ثورة يوليو ومصر الناصرية (1)
ثورة يوليو ومصر الناصرية (1)
أربعون عاماً كاملة يكونُ قد مضى الآن على ثورة يوليو الناصرية (1992،1952) وهي سنواتٌ كانت مليئةٌ بعظائمِ الأحداثِ وانتصاراتِها، وفواجعِ الهزائمِ ومرارتِها.
ولست أدري ـــــ في ما يخصّني ـــــ لماذا أرغبُ دائماً في الحديث عن هذه الثورة وعن حيثيَّاتها التاريخية، وعن قائدها جمال عبدالناصر وشخصيته القومية!! ولماذا نحن في مركزِنا الثقافيّ نتذكَّرُ هذه الثورةَ، بهذه المناسبة وبمناسبات سابقة، ونسعى دائماً للاحتفال بها وتذكير الجماهير بإنجازاتها المشرقة؟... وما هو سبب أنّنا دائماً نتذكرُ هذا الحدثَ التاريخيّ في حالاتِ الهزائمِ ومراحلِ التراجعِ والانحطاط؟؟...
وهل يمكن أخيراً لمواطن عربيّ غير ناصريّ، بمعنى غير منتمٍ أيديولوجياً وسياسياً للتيار الناصريّ، أن يرى في هذه التجربة القوميّة العربية ـــــ بكلّ موضوعيّة وعلميّة ـــــ جوانبها المشرقةِ في تاريخنا الحديث؟...
هنا، اسمحوا لي، أيّها الأخوة الأعزاء، أن اعتمد على شيءٍ من التحليل النفسيّ حتى أرى أنّ هذا الميلَ الجامحَ نحو هذه التجربة، وذكرِها والتذكير بها، إنّما يخفي فينا، في الحقيقة والأعماق، سِرًّا دفيناً، سرًّا عميقاً، في داخل كلّ واحد منّا، نحن جيل الخمسيناتِ والستينات... أي جيلِ ثورة يوليو وقائدها عبدالناصر...
هذه التجربةُ الناصريّة، هذه التجربةُ الغنيّةُ بالدروسِ والعِبَر، والمؤثّرةُ بعمقٍ في تاريخ الشعب المصريّ على وجه الخصوص، والشعب العربيّ بصورة عامة، إنّما هي في الواقع تجربتُنا القوميّة، تجربةُ جيلنا، جيلِ الخمسينات وجيلِ الستينات، هي جزءٌ من تاريخنا الجَماعيّ ـــــ تاريخِ الأمة العربيّة في عصرها الحديث ـــــ وهي أيضاً جزءٌ من تاريخنا الفرديّ، الوطنيّ والإنسانيّ... فهي تجربتُنا الذاتيةُ والموضوعيةُ على حدٍ سواء، بكلّ ما تحملُ من انتصاراتٍ وهي كثيرةٌ، وما تحمل من انتكاساتٍ وهزائمَ وهي ليست قليلة...
فحنيننا إلى هذه التجربةِ واستحضارِها والتذكير بها وبشخصيةِ قائدها، خصوصاً في مراحل النكوص والارتداد، إنّما يعودُ ذلك إلى حنينٍ دفينٍ وخفيّ فينا، حنينٍ لهذه المعاركِ المضيئةِ في حياتنا الوطنيّة والتي نسعى حثيثاً، بوعي أو بدون وعي، إلى أن نستمد منها قوةً وعزماً وتفاؤلاً، وذلك للتغلب على المآزق والمؤامرات التي تواجهنا في المرحلة الراهنة.
فالمبادئ الأولى التي أعلنتها ثورة يوليو الناصرية منذ قيامِها، والشعاراتُ الوطنيةُ التي رفعتها في بداياتها، هي مبادئُنا وهي شعاراتُنا: هي مبادئُ وشعاراتُ الشعب المصريّ، والشعب العربيّ.. فطموحاتُنا القوميّة آنذاك كانت نفسها طموحاتِ ثورة يوليو وأهدافِها.. ولقد استطاعت هذه الثورة أن تعبّرَ عنها خيرَ تعبير وأصدقَه، واستطاعت كذلك وفي الوقت ذاته أن تبلورَ هذا الطموحَ الوطنيَّ والقوميَّ والاجتماعيّ، حتى أنّ المواطنَ العاديّ أدركَ بوعيه الفطريّ العميق أنّ مبادئَ الثورةِ، الوطنيةِ وأهدافَها، هي مبادئُه وأهدافُه... كما أدركت ثورةُ يوليو بحسّها التاريخيّ ووعيها القوميّ، أنّ طموحاتِ المواطنِ المصريّ والعربيّ، الطموحاتِ الوطنيّة والقوميّة، هي عينها طموحاتُ ثورةِ يوليو ومبادئُها وأهدافُها...
من هنا فإنَّ هذا التطابقَ في المبادئ والأهداف، والتفاعلَ السياسيّ، الوطنيّ القوميّ بين طموحاتِ الجماهيرِ وشعاراتِ ثورة يوليو، هو ما يكوّن في تلك اللحظة، على صعيد الواقع والممارسة، عظمةَ هذه الثورةِ وتجربتها الغنيّة..
وإذا كان الوقتُ لا يسمح لي بالدخول في التفاصيل، إلاّ أنّه يمكنني أن أبديَ ثلاثَ ملاحظات:
الملاحظة الأولى وهي أنَّنا إذا أردنا أن نفهمَ فهماً عميقاً وموضوعياً ثورةَ يوليو بجوانبِها المختلفة، يجب علينا أن نضعَ هذه التجربة الثوريّة في مرحلتِها التاريخيّة، في ظرفِها الزمنيّ، في سياقِها السياسيّ، لا أن ننظرَ إليها بمنظارِنا نحن الآن، في ظروفِنا الراهنة..
والملاحظة الثانية، هي أنّ قيمة هذه التجربةَ، قيمتها الوطنيّةِ والاجتماعيّةِ والقوميّةِ، لا يمكن أن نقدّرَها حقَّ قدرِها إلاّ من خلال مقارنتِها بالمرحلة السابقة عليها...
فمن جهة: هناك تواصل مع حركة الاستقلال الوطنيّ في مصر، حركةِ الشعب المصريّ ومثقّفيه وطلابِه ونقابييه منذ تجربةِ محمد علي وثورةِ أحمد عُرابي ووطنيّةِ مصطفى كامل وثورةِ 1919 بقيادة سعد زغلول... فحركةُ يوليو الثوريّة لعام 1952 هي تتمةٌ لهذه الحركاتِ الاستقلاليّةِ وإنضاجِها وبلْورتِها بصيغةٍ سياسيّة محقّقةٍ في الواقع.
ومن جهة أخرى: هناك انقطاعٌ تام عن النظام السياسيّ القائم عشيّةِ حدوثها. فقد كانت ثورةُ يوليو هذا الحدَّ الفاصلَ، الحدَّ التاريخيّ بين ما قبلَها وما بعدها. ولهذا فهي ثورة بكلّ معنى الكلمة.
والملاحظة الثالثة وهي أنَّ المحورَ الأساسيّ والرئيسيّ لحركة يوليو، والذي بدونه لا يمكن تفسيرُ سياستِها في الداخل والخارج، وفهمُ طموحاتِها وأهدافِها، هذا المحور هو الاستقلالُ الوطنيّ، استقلال الإرادةِ الوطنيّةِ لمصرَ بالدرجة الأولى.
ولكن الاستقلال الوطنيّ له شروطُه ومستلزماتُه التي لا يمكن تحقُّقُه، واقعاً، دون الإفاء بها. وأولُ هذه الشروط: الاستقلال الاجتماعيّ الداخليّ الذي لا استقلال سياسيّ بدونه. وثاني هذه الشروط: الاستقلالُ القوميّ العربيّ وهو امتدادٌ ضروريٌّ للاستقلالِ الوطنيّ المصريّ. فهناك إذن تلازمٌ، بل وتفاعلٌ جدليٌّ بين استقلالِ مصر الوطنيّ واستقلالِ الوطن العربيّ القوميّ.
