د. دندشلي - لماذا حـركـة الحـوار والثقافة في لبنان المـنـطـلـقـات والأهـداف
لماذا حـركـة الحـوار والثقافة في لبنان
المـنـطـلـقـات والأهـداف !! (1)
كـلـمـة
الدكتور مصطفى دندشلي
( ... ) إنّ الغايةَ من وراءِ عقدِ هذا الملتقى الثقافيّ ، هي أولاً فسحُ مجالِ التعارفِ ، التعارفِ الفكريّ ، والتقاربِ الإنسانيّ ، والتواصل الاجتماعي بين أعضاء الحركة وأصدقائها في جوّ من الألفة والأخوّة والمحبة ... وطرحُ ثانياً ، وفي الوقت ذاته ، جملة مفاهيمَ فكريّة عديدة للحركة ، نودُّ مناقشتَها وبحثَها لاحقاً وفي مناسبات أخرى (...)
وأهميّة هذه اللقاءات هي أنّها تتيح لنا مجال التواصل والتعارف والحوار والاحتكاك والنقاش . وإذا كان من شرط نضعه للمشاركة في هذا النوع من اللقاءات الفكريّة الحواريّة ، فهو قبول فكرة الحوار في المضمون والمحتوى والأهداف ، والرغبة الصادقة في التلاقي والحوار مع الآخر واعتماد الصراحة والوضوح في طرح الأفكار والمواقف ، كلّ ذلك من أجل العمل الجاد والمخلص لإعادة بناء مجتمعنا على أساس أفضل، الإنسان يتمتّع فيه بكامل حريّته وكرامته وإنسانيته. والحوار هو هذه المحاولة الجادة في أن يعرف الواحد منّا الآخر ، أن يعرفه على حقيقته ، وكما يرى هو نفسه ، لا كما نتصوّره نحن ، ونحكم عليه . وهذا في الحقيقة شرط صعب التحقيق ، بمعنى يتطلب جهداً على صعيد الفكر والعقل والقلب معاً ... هذا فعلاً إذا أردنا أن نتحاور حقيقة، وأن يُغني الواحد منّا الآخر وأن نغتني نحن بدورنا .
اسمحوا لي ، هنا ، أن أُقدّمَ ، بداية ، لمحةً موجزةً ، مقتضبةً ، حول تكوين حركةِ الحوار الديمقراطي ... فهناك في الواقع جملةُ تساؤلاتٍ تُطرحُ في هذا المجال : لماذا هذه الحركة الثـقافيّة الجديدة ؟... ما هي أهدافها والغايةُ من وجودها ؟... ما هو منهجُها وأسلوبُ عملِها في الفكر والممارسة ؟... وهل ستكون مولوداً ثقافياً جديداً ، يُضاف إلى الجمعيات والهيئات الثقافيّة العديدة ، المنتشرةِ في طول لبنان وعرضه ؟!... أم أنها تطمحُ ـ وهنا خصوصيّتُها ـ إلى أن تكون شيئاً جديداً ، مميّزاً ، في هذا الجوّ الخانق من اليأسِ والضَياع والإحباط ؟!!...
في الحقيقة وواقع الأمر ، وكما نعلم جميعاً ، لقد أدّت نتائجُ الحروبِ اللبنانيّة إلى انهياراتٍ عميقة وشاملة ، أصابت بصورة أو بأخرى شتّى الجوانب الاجتماعّية والسياسيّة والحزبيّة والميليشياويّة ، وطالت القيادات على أنواعها ... وأبلغُ هذه الانهياراتِ وأشَدُّها وقعاً ، قد كانت في المستوى السياسيّ والفكريّ والوجدانيّ ـ النّفسيّ العام ... كما أظهرت للّبنانيين أنفسِهم ، في الوقت ذاته وبنوع من صحوة الوعي الذاتيّ ، أنهم في الأعماق لا يعرفون بعضهم بعضاً معرفةً حقيقيّةً ، صحيحةً ، واقعيّة ... فقد كان لكلِّ فريقٍ منهم تصوراتٌ وقناعاتٌ ثابتةٌ عن الفريق الآخر ، في مجملِها وهميةٌ وأسطوريّة ، لا تحتمل الجدلَ أو النقاش . فكانوا وكأنّهم يعيشون ـ إذا صحّ التعبير ـ في جزرٍ متفرّقةٍ الواحدة عن الأخرى ، تحيطُ بكلٍّ منها المياهُ من كلّ جانب، جزرٍ طائفيّة ومذهبيّة ومناطقيّة، جزرٍ حزبيّة وسياسيّة وأخيراً ميليشياويّة ، مع ما يملكون من امتداداتٍ وعلاقاتٍ خارجيّة، إقليميّة أو دوليّة. كلّ ذلك متداخلٌ أشدّ التداخل ومتشابكٌ أشدّ التشابك، بطريقة تثيرُ دَوارَ الفكرِ السياسيّ وتيهه ، وإشكالياتِ الثقافة الصعبة والملتبسة والمثيرةِ للنقاش والسجال والجدل المتواصل...
