د. دندشلي - حركة البحث العربي- الأستاذ حافظ الجمالي
لقاء في منزل
الأستاذ حافظ الجمالي
بتاريخ 28 آب 1989
* * * *
الحضور: الأستاذ علي جبر، الأستاذ خيري الشالاتي،
والأستاذ حافظ الجمالي.
جواب عن سؤال حول أسباب أزمة حزب البعث العربي الداخلية: وبالتالي أسباب فشله:
الأستاذ حافظ الجمالي:.. حركة البعث العربي بدأت منذ عودة الأستاذ ميشيل عفلق من فرنسا. عاد هو وصلاح البيطار بعد أن أقاما خمس سنوات معاً في باريس. وكانا معروفيْن هناك بولائهما أو بوطنيّتهما الكبيرة وبشعورهما العربي الواضح.
أستاذ ميشيل عفلق كان مدرّساً، ولكنه كمدرّس لم يكن ناجحاً، بدليل أنّ العناصر (الطلاب) التي تتلمذت عليه خلال السنة الأولى والثانية والثالثة غير راضية أبداً عنه، كمدرّس. كان، هو في وادٍ وهم في وادٍ آخر. هم يريدون بَرنامجاً يدرسونه وهو يريد شيئاً آخر.. يبدو أنه من عام 1936 وعلى ضوء الأحداث التي جرت في سورية: الإضراب الخمسيني، ذهاب وفد سورية للمفاوضة على الاستقلال، اعتباراً من ذلك الحين، بدأ الأستاذ ميشيل عفلق يستعيض عن درس التاريخ، بدرس في القومية. ويتكلّم عفوياً بأشياء ذات طابع قومي وليس لها أدنى علاقة بما يسمّى بموضوع التاريخ الذي يدرّسه، أو إذا كان له علاقة، فعلاقة بسيطة...
هذه المحاضرات والأحاديث جمعت مجموعة من الشباب يومئذ ثائرين بحُكم الضرورة على الأوضاع القائمة في سورية، وشاعرين بضرورة استقلال سورية. وقد نذروا أنفسهم بشكل أو بآخر، كشباب وكمتحمّسين، لقضية استقلال سورية. فتجمّعوا حوله كأنصار، حول الأستاذ ميشيل عفلق. لمّا جاء الأستاذ صلاح البيطار، وكان بعيداً عن دمشق، صارا يعملان معاً فكان يكتبان في مجلة اسمها "الطليعة". هذه المجلة كان يحرّر فيها شخص يوم وجدت "الطليعة"، ولم أعد أسمع به إطلاقاً من بعدها، على الرغم من أنني أعتقد يومئذ بأنّ له وزناً أكثر منه في سورية، هنالك شيء وراءه في لبنان. لأنّه كان لبنانياً فيما أظن، وهو سليم خياطة (شيوعي).
كان أيضاً اتّجاه الأستاذ ميشيل عفلق، تقدّمياً نحو الاشتراكية. من هنا جاء الخلط بين تقدميّة الأستاذ ميشيل وبين شيوعيته يوماً ما. الحقيقة أنه لم يكن شيوعياً إطلاقاً. بالعكس كان معجباً بــ "أندريه جيد" وكان قرأ كتاب "Retour de l'u.R.S.S"، ولكن كان معجباً أيضاً بالحركات القومية، كحركة "صن يات صن" في الصين، الذي نفخ روحاً جديدة في الحياة الصينية الجديدة.
لكن في عام 1937و 1938، أصبح الأنصار كُثراً، وفود الطلاب ازدادت. وفي عام 1939مع الحرب الثانية، تجمّع حول الأستاذ ميشيل عفلق أنصار كثيرون وحول الأستاذ صلاح البيطار أيضاً. فضلاً عن هذه المتابعة لــ "الطاحونة الحمراء"، المقهى الذي يضمّ مجموعة من الأصدقاء يتجمّعون حولهما.
وكان من رفاق الأستاذ ميشيل عفلق شخص اسمه "كامل عيّاد" وكان هذا شيوعياً تقدّمياً. لم ينتسب إلى الحزب الشيوعي فيما أعتقد أبداً، ولكنه كان ذا أفكار ماركسية. وربما ساعدت هذه الصلة بين الأستاذ ميشيل وبين كامل عيّاد، على نشوء فكرة أنّ الأستاذ ميشيل كان شيوعياً. والحقيقة أنّي أنا أيضاً كنت متقلّباً، بمعنى أنه لم يكن هناك حزب تقدّمي غير الشيوعيّين. وكان ولائي لهم. وحضرت اجتماعاتهم أيضاً. ولكن لم أنتسب بالرغم من الإلحاحات المختلفة، لم أنتسب. لكن كنت مشدوداً في الوقت نفسه إلى أفكار وأخلاق الأستاذ ميشيل والأستاذ صلاح. وبالتالي، وجدت أنّ ضالتي هي في حركة قومية تنشد الوَحدة للعرب وفي نفس الوقت اشتراكية.
