فكرة الهلال الخصيب عند سعادة و الأرسوزي - الدكتور عصام نور الدين
صدى النهضة السورية القومية الاجتماعية www.ssnps.jeeran.com
فكرة الهلال الخصيب عند سعادة و الأرسوزي
الدكتور عصام نور الدين
لماذا يتكلم ، اليوم ، عروبي ، يؤمن بالقومية العربية و بالأمة العربية الواحدة ، عن " الهلال السوري الخصيب " في ذكرى اغتيال مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة ؟
ولماذا الكلام ، اليوم ، على فكرة " الهلال الخصيب " عند زكي الأرسوزي " ، مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي الداعي إلى الوحدة العربية الكبرى وإلى أمة عربية واحدة ، وإلى أنطون سعادة القائل إن " الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية " .؟
وهل من تناقض في الجمع بين المؤسسين المفكرين أم أن الجمع بينهما في الكلام على فكرة الهلال الخصيب هو وضع للأمور في نصابها ؟
من المسلم به علمياً وتاريخياً أن العرب هم الذين تنبهوا ، بدقة ملاحظتهم ، إلى وحدة البلاد الجغرافية الطبيعية، فسموها الهلال الخصيب ، الذي يعني ، عند أنطون سعادة ، سورية ذات الحدود الجغرافية الطبيعية ، التي تميزها عن سواها ، والممتدة من جبال طوروس ، في الشمال الغربي ، وجبال البختياري في الشمال الشرقي ، إلى قناة السويس والبحر الأحمر ، في الجنوب ، شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب ، شاملة جزيرة قبرص ، إلى قوس الصحراء العربية وخليج العجم (1 ) … فيما يعني الهلال الخصيب ، عند زكي الأرسوزي " العراق و سوريا ، لبنان ، فلسطين ، الأردن " ( 2 ) من دون رسم حدود هذا الهلال ، لأنه عني برسم حدود الوطن العربي الكبير .
ويلاحظ الباحث المدقق أن الفروقات في تحديد مساحة الهلال الخصيب الجغرافية ـ إذا استثنينا قبرص ـ تكاد تكون غائبة … ما يغيب الجدل العقيم ، الذي يقع فيه بعض المثقفين الفكرويين ـ الأيديولوجيين ـ ويستحضر ، في الوقت ، نفسه ، الكلام على أهمية وحدة " الهلال الخصيب " في فكر الرجلين المؤسسين ، لأن الكلام على أسبقية هذا أو ذاك ، والكلام على جغرافية هذا الهلال ، يؤخذ من المصادر والمراجع وما أكثرها ( 3 ) ولأن همي الأول ، في هذه الندوة هو تبيان أهمية الهلال الخصيب سياسياً و قومياً ، وتلاقي وجهة نظر المؤسسين القوميين والبعثيين بمعنى من المعاني ، سعادة والأرسوزي في النظر إلى الهلال الخصيب من جهة ثانية ، على الرغم من انطلاقهما من زاويتين مختلفتين …
فـ " الأمة السورية " هي إحدى أمم " العالم العربي " . بل هي ( أمة عربية ) ـ حسب تعبير سعادة ( 4)، ولسنا بحاجة ، هنا ، للكلام على نظرة الأرسوزي العروبية الخالصة للهلال الخصيب ولكل أقطار الوطن العربي الكبير و أجزائه ، لأن مؤلفات الأرسوزي كلها مخصصة لدراسة العرب والعروبة والسبل الآيلة لتحقيق وحدتهم العربية الكبرى ، وإيصال رسالتهم إلى العالم ( 5 ) .
إن الأرسوزي وسعادة انطلقا إلى التبشير بوحدة الهلال الخصيب ، والدعوة إلى تحقيقها ، لكن من زاويتين مختلفتين في الشكل والمظهر ، ولكنهما متتامتان ، متكاملتان ، ومتناغمتان ، غاية و مادة … وإن إسهام سعادة في هذا الموضوع مشهور ، ومعروف من القوميين السوريين الاجتماعيين ومن كل المثقفين … أما إسهام الأرسوزي في هذا المجال فمجهول حتى من البعثيين والحزبيين الملتزمين . لذلك أرى أن أنبه إلى أن الأرسوزي قد ألقى خطاباً قومياً ، بعنوان :
" مشروع الهلال الخصيب " دعا فيه إلى " إقامة دولة مستقلة من سوريا والعراق ولبنان والأردن وفلسطين، أي إقامة الهلال الخصيب ، مع السماح لهذه الدولة بأن تعقد معاهدة دفاع مشترك مع الدول العربية المستقلة آنذاك " ( 6 ) .