في هذه الأجواء التي حاولت فقط أن أشيرَ إليها بصورة موجزة ، دون أن أدخلَ في التفصيل أو الأسبابِ العميقة والنتائجِ البعيدة ، في هذه الأجواء العامة ـ أقول ـ بـدت لنا الحاجةُ ماسّةٌ ولا تزال ، إلى ظهورِ شئ جديد ، أفكارٍ جديدة ، تيارٍ جديدٍ ، قياداتٍ جديدة ، تصدرُ من رَحِمِ الأحداثِ المؤلمة ، وتكون نقيضاً عنها وناقداً لها في الفكر والقول والممارسة ... ثمّة حاجةٌ ملحّةٌ، بعدما فشلتِ القوى جميعُها على الساحة اللبنانيّة ، من سياسيّة واجتماعيّة وحزبيّة ، إلى قيامِ حركة ثقافيّة جديدة يعودُ ويلعبُ فيها المثقّفون بصدقٍ وبعمقٍ وبكثيرٍ من التجرد ، المثقفون الأحرار ، المثقفون الملتزمون بقضايا المجتمعِ والإنسان ، دوراً جديداً ، بروحيّة جديدة ، بعقليّة جديدة ، بأسلوب جديد ، وبرؤية مستقبليّة جديدة .
هذا هو الرهانُ الكبيرُ ، في ما أرى ، الذي كان ولا يزال مطروحاً على بساط البحث والنقاش ، في شتّى الأوساط الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة على السواء ... من هنا ، بالنسبة إلينا ، كما قلت ، كانت الرغبةُ ملحّةً والطموحُ كبيراً في العملِ الجادّ والمخلص والرصين على تأسيس حركة فكريّة ، ثقافيّة ، ديمقراطيّة ، حواريّة ، تغييريّة ، تأخذُ هذه المفاهيمَ ، وغيرَها كثير ، على عاتقها، وتعتمدُ عليها وتنطلقُ منها ، وتعطيها معنىً جديداً في فكرِها وأسلوبِ عملها وتحديد أهدافها..
وبالفعل ، ومنذ ما يقرب من سنتين ، وفي هذا السياق العام ، تكوّنت نواة حركة الحوار الديمقراطيّ ، ونمت تدريجاً بهدوءٍ وجدّية وعمل متواصل دؤوب، دون إعلام أو تصريح أو ضجيج. وهي حركةٌ فكريّة ، ثقافيّة ، وطنيّة ، تضمّ مثقّفين من كتّابٍ ومحامين ومهندسين وأطباء وأساتذة الجامعات ومدرِّسين وطلبة ، من بيئاتٍ اجتماعيّة وفكريّة ودينيّة ومناطقيّة متنوّعة ، يلتقون على مبادئ ـ ثوابت أساسيّة في الفكر والثقافة والاجتماع ، تعبّرُ عن طموحاتِ الشعب اللبنانيّ وضميرِه الخلاّق وآماله المستقبليّة ... وهي تسعى بكلِّ صدقٍ وإخلاص ، مع غيرها من الهيئات الثقافيّة الصديقة والكتّاب والمفكرين ، إلى أن تُعيد الاعتبار للفكر وللعقل وللثقافة ، وذلك من أجل أن يعودَ الفكرُ والعقلُ والثقافةُ ويلعبوا دورَهـُمُ الرائدِ والملتزمِ بقضايا المجتمع والإنسان في لبنان .
لهذا ، فقد كانت جمعيتُنا الثقافيّة الناشئة تشدّد منذ بداياتها الأولى ولا تزال ، على إعطاء الأهميّة الكبرى والدورِ الرائدِ للفكر والثقافة، وعلى إعطاء الأولوية للنوعيّة لا للكثرة العدديّة. وأن تكون تياراً ثقافياً ، فكرياً، وطنياً ، شمولياً ، لا سياسياً أو حزبياً ، لا طائفياً أو مناطقياً أو فئوياً...
