الدكتور عصمت سيف الدولة - دكتور صفوت حاتم
الدكتور عصمت سيف الدولة
بقلم دكتور صفوت حاتم
" أريد أن أقول , بأكبر قدر من الوضوح , أنني كنت ولم أزل على يقين يتحدى أي شك بأن " الناصرية " هي " نظرية الثورة العربية " . وأن الناصري هو من يقبلها ويلتزمها وينميها بخبرة ما أنقضى من سنين الردة ولكن طبقا لمنهجها , ومن منطلقاتها , إلى غايتها , بأسلوبها . وأن من يناقضها منهجا أو منطلقا أو غاية أو أسلوبا لا يستحق عندي على أي وجه أن ينسب إلى الناصرية ولن تثبت نسبته إليها ولو كانت بيده شهادة موقعة من عبد الناصر شخصيا "
(عصمت سيف الدولة , عن الناصريين .. وإليهم , دار الموقف العربي , القاهرة)
1- لم يكن عصمت سيف الدولة , راغبا في الرحيل عن عالمنا دون أن يحدد بنفسه , فيما أعتقد , وعلى أعلى مستوى من الوضوح طبيعة علاقته الفكرية والمادية بعبد الناصر والناصرية … العلاقة التي تصورتها بعض العقول جامحة الخيال ’ علاقة غريبة وغامضة . ولقد كان يكفي لمعرفة هذه العلاقة العودة لكتابه الممتاز " عن الناصريين … وإليهم " عام 1987. ليتضح بجلاء موقفه الشخصي والسياسي والفكري من الرئيس عبد الناصر والناصريين , وقد ختم هذا الكتاب بدراسة فكرية أرادها عن الناصرية والناصريين , تبدو لي الآن وكأنها وصية سياسية من مفكر ومناضل سياسي كانت حياته كلها تجسيدا مثاليا ( ودراميا ) لأفكاره التي آمن بها ودفع ثمنا لها .
في هذا الكتاب قال " عصمت سيف الدولة " كل ما كان يود أن يقوله عن عبد الناصر والناصرية والناصريين . وفي هذا الكتاب أيضا كان يرد على ذلك السؤال المستفز الذي طالما سأله له الكثيرون : هل أنت ناصري ؟
ويشهد الله أنه لم يكن هناك سؤال يستفز مفكرنا الكبير أكثر من هذا السؤال الذي كان يوجهه له بعض الشباب الناصري في لقاءاتهم العامة والخاصة , بحسن نية أو بسوئها . وكان يجيبهم " عصمت سيف الدولة" إجابة " مستفزة " أيضا . ولكنه الاستفزاز الذي يحرض على التفكير والتساؤل عند الشباب العربي .. الشباب الذي كان يراهن على وعيه وإمكانياته .
كان يجيب : إذا أوضحت لي عن أي ناصرية تتكلم .. يمكن أن أقول لك إذا ما كنت ناصريا أم لا ؟!!
هل كان التحريض الفكري للشباب العرب هو السبب الوحيد للإجابة المستفزة على السؤال المستفز ؟
بالقطع لا !!
حديث عن عبد الناصر
2 - الواقع أنه لم يكن هناك موضوع اكثر التباسا في ذهن بعض الشباب العربي فيما يخص عصمت سيف الدولة سوى موضوع علاقته بعبد الناصر أو إذا شئنا بدولة عبد الناصر ومؤسسات عبد الناصر .
كيف يرى كاتب هذه الدراسة موقف " عصمت سيف الدولة من عبد الناصر ؟
الواقع أن كاتب هذه الدراسة لا يملك إلا أن يجتهد في الإجابة على هذا السؤال في حدود رؤيته الشخصية التي يتحمل وحده مسئوليتها .
كاتب هذه الدراسة يعتقد أنه لا يمكن أن نفهم موقف عصمت سيف الدولة وكتاباته التي بدأت في منتصف الستينات دون الاستعانة بما يقدمه لنا علم " اجتماع المعرفة " من مبادئ وافتراضات نظرية .
تعلمنا مقولات " علم اجتماع المعرفة " (وهو العلم الذي يبحث في شروط وظروف انبثاق المعرفة الإنسانية ) أن " الفكر البشري " لا يأتي من فراغ أو من تدريب ذهني محض , بل ينبغي الربط بين الأفكار والنظريات والواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي ظهرت في سياقه باعتباره واقعا تاريخيا . ذلك أن فهم الأفكار أو المذاهب السياسية أو النظريات العلمية أو الشخصيات السياسية ليس مقطوع الصلة بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي نشأت فيها , خاصة إذا سلمنا بالعلاقة الجدلية بين عالم الفكر وعالم الواقع . وهكذا يمكن أن نقول أن دراسة فكر أي فيلسوف أو زعيم سياسي دون البحث في نشأته الاجتماعية التي نمى داخلها أو دون بحث في الأفكار والثقافات التي تلقاها في صغره هو نوع من الهراء . فالفيلسوف أو الزعيم السياسي هو نتاج عصره وأسرته ووطنه وبالتالي يتعين البحث عن أصول النظريات والأفكار في أحشاء المرحلة التاريخية التي عاشها وأبدع فيها فكره أو مذهبه أو نظريته .
3 - إذا كان ذلك صحيحا , وهو في رأينا صحيح , فإننا لا يمكن أن نفهم ما كتبه عصمت سيف الدولة ونديم البيطار وعبدالله الريماوي إلا في ضوء ما أثارته تجربة عبد الناصر من تحديات فكرية وتطبيقية على المفكرين الثلاث . لقد راح كل منهم يبدع بطريقته رده على هذه التحديات وفقا لمنهج محدد خطه كل منهم لنفسه , فرأينا البيطار يبدع وفق ما سماه " المنهج التاريخي المقارن " ورأينا الريماوي يبدع وفق ما سماه منهج " الحركية الحياتية الإنسانية " ورأينا عصمت سيف الدولة يبدع وفق ما سماه " جدل الإنسان " .
وكانت الإجابات الثلاث , أو المناهج الثلاث , هي تأصيل لما رآه كل منهم واجبه الفكري تجاه التجربة الناصرية .
وبينما استفاد الأستاذ الريماوي - بحكم علاقة تاريخية محددة بالرئيس عبد الناصر وحزب البعث - بعلاقة ودية مع مؤسسات الدولة الناصرية , لم يكن نصيب " البيطار " من هذه " الود " الكثير رغم زياراته المتعددة للجمهورية العربية المتحدة ويمكن القول أن مؤسسات عبد الناصر الفكرية لم تلتفت لجهود "
البيطار " رغم ناصريتها الواضحة لأسباب تتطلب تفسيرا من هؤلاء الذين كانوا قائمين على هذه المؤسسات ؟!!
