني للسماح لهم بالخروج من المدرسة، لأن هؤلاء الشباب غير جِديّين. فقد كان عددهم كبيراً، تقريباً خمسين طالباً مسيحيين ، في مختلف الصفوف. وهناك منهم شباب لمعوا في الدراسة، وهناك شاب من آل عون من جزين وصـل الآن إلى مركز مهـم، وهنـاك مـن آل نمور، حبيب نمور وأخوه سهيل نمور، وهو مدير بنك اليوم.
جاءت سنة 1956، صار هناك الملاك الرسمي الذي أقامته الدولة، فأصبح الأستاذ ملزماً أن يعمل في مدرسة واحدة. فكنت أدرس في دير مشموشة وفي المقاصد أدرس أيضاً. فأصبح من الواجب عليَّ أن أحصر التعليم بمدرسة واحدة. ماذا أفضل؟... المقاصد، أولاً: لأني كنت مرتاحاً، ومبسوطاً، والإنتاج أكثر، وخاصة كنت أنا من دعاة التفاهم والصداقة والمحافظة على صحبتي. ومن أجل هذه الصحبة والصداقة، قلت يأتي شبابٌ كُثُر مسيحيون إلى المقاصد كي نندمج مع بعضنا البعض. وأقول بصراحة، أنا كنت الأستاذ المسيحي، ومعي كل الزملاء الذين يدرِّسون المواد العلمية، ليسوا مسيحيين تقريباً.
س: هل كان هناك زملاء وأساتذة مسيحيون يتواجدون ويدرِّسون معك في المقاصد، عدا الأساتذة من بيروت؟
ج: كان هناك أساتذة اللغة والأدب والفلسفة الفرنسية. جهاز كامل...
س: في فترة من الفترات، كنت مسؤولاً ”تربوياً”، بعد أن كلفتك الإدارة والجمعية؟
ج: أنشأت الجمعية لَجنة تربوية، وكل ”صيدا” كانت متعجبة: في جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، لَجنة تربوية من أعضائها سلّوم الدحداح. كان ذلك في أيام الأستاذ شفيق لطفي.
س: أريد وجهة نظرك بشكل عام؟
ج: كخاتمة، أقول: أتمنى على ”الرجال”، بقدر الإمكان، إن يبقوا على المقاصد ويهتموا بها ويساعدوها ويعاونوها، ليس من أجل المدرسة، وإنما من أجل "روح" المقاصد. وهذه الروح كانت تشتهر وتتجلّى بـ ”مجلة المقاصد” و”وحي الكلية”، ومن ثَمَّ ”وحي المقاصد”. وكان فيها يُكتب مواضيع قيِّمة كثيفة، يكتبها الأساتذة والطلاب، وننتظرها كلَّ شهر.
س: نوع من المقارنة أو الفروقات بين مدرسة ومدرسة، إدارياً، تعليمياً؟
ج: أولاً أعطيك الروح الطيِّبة المقاصدية فقط، وروح الأخوَّة الموجودة بين كل الزملاء الأساتذة في المقاصد، والتفاهم مع الإدارة كان كاملاً. يعني 23 سنة، مع زوجتي أتنافس (بمعنى أختلف). ولكن 23 سنة في المقاصد، ما في يوم إلا وصدر من الزملاء الأساتذة والطلاب كلُّ تعاون ومحبة واحترام، ولم يبدو أي تذمر ولو خفيف، لم يحصل قط، لا مني ولا منهم. وهناك تقارير موجودة عن كل الأساتذة.
والمقارنة الثانية: التضحية التي كانت تظهر من قِبَل الإدارة ومن الأساتذة، يعني نأتي لنعلِّم في أوقات خارج الدوام. ومن ناحية الإدارة، كان هناك تعاون بيننا وبينها إلى أبعد الحدود. وحتى نقويِّ طلابنا، كنا نعطيهم امتحانات خارج دوامنا، ونحن كأساتذة لا نستطيع أن ننتظرهم طول الوقت حتى ينتهوا. يأتي المدير ويقول لي: أنا أجلس معهم هنا، ومن 4 إلى 6 مساءً، بس أعطيني أسئلة المسابقات. وكان ذلك أيام صلاح طه البابا. أعطيه أسئلة مسابقات... وهكذا...
س: من ناحية الإدارة أو من الناحية التنظيمية الإدارية العامة، مثلاً نحو الطلاب، هل هناك تزمُّت، هل هناك نوع من الحرية؟
ج: ما في طالب له حق أن يتذمر من الإدارة، لأنه كان يوجد لجان مشتركة من الأساتذة والطلاب. عندما يحصل مشكلة ما، يأتي أمام محاكمة، فيوجد مَن يدافع عنه من الطلاب ومن يعطيه حَقّه، إذا كان عنده حق. حتى الطالب، إذا كان صدر بحقه حكم، يكون راضٍ عنه، لأنه صادر عن حق وليس عن عفوية.
س: يُقال في الفرير إدارياً، هناك شيء من التزمت، في الأميركان يُقال هناك شيء من الانفلاش، من الحرية الزائدة. فأمام هذيْن الأمرَيْن، أُريد أن أرى موقع المقاصد: هل هي من جهة التزمُّت أم من جهة الانفلاش أم بين بين؟
ج: من جهة الأميركان، لا أعرف. ومن جهة الفرير، أنا عشت فيها. يعني هناك إدارة تحكم، أحياناً يصدر خطأ منهم عن عفوية. أما هذا الشيء فيتساوى فيه الخطأ والصواب، إنما في المقاصد، كان هناك طريقة، لقد تكلمت عنها وهي ”اللَّجنة المشتركة”. الطالب ارتكب خطأ، يُطلب ويُحاكم. يظهر أمام اللَّجنة، تبحث بأمره: منهم، من بين الأعضاء، مَن يدافع عنه، فقد كان له الحرية في أن يُدافع عن نفسه.. وهكذا.. والجميع راضياً في نهاية الأمر...