لذلك ، ومن أجل ترجمةِ هذه التطلعات والمبادئ الأساسيّة وإخراجِها إلى حيّز الوجود والتنفيذ العمليّ ، كان التركيزُ منذ البداية على تطبيق مبدأ التوافق الكليّ والانسجام التام بين المؤسّسين في الرأي والمبادئ والأهداف، والانطلاقِ من تحقيق مبدأ الحوار والديمقراطيّة في ما بينهم والمحافظةِ بوجه خاص، المحافظةِ الكلية على الاستقلالِ الذاتيّ، الاستقلالِ فـي الفكر والممارسة، الاستقلالِ في وضع السياسة العامة والأهداف الثقافيّة ... بكلمةٍ واحدة ، المحافظةِ على الاستقلاليّة التامة ، الأدبيّة والماديّة في آن معاً . كلّ ذلك ، وهذه نقطةٌ أساسيةٌ في تفكيرنا ، انطلاقاً وبهدف القيام بمراجعةٍ مراجعةً نقديةً، عميقةً ،شموليةً لتجربتِنا اللبنانيّة الماضية، الغنيّةِ بأحداثها ومآسيها وعِبَرِها ودروسها ، مراجعَتِها بالعلميّة الضروريّة والصدقِ المرغوب ومشاركةِ الطاقات الفكريّة والثقافيّة المتنوّعة ، وهي كثيرةٌ وكثيرة جداً في لبنان ... بمعنى آخر ، ما نحن بحاجة إليه اليوم ، في الواقع، هو استحداثُ " ورشةِ عملٍ ثـقافية " ـ إذا صحّ التعبير ـ تصبُّ فيها وتُسهمُ مختلفُ التيارات الفكريّة، الديمقراطيّة ـ الحواريّة، وتكون واضحةَ المنطلقاتِ المبدئيّة ، ومحدّدةَ الأهدافِ والبَرنامج.. هذا إذا كنّا فعلاً ، نحن المثقّفين ، نريد أن نبنيَ وطناً جديداً ومجتمعاً جديداً ومواطناً جديداً ، أقلَّه على صعيد الفكر والعقل والثقافة ...
لهذا ، فقد كان منهجُنا في العمل ، منذ البداية ، يتّصفُ بالرويّة والهدوء ، وعدمِ التسرّعِ أو الاستعجال ، وتحقيقِ الحوار والديمقراطيّة والشموليّة في وضع المبادئ والأهداف ، واستبعادِ فكرةِ الحزبيّة والسياسةِ التقليديّة في أذهانِنا وممارساتِنا ، وتجاوزِ الحدودِ الطائفيّة ، وكسرِ الحواجزِ السياسيّة والثقافيّة والنفسيّة في ما بيننا، وأخذِ لبنان والنظرةِ إليه كوَحدةٍ وطنيّة مجتمعيّة متكاملة، دون تمييز أو تفريق .
فمن ضمنِ هذه الرؤية الشموليّة والمنهجِ العام في العمل ، فقد وَصَلتْ أخيراً حركةُ الحوار الديمقراطيّ في لبنان إلى أن تضمَّ الآن بين صفوفها ، من مؤسّسين وأصدقاء ، نخبةً جليلةً من المثقّفين من بيئات اجتماعيّة وفكريّة ومهنيّة وعُمَريّة ( من الأعمار ) متنوّعة . وقد تقدّمت بتاريخ 24 شباط الماضي بطلبِ علمٍ وخبر إلى السلطات الرسمية في وزارة الداخليّة ، بعد أن نضجتِ الفكرةُ ـ فكرةُ الحركة ـ النُّضجَ المطلوب ، وتوضحتِ الأهدافُ وتحدّدتِ مناهجُ العمل .
وهذه الخَلوةُ الفكريّةُ الدراسيّة الأولى ، التي نقيمها اليوم ، هي تتويجٌ للخطواتِ التمهيديّة والاجتماعاتِ التأسيسيّة واللقاءاتِ الثقافيّة التحضيريّة السابقة التي كانت تعقدُها حركتنا ، هنا وهناك وهنالك ، طوال سنتين تقريباً ... آملين نجاحَها ومتابعةَ نشاطاتها المستقبليّة ، دون كلل أو ملل ، وبصبرٍ وعمل دؤوب . وإسهامُكم جميعاً معنا ، لـه أهميةٌ ومعنىً كبيرين بالنسبة إلينا ، كلٌّ حسب طاقته وإمكاناته ...
إذا كان لي من كلمةٍ أخيرة أختمُ بها ، ( ... ) فهي أن أتقدم إليكم باقتراح شعار لهذا الملتقى الثقافيّ الأول ولحركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، أرجو مناقشته وإبداء الرأي فيه ، ويمكن صياغته على الشكل التالي :
حـريّـة ، ديـمـقـراطـيّـة ، تـغـيـيـر
انــطــلاقــاً مــن الحــوار
ومـن أجـل الإنـسـان
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ) مقتطفات من كلمة التقديم التي ألقاها الدكتور مصطفى دندشلي في " الملتقى الثقافيّ الأول " لحركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، المنعقد في قاعة محاضرات " دار سيّدة الجبل " ( فتقا ـ كسروان ) ، طوال يوم الأحد الواقع فيه 10 نيسان 1994 .