اما الفارس الثالث " عصمت سيف الدولة " فقد كان يقيم ويعمل ويجتهد على أرض مصر وأمام أعين مؤسسات الدولة الناصرية وأجهزتها الفكرية والسياسة والأمنية . ويمكن أن نقول أنه لم يحظ لا بالود الذي حظى عليه " الريماوي " ولا بالتجاهل الذي حظى عليه " البيطار " وإنما حظى بكثير من التوجس والعداء .. لماذا ؟ .
4 - من ناحية .. كانت كتب عصمت سيف الدولة في نقد المادية التاريخية والمادية الجدلية والماركسية بشكل عام لا تحظى بأي ود من النخبة المثقفة الماركسية التي ركزت قواعدها منذ منتصف الستينات في الاتحاد الاشتراكي ومعهد الدراسات الاشتراكية والصحافة والمسرح والسينما . ومن يعود لمجلة " الطليعة " الماركسية فيما كتبته في الستينات عن دعاة " الاشتراكية العربية " سيطالع فيها دروسا بليغة في فن " الهجاء والردح الإيديولوجي " قام به الماركسيون ضد كل من كتب عن " الإشتراكية العربية " . وهو يفسر لماذا لم تكن كتابات " عصمت سيف الدولة " أو " البيطار " تلقى الترحيب في برامج التثقيف التي سيطر عليها بشكل ذكي الخارجون من الأحزاب الشيوعية المنحلة . و لم يكن لرجال عبد الناصر من الكفاءة الفكرية أو النظرية ما يمكنهم من إدعاء القدرة على مواجهتهم , وبقي عبد الناصر هو المفكر الحقيقي والوحيد لتجربته بينما اقتصر دور الآخرين على الترديد والتبرير النظري لما يقوله عبد الناصر .
والحق يقال كان الفارق النظري بين عبد الناصر وبين رجاله كبيرا فلم يجد هؤلاء بدا من الاستسلام للجهود الفكرية والمنظمة التي " تبرع " بها الماركسيون الخارجون من الأحزاب الشيوعية المنحلة !!
ونجحت الحملة " الماركسوية " في إبعاد الفكر القومي التقدمي الجديد عن دائرة الفعل السياسي في تجربة عبد الناصر , حينا بتعمد تجاهل الأصيل منه وحينا آخر بالهجوم على الغث منه في حملات " دون كيشوتية " بائسة .
5 - من ناحية ثانية … كانت كتب " عصمت سيف الدولة " قد بدأت تكتسب أنصارا لها من الشباب العربي خارج مصر وبدون تخطيط مسبق وبعيدا عن " أجهزة الدولة الناصرية " .
والواقع أن دور هذه الأجهزة وما أدته خلال حكم الرئيس يجب أن يكون محل دراسة موضوعية من الناصريين أنفسهم . فالذي لاشك فيه أن أكثر من مناضل ناصري كان قد شكى للرئيس عبد الناصر من " بيروقراطية " هذه " الأجهزة " ومن أنها تتعامل مع الشباب العربي كما تتعامل مع " العملاء " أو " الأتباع " مستغلين في هذا عواطف الحماس والحب الذي اسبغها هؤلاء على زعامة " الرئيس عبد الناصر " شخصيا. وإذا أضفنا لكل ذلك أن القاهرة كانت قد تحولت في الستينات الى كعبة للنضال العربي وامتلأت شوارعها ومقاهيها ومنتدياتها بعدد ضخم من اللاجئين السياسيين والمناضلين والزوار من كل أرجاء الوطن العربي وما كان يعنيه هذا من لقاءات وحوارات فكرية كان طرفا فيها عصمت سيف الدولة وفكره وكتبه , يمكن , عندئذ , ان نتصور ما سيسببه ذلك من حساسية لدى " أجهزة عبد الناصر " .
على أية حال سيصدر " عصمت سيف الدولة " قبل نكسة يونيو / حزيران كتبه : " أسس الاشتراكية العربية " و " الطريق للاشتراكية " و " الطريق للوحدة " و " الطريق للديمقراطية .. أو سيادة القانون في الوطن العربي" لتكون تأصيلا رائقا وإبداعا أصيلا لما كان يقوله ويفعله عبد الناصر, دون أن يسمح لنفسه بالدخول في جوقة المهللين والمصفقين لعبد الناصر .
لماذا لم تفعل مثلهم .. يا دكتور عصمت ؟!!
6 – ويجيب عصمت سيف الدولة : " حينما كانت الحركة الجماهيرية القومية منتصرة تحت قيادة عبد الناصر كتبت ما كتبت حاثا ومحرضا جماهير الأمة العربية وقيادتها على عدم التوقف عند الوحدة الجزئية , وعد الاكتفاء بوحدة القيادة ووحدة الحركة بدون وحدة التنظيم . وساندت بالدراسات المكتوبة التي لم تنسب الى قط كثيرا من القوى القومية المناضلة ضد التجزئة في كثير من القطار العربية . ولم أكتب شيئا قط عن عن مصر تحت قيادة عبد الناصر التي كانت الأمة العربية قد كسبتها قاعدة قائدة انصرفت فيها الى تأصيل الوحدة وتبرير التضحيات من أجلها والتوحيد بينها وبين النصر في كل معارك التحرر والتقدم .. وقد عوتبت أيامها على أنني لم أذكر في كتبي لا مصر ولا الميثاق , ولا حتى عبد الناصر . وكان المعاتب صديقا قديما لي ومن أقرب الناس الى عبد الناصر!! ( علامات التعجب من عند كاتب الدراسة ) . وكان جوابي أني أقاتل بما أكتب في سبيل أمتي ووحدتها القومية حيث تدور المعارك مع الأعداء واحتمالات النصر أو الهزيمة . ولست معنيا , ولا أنا أجيد ترتيل أناشيد النصر للمنتصرين … ومصر عبد الناصر ( 1966 ) منتصرة فهي في غير حاجة الي . وخسرت كثيرا وكثيرين لم يفهموا ذاك الموقف .
لكني لم أعبأ بالتوقف لمعرفة ماذا ومن خسرت … كان الأكثر استحقاقا للانتباه مساندة الحركة المنتصرة حتى يتحقق النصر الأخير .. فرأى من رأى أنني أستحق لقب " قومي " وكان ذلك بالنسبة الي كسبا عظيما .. " ( عن الناصريين .. وإليهم )
وربما يرد البعض بان هذا تفسير متأخر لعصمت سيف الدولة لموقفه من عبد الناصر وقيادته للحركة القومية ولا يمكن الإحتجاج به على موقفه إثناء حكم الرئيس عبد الناصر ؟
نعم هذا تفسير يعود لعام ( 1987 ) حين كتب كتابه ( عن الناصريين .. وإليهم ) وفيه روى كل روايته مع قيادة عبد الناصر ودولة عبد الناصر ورجال عبد الناصر .
