االدكتور علي صبح
االدكتور علي صبح
الشرق الأوسط هو تعبير أطلقه الغرب عند حديثه عن مستعمراته قاصداً به المنطقة العربية المحاذية للحوض الشرقي للبحر المتوسط. وقد عرفت هذه المنطقة بأسماء أخرى منها الهلال الخصيب أو غير ذلك من التسميات.
والموضوع الأساسي لا يكمن بالتسميات إنما بما يشكله هذا الإقليم أو الحيّز الجغرافي من أهمية وثقل على صفحات التاريخ القديم منه والحديث، فهذه المنطقة، حيث تتلاقى القارات الثلاث هي موئل الحضارات القديمة التي يعود إليها تاريخ العالم ومنطلق الديانات السماوية الثلاث.
بناءً على هذا الواقع وعلى هذه الخصوصية تميز تاريخها بالاضطراب السياسي الدائم حتى بدا الحرب فيها قاعدة والسلام شواذ. وماتعاقب الغزاة والفاتحين إلا دليل على ذلك ولم يكن لينجح هؤلاء لولا حالات الضعف التي كانت تمر بها المنطقة من حين إلى آخر.
ففي التاريخ الحديث، استطاعت السلطنة العثمانية عند انطلاقتها، استطاعت فرض سلطتها في منطقة الشرق الأوسط واستطاعت أيضاً الوصول إلى عمق أوروبا الوسطى. لكن التطور الذي عرفته أوروبا لاحقاً، لاسيما في ثورتها الصناعية، دفع بها لأن تغزو العالم وتبني مملكة من المستعمرات مترامية الأطراف.
هذا التطور ترافق زمنياً مع بدء حالات الضعف التي أصابت السلطنة. لكن شيئاً من التغيير في خارطة المنطقة لم يحصل نظراً لإصرار أوروبا وبريطانيا تحديداً على إبقاء الرجل المريض حياً. وهكذا بقيت منطقة الشرق الأوسط خاضعة للسلطنة مع إبقائها مسرحاً لمختلف أنواع التدخلات.
لكن الصراعات الأوروبية، ولا سيما عداء بريطانيا للثورة الفرنسية، دفع بهذه الأخيرة لإرسال حملة على مصر بقيادة بونابرت بهدف قطع طريق بريطانيا عن مستعمراتها.الأمر الذي أيقظ هاجس الخوف من التحكم في هذا الممر الإستراتيجي.
نابليون من جهته، وبهدف قطع الطريق على بريطانيا، هو أول من طرح فكرة إقامة حاجز بشري موالٍ له في هذه المنطقة. لذا كانت دعوته لإقامة وطن لليهود في فلسطين، الوطن الذي طالما حلم به اليهود بعد هدم الهيكل وتشريدهم عام 135 ميلادية.لكن انشغال فرنسا بهمومها الداخلية وهزيمة نابليون إثر غزو لروسيا، أبعد فكرة توطين اليهود مرحلياً في فلسطين.غير أن الفكرة نفسها بدأت تجد اهتماماً واسعاً لدى الدوائر البريطانية الحاكمة آنذاك. ولعل أسباب الاهتمام البريطاني هو ظهور محمد علي في مصر الطامع لإقامة دولة عربية قوية في مصر وسوريا على أنقاض السلطنة العثمانية الأمر الذي لا تسمح بريطانيا به. وهكذا تم اتخاذ قرار أوروبي بتجحيم محمد علي في مصر والإبقاء على السلطنة. وهذا ما عُرف بالمسألة الشرقية. ومنذ ذلك التاريخ أدركت بريطانيا أن وجود طائفة تعتمد عليها في بلاد الشام، يعتبر أمراً غاية في الأهمية لضمان مصالحها وهكذا عمل معظم المسؤولين البريطانيين على رغم هجرة اليهود إلى فلسطين. لكن المحاولات بقيت محدودة بسبب رفض السلطان لهذا الأمر.
مع بداية القرن العشرين كانت المسألة الشرقية قد أصبحت شغلاً شاغلاً للدبلوماسية الأوروبية حيث كانت الدول الكبرى تقوم بمشاورات من أجل فرض سيطرتها على إقاليم السلطنة الآفلة، وحُسمت المسألة أخيراً بهزيمة تركيا وتقاسم المنطقة العربية بين كل من فرنسا وبريطانيا بناءً لاتفاقية سايكس بيكو 1916 الأمر الذي يتعارض مع وعود بريطانيا للشريف حسين بتحرير المناطق العربية التابعة للسلطنة.