هذه هي الأيام الأولى، اعتباراً من عام 1936. ثمّ بعد انقطاع ثلاث سنوات، كنت فيها في فرنسا. بعد الحرب الثانية، كنت على اتّصال مع الأستاذ ميشيل عفلق ومع مجلة "الطليعة" التي كنت أكتب فيها أيضاً. فهذه المعرفة الأعمق فالأعمق، مع الأستاذيْن صلاح وميشيل، جعلتني أقرب إلى أفكارهما. وحيث أنّني كنت لا أرى من الماركسيّة إلاّ صورتها الستالينيّة، يعني صورة القمع، احتجاز الحريّات، الحكم العشوائي، الشخصية المنفردة، عبادة الشخصية المفروضة على الشعب، يعني التصرّف بالشعب كما لو كان مالاً ليس له شعور ولا إحساس، بِيَديّ مالكه.
سؤال:.. هل جذبتكم فكرة القومية الأوروبية والحركة القومية في إيطاليا وألمانيا..؟
جواب:.. كنّا متأثّرين عاطفياً من ناحية واحدة وهي أنّ ألمانيا، التي كانت تقيّمنا أسوأ تقييم، ضمن مبادئ هتلر، لم نكن معها إلاّ لأنّها كانت ضدّ فرنسا. كنّا نريد أن تنتصر ألمانيا على فرنسا في الحرب، تخلّصاً من فرنسا. لكن هذا بقي عواطف سريعة، عواطف اندفاعيّة، لا عقلانيّة. يعني عواطف متّصلة بالغريزة وبكُرْه الاستعمار الفرنسي، يعني نريد شيطاناً، ولكن على أن يخرجنا من نير الفرنسي.
الآن عام 1939/1940، كان من تلاميذ الأستاذ ميشيل، شخص اسمه "نزيه الحكيم". وفي يوم من الأيام، كان كاتب معروف في سورية ينشر مجلة اسمها "الناقد"، (هذا الكاتب هو سعيد الجزائري) وفي الصفحة الأخيرة من هذه المجلة التي هي أشبه ما تكون بجريدة، نشر مقالاً يتعلّق بأفكار الأستاذ عفلق، وأذكر أنّها أحدثت في الدوائر الدمشقية المثقّفة، في المجتمع الدمشقي (المثقّف) دوِياً. لأنّها كانت بداية لمجموعة من المشاعر والعواطف والأفكار السائدة في الجمهور جملة. أحدثت دوِياً لأنّها كانت تُلبّي مطالب يراها جمهور المثقّفين كأهداف طبيعية له. ومن هنا بدأ الأستاذ ميشيل يظهر أكثر فأكثر كزعيم، كزعيم حركة، كزعيم مثقّفين، كمفكّر.. (كوَجه مفكّر، كوَجه مثقّف)... يعني بدأ يكوّن له أنصار حوله، أو بدايات زعامة (فكريّة) إذا صحّ التعبير.
لكن خلال ذلك، ما سمعنا ولا مرة من المرّات بزَكي الأرسوزي، إلاّ في عام 1938 ــــــــــــــ وكنت أنا في فرنسا ــــــ وفي عام 1939، لأنّ مقاومة الاحتلال التركي للواء الأسكندرون بدأت بذلك الحين. لكن الأستاذ ميشيل عفلق، كان قد سبق ذلك بأفكاره وبتجميع الطلاب حوله. إذن، إذا كان هناك من وجود لزكي الأرسوزي، فتأثيره بعيد. كلّنا كنّا من أنصار الحركة العربية في اللواء ومن بقائه عربياً سورياً، وكلّنا غاضبين على تركيا وعلى الاستعمار الفرنسي الذي سهّل ويسّر لتركيا ضمّ اللواء إليها.
المهمّ، فيما أعتقد شخصياً، أنّ آراء الأستاذ ميشيل عفلق كانت تلبّي حاجة المثقّفين وتطلّعاتهم وهي آراء قومية عربية إلى أبعد درجة واشتراكيّة تقدميّة، كما نشتهي، ولو أنّها غير محدّدة المعالم. لكن كان فيها شيء واضح جداً جداً، وهو أنّ فيها الحريّة، يعني خلافاً للشيوعيّين وضد الشيوعيّين. كانت هذه الأفكار، أفكار "ميشالية". أي أنّ الأفكار العفلقية كانت سابقة لأفكار الأرسوزي.
وعندما عرفنا الأرسوزي، عرفناه كقومي، ولم يكن يدور في خلدنا إطلاقاً أنّه اشتراكي. كان هناك فاصل بيننا وبينه: هو قومي إلى أبعد درجة ونحن كذلك، ولكنه لا يبرز فكرة الاشتراكية وأيضاً لا يبرز فكرة الحريّة. كان بالنسبة إلينا، مناضلاً وطنياً قومياً (تقليدياً) ولكنه لم يكن من الذين يقولون بالحريّة ويبرزونها ولا من الذين يقولون بالاشتراكية ويكتبون فيها...