وسيبقى هذا التفسير منقوصا ما لم نتكلم عن " بيان طارق" وقصته :
حديث عن بيان طارق!!
7 - قبل أن ينتقل عبد الناصر الى رحاب ربه بسنوات قليلة كان قد مر بأكثر معاركه مرارة وألما : نكسة يونيو / حزيران.. الهزيمة التي مزقت كثير من الأفئدة والقناعات في الوطن العربي .
وراح " المنافقون " والمهتزون والمذبذبون يخوضون في أسباب النكسة بغرض تصفية حساباتهم القديمة مع عبد الناصر . ووجدت فيها منظمات وأحزاب طالما نافقت عبد الناصر الفرصة متاحة للانتقام من الرجل الذي حكم عليها بالذيلية الجماهيرية لسنوات طويلة . وهكذا ظهرت المعلقات اليساروية عن " البورجوازية الصغيرة المهزومة " ونظريات " الحرب الشعبية " والمقاومة الفلسطينية التي سترد على هزيمة البورجوازية الصغيرة وتحرير فلسطين الذي سيفتح الطريق للوحدة العربية !! .. الخ المعلقات التي أطلقتها في ساحة العمل السياسي كل الفئات الصبيانية المنفلتة من حزب البعث والقوميين العرب والمنظمات الفلسطينية "
الفداوية " واليساروية .
وسط هذه " الهزيمة العسكرية " تمالكت الجماهير العربية نفسها وطالبت قائدها بالاستمرار في القيادة ومواجهة الهزيمة . ووقف القائد وبدأ في مواجهة الهزيمة رغم آلامه الشخصية وكان لابد له من أن يعيد النظر كاملا في بنية الدولة والمؤسسات التي شيدها بنفسه وبالثغرات التي سمحت للعدو بالنفاذ منها وتحقيق نصره . لحظة شاملة من مراجعة النفس قادها عبد الناصر مع فكره ودولته ومؤسساته ( مراجعة يعرفها الكثيرون ممن اهتموا بفكر الرجل وحياته ) .
ووقف في نفس الخط - نقد الذات - كل القوميين الذين هزتهم" الهزيمة " فلم يستسلموا لردود الفعل المرتاعة التي استسلمت لها " الجملة المثقفة الطفولية " .
لقد أتضح " لعبد الناصر " وكل القوميين العقائديين أن هناك ثغرة واسعة ومفتوحة في بنية الثورة . وكما خرجت الجماهير تطالب " عبد الناصر " الاستمرار في موقعه في 9 و10 يونيو 1967 خرجت مرة أخرى تطالبه محاسبة المسئولين عن الهزيمة في مظاهرات 1968 .
وكان من هؤلاء " عصمت سيف الدولة " .
لقد أدرك " عصمت سيف الدولة " بشكل واضح طبيعة الخلل في الدولة الناصرية . إنها " الأجهزة الأمنية " التي حاولت أن تحجز القائد عن جماهيره بكل وسائل النفاق والقهر والبيروقراطية .
كيف يمكن - إذا - تخليص البطل من قبضتها وإعادته لجماهيره ليعاود بها ومعها انتصاراته ؟
التنظيم القومي …
8 - سيكتب " عصمت سيف الدولة " بعد نكسة يونيو / حزيران كتيبا صغيرا بعنوان " بيان طارق " يطالب فيه الشباب العربي ويحثهم على بناء " الحركة العربية الواحدة " ( أو التنظيم القومي ) لتكون تنظيما جماهيريا بقيادة عبد الناصر , على أن يتم إعلان هذا عام 1970. وكان عبد الناصر هو الذي حدد عام 1970 لإعادة النظر في " الميثاق " كوثيقة فكرية .
كان هدف " عصمت سيف الدولة " من " بيان طارق " ان يبدأ الشباب العربي في تكوين التنظيم خارج مصر وبعيدا عن أجهزة الدولة الناصرية لكي تتاح له ظروف النشأة الديمقراطية , ثم تلتحم هذه القواعد " المنظمة " بقائدها الجماهيري " عبد الناصر " عندما يعلن عن عقد مؤتمر القوى الشعبية في القطر المصري حسبما كان يخطط عبد الناصر قبل النكسة .
وكل هذا هو واضح من كلمات " بيان طارق " .. وهو " منشور" أو كتيب ثار حوله اللغط مرارا ولم يتيسر للكثيرين قراءاته رغم أنه نشر بعد ذلك في إحدى طبعات كتابه " نظرية الثورة العربية " .
في هذا الكتيب " المنشور " حدد " عصمت سيف الدولة " بوضوح طبيعة موقفه من " قيادة عبد الناصر " للحركة القومية كما حدد بوضوح تام موقفه من " أجهزة عبد الناصر " :
حديث عن قيادة عبد الناصر للتنظيم القومي
9 - كتب عصمت سيف الدولة فيما كتب في " بيان طارق " :
" … إن الطريقة الوحيدة للتغلب على العقبات التي تطرحها الإقليمية والإقليميون هي وجود التنظيم القومي فعلا . لهذا فإن تلك الصعوبات لا يمكن أن تقبل كعذر لتقاعس الثوريين العرب عن تكوين التنظيم القومي . إنها بعض الأسباب الجدية التي يجب أن تحرضهم على الإسراع في هذا التكوين . أما الصعوبات ذات الطبيعة القومية فهي النابعة من صفوف الثوريين العرب وعلاقتهم وطبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها النضال العربي وهذه هي التي تشكل بالنسبة الى مولد التنظيم القومي مشكلة لا بد لها أن تحل بالطريقة المناسبة أي بالطريقة التي توفق بين وحدة الثوريين العرب في تنظيم قومي واحد وبين متطلبات النضال القومي قبل مولد هذا التنظيم . قياسا على هذه التفرقة نجد أن الصعوبات المتبقية مما عددناه آنفا تنقسم الى قسمين :
الأول : يمثله نشاط بعض الأجهزة في ج . ع . م وعدم كفها عن التدخل في الميدان الجماهيري العربي مع عجزها من أن يكون هذا التدخل في خدمة التنظيم القومي . وهذا القسم من الصعوبات هو الذي يحتج به الكثير من العرب ذو الخبرة في التعامل مع هذه الأجهزة . والاحتجاج به ينسى أن تلك أجهزة ج. ع . م الدولة . الدولة الإقليمية .