إن هذا الطرح الوحدوي العملي ، الذي لا يختلف عن طرح سعادة ، أو الذي بدأه الأرسوزي سنة 1940 م، وعاد وردده بعد توحيد الجيشين السوري والعراقي ، عندما استطاع حزب البعث أن يقبض على السلطة في سوريا والعراق ، فـ " أصبحت هاتان الدولتان تتبنيان الشعارات نفسها : الوحدة ، الحرية ، الاشتراكية ، ولا سيما أن حزب البعث يمثلهما : ( 7 ) … إن هذا الطرح العملي للوحدة في الهلال الخصيب قد كلف الأرسوزي ثمناً باهظاً . إذ عندما سمع الفرنسيون منه هذا الاقتراح سنة 1940 م ، أرسلوه مخفوراً إلى اللاذقية ، ومنها إلى الحفة ، ومن هناك أرفقوه بالحرس ، واجبروه على السير ماشياً حتى تلكلخ أي طيلة خمسة أيام ( 8 ) … ولا أدري إن كان هذا الطرح قد أبعد الأرسوزي عن قيادة الحزب الذي أسسه ؟ .
ويؤكد الأرسوزي على أهمية مشروع الهلال الخصيب ، وعلى دوره في حياة الأمة العربية ، أو الدولة السورية ، ويقول كلاماً خطيراً جداً في دور القوى المستعمرة في تفشيل هذا المشروع وإبعاد الناس عنه وعن محاسنه ، و " لكي لا يصبح اقتراحي مطلباً من مطالب أهل المنطقة ـ يقول الأرسوزي ـ نسب المشروع لنوري السعيد ، ظناً من الاستعمار أن هذا النسب يثير القرف منه "
( 9 ) . وهكذا كان … إذ لم تنفع ، بعدما نسب المشروع إلى عميل ، كل المحاولات لإقامة هذه الوحدة الهلالية الخصيبة ، ولم ينفع مشروع أنطون سعادة أيضاً ، بعد ذلك ، على الرغم من انطلاقه من الجزء أو من أكبر جزء أو متحد تتحقق في أرضه وشعبه شروط الوحدة الجاهزة ، ليكون درع الأمة العربية وترسها ورمحها بغية حماية هذا المتحد وهذه الأمة ، ولا ضير من تمدد هذا المتحد وتوسيعه بعد ذلك وتوسيعه فبعدما كان سوريا أصبح ، سوريا الكبرى ، فسوراقيا … لأني أظن أن الزعيم كان ـ لو لم تغتاله يد الغدر والخيانة ـ كان سيوسع حدود متحد أمته وحدوده الطبيعية ليشمل كل ما تستطيع حيوية هذه الأمة بسط جناحيها عليه بمحبة أخوية قومية ، لأن سعادة تكلم على معاهدة دفاع مشترك مع بقية المتحدات العربية ، ولم يتكلم على مثل هذه العاهدات مع متحدات مختلفة كالمتحد التركي ، أو المتحد الفارسي ، ومتحدات ما وراء البحار مثلاً ، ولكن الذين حملوا مشروع سعادة و مشروع الأرسوزي لم يحسنوا تقديمه إلى الجماهير العربية … ولو نجح مشروع الأرسوزي ومشروع سعادة في الهلالية الخصيبة ، وفي إقامة معاهدات أخوية مع بقية المتحدات العربية أو الدول العربية ، لما وصلنا إلى ما نعاني منه هذه الأيام من ضعف ، وقهر ، وتجزئة ، وتشرذم ، وركوع أمام العدو اليهودي ، وبيع للقضية و الأرض بالجملة والمفرق . ..