وهكذا وقع لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي وفلسطين والعراق تحت الإنتداب الإنكليزي، الأمر الذي أتاح لليهود بتكثيف هجرة منظمة لفلسطين بتسهيل من بريطانيا تطبيقاً لوعد بلفور، تشرين الثاني عام 1917 القاضي بإقامة وطن قومي لليهود.
خلال مرحلة الانتداب التي استمرت حوالي الثلاثين سنة، وفي الوقت الذي كانت فيه فرنسا، المنتدبة على لبنان وسوريا، تقوم ببناء مؤسسات الدولة في كل من البلدين، لم تُقدم بريطانيا على أيّ شيء من هذا القبيل في فلسطين لا بل سعت إلى تكثيف الهجرة اليهودية إليها.
هذا الأمر لم يكن ليمر بسهولة، فالاضطرابات التي عرفتها فلسطين آنذاك أدت إلى تدخل الأمم المتحدة في العديد من المراحل عَبر إرسال المبعوثين وإصدار قرارات تتعلق بالقضية، أبرزها القرار 181 تاريخ 29 ت2 1947 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية مع وضع دولي للقدس.
هذا القرار رفضته الوفود العربية بشدة، لكن الوكالة اليهودية وافقت عليه وبدأت تتهيأ لاستلام السلطة. وهكذا ونتيجة للاضطرابات الدامية قامت بريطانيا بالانسحاب من فلسطين في 14 أيار 1948 لتقوم في اليوم نفسه الوكالة اليهودية بإعلان دولة إسرائيل.وتتقدّم بطلب عضويّة لهيئة الأمم المتّحدة في الثامنة عشر من الشهر نفسه وتمّ الموافقة على طلبها هذا.
إنّ قيام دولة إسرائيل بالشكل الذي قامت به شكل ظاهرة فريدة من نوعها بتاريخ الشعوب، حيث إنه للمرة الأولى التي يتمّ فيها طرد شعب من أرضه ليقوم مكانه شعب آخر ببناء دولة قائمة على العرق والدين. هذه الدولة ومنذ تاريخ إنشائها بدأت باتباع سياسة جديدة بناءً لاسترتيجية غير معلنة طبعاً لكن، من أهم معالمها هو عدم تحديد حدود هذه الدولة وعدم الكشف عما تريد. وهكذا تتغير شعاراتها مع طبيعة الحدث. وتتخذ المواقف تبعاً للظروف.
إنّ قبول الوكالة اليهودية بقرار التقسيم لم يكن يعني قبولها بهذا التقسيم كحدود لدولة إسرائيل، إنّما كان موطئ قَدَمٍ تتقدم من خلاله لاجتياح المناطق الأخرى.ففي 15 أيار دخلت الجيوش العربية إلى غزة والقدس، عندئذٍ وافقت إسرائيل على وقف إطلاق النار الذي فرضه مجلس الأمن، لتستفيد من الجسر الجوي بينها وبين تشيكولوفاكيا في تدعيم قواتها وإعادة تنظيمها وتجتاح النقب في الجنوب وأراضٍ لبنانية في الشمال، الأمر الذي أربك العرب فوافقوا على وقف إطلاق النار والذهاب لتوقيع اتفاقات الهدنة منفردين.
يقول كلوزفيد بأن الحرب هي تكملة للسياسة بوسائل أخرى، لكن الذي يحدث في الشرق الأوسط هو أغرب من ذلك بكثير،هكذا تم الجلاء عن سيناء وقطاع غزة. حيث إن خطة إسرائيل تقوم على تعرية عدوها وتضخيم خطره، وتأليب الرأي العام ضده لتكون مسألة الإنقاض عليه هي الحل الوحيد للبشرية كي تتخلص من هذا العدو. وبهذا تكون قد خطت خطوة لتحقيق هدف من أهدافها.
لقد استمر العرب بعد ذلك بطرح شعارات الحرب لاسترجاع الأراضي المحتلة واسترجاع فلسطين، الأمر الذي استطاعت إسرائيل استثماره وتنال بموجبه المزيد من الدعم لمواجهة الأعداء الذين يريدون القضاء عليها.
هذا الواقع ترافق زمنياً مع انحسار قوى الاستعمار التقليدي وبروز الثنائية القطبية التي تؤثر بثقلها على مختلف النزاعات الإقليمية في العالم، الأمر الذي حال دون إيجاد حلول مناسبة وعادلة وهو ما استفادت منه إسرائيل.فخلال العام 1967 خسر العرب ما تبقّى من فلسطين ولم تجد اللاءات الثلاث شيئاً في استرجاعها. لكن هذه اللاءات عزَّزت مواقع إسرائيل لدى الغرب وخاصة الولايات المتحدة.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى التوافق المرحلي ما بين مصالح الطَرفين، أميركا تسعى لتعزيز مواقفها في الشرق الأوسط القريب من تخوم الاتحاد السوفيتي ومصادر النفط.إسرائيل من جهتها رأت في هذه المصلحة مناسبة لتدعيم مواقعها وتوسيع أراضيها. لقد برز التوافق في المصالح واضحاً خلال حرب 73 والجسر الجوي لإنقاذ إسرائيل، خير دليل على ذلك.
العرب من جهتهم لم تفدهم بشيء سنوات الأعداء أو سياسة حشد الطاقات لمواجهة العدو الإسرائلي، لا بل على العكس كانت النتائج، الأمر الذي أتاح للسادات فرصة الولوج في نفق المفاوضات الثنائية والتي انتهت باستسلام مصر في اخفاقات كمب ديفيد عام 1979.
إزاء هذا الواقع برزت المقاومة الفلسطينية كرد شعبي على حالة الانهيار الذي أصاب الدول العربية. هذه المقاومة لم تستطع تطوير شعارات حرب التحرير الشعبية والاستفادة منها. لا بل كانت فرصة استطاعت إسرائيل النفاذ منها للإيقاع بينها وبين الملك حسين عام 1970. وكذلك الحال في لبنان عام 1982 حين استطاعت إسرائيل أن تبرز للعالم وللعرب خصوصا،ً الخطر الذي تمثله هذه المنظمة والقضاء عليها عمل لا بدّ منه.وهكذا قامت إسرائيل بغزو لبنان والقضاء على المنظمة دون أي رد فعل جِدي لا من العالم ولا من العرب على السواء.
بعد هذه المرحلة ما العمل؟ لقد بدأت القيادات العربية باتباع سياسة التوازن الإستراتيجي لمواجهة العدو الإسرائيلي رافضين في الوقت نفسه مبدأ المفاوضات معتمدين على الدعم السوفيتي وموقف الأمم المتحدة.مرحلة الإعداد للتوازن الإسترتيجي هذه، استمرت سنوات استفاد خلالها العراق من تجاربه من أسلحة الدمار التي امتلكها في حرب الخليج الأولى وحاول استثمارها في سياسة التوازن هذه التي كانت مدخلاً لحرب خليجية جديدة دفع العرب فيها ثمناً لم يكن بالمتوقع دفعه: وأيُّ ثمن أضخم من السيطرة الأميركية المباشرة على منابع النفط؟!خلال مرحلة الإعداد للتوازن الإستراتيجي حدثت أمور بالغة الأهمية:
- المقاومة الوطنية اللبنانية استطاعت فرض انسحابات متتالية على إسرائيل.
- فلسطينيو الداخل كانوا المستفيدين من نجاح هذه المقاومة، فكانت انتفاضتهم بوجه المحتلين خير تعبير عن إرادة الشعب بالإستقلال.
- بدء الانهيار في المعسكر الاشتراكي والذي انتهى مع بداية عقد التسعينات الأمر الذي أدى إلى تفرُّد الولايات المتحدة الأميركية بالقرار الدولي، الذي نجد ترجمته في قرار حرب الخليج الثانية، الحرب التي لم تخضها الولايات المتحدة الأميركية إلا بعد الوعد الذي أطلقته بحل قضية الشرق الأوسط حال أنهاء هذه الحرب.في ظل هذه الظروف:
- انتفاضة صاعدة في الأراضي المحتلة.
- مقاومة مستمرة في الأراضي اللبنانية.
- انهيار مقولة التوازن الإسترتيجي مع العدو.
- انهيار قوى الدعم الدولية التي ارتكز إليها القرار العربي سابقاً.
- تصاعد التيارات الأصولية في عموم المنطقة.
لقد بدأت المفاوضات في مدريد ومضى حتى الآن مدة طويلة جداً على هذه المفاوضات، فأين نحن منها؟
لا القرار 425 القاضي بانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان نفذ.ولا القرار 799 القاضي بعودة المبعدين من أرضهم نفذ أيضاً!!
وها نحن اليوم نشهد إقفال المناطق الفلسطينية المهددة بالمجاعة. هنا لابدّ من الإشارة أيضاً إلى سياسة إسرائيل في جنوب لبنان القائمة على تفريغ المناطق المحاذية لها وتتمسك أيضاً بمواقع لها على نهر الليطاني، ترى ماهو الهدف؟! لا يمكن استبعاد التفريع الكليّ بانتظار ظروف دولية مؤاتية يصبح الضم فيها تحصيل حاصل.
في ظل هذه الظروف مجتمعة، أين نحن من المفاوضات أو المفاوضات إلى أين؟! هذا ما يجيب عليه الدكتور جورج ذيب.