أي أنها في التحليل النهائي أجهزة إقليمية تفكر اقليميا وتقدر إقليميا وتنشط اقليميا . ويترتب على هذا أمران:
أولهما : ان نشاطها مهما كانت صورته ومهما كان مداه لن يؤدي الى مولد التنظيم القومي العربي الواحد .
ثانيهما : أن التنظيم القومي العربي الواحد هو الوسيلة الوحيدة لاستغناء النضال العربي الواحد عن نشاط تلك الأجهزة .
وهذا يحدد للثوريين العرب واجبا ذو شقين :
أولهما : الكف عن توقع أن تلك الأجهزة رائدة وقائدة الى تكوين التنظيم.
ثانيهما : المبادرة الى تكوين تنظيمهم القومي .
وهكذا تنحسر المشكلة في علاقة الثوريين العرب بقيادة " جمال عبد الناصر " لمعركة التحرر العربي .
فمن ناحية لا بد من أن يقوم التنظيم القومي قائدا للنضال القومي وهو ما يعني أن تكون قيادة " جمال عبد الناصر " وكل المناضلين في معركة التحرر جزءا منه .
ومن ناحية ثانية لا بد " لجمال عبد الناصر " أن يسهم إيجابيا في تأسيسه .
وحل هذه المشكلة تقع على عاتق طرفيها وليس على أي طرف منه .
فما تتوقعه جماهير الأمة العربية من " جمال عبد الناصر " يعتبر واجبا قوميا على جمال عبد الناصر وهو مسؤول تاريخيا عن أداء هذا الواجب , والتغلب على ما يصادفه من عقبات يطرحها التركي السياسي الداخلي في ج. ع . م ومسؤولية إدارة دولة إقليمية . المنطلق القومي يحتم أن تكون الأولوية لكل ما هو قومي فلا يضحي به من أجل ما هو إقليمي . ومع معرفة الكثافة التاريخية للإقليمية في مصر , فإن أصعب مراحل الانطلاق القومي وهي الانفتاح على الأمة العربية وتسخير الإمكانيات الإقليمية من أجل النضال القومي قد تمت بقيادة " جمال عبد الناصر " في معركة التحرر العربي . فما هو مطلوب من " جمال عبد الناصر " هو مد المنطلق العربي الذي يدير به معارك التحرر ليكون أساسا موحدا لمعارك الوحدة والتنمية والاشتراكية وعلى وجه خاص ليكون أساسا للعمل الجماهيري والشعبي …. " ( بيان طارق)
10 - وفي أكثر من موضع من هذا " المنشور " أكد " عصمت سيف الدولة " إيمانه كمناضل قومي , بقيادة عبد الناصر للحركة القومية وللتنظيم القومي الذي يدعو لبنائه .
ولكن قيادة عبد الناصر للحركة العربية الواحدة أو " التنظيم القومي " شيء , ووجود " أجهزة عبد الناصر " الإقليمية في هذا المشروع شيء آخر , وهو أمر لم يتوان " عصمت سيف الدولة " عن التحذير منه .
ولكن لنتصور معا سيناريو وقوع هذا " المنشور " أو " الكتيب " في يد أجهزة عبد الناصر ( وهو لابد قد وقع ) , فهل كانت لتغفر لعصمت سيف الدولة هجومه عليها واتهامها بألفاظ صريحة في " بيان طارق " بأنها : " ضيقة النظر .. تنظر الى النضال العربي وتعالجه بطريقة إقليمية .. تفتقد الكفاءة الفكرية والعقائدية اللازمة لأية مساهمة مجدية في النضال القومي الجماهيري .. لا تتمتع بأية كفاءة في تنظيم الجماهير وقيادتها وقد فشلت في كل مرة حاولت هذا..( بيان طارق)
والسؤال الذي لابد يحتاج إلى إجابة منا هو :
هل كان " عصمت سيف الدولة " محقا في نقده لهذه الأجهزة لصالح قيادة " عبد الناصر " للجماهير العربية أم كان على خطأ ؟
ولابد أن نسترعي نظر القارئ الى أن كل هذا النقد " لأجهزة عبد الناصر " كان بعد نكسة يونيو / حزيران .. النكسة التي كشفت فقر هذه الأجهزة .. الأجهزة التي أنتقدها عبد الناصر بعد النكسة فيما أطلق عليه هو نفسه " دولة داخل الدولة " ..
ايا ما كانت الإجابة التي سيخرج بها المنتدون حول فكر " عصمت سيف الدولة " على هذا السؤال , فأن قصة " بيان طارق " لم تكن قد انتهت عند حدود كتيب أو " منشور " كتب ونشر ووزع على دائرة ضيقة أو واسعة من " أنصار الحركة العربية الواحدة " أو " التنظيم القومي " .
لا نملك في أيدينا من الوثائق ما يمكننا من الجزم من أن " أجهزة عبد الناصر " لم تحصل على هذا الكتيب " المنشور " , وليس لدينا ما يدعونا على الإعتقاد انها أنها " رحبت " بما جاء فيه من نقد مرير لها بسبب عدم كفاءتها وضيق افقها .
ولن يكون صعبا , والحال هكذا , أن نتصور كيف يمكن أن يكون رد فعلها على هذا النقد !!
ما هو موجود تحت أيدينا ان " عصمت سيف الدولة " سيقبض عليه في الأيام الأولى لحكم " السادات " وسيتهم بإنشاء " تنظيم قومي " هدفه قلب أنظمة الحكم في الوطن العربي . ليصبح ما سمي " بتنظيم عصمت سيف الدولة " أول تنظيم يتم القبض عليه في عهد الرئيس السادات ومحاكمة أفراده والحكم عليهم بسنوات طويلة في السجون . وسيتردد في محاكمة " عصمت سيف الدولة " ورفاقه أن أجهزة الدولة كانت " تراقبه " عن قرب , وقبل سنوات قليلة من القبض عليه بالجرم المشهود .. " جرم التنظيم قومي " !!
فإذا عرفنا أن القبض على " عصمت سيف الدولة " كان في عام 1972 فإن هذا يعني أن " أجهزة عبد الناصر " كانت قد وضعت عيونها علىه قبل وفاة الرئيس جمال عبد الناصر نفسه ؟!! .
وهو أمر يعني أن هذه " الإجهزة " كانت قد بدأت في تصنيف " عصمت سيف الدولة " في قائمة المعادين لها مع ما يحتمله هذا من سوء ظن .. ومراقبة وتحذيرات.. وإشاعات .. وحملات دعائية .. الى آخره .
وعلى من يهوى متابعة بقية هذه القصة فعليه أن يقرأ " بيان طارق " و " إعدام السجان " و " عن الناصريين .. وإليهم " فقد يساعده هذا في الإجابة على السؤال الذي طرحناه : هل كان " عصمت سيف الدولة محقا في نقد " أجهزة عبد الناصر " أم كان مخطئا ؟
وسيساعده حتما في الإجابة على هذا السؤال بالذات ما كشف عنه التاريخ من حوادث ومذكرات وأحداث خلال الثلاثين عاما التي مرت على وفاة الزعيم الخالد " جمال عبد الناصر " .
هل يكفي هذا كله لكي يعرف البعض لماذا كان يجيب " عصمت سيف الدولة " على السؤال : هل أنت ناصري ؟ بإجابة أكثر استفزازا : قل لي ما هي الناصرية فأجيبك على سؤالك ؟!
بالقطع لا !!
حديث عن المرتدين
11 - كان هناك سبب آخر عرفه بعض من أقترب من " عصمت سيف الدولة " أو من تحاوروا معه شخصيا . هؤلاء عرفوا فيه وعنه " مقته الشديد " لمن يضعون ولاءهم للأشخاص فوق ولاءهم للأفكار أو لمن يضعون ولاءهم للأفكار فوق ولاءهم لأمتهم .
لماذا لا تقول لهم – يا دكتور - أنك ناصري فتكسبهم ويكسبونك ؟
على هذا السؤال سيجيب عصمت سيف الدولة : " … كان مثيرا للدهشة ثم للغضب أن قادة الردة هم ممن كانوا يحيطون بعبد الناصر ويذهبون في التعبير عن الولاء لشخصه الى حد تحريم كلمة " لا " في مواجهته وتكفير نقده . نافقوه حيا حتى المذلة ونافقوه بعد مماته فركعوا أمام تماثيله الصماء . ولبسوا قميصه الى حين . أولئك لم يكن أحد ليجرؤ على إنكار إنهم هم " الناصريون " أيا ماكان مفهوم " الناصرية " في حياة عبد الناصر . فقد كانوا حريصين على أن يجمعوا في أشخاصهم علاقة الولاء وعلاقة الانتماء وعلاقة الوفاء وعلاقة الرجاء . أولئك الذين كانوا يحتكرون كهانة معبد " الناصرية " ويقيمون من أنفسهم طبقة عازلة بين القائد والجماهير ويصدرون أحكام الحرمان وأحكام القبول الى ساحة الثورة . أولئك الذين نثروا بأيديهم على ثياب الثورة ما علق بها من نقاط سوداء ثم عادوا يشيرون إليها بأصابعهم العشرة . هم الذين كانوا مع " الديكتاتورية " منذ بداية الثورة , وهم الذين كانوا قضاة المحاكم الاستثنائية . وهم الذين أصدروا أحكام الإعدام ونفذوها . وهم الذين حولوا زنازين المخابرات العامة والبوليس الحربي الى أماكن تعذيب سجون . وهم الذين عفوا بعد ذلك عن المجرمين وسهلوا لهم الإفلات من نفاذ أحكام القضاء . وهم الذين انشأوا وقادوا الاتحاد القومي وهم الذين أنشأوا وقادوا الاتحاد الاشتراكي العربي . وهم الذين نكصوا عن الإسهام في تنمية " وطنهم " فلم يستطع أن ينعم بخطة اقتصادية ثانية . وهم الذين كانوا مديرين للقطاع العام فنهبوه وأفشلوا ما استطاعوا من مؤسساته . وهم رجال الدولة التي انهزمت في ست ساعات عام 1967 . وهم الذين آلهوا القائد فمنحوه تفويضا مطلقا بأن يفعل ما يشاء بعد هزيمة 1967 . وكان أكثر ما أثار الاشمئزاز واستفز المشاعر أن المرتدين قد استجلبوا الهاربين من مخابئهم وكانوا هم الذين حملوا عليهم حتى هربوا , ثم مكنوهم من اشفاء غليل الحقد على الرجل الذي قاد حركة تطهير المجتمع منهم . وحل فجر العداء لعبد الناصر الميت محل ذل الرياء لعبد الناصر الحي … "( عن الناصريين … وإليهم , مصدر سبق ذكره , ص 16-17)
12 - كانت الساحة السياسية بعد وفاة عبد الناصر تضج بفصائل مختلفة من دعاة الناصرية وإدعياءها من كل شكل ولون , حيث كان الانتساب لعبدالناصر مشروعا لمن يطلبه رجاء أو رياء , رجاء لمصلحة قريبة أو محتملة , ورياء لجماهير أسبغت على بطلها في حياته كل ألوان العشق والتقدير , فكان التسابق على قميص عبد الناصر وتركته جزءا من معارك هؤلاء لاكتساب شرعية الوجود بعد أن خلت الساحة من الزعيم الذي كان وحده صاحب الشرعية الجماهيرية .. ولم يكن من الممكن لعصمت سيف الدولة أن يجيب عن السؤال المستفز وهو الذي نأى بنفسه عن مشاركة جوقة المنافقين نفاقهم في ظل وجود عبد الناصر وفي غمرة حضوره الآسر في ساحة السياسة العربية .
وهل يكفي في عدم الإجابة على سؤالهم : هل أنت ناصري " التعلل بوجود المرتدين " أو المتاجرين بالناصرية .؟
هل الإدانة السلبية تكفي .. يا دكتور عصمت ؟!!
بالقطع لا !!
13- فمنذ منتصف السبعينات سيكرس عصمت سيف الدولة عددا لا بأس به من كتاباته الفكرية في الدفاع عن منجزات عبد الناصر, وفي ذات الوقت سيستنفذ عدد كبير من " رجال عبد الناصر " كل مواهبهم في " كتابة مذكراتهم الشخصية " للتدليل على درجة قربهم من " الزعيم ". كان " عصمت سيف الدولة " يكرس كل جهده الفكري في الدفاع عن إيجابيات حقبة عبد الناصر ومواجهة حملة المرتدين وسيصدر كتابه الممتاز " هل كان عبد الناصر دكتاتورا " للدفاع عن تجربة البناء الاشتراكي التي قادها عبد الناصر ومواجهة الحملة التي كان يشنها اليمين واليسار في آن واحد تحت دعاوى الديمقراطية وسيصدر بعد هذا الكتاب تقييمه وموقفه من تجربة الديمقراطية الشعبية في عهد عبد الناصر تتضمن تقييما فكريا تاريخيا فلسفيا واجتماعيا وقانونيا سيظل في رأيي أكثر ما كتب في هذا الموضوع جدة وجدية ( في كتابيه : هل كان عبد الناصر ديكتاتورا , والأحزاب ومشكلة الديمقراطية )
وسيكتب عصمت سيف الدولة يدافع عن القطاع العام وحق الشعب فيه ( كتيب : رأسمالية وطنية , ورأسماليون خائنون )
وسيكتب عن الصلح مع العدو الصهيوني الذي قاده السادات اعمق دراسة قانونية وسياسية تناولت معاهدة " الشؤم " كامب ديفيد ( كتاب : هذه المعاهدة )
سيكتب يحذر مرة أخرى منظمة التحرير الفلسطينية من مخاطر الاعتراف بعدوها الصهيوني ( الإعتراف المستحيل )
وغير ذلك كثير .