و إذا كانت " الأمة السورية " التي تسكن " الهلال الخصيب " هي " أمة عربية " فإن " البيئة " ذات الحدود " الطبيعية " التي تشكل مسرح حركة الأمة ، ليست جامدة ثابتة في حياة الأمة ، لأن
( البيئة ) تقدم للأمم الإمكانية لا الحتمية ، فالأمة يمكن أن توسع بيئتها وتحتفظ بهذا التوسع بوحدة مجتمعها ووحدة حياته و مصيره . ولا يجوز لها أن تخنق نفسها في حدود البيئة القديمة التي كونت شخصيتها ونفسيتها فيها " ( 10 ) … وهذا الكلام من سعادة نفسه ينفي الانعزالية والتقوقع والفزع من الأخ والشقيق ، ويفتح ، في رأيي، أبواب التفاعل الحقيقية ، لأن العروبيين في هذه المنطقة من الوطن العربي الكبير لا يختلفون مع سعادة في دور سورية الرائد ، في قيادة العرب ، وفي حفظ حقوقهم ، فهل يرفض عروبي عاقل قول سعادة … إذا استثنينا بعض المصطلحات التي يجب أن تناقش في أبحاث مستقلة : " إن سورية هي إحدى أمم العالم العربي ، وأنها هي الأمة المؤهلة لقيادة العالم العربي " و " الاشتغال في القضية العربية " ، و" وبعدم تخلي سورية عن القضية العربية " ، " لأننا لن نتنازل عن مركزنا في العالم العربي ، ولكننا نريد قبل كل شئ أن نكون أقوياء بأنفسنا ، لنتمكن من تأدية رسالتنا ، يجب على سورية أن تكون قوية بنهضتها القومية الاجتماعية لتستطيع القيام بمهمتها الكبرى … لا يمكننا أن نقدم شئ ونحن لا شئ . لا يمكن لسورية أن تخدم العالم العربي في شيء وهي مبعثرة مجزأة نفسياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً " ( 11 ) .
إن قوة سورية العربية ، اليوم ، هي التي توقف استسلام العرب استسلاماً نهائياً ، أمام جبروت اليهود الصهاينة ، وإن سورية ـ سواء أكانت قلب العروبة النابض أم قلب الهلال المنير ـ هي التي قال رئيسها حافظ الأسد غير مرة : " نحن في سورية مناضلون باستمرار من أجل الوحدة العربية ، ودائماً كنا مع الوحدة بين أي بلدين عربيين " ( 12 ) "بل إن الرئيس الأسد قد كرر غير مرة أن " فلسطين ليست جزءاً من الوطن العربي وحسب ، وإنما هي الجزء الأساسي من جنوب سوريا ، ونحن ، أيضا ، نرى أن من حقنا وواجبنا ـ ولا نستطيع أن نتنازل عن الحق ونتخلى عن الواجب ـ نرى من حقنا ومن واجبنا أن نصمم على أن تبقى فلسطين جزءاً محرراً من وطننا العربي ومن قطرنا العربي السوري " ( 13 ) .
ألا يدل كلام الرئيس الأسد عل أن العروبيين ، في سوريا ، وفي الهلال الخصيب ، وفي " الوطن العربي " الكبير ، " أمة " عربية واحدة ، ولكنها أمة فيها حلقات قوة وتماسك مؤهلة للقيادة أكثر من بقية أبناء المتحدات العربية الأخرى ؟ …
وهل يتكلم سعادة والسوريون القوميون الاجتماعيون بلغة مختلفة أو بمصطلحات مختلفة ؟
ألا يعتبر كلام الرئيس الأسد ومساعدته الأخوية المستمرة للبنان ، والأردن ، والشعب العراقي وللثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني ، ولبقية الأقطار العربية ، جامعاً جمعاً نظرياً وعملياً وديالياً ( ديالكتيكياً ) بين الوحدة العملية لبلاد الهلال الخصيب والوحدة العربية الكبرى التي تجمع " الأمة العربية " الخالدة في دولة عربية واحدة ، تمتد من المحيط إلى الخليج .
