مركز الشرق العربي - ماذا بقي من البعث السوري - بقلم: محمد الحسناوي
مركز الشرق العربي (21/12/2004)
ماذا بقي من البعث السوري
بقلم: محمد الحسناوي*
لم يبق إلا قمع الشعب ، وليس القمع أساس الملك .
في حي الأسد في العاصمة السورية دمشق ..يوجد صالون حلاقة نظيف ونشيط ، يقصده كبار الضباط ووجهاء الحي المترف ، ومع ذلك تظهر أمارات البؤس على معلم الحلاقة فيه . تجرأ أحد المواطنين المشفقين ، وسأل أبا أحمد الحلاق عن التناقض بين إقبال الزبائن وإفلاس ذات يده ، فاعترف الشاب النشيط المحبوب بأنه ليس صاحب الصالون ، بل هو (مجند) عسكري ، يعمل في الصالون بدلاً من الخدمة العسكرية ، وأن صاحب صالون الحلاقة هو الضابط (فلان) قائد الوحدة العسكرية المحسوب عليها ، وعائدات الصالون تعود لهذا الضابط وحده . ضحك المواطن المشفق ضحكة ذات معنى ، وتذكر أن عدداً من أبناء حارته المجندين يعملون سائقي تكسي عمومي في بيروت عند قائد القطعة العسكرية التي يتبعون إليها !!
طوال أربعين عاماً ، التي تربع فيها على السلطة الحزب الحاكم ، وهو يزاود بالسياسة الخارجية اعتذاراً عن انهيارت السياسات الداخلية : من حقوق إنسان وتنمية وعلم وثقافة ومجتمع مدني ، بدعوى أن ( لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ) ، وإعلامه يضج بشعارات توحيد الأمة وتحريرها من الاحتلال والاستعمار ونهب الثروات ، مع العلم أنه اقترف في الشؤون الخارجية ما اقترف من تمزيق الصف العربي إلى شق المقاومة الفلسطينية وضرب قواها وتدمير مخيماتها ، ودخول قواته إلى لبنان ، وذهابه إلى حفر الباطن لمؤازرة دول العدوان الثلاثيني ضد قطر عربي شقيق مجاور ، والاشتراك بمؤتمر مدريد للتسوية مع العدو الصهيوني . ومع ذلك ، وبسبب المثالب التي تلف بقية الأنظمة العربية وسياساتها الخارجية المتخلفة ، ظهر النظام السوري بأنه اقل شراً في سياساته الخارجية ، وترجم ذلك إلى ميزة تفوق على أنظمة الأقطار الأخرى ، تمّ توظيفها ، والنفخ فيها ، حتى صدق من صدق هذه البروبوغندا .
اليوم حانت ساعة الحقيقة ، فلم يعد للمزايدات مفعول كافٍ ، لأن الاستحقاقات واضحة وصريحة ، فالحدود السورية العراقية تم ترتيبها وتوضيبها بالمراقبة والخنادق والاتفاقيات ، والقطيعة السياسية رممت بتبادل التمثيل السياسي ، ومكاتب المنظمات الفلسطينية في دمشق قدرت الظروف المستجدة فرحلت (طواعية ) منها ، والتسوية السلمية مع العدو الصهيوني بلا شروط يطلبها النظام السوري بإلحاح بعد تعديل ميثاق جبهته الوطنية الحاكمة ، وبالعكس صار الكيان الصهيوني يضع الشروط ، وعلى الجولان وتحرير فلسطين السلام .
فإذا كان الحزب الحاكم وصل إلى السلطة واستمر بها طوال أربعين عاماً بانقلاب عسكري ليصلح الأوضاع الداخلية والخارجية ، وما أصلح ، بل زاد بالسوء والفساد ، فما معنى استمراره ، وكيف يستمر بغير القمع الذي جاء به واستمر، وزادت حاجته إليه مجددا.
إن الحزب الحاكم يعلم مدى وطنية شعبه وقواه الوطنية ، وأنه لم ينس حتى الآن التفريط بجبهة الجولان المنيعة . وما كانت مزايدات النظام في السياسة الخارجية والقضية الفلسطينية بالذات إلا صدى للمشاعر الشعبية السورية تجاه فلسطين المقدسة والحرم الشريف ، الذي يصنع منبره في الشام عادة ، ويتم تحريره أكثر من مرة من الشام ، وقبر صلاح الدين الأيوبي في الشام .
إذا كان الأمر كذلك ، فأين يذهب الحزب الحاكم وجبهته الحاكمة في المباحثات السرية والعلنية مع الكيان الصهيوني ؟
أولا : إن النظام السوري لا يملك الشرعية الدستورية لتمثيل شعبه ، لاسيما في قضايا مصيرية ، مثل قضية فلسطين وحق العودة والجولان . وانتخابات ما يسمى مجلس الشعب مسرحية معلومة لدى القاصي والداني ، وكل ما يبنى على باطل فهو باطل .
ثانياً : إن دعوى تفاوت ميزان القوى بين القطر والعدو .. مردود ، لأن إخراج الشعب السوري من السياسة هو أول الوهن في القوى ، وإن إعادة السياسة للشعب السوري ، يقوي الوحدة الوطنية والجبهة الداخلية ، فتستعصي بالمقاومة على أي تدخل أو احتلال من جهة ، ويفتح الباب للقاء الشعوب في الأقطار العربية الأخرى والمواجهة العربية الإسلامية العامة الموحدة للأخطار الخارجية من جهة ثانية .
ثالثاُ : إن نظام الحزب الحاكم ، بالرغم من كل الفرص التي تمتع بها طوال أربعين عاماً ، أثبت إخفاق هذا النظام عندنا وعند الآخرين ، وإن كثيراً من مظاهر ضعف القطر وانحطاطه ناجم عن هذا النظام الحديدي المتخلف .
رابعاً : إن الحلول الرسمية ( مثل تغيير الوزارات) المطروحة حتى الآن للخروج من عنق الزجاجة ، لا تتعدى المسكنات ، أو الإجراءات الديكورية .
خامساً : إن منطق التسويغ للانعطافات السياسية المصيرية مئة وثمانين درجة ، أو المراوغة في تمريرها درجة درجة ، كالسم الناقع في العسل المصفى .. أمر لا يليق بمن أؤتمن على الوطن أو فرض نفسه لهذه المهمة ، كما أنه لم يعد يخفى على المواطنين لشدة وضوحه ولازدياد الوعي الشعبي .
يقول المواطن السوري : على تقرأ مزاميرك يا داود؟
بمعنى آخر يقول : إن النظام الذي ارتكب مأساة (حماة) و(تدمر) ومجازر تل الزعتر والكرنتينا ، وذهب إلى حفر الباطن ومؤتمر مدريد ، وفاوض العدو سراً أكثر من مرة ، لا يرجى منه خير . وبمعنى آخر : إن حزب البعث المنادي بالوحدة والتحرير والاشتراكية انتهى منذ أن تحول من حزب معارض إلى حزب حاكم وحيد ، بل إنه انقلب على نفسه في الحكم مرات ومرات ، وذهب قادته التاريخيون وأعضاؤه العاملون ، وحل محلهم مجموعات من المغامرين العسكريين الريفيين ، الذين اتخذوا الحكم تجارة ومقاولات وسمسرة .
سادساً : إن إفلاس حزب إيديولوجي كالبعث في سورية والعراق ، والشيوعية في دول الاتحاد السوفياتي .. أعطى انطباعاً عند بعض الناس بإفلاس كل حزب أو سياسة إيديولوجية حتى الإسلام ، وهذه كارثة أكبر من كارثة حزب بعينه .
من هنا تأتي أهمية الرسالة السرية (العريضة) ، من حيث المضمون والتوقيت والكيفية ، التي تقدم بها رجال الدين العلويون (293 شخصية ينتمون إلى مختلف العشائر في الطائفة العلوية ) ، إلى رئيس الجمهورية بشار الأسد بتاريخ 26/11/2004 ، يطالبونه فيها بمطلبين مهمين : أحدهما : ( أن لا يسعى إلى إبرام اتفاق سلام مع <اسرائيل> طالما أن علوياً على رأس الدولة ...إن من شأن أي اتفاق ...وسم هذه الطائفة بالخيانة الوطنية مستقبلاً ، وهي المتهمة أصلاً بذلك من قبل أغلبية المسلمين السنة) ، ثانيهما : ( الضرب بيد من حديد ، وبقلب لا يعرف الرحمة ولا الشفقة ، على أيدي الذين أهلكوا الزرع والضرع ، وزرعوا الفساد في كل مفاصل البلاد ، وبالأخص منهم بعض أفراد أسرتكم الكريمة ، الذين يسودون بأفعالهم الشنعاء ، ما تتركه أياديكم البيضاء في نفوس الخلق من الرجال والنساء ) ( أخبار الشرق 27/11/2004 م ) .
إن من يعرف تركيبة المجتمع السوري ونظامه الحاكم يستطيع أن يقدر أهمية الرسالة المشار إليها حق قدرها ، ويقدر التداعيات التي سوف تنشأ عنها .
وعلى كل حال ، لا يجهل أحد طبيعة النظام السوري ، فهو على الرغم من كونه حكم حزب واحد قائد للدولة والمجتمع بنص المادة (8) من الدستور ، هو في الوقت نفسه نظام رئاسي ، يجمع السلطات الثلاث ( التشريعية والقضائية والتنفيذية ) في وقت واحد وبيد رئيس الجمهورية ( وحده لا شريك له ) . من مواد الدستور الجامعة ( المادة 91) : ( لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولاً عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة أعماله إلا في حالة الخيانة العظمى ، ويكون طلب اتهامه بناء على اقتراح من ثلث مجلس الشعب على الأقل ، وقرار مجلس الشعب بتصويت علني وبأغلبية ثلثي أعضاء المجلس بجلسة خاصة سرية ، ولا تجري محاكمته إلا أمام المحكمة الدستورية العليا) . فإذا كان رئيس الجمهورية هو الذي يعين أعضاء المحكمة العليا ويعفيهم من مناصبهم (حسب القانون) فما معنى محاكمتهم له ؟
أما هيمنة رئيس الجمهورية على السلطة التنفيذية بما فيها ( القائد العام للجيش والقوات المسلحة ) ، فانظر مواد الدستور : ( 95و103وو109 ) وهذه الأخيرة تنص على مايلي : ( يعين رئيس الجمهورية الموظفين المدنيين والعسكريين ، وينهي خدماتهم وفقاً لقانون ) ، وأضيف إلى ذلك مؤخراً نص المادة الجديدة في قانون العمل ذات الرقم (136) ( الحق لرئيس الجمهورية بفصل أي موظف عامل في الدولة بلا تعليل ، والقرار غير قابل للطعن به أمام أي محكمة من محاكم السورية ) .
أما سيطرة الرئيس على السلطات التشريعية لاسيما مجلس الشعب حلاً وتشكيلاً وإصدار التشريعات في غياب المجلس ووجوده وبين الدورتين فانظر المواد : ( 107 و108 و111/1و111/2و111/4) .
إذا كانت كل هذه الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية ، ولم يستطع خلال مدة أربع سنوات من ولايته ، أن يحقق شيئاً من خطاب القسم الذي أداه يوم توليه السلطة لأول مرة ، فكيف يستطيع أن يتحمل مسؤولية القرارات المصيرية كالصلح مع الكيان الصهيوني . كان بوسعه إجراء المصالحة الوطنية ، أو الشروع بالعودة إلى الحياة الدستورية بإصلاح السلطات الثلاث ، بعد إصدار عفو عام عن سجناء الرأي ، وإطلاق الحريات العامة والسياسة للمجتمع ، إذا لم يستطع شيئاً أي شيء من هذه المتطلبات ، فإنه يستطيع أن يتنحى لكيلا يبوء بأوزار الاستحقاقات غير المشرفة .
يقول المواطن السوري مرة أخرى : على من تقرأ مزاميرك يا داود ، تقرأها على عمر بن عبد العزيز أم على صلاح الدين الأيوبي ؟
* كاتب سوري وعضو رابطة أدباء الشام