14- وكانت كل هذه الدراسات هي السلاح النظري الذي حمله عدد كبير من الشباب الناصري في حربهم ضد الردة والمرتدين .
فهل قصر عصمت سيف الدولة في واجبه نحو عبد الناصر والناصرية ؟!!
وهل أدى الذين رفعوا شعارات ناصرية زاعقة واجبهم نحو فكر عبد الناصر وتراثه النظري مثلما فعل " عصمت سيف الدولة " الذي كان موضع مساءلة وشك في مواقفه من عبد الناصر والناصرية ؟!!
للأسف الشديد سينشغل عدد ممن يقولون عن أنفسهم " ناصريين " - في محاولة لترويج أنفسهم ككتاب ومفكرين " تقدميين - في إنشاء كتابات ذات حظ ضئيل من الجودة في الرد على كتابات لراقصات وداعرات وصحفيين هاربين أعادهم السادات لمهاجمة عبد الناصر
15 - كانت ساحة اليمين واليسار تحفل بكل الوجوه الكئيبة من جواسيس وعملاء مخابرات أجنبية وانتهازيين وطامحين يتحركون تحت قيادة رأس الدولة الذي كان رفيقا لعبد الناصر ونائبه وخليفته .
والواقع الثابت هنا أن " عصمت سيف الدولة " لم ينخدع بالسادات منذ اليوم الأول لتوليه خلافة عبد الناصر كما انخدع به معظم المقربين من عبد الناصر. يقول عصمت سيف الدولة :
" منذ اليوم الأول لوفاة عبد الناصر توقعت ما أصبح اليوم واقعا . أولا لأنني كنت أعرف معرفة صحيحة الدور القومي الذي يقوم به عبد الناصر : وثانيا لأنني كنت أعرف معرفة صحيحة أنور السادات ( منذ 1946). فقد كان أنور السادات إقليميا فرعونيا رأسماليا نرجسيا منذ بداية حياته العامة . ولم يكن يعبأ بالتقييم الاجتماعي للمواقع التي يختارها لنفسه ما دامت ترضيه ( استطاب معاشرة حاشية الملك والالتحاق بحرسه الحديدي مع أنه لم يكن ملكيا ) . فهو لم يخدع أحدا إنما إنخدع به من لم يعرفوه بعيدا عن عبد الناصر فلم يعبأ بانخداعهم . أيا ما كان من أمر ذاته فإنه لم يلبث حتى أرتد عن الاتجاه القومي التقدمي لثورة يوليو الناصرية .. فإتنقلت المعارك بالنسبة لي , وبالنسبة الى كل قومي حقا وصدقا , الى القاهرة . وأصبحت مقاومة الردة والحفاظ على الانتماء القومي واسترداد مص الى مركز القاعدة للحركة القومية هو القضية القومية المركزية . ولقد أخطأ الذين لم يستمعوا إلي من قادة منظمة التحرير الفلسطينية حين نبهتهم الى أن قضية مصر , وليست قضية فلسطين قد أصبحت القضية القومية المركزية بعد اتفاقية كامب ديفيد . كما أخطأ خطأ فادحا الذين أعماهم ولاءهم الذاتي لشخص عبد الناصر حينما اتخذوا من اختياره للسادات نائبا حجة لاختياره رئيسا . على أي حال فقد استغرقتني المعارك في الساحة والزمان اللذات حددهما أنور السادات . ومازلت أكتب وأنشر وأدافع عن كل المعارضين وأدخل السجون وأخرج منها من أجل الدفاع عن أمتي العربية في معركة تجري في مصر , حتى تلقيت عديدا من الرسائل من الشباب العربي في أقطار متعددة يتهمونني بأنني قد أصبحت إقليميا .. الى أن سمحت الظروف بعد أنور السادات بأن ادخل معركة قومية شاملة كل الأقطار بكتابي " عن العروبة والإسلام " ( عن الناصريين .. وإليهم )
حديث عن الناصريين ووحدتهم التنظيمية
16 - وكان هناك سبب ثالث في ألا يجيب عصمت سيف الدولة عن سؤالهم المستفز : هل أنت ناصري يا دكتور عصمت ؟
فكنا نراه يرد على سؤالهم بالقول :
"… منذ البدايات المبشرة , قدرت أن أوفي بواجب اعتقد أنني قادر على الوفاء به : ان أنشئ وأنشر دراسة أجتهد أن تكون علمية وموضوعية تجيب على السؤال : " من هم الناصريون " علها تساعد الناشئة من الشباب على فرز قواهم واختيار رفاق نضالهم بدون مخاطر الاحتواء أو الاختراق أو بأقل قدر من تلك المخاطر .. فبدأت في إنشائه عام 1983 على ما أتذكر . فلما فرغت من كتابة جزء كاف منه أقرأته بعض الشباب الناصري الذين كانوا وما يزالون على صلة حوار مستمر معي . فأقترحوا تأجيل إتمامه ونشره متحججين بأنهم , طبقا لمقتضيات المرحلة , وهم أعلم بها مني , فيرون ان الكتابة في هذا الموضوع ستضيف الى متاعب اتفاق الناصريين متاعب الخلاف حول إجابة مطروحة عن السؤال : " من هو الناصري " . وأن الوقت الملائم لمثل هذا الطرح لم يأت بعد , فلم أستمر في الكتابة تقديرا لموقفهم من ظروف هم اعلم بها مني لأنها ظروفهم .. وقد ثبت صحة تقديرهم فعلا , إذ استطاعوا بدون إجابة على السؤال المؤجل أن يقفوا على أعتاب التنظيم الذي استهدفوه … "
17 - استجاب عصمت سيف الدولة , إذا , لرغبة الشباب الناصري حتى لا يكون سببا في اتساع شقة الخلاف .
ولكن ما لم يكتبه " عصمت سيف الدولة " عن نفسه أنه لم يكن يتردد في أن ينصح هؤلاء الشباب " أنفسهم " في لقاءاته الفردية والجماعية بهم أن يتوحدوا على وثيقة فكرية تجمعهم معا في إطار حركي واحد.
وبعضهم يذكر , أو لا ينكر , انه طالبهم بالتوحد على الميثاق كوثيقة صالحة وكافية لضمان وحدتهم التنظيمية .