من هنا أهميةُ الدائرةِ العربيّةِ في فكرِ عبدالناصر، أهميتُها الأولى والأساسيّة في سياسته القوميّة. ومن هنا أيضاً، تحوّلَه بعد إنهاءِ المشاكلِ العالقة في السودان ووادي النيل والاحتلال الإنكليزي لمصر، إلى قضايا الوطن العربيّ: مشرقِه ومغربِه.
ولا بدّ في هذا المجال من أن أشيرَ فقط إشارةً سريعةً إلى بعض الشعاراتِ التي ألهبت نفوسَ المواطنين وطموحاتِهم، وهي شعاراتُ بدايات المرحلة الأولى لثورة يوليو الناصريّة:
1- إرفع رأسك يا أخي: فقد مضى عهد الإقطاع،
2- إرفع رأسك يا أخي: فقد مضى عهد الاستغلال،
3- إرفع رأسك يا أخي: فقد مضى عهد الاستعمار.
والشعار الآخر الذي صيغ بهذه الكلمات: "الاتحاد... النظام... العمل..."، شعارٌ بسيطٌ بمفرداته، لكنّه مفعم بالمعاني والإيحاءات: فهو دعوةٌ إلى جمعِ الصفوف ووحدتِها، وإلى الانضباط والتنظيم وتحديد الأهداف، ومن ثمّ الصدق في الممارسة والإخلاص في العمل... وهذا ما تحتاجه الثورات على الأقل في بداياتها...
وهكذا، فبعد تثبيت الاستقلال الوطنيّ الداخليّ لمصر، انطلقت ثورةُ يوليو بقيادة عبدالناصر، في متابعةِ معركة الاستقلال على جبهات متكاملة في آنٍ معاً:
1- جبهة مقاومة الاستعمار الغربيّ وأحلافِه
2- الانخراط في جبهةِ دولِ عدم الانحياز والحياد الإيجابيّ
3- جبهة التحرير العربيّ من الأحلاف الغربية ومعركة الوحدة العربية.
فهذه الجبهات تتداخلُ في الواقع والممارسة حتى لتؤلفَ معركةً وطنيةً، ومعركةً قوميةً واحدة...
وفي هذا السياق أيضاً، هناك محطّاتٌ أساسيّةٌ لثورة يوليو على الصعيد القوميّ والعالميّ، طوالَ مرحلة الخمسينات، يمكنني أن أشيرَ إليها بحسب تسلسلها الزمنيّ:
1- اشتراك مصر بشخص عبدالناصر في مؤتمر باندونغ في ربيع 1955، والانفتاح من خلال هذا المؤتمر على حركة التحرّر الوطني العالمية واكتسابِ الخبرة والتجربة والطموحات الوطنية والقومية والاجتماعية، التي كان يُعبِّرُ عنها آنذاك بالمنحى الاشتراكيّ...
2- في الوقت ذاته، أو نتيجةً لذلك، عقْدُ صفقةِ الأسلحة مع الاتحاد السوفياتي عن طريق تشيكوسلوفاكيا في أيلول من العام نفسه.
وهذان الحدثان يجب وضعهما في ظروف تلك المرحلة لإدراك معانيهما.. ومعنى المواجهة والتحدّي فيهما، وبوادر معركة التحرُّر الوطنيّ ضدّ الغرب.
3- الحدث التاريخيّ الكبير، وهو نتيجة لما تقدّم، هو تأميم قناة السويس عام 1956، وما تبع ذلك من اعتداء ثلاثيّ: بريطانيّ، فرنسيّ، إسرائيليّ على مصر، وتضامنِ الشعب العربيّ من المحيط إلى الخليج، كما كنا نقول، انتصاراً لمصر ولجمال عبدالناصر..