إني أرى أن إصرار الأرسوزي على دراسة اللسان العربي والتبشير باللغة العربية الفصحى ، التي تحمل عبقرية صانعها العربي الذي صنع لغته أو لسانه على مثاله ، فتجسدت في هذا اللسان عبقرية " الأمة العربية " الخالدة وتجلت … كما أني أرى إصرار سعادة على التكلم باللغة العربية الفصحى في بيته ، وفي كل أمور معاشه ، وفي اللحظات الصعبة ، التي أيقن فيها أن خاطفوه قاتلوه لا محالة ، دليل على أن الزعيم يستبطن دور اللسان في صنع الإنسان ، وفي توحيد الأمة … وارى أن هذا المنهج السعادي هو منهج العروبة العملية ، التي لا تكتفي بالتنظير بل تمارس اللغة على أرض الهلال الخصيب ، تمهيداً لتدفقها على منابعها الأول : لأن " وحدة اللغة " في الأمة العربية الواحدة وإن كانت لا تقرر الأمة إلا أنها " ضرورية لتماسك الأمة " ولأن " اللغة متى صارت لغة جماعة معينة " . " أصبحت حاملة الميراث الثقافي والأدبي لهذه الجماعة " ،
" وفي هذه الحقيقة يكمن سر أن اللغة عنصر من عناصر الأمة " .
" فالأمة ، من حيث هي متحد اجتماعي ، ذو نوع من الحياة خاص به ، في بيئته ، لا بدّ لها من لغة واحدة تسهل الحياة الواحدة ، وتؤمن انتشار روحية واحدة ، تجمع آدابها وفنونها و عواملها النفسية و أهدافها ومثلها العليا " ، " لأن الهام للأمة في اللغة هو ما تحمله من صور حياتها وحاجتها المادية والنفسية وما هو من خصوصياتها ، لا أشكال ألفاظها القاموسية " ، ولأنه " ضروري أن تتكلم الأمة لغة واحدة ، وليس ضرورياً أن تنفرد بهذه اللغة " ، ولأنه ـ كما يقول بلنتشلي " متى استبدل المرء لغة جديدة بلغته القومية خسر قوميته " حسب تعبير سعادة ( 14 ) … ولا حاجة بنا هنا للكلام عن اللغة ومكانتها في حياة الأمة العربية التي صنعتها على مثالها ، وأودعتها سرّ نبوغها وعبقريتها ، عند الأرسوزي ، فهذا مبحث يعرفه المتخصصون وغير المتخصصين ( 15 ) … ولكن المهم هو كلام المؤسسين المفكرين على اللغة ودورها في وحدة الأمة وفي تماسكها ، وفي تعبيرها بها عن ذاتها الخالدة ، وعن روحيتها وسلوكها و أفكارها وحياتها بكل تنوعها ووجودها … وفي ممارسة الرجلين لهذا العامل في الهلال الخصيب ، الأرسوزي نظرياً وعملياً وسعادة عملياً ونظرياً .
إنني في ختام كلمتي هذه ، التي ترى المشترك بين نظرة الأرسوزي و سعادة للهلال الخصيب ، أدعو إلى تدبر المختلف فيه لدراسته وتأويله ، حسب منهج الرجلين ، المبدع ، والمتطور ، وغير الجامد ، وغير المحدود ، حتى بما كتبا … لأن المنهج وإن كان سيفاً فكرياً تعالج القضايا في ضوئه … إلا أنه يجب أن ينبثق من المادة المعالجة ، وأن ينبعث منها ، روحاً مبدعة خلاّقة .
هكذا أنظر إلى قضية الهلال الخصيب في فكر الرجلين المؤسسين المفكرين سعادة و الأرسوزي …
فهل نعمل معاً لتحقيق وحدة سوريا والعراق ولبنان وفلسطين والأردن في الهلال الخصيب ، تمهيداً لتحقيق الوحدة العربية الكبرى … أم نختلف ونتصارع ونتقاتل على جنس الوحدة ومساحتها ، في الوقت الذي يزحف فيه اليهود الصهاينة إلينا بأعتدتهم الأمريكية المتطورة ، وبدولارات العرب المصادرة ، فيقضمون أرضنا ، ويقتلون أبنائنا ، ويستبيحون نسائنا ، ويصادرون إرادتنا وقرارنا ، ويلغون شخصيتنا القومية ، بل يلغون حتى وجودنا الجسدي ؟ ! .
ـ فهل نتحد ؟ ومتى ؟ ومن يصنع هذه الوحدة ؟ .
ملاحظة :
محاضرة ألقاها الدكتور عصام نور الدين من الجامعة اللبنانية في الندوة التي أقيمت في ضهور الشوير بعنوان انطون سعادة و تحديات الألفية الثالثة 9 – 10 – 11 – 12 أيلول 1999 ، و منشورة في مجلة اتجاه \ بيروت \ العدد 15 \ 2000 \ ص : 512 .