الوحدة التنظيمية للناصريين كانت هدفا من أهداف حياة " عصمت سيف الدولة " كرس لها من حياته ما شاء الله له من سبل الفكر والقول والعمل .
لماذا هذا كله يا دكتور عصمت ؟!
حديث عن الحزب الناصري
18 - ويجيب عصمت سيف الدولة على هذا السؤال قائلا :
.. ان الناصريين كانوا , وما يزالون على ما أعتقد , أكثر انتشارا على المستوى الشعبي من أية قوى أخرى .. وكان عليهم أن يتحولوا من تيار شعبي غير منظم إلى قوى جماهيرية منظمة . إلى حزب . ولكنهم كانوا يواجهون في سبيل ذلك عدة عوائق ذات طبيعة نظامية وتاريخية لم يواجهها ولا يواجهها مجتمعة حتى الآن أي تيار آخر . منها عداء الدولة وإنكار شرعية التنظيم عليهم . ومنها غياب الخبرة بالتقاليد التنظيمية لدى الجيل الجديد . ومنها افتقاد قيادة محورية مقبولة من الجميع . ومنها الناصريون " الرماديون " الذين أرادوا أن يكونوا ساداتيين فعلا جلبا للكسب الحالي وناصريين قولا ليستحقوا الكسب المحتمل , فأضعفوا أثر الفرز الحاد الذي كان كفيلا بأن يخدم هدف التحام الناصريين قولا وعملا في حزب . ومنها أخيرا وليس آخرا عقبة كيفية التنظيم , الصيغة التقليدية هي أن تلتقي أقلية من الصفوة على مبادئ يصوغونها ثم يدعون الناس الى الالتحاق بهم , أو يستقطبونهم أفرادا حتى يكون للهرم الذي بدأ من قمته قاعدة جماهيرية كافية لحمل ثقل مبادئه فبيستقر . مشكلة الناصريين أنهم يكونون قاعدة جماهيرية عريضة لا بد أن يبدأ منها بناء هرمهم التنظيمي . وهي مشكلة عويصة لأنها كانت تقتضي قبل أي بناء تنظيمي التحقق من أن كل فرد من القاعدة ناصري . وكان هذا التحقق يفتقد المعايير الموحدة كما يفتقد الحكم المقبول من الجميع أو حتى من الغالبية ليتولى الفرز على ضوء تلك المعايير . باختصار , كان مطلوبا لتسهيل مهمة تحول الناصريين أو أغلبهم الى قوة منظمة الإجابة على سؤال : من هو الناصري ؟ " ولم يكن ثمة إجابة على السؤال إلا قول الموجه إليه فردا .. ولم يكن ما ينسبه كل فرد الى نفسه كافيا أو ملائما لبناء تنظيم .. ولقد استطاع الناصريون أن يتحولوا عن طريق تفاعل قريب الشبه من التفاعل الكيميائي من أفراد ( ذرات ) الى جماعات ( بلورات ) وأن تتجمع البلورات في كتلة ( حزب تحت التأسيس ) يقاوم ذوبان كل أفرادها وجماعاتها أفراد وجماعات . فاصبح محتوما عليهم جميعا أن يجيبوا على السؤال المؤجل : " من هو الناصري ؟ .. وهم فاعلون إن شاء الله … " ( عن الناصريين .. وإليهم)
وما فائدة أن تكتب وأن تعمل من أجل أن يؤسس الناصريون حزبا إقليميا في مصر .. يا دكتور ؟
حديث عن الإقليمية في مصر
19 - ويجيب عصمت سيف الدولة على هذا السؤال قائلا : " أيا ما كان المستقبل ضمن منطلق الولاء القومي ووعي أبعاد وقوى المعركة القومية التي أصبحت مصر ساحتها , رأى القوميون أنه واجب قومي عليهم نحو أمتهم أن يبذلوا كل ما يستطيعون من جهد للإسهام أو المساعدة على أن يلتحم الناصريون في تنظيم هو القادر بجماهيره على أن يحسم المعركة ضد الردة لصالح مصر العربية كما يمكن أن يكون في مرحلة لاحقة وبعد النصر في الإقليم القاعدة قابلا للنمو تنظيما قوميا .. "
وسيحمل عصمت سيف الدولة على عاتقه عبء الدفاع عن حق الناصريين في حزب سياسي أمام القضاء , وسينجح عبر موهبته القانونية وحنكته السياسية في الحصول للناصريين على الحكم القضائي بشرعية حزبهم " تحت التأسيس " ليصبح حزبا جديرا بحمل أسم البطل القومي .. فهل كان عصمت سيف الدولة مقصرا في أداء ما رآه واجبا نحو الناصرية والناصريين ؟ ! وهل كان فيما كتبه وعمله اقل ناصرية من هؤلاء الذين تسلموا - بفضل جهوده القانونية - حزبا يجمع معظم الناصريين داخله لينتهوا به وقد خرج منه - بفضل جهودهم - معظم الناصريين ؟!!
هل يمكن أن نفهم لماذا حدث هذا للحزب الناصري في مصر .. الحزب الذي علق عليه القوميون كل آمالهم في إسترداد مصر قاعدة للنضال العربي والوحدة العربية؟
لن يصلح أن نقيم في هذه الندوة ما حدث داخل الحزب الناصري فليس هذا هدفنا من هذه الدراسة .
يكفي أن نقول أن ما سماهم عصمت سيف الدولة " الناصريين الرماديين " لم يسعوا لحظة واحدة لتحديد من هو الناصري ومن هو غير الناصري وفق معيار موضوعي غير ذاتي أي على أسس منهجية وفكرية محددة . لقد دخل الناصريون حزبهم وكل منهم يحمل مفهوما ذاتيا وخاصا " للناصرية " فكان لابد والحال هكذا أن يتمزق الحزب وينفرط عقد الناصريين داخله وخارجه . وكان من الطبيعي أن يحتل " الناصريون الرماديون " المواقع والمناصب التي تؤهلهم لها " ناصريتهم " الصارخة والزاعقة في مواجهة من فضلوا العمل للناصرية فكرا وعملا وجهدا دون ضجيج أو تعالي أو إدعاء .
