د.دندشلي - خاطرات عابرة
خاطرات عابرة
كثيراً ما تُراود خاطري هذه الفكرة والتي أردِّدها طويلاً قائلاً في نفسي: غريب، بل ومدهش بالنسبة إلي، هذا المسار الثقافي "المكابر" و"العنيد" في ظروف وأجواء غالياً ما كانت وما زالت غير ملائمة البتَّة، هذا المسار المثابر الذي أُطلقُ عليه أحياناً مساراً "قدرياً" الذي أسبح في خضمِّه. وهناك سؤال أو في الحقيقة أسئلة كثيرة كنت دائماً أطرحها على نفسي مستفسراً عن السبب الحقيقي والأساسي في عدم التأثير الفعلي أثناء نشاطي الثقافي العنيد والمتواصل، في الرأي العام الصيداوي عموماً وفي الأوساط المتعلمة ومن شتى الاختصاصات بوجه خاص!!
السؤال الإشكالي الذي كنت أطرحه دائماً بداية على نفسي، قبل أن أطرحه على الآخرين، كل ذلك حتى أحاول أن أجد الإجابة عنه، إجابة مقنعة، موضوعية، حقيقية، نابعة من معرفة للبيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أعيش فيها: أول ما يتبادر إلى ذهننا هو أن الثقافة في سلوك المتعلمين وتفكيرهم في صيدا، هي "لزوم ما لا يلزم" أو أقرب إلى "الثرثرة" ـ كما يقول أحدهم ـ منها إلى أيِّ شىء آخر، ولا طائل من ورائها ولا منفعة تُرجى من جرائها. فهي في أحسن الأحوال، ترف فكريّ ليس الآن، لا زمانه ولا مكانه. وهذا ما يستدعي أن نبحث عن أسبابه ومن أجل تفسيره بالعمق والشمول، وعن تاريخ الثقافة وتطورها وانتشارها في مدينة صيدا، من الماضي إلى الحاضر.
وهذا بحث جدير بالاهتمام، لم يقم به أحد من الباحثين حتى الآن. لهذا، فأنا لم أعد أندهش أو أستغرب، إذا كانت الكتب الكثيرة والمتنوعة التي أخذ على عاتقه المركز الثقافي بنشرها وتعميمها على نطاق واسع منذ وجوده حتى وقتنا الحاضر، إذا كانت هذه الكتب لم تُقرأ حتى من أصحاب الاختصاص وأصحاب الشأن، على الرُّغم من أنها تصبُّ في صميم اهتماماتهم وعملهم وشغلهم الشاغل اليومي…
أليس ذلك كله غريباً، ويتطلب منا تفسيراً وتعليلاً، علمياً واجتماعياً، لهذه الحالة غير الصحيَّة في جميع المقاييس والمستويات؟!.. لماذا سوء الفهم هذا الذي تعرَّضتُ له، أنا شخصياً، من خلال المركز الثقافي، طوال عملنا الثقافي الجَماعي والديمقراطي والوطني؟.. لقد انْحزْنا، ونحن جزء أساسي من العمل الوطني، إلى الحركة الديمقراطية التقدمية الحوارية صراحة ووضوحاً دون أيِّ التباس أو مواربة، وإلى الفكر التقدمي الوطني العروبي لا لُبس فيه أو غموض، وإلى رفض النظام الطائفي والمذهبي، وإلى قيام الدولة العادلة، دولة القانون والمؤسسات ودعم المقاومة والقضية الفلسطينية عَبْر النَّدوات والمحاضرات والحوارات ذات الأبعاد والمستويات المتعدِّدة.
وكان لنا دورٌ مميَّز، وأكاد أقول: فريدٌ، بعد الحرب الأهلية وأثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وهذا حديث يطول سوف أتحدث عنه بالتفصيل وبالاعتماد على الوثائق التي أحتفظ بها حتى الآن. لقد كان موقفنا ضد الاحتلال العسكري الإسرائيلي بارزاً ومشهوداً ومعروفاً من الجميع، حتى من بعض القيادات السياسية اللبنانية. وهذا الموقف المعادي للاحتلال الإسرائيلي عَبْر الممارسة العملية، وعن طريق الفكر والكتابة والمنشورات، هو أمر طبيعي، ينبع من دور المثقف في الأزمات السياسية والأمنية، فكان لا بدّ لنا من أن نقف هذا الموقف المقاوم عَبْر الكلمة والكتابة، وكرئيس للمركز الثقافي.
ولكن، سرعان ما اكتشفنا، فيما بعد، أننا تُركنا نسبح وحدنا ضد التيار السائد، وهو التيار الذي أطلقتُ عليه تسمية "تيار المنتظرين" ـ بمعنى المتخاذلين ـ حتى تنجلي الأمور وتنقشع غمامة الاحتلال العسكري الإسرائيلي الغاشم، وهو تيار كان مسيطِراً على الساحة السياسية في تلك المرحلة، هذا عدا قسم أكاد أقول كبيراً، كان قد أقام خيوط المصلحة والتواصل النفعي أو التآمري، مع القيادة العسكرية الإسرائيلية. وأنا أحتفظ بكثير من الأسماء والمؤسسات في هذا المجال.
هذا الموقف الثقافي والوطني المثابر والمتواصل، لم يجد بعد الانتقال إلى مرحلة الهدوء الأمني النسبي، مَن يستسيغه أو يدافع عنه. فاليمين كان يزعجه هذا "الموقف الحاد" الديمقراطي والوطني الداعم للمقاومة والرافض للفساد السياسي المستشري، كما أن القوى التي تُسمَّي نفسها يسارية ومعها التيارات الدينية، قد اتخذت هي أيضاً موقفاً معادياً ضده، صراحة أو ضمناً، لأنه رفض أن يستظل تحت عباءتها. لذلك فالجميع يقف منا موقفاً حذراً، هذا، إذا لم أقل معادياً ومشكّكاً، وللكل أغراضه وهواجسه وتخوّفاته وخلفياته المصلحية.
لهذا وبعد مرور إثنتين وثلاثين (32) سنة على تأسيس مركزنا الثقافي، فإننا نعتقد جازمين بأن دوره لم ينته ولا يجوز أن ينتهي. هناك طريق طويل أمامنا، من الأهمية الآن أن نتابع المسيرة، رغم جميع الصعاب والمعوِّقات المادية منها والمعنوية على وجه الخصوص. المركز الثقافي ما زال حاجة ثقافية، اجتماعية، فكرية، وطنية، علمية، وسط غياب الجمعيات والأندية الثقافية جميعها.
من هنا، وضمن هذا التوجُّه، نحاول الآن رسم مخطَّط جديد لانطلاقة تأسيسية جديدة، تكون تعبيراً حقيقياً، اجتماعياً وثقافياً وعلمياً، عن المرحلة الحالية والمنعطف التاريخي الذي نجتازه في الحِقبة الزمنية الراهنة.
مصطفى دندشلي
صيدا في 19/12/2009
(كُتبـت هـذه الخواطـر السريعـة علـى أثر
انعقاد الهيئة العامة للمركز غير مكتملة النصاب
القانونـي، صباح يـوم الأحد، 13/12/2009)