الدور الثابت للمثقف بقلم مكرم سعيد حنوش
الدور الثابت للمثقف
بقلم مكرم سعيد حنوش
جريدة النهار- الثلاثاء 2 أبريل 2002
أنجز الدكتور مصطفى دندشلي ترجمة كتاب جان بول سارتر "دفاع عن المثقفين" الى اللغة العربية، وفي ترجمته جهد جدير بأن نذكره ونشكره عليه، إذ ترجم عملاً رائداً لأحد كبار المفكرين الفرنسيين، وصيغت الترجمة بلغة عربية سلسة، جزلة، بحيث لا يشعر القارئ بأنه حيال نص أجنبي أو بأن موضوع الكتاب بعيد عن واقعنا الثقافي والسياسي، رغم مرور ثلاثة عقود على صدور الكتاب الأصلي. ويبدو لي الآن أن حاجتنا مثقفين وكتاباً إلى قراءة هذا النص والتأمل فيه والنظر في مراميه أكبر مما كانت عليه آنذاك. فسارتر مفكّر معروف باتجاهاته الإنسانية النيّرة ونظراته الاجتماعية الثاقبة، عارض الوجود الفرنسي في المستعمرات، ودعا إلى انسحاب فرنسا من الجزائر، واعترض على التدخل الاميركي في فيتنام وكوريا، وكان نصيراً عنيداً للحركات العمالية والثورية الهادفة إلى رفع مستوى حياة المعذبين في الأرض أينما كانوا. وكان عامة من دعاة التغيير وقيام مجتمع أفضل تسود فيه علاقات الإخاء والحرية والديمقراطية بين الناس.
الكتاب دعوة للدفاع عن المثقفين وحضّهم على أن يكونوا حراساً على الثفافة نفسها لا أن ُتترك في أيدي رجال السياسة. رفض مبدأ الحياد بين دعاة تحرير الإنسان ودعاة استغلال الشعوب وبقائها في حالة تخلُّف وبؤس وشقاء. يدعو المفكرين إلى التفكير في شؤون الإنسان على هذه الأرض ولا يرضى بهرب المثقفين إلى عوالم ما فوق الأرض أو ما بعد الموت، ويبغي أن يبقى فكرهم متوجهاً إلى العالم الذي نحيا فيه، فلا حياة للناس خارج هذه الأرض، فحاجات البشر وأمنياتهم، وإن تعددت أوطانهم ونأت بلدانهم، ليست بالضرورة متضاربة أو متعارضة لو رعينا حقوق الإنسان كإنسان في أيّ مجتمع كان، ولو أبعدنا عن فكرنا أية طروحات عنصرية أو إتنية أو دينية متطرفة تدعو إلى تفوّق هذه الأمة أو تلك على سواها من الأمم أو تقول إن هذا الشعب أو ذلك متخلف في طبيعة تكوينه عن سواه من الشعوب، أو تدعو إلى تكفير أتباع هذا الدين أو تلك الطائفة أو الملّة من البشر .
ومن حسن الحظ أن الدكتور دندشلي لم يكن يعلم بأن ثمة من سبقه إلى ترجمة هذا الكتاب، ولو عرف لأحجم ولما أقدم على مغامرته الأدبية تلك. ولكني أرى أن لكل مترجم أسلوبه ونهجه وفنه، وإن وفرة أعمال مترجم ما، لا تعني أنه أقدر من سواه أو أكثر أمانة للنص المترجم، فالعطاء لا يقاس بكثرة المراس أو وفرة الإنتاج بل بالجودة والابانة والجمالية. وأرى أن عشق المترجم للنص المترجَم هو أول طريق الخَلق، فيكون الدافع ثقافياً فكرياً لا تجارياً. وقيل قديماً إن الترجمة في المطلق هي خيانة للنص، ولكن حين يكون الاهتمام والإعجاب بالنص هما حافز المترجم، تنتفي الخيانة وتزول أسبابها، فالمُحب لا يخون والعاشق لا يهون عليه ما هو عليه من حب وشغف بالمحبوب. وللناس، كما قيل، في ما يعشقون مذاهب، وأقول إن للناس في ما يترجمون مواهب ومراتب. وفي الحقيقة إن قارئ نص الدكتور مصطفى دندشلي يلفي نفسه حيال خطاب راق موجَّه إلى كل أديب ومثقف لديه شيء من الحس الاجتماعي الخير.