إذا كان ما فعله " عصمت سيف الدولة " للناصرية , فكرا وعملا , صار غير منكور عند الكثيرين من الناصريين بعد أن غاب الرجل عن عالمنا : هل يحق لنا أن نتساءل : أما وقد خاض الرجل للحزب الناصري ( تحت التأسيس ) معركته القانونية حتى وصل به الى شرعية الوجود .. فهل اعترف بجهوده من قادوا واستفادوا من ناصريتهم كسبا ورجاء ؟
حديث عن التنظيم القومي
20- ولا نود أن تنتهي هذه الدراسة قبل أن نخوض في السؤال الذي طالما ثار في الأذهان والحجرات المغلقة ونسجت حوله اساطير مثيرة : هل كان عصمت سيف يصنع تنظيما قوميا ؟
لسنا بحاجة لكي نجيب من عندنا على هذا السؤال " باثر رجعي " فلقد أوضح " عصمت سيف الدولة " موقفه من بناء التنظيم القومي منذ البداية في " بيان طارق " .
الذي لا يعلمه الكثيرون أنه ما كان ليصنع لنفسه تنظيما وهو المفكر والفيلسوف الذي أدان صيغة البناء التنظيمي حول الأشخاص .
وكنا نسأله .. لماذا يا دكتور لا تبادر بالدعوة لبناء التنظيم القومي وتتولى قيادته ؟
والإجابة على هذا السؤال سيجدها من يهتم بهذا الموضوع في " بيان طارق " .
يقول :
" … إن الخبرة العينية أكدت في كل مرة أن إنشاء التنظيمات الجماهيرية عن طريق القيادة تسلب الرابطة بين تلك الجماهير أحد شرائطها الأساسية فتصبح تنظيمات فردية . فعندما تتولى القيادة إنشاء التنظيم :
1 - تكسب صفتها كقيادة قبل نشأة التنظيم .
2 - تدعو الى التجمع حولها في التنظيم .
3 - تختار الكوادر القيادية في هذا التنظيم .
ويترتب على ذلك :
1 - أن تظل القيادة " دائما " فوق التنظيم الذي أوجدته فتحول بالتالي دون التطور الديمقراطي والثوري للتنظيم ومن داخله , ويصبح النشاط الديمقراطي والثوري مباحا على ألا يصل الى حد نقد القيادة أو تغييرها .
2 - كما أن الدعوة الى التجمع في تنظيم حول قيادة معينة يحول هذا التنظيم الى تنظيم القيادة وليس تنظيما للأمة العربية . وينعكس هذا على مقدرة التنظيم في مواجهة النضال العربي في مواقع بعيدة عن اهتمامات القيادة , ثم أنه يعرض التنظيم ذاته الى ما تتعرض له القيادة من انتكاس أو تراجع أو انحراف .
3 - أن تولي القيادة اختيار الكوادر بعيدا عن الديمقراطية التنظيمية - لأن التنظيم لم يكن موجودا أصلا قبل اختيار الكوادر - يحصر التنظيم منذ نشأته في مضايق التقدير الشخصي والتجارب المحدودة التي لابد لها من أن تكون إقليمية بحكم الحصر الإقليمي الذي يفرضه واقع التجزئة في الوطن العربي , ويتضاعف هذا وينكشف كلما اتسع التنظيم , إذ تتولى القيادة شخصيا اختيار ما يليها من مستويات وهذه تختار ما يليها … الخ وهكذا تصبح الرابطة الحقيقية في التنظيم مستندة الى علاقات شخصية مجردة تماما من المبرر الموضوعي أو العقائدي وعندما يصل الأمر الى هذا الحد يكون التنظيم قد أصبح مؤسسة من الأشخاص الذين تربطهم روابط خاصة لا علاقة لها بالمتطلبات الموضوعية لنضال الأمة العربية . فلا يلبثون أن يتخذوا من التنظيم آداه لعزل القيادة عن الجماهير خارجه , أو مطاردة من يتوقعون منهم أن يكونوا منافسين لهم في مراكزهم القيادية , ويؤدي هذا - وغيره - الى أن ترفض عناصر ثورية مجرد الزج بنفسها في هذا الجو التنظيمي وصراعاته الانتهازية " ( بيان طارق )
21 - كان هذا هو موقف عصمت سيف الدولة من التنظيمات التي تنشأ حول قيادة شخصية تسبق بناء التنظيم وتوجهه وتقوده وقد تنحرف به . ولقد حافظ " عصمت سيف الدولة " على وجهة نظره تلك حتى نهاية حياته وقاوم كل الإغراءات والدعوات و " التوسلات " لأن يبادر بإنشاء تنظيم القومي وان يشارك في قيادته . وكان قادرا على فعله لو أراد أن يكون زعيما لحزب ينضم لمئات الأحزاب الفاشلة التي تدعي شرف إنقاذ الأمة العربية . وعلى الرغم من الموهبة الفكرية أو التنظيمية التي كان يتمتع بها " عصمت سيف الدولة " والتي يفتقدها كثير من زعماء الأحزاب التي تسمي نفسها قومية , إلا أنه لم يرد أن يضف للأمة العربية فشلا جديدا " باصطناع " حزب سياسي حول شخصه يعيق من حركتها نحو المستقبل وترك هذه المهمة للشباب العربي المؤمن بها . فهل يعي هذا الدرس بعض الشباب العربي الذي يتطلع , دون وجه حق أو موهب, لإقامة أحزاب معدومة التأثير , اللهم إلا للرغبة في الاستمتاع بلعبة " الزعامة " على شلل عاطلة من الفاعلية؟!!
خاتمة واجبة
لم يكن هدفنا من السطور السابقة محاكمة أحد أو التشهير بأحد أو حتى تمجيد أحد حتى لو كان تمجيد " عبد الناصر " او "عصمت سيف الدولة " .
لقد علمنا الاثنان أن الأمة العربية أبقى وأخلد من الجميع وتستحق منا كل التمجيد و الإخلاص والحب .
وعلمنا الأثنان , قبل كل شيء وبعده , ان التمجيد والإخلاص و الحب لا يكفوا لإخراج أمتنا من عثرتها ما لم يتسلح المناضلون العرب بالأسلوب العلمي في العمل السياسي وأول قوانينه إن وحدة الهدف تقتضي وحدة التنظيم .
لو أدرك هذا القانون كثيرون ممن عملوا في ساحة الوطن العربي على مدار العقود الأربعة الفائتة ما كانت أمتنا العربية وشعبنا العربي ليصلا إلى هذا الظلام المخيف .
لو أدرك كثيرون ممن يتحلقون حول هذه الندوة كم من البشر والأعمار راحت من أجل هدف " الحركة العربية الواحدة " ما كان الاحتفال بذكرى رحيل المناضلين القوميين ليتشح بكل هذا الأسى والمرارة .
أيها السادة :
ما كان " عبد الناصر " أو " عصمت سيف الدولة " بحاجة لكلمات احتفالية أو تكريم إنشائي .
إن روحيهما لن تستقرا عند بارئهما إلا يوم يقيم المناضلون العرب لأمتهم تنظيمها القومي الذي يحقق لها وحدتها السياسية .