فعلى أثر هذه الأحداث، ومن خلال هذه المعارك السياسية والوطنية وبنتيجتها، تكرّست زعامة عبدالناصر لمصر وللأمة العربية: هذه الزعامةُ المقدامةُ والشجاعةُ والجريئة، زعامةُ المواجهةِ والتحدّي.. والتي كان يحتاجُ إليها الشعبُ العربيّ، كي تُعبّر هذه الزعامة من خلال المواجهة والتحدّي للغرب، عن مكنوناته المكبوتة وطموحاته الدفينة.. ومن هنا انعقد هذا الالتفاف الجماهيريّ الذي لن ينفصم أبداً، وهذا التأييد الشعبيّ العارم لزعامة عبدالناصر وقيادتِه...
4- والمحطة الرابعة، في الخمسينات، هي وحدة مصر وسوريا وهي تتويجٌ لمعركة الاستقلال الوطنيّ والتحرّر العربيّ الوحدويّ.
لا أستطيع هنا أن أعطيَ صورةً ولو جزئيةً عمّا كان لهذه الأحداث جميعها، ولوَحدةِ مصر وسوريا تحديداً، من تأثيرٍ عميقٍ، سياسيّ ونفسيّ ووجدانيّ في الجماهير العربية في المشرق والمغرب، عبّرت عنه في مظاهر الابتهاج والفرح، وفي مظاهرِ الأعراسِ الوطنية الكبرى التي قلّ نظيرها في تاريخنا الحديث. فقد أصبحت الأفكارُ والمبادئُ والأحلامُ القوميّة... وأضحت الطموحاتُ والآمالُ الوطنيّة، واقعاً ملموساً على الأرض.
هنا أيضاً، لا نستطيع أن نفسّرَ هذه الحالة الرومانسيّة، العامة والعميقة، هذا الهيجانَ الجماهيريّ العارم، إلاّ بالاعتماد على بعض التحليلات النفسية والتاريخيّة ومكنونات النفس العربية.
نكتفي بهذه الإشارات السريعة إلى بعض الجوانب المشرقة في تاريخنا الحديث والذي لا يزالُ حياً في نفوسنا. وإذا كنت قد توقفت حول هذه النقاطِ المضيئةِ في مرحلة الخمسينات، فذلك لأنني أردتُ فقط أن أُظهرَ هذا الفارقَ بين حركة الجماهير العارمةِ، الطموحةِ والمتفائلةِ آنذاك في تحقيق أهدافِها، وبين هذا الواقع الراهن اليائس والبائس والمحبِط الذي نعيش فيه الآن.
فنحن بحاجة، في وقتنا الراهن، أكثر ربَّما من أيّ وقت مضى، إلى حركة استنهاض وطنيّ وسياسيّ وجماهيريّ. وليس من ثورة تُلهمنا وتحيي في النفوس الأمل والقوة، أكثر من ثورة يوليو الناصريّة.
فنحن بحاجة إلى الإقدام والجرأة في وقت يخيِّمُ فيه الحذرُ والخوفُ والجبن والتراجع في النفوس والمواقف.
نحن بحاجة إلى أخذ المبادرة والتحدّي في هذا الوقت بالذات، الذي يُسيطرُ فيه الإحباطُ واليأس على حياتنا العامة...
ولكن، وعلى الرُّغم من جميع مظاهر اليأس المحيطة بنا.. علينا أن لا نفقد الأملَ أبداً في التغيير، والحزمَ على العمل من أجل مستقبلٍ أفضل.
إنّ إمكانياتِ شعبنا لا تزال كبيرةً.. وهي كامنةٌ فينا، ومهيّأةٌ للانطلاق من جديد، فيما لو أحسنا العمل الجاد في سبيل استخدامها، مستفيدين بكلّ جديّة وجرأة من تجرِبتِنا الوطنيّة الغنيّة الماضية...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1) – مداخلة د. مصطفى دندشلي في مناسبة الذكرى الأربعين لثورة يوليو (تموز) عام 1952، في مركز معروف سعد الثقافيّ، بتاريخ 23 تموز ـــــ يوليو 1992.