أما لناحية الحواشي والهوامش فلدي ملاحظتان عليهما، الأولى ما ورد في الصفحة 13حيث ذكر المترجم Meiji كلمة تعني في اليابان "السياسة المتنورة" ويدل اصطلاحياً على عهد قام 1868 انطلاقاً من عهد الحكومة المتنورة، في حين ذكر الدكتور مسعود ضاهر في كتابه "النهضة العربية والنهضة اليابانية" (الصادر في سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية، ص 24) أن الأمبراطور الفتي موتسوهيتو (1852 ـ 1912 ) تولى الحكم عام 1867 ولقب بالأمبراطور مايجي أي "المصلح أو صاحب السلطة والعدل"، وبدأ التقويم الياباني على أساس أنّ ذلك العام هو العام الأول للحكم الجديد وبات كل إمبراطور ياباني يأتي من بعده يتخذ لقباً يعرف به طوال عهده.
والملاحظة الثانية على هوامش المترجم تدور حول الصفحة 54 حيث ذكر أن الواقعية نظرة فلسفية تؤكد أن وجود الكائن أمر مستقل كلياً عن الفكر أو الروح أو العقل الذي يدركه، ويقابل الواقعية المثالية التي تقول لا وجود لشيء خارج نطاق الفكر. ومن هنا يبدو لي أن الأمر التبس على المترجم بين المادية والواقعية، فالتعريف الذي قدمه المترجم ينطبق على المادية لا على الواقعية التي حدد لها الدكتور جميل صليبا ستة معان مختلفة في معجمه الفلسفي. كما تتحدث الموسوعة الفلسفية (ترجمة سمير كرم، "دار الطليعة") عن عدة أوجه من الواقعية الاشتراكية والواقعية الجديدة، والواقعية الساذجة، وواقعية العصر الوسطي، والواقعية النقدية في الفلسفة، والواقعية النقدية في الفن.
والأهم من كل ما تقدم أن نسأل المترجم لِمَ اختار سارتر؟ وما أبرز ما جاء في الكتاب؟ وهل عمل المترجِم هذا غزو ثقافي يجتاح ساحتنا الثقافية ويهدد تراثنا الفكري؟ أم أنه انفتاح على الفكر الغربي في أسمى عطاءاته وتقديم لبعض منابعه الراقية؟.
مما لا شك في أن هذه الترجمة تنطوي على عدة رسائل شاء المترجم أن يؤكد على ضرورتها لنا، ومن أهمها قول سارتر: "نحن لا نريد أبداً أن نفقد عصرنا أو أن نفوّته علينا، فهناك عصور أفضل منه، غير أنه عصرنا الخاص بنا وليس لنا سواه في هذه الحياة". وقوله أيضاً: " إن جميع الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى المثقف هي أنه الإنسان الذي يتدخل في ما لا يعنيه، ويعارض السياسات الموروثة، ويرفض السلوك التقليدي والتصرفات التي تتم بموجبه أو تستوحي منه". غير أن سارتر يرى عكس ذلك تماماً " فالمثقف هو الذي يتدخل فعلاً في ما لا يعنيه ويعارض السلطات والطبقات المسيطرة على الأنظمة القائمة على أي مستوى كان".
أما الرسالة الأخرى التي يبغي المترجم أن يلفت إفهامنا إليها فهي أن المثقف صاحب موقف ورسالة وممارسة تتجاوز الانتماءات الباطنية والمذهبية والطائفية، وأن الهدف الذي يسعى إليه من طريق الممارسة والنشاط السياسي هو تحرير الإنسان من أنواع الاستغلال كافة وأن يعمل في سبيل تقدم ورفاه أوسع الطبقات في المجتمع، مما يعني بقاء المثقف معارضاً للسلطة في المطلق، ومعارضاً للحكم الطبقي والطائفي والفئوي أينما كان، ورقيباً على السلطة وأصحاب النفوذ في كل الأنظمة، وواقفاً بالمرصاد لكل التجاوزات ضد حقوق الإنسان، منتقداً سائر الأساطير والخرافات السائدة في الفكر الشعبي، عاملاً على نشر العلم والمعرفة والتنوير في أوساط الناس. وفي شكل عام، على المثقف أن يكون دوماً معارضاً لكل سلطة ظالمة ولكل طغيان، فالسلطة مفسدة والسلطان ـ بلا ديموقراطية ـ مآله الطغيان والفساد وامتهان حقوق الإنسان.