الآن بعد ما جاء إلى دمشق بعد الاحتلال التركي للواء عام 1938 أقام فيها (بعض الوقت). وهذه المجموعة التي جاءت معه كانت مجموعة صغيرة من الطلبة ـــــ في عمر 15ــــــ 16ــــــ 17 سنة على الأكثر. فكانوا يقيمون في غرفة واحدة يأكلون ويشربون معاً. وكانوا في منتهى الملق، منتهى الفقر. لذلك عاشوا عيشة الضنك، الحاجة، البؤس المادّي.. وخلال ذلك، لاحظت أنا شخصياً أنّ الأستاذ الأرسوزي غير متوازن عقلياً، بالمعنى الدقيق. ـــــ (هل هذا للنشر؟!) ـــــ إن كان ذلك للنشر أو لغير النشر، إلاّ أنّ هذا هو شعوري... هذا لا يعني أنّه غير ذكيّ، لا يعني بأنّه ليس بذي أفكار ـــــ (طريفة) ـــــ ولكن كشخصية كان فيها اضطراب. خلال ذلك بدأ ينشئ مؤلفاً بعنوان: "عبقرية الأمة العربية في لسانها". وبدأ يخرجه كملازم وتولّى توزيعه على الأصدقاء وأخْذِ الثمن منهم، د. جمال الأتاسي. كنّا نأخذ ملزمة بعد ملزمة، من هذا الكتاب. وكنّا بالفعل نقرؤه وأنا خرّيج فلسفة، أقرؤه، فأجد صعوبة كبيرة في فهم أفكار زكي الأرسوزي (في هذا الكتاب). أسلوبه معقّد. أفكار ضبابية. لا يستطيع الإنسان أن يمسك بها كأفكار، ويقول هذه فكرة لفلان. ولكن فيها تأليه الأمة العربية، فيها إعلاء كبير لعبقرية اللغة العربية. فيها الاعتقاد بأنّ اللغة العربية أولى اللغات التي خلقها الله، وكأنّما خُلقت منذ البداية كشيء كامل. وتعتبر عنده أمّ اللغات. وأكثر من ذلك، إنّ الأمة العربية ضرورة لحياة الكون جملة. يعني أزل الأمة العربية، الكون يتزلزل، يتقلقل، تصيبه كارثة، أو شيء من هذا القبيل..
إذن، لسنا إطلاقاً على ثقة بشيء من زكي الأرسوزي غير قوميّته، غير بطولته في الدفاع عن اللواء. ولكن أن يكون قد أسّس حزباً، أو ما يشبه الحزب، فهذا لم يجل في خاطرنا إطلاقاً. سمعتها لأول مرة في كتاب لسامي الجندي، حول البعث. كنت بعيداً عن سورية. بالفعل شعرت بأنني بعيد جداً عن الجوّ الذي يتكلّم عنه أو عليه د. سامي الجندي. كان هنالك حزب بعث وزعيمه الأستاذ زكي الأرسوزي. لدى التقصي من الأستاذ أنطون مقدسي، وأنطون مقدسي خير من يجيب، لأنّه عاصر المرحلة، عرفت بأنّ هذه المجموعة من الأفراد ومعهم بعض العناصر الأكبر منهم، كانوا يحبّون أن ينشئوا حزباً على مثال حزب البعث. بل إنّ اسمه كان حاضراً: اسم "البعث" أيضاً، ولكن اضطراب شخصية الأستاذ زكي الأرسوزي وقلقها جعل من المتعذّر أن يقوم هذا الحزب.
خلال سنوات هذا التعثّر، يعني السنوات 940 / 941 /942، كانت حركة نصرة العراق قد ظهرت، وحركة الأستاذ ميشيل عفلق وصلاح البيطار قد تأكدت (وقبل ذلك في الإحياء العربي). وبدأ ينشأ بالفعل حزب البعث. وأنا أقسمت اليمين في عام 1944. ثمّ خضنا معارك مباشرة مع الافرنسيّين في سنة 1945. لأنّ الفرنسيّين يومئذ، عندما اعتدوا على البرلمان وعلى البلد وقتلوا كثيرين من الناس، وكنّا مجموعة من البعثيّين ذاهبين إلى "الميدان"، حيث هناك الشيخ الأسمر، ذهبنا إليه ــــــ أعتقد في آذار 1945 ـــــ، لأنّ الشيخ الأسمر كان يتزعّم مقاومة شعبية ضد فرنسا، ونحن أردنا أن نذهب إلى هناك، لنشدّ أزره. أثناء عودتنا، فوجئنا بدوريّة فرنسية ومعها دبّابة، فأخذ الرصاص يُطلق علينا ـــــ كما كان يُطلق كل يوم ـــــ .
إذن، عام 1945 كان حزب البعث مكوّناً، برئاسة عفلق والبيطار. في عام 1943، جمال الأتاسي كان عضواً في حزب البعث أيضاً. كان يوجد حركة اسمها "البعث". لم يكن بعد قد (تكوّن نهائياً). لكن أنا أقسمت يمين الانتساب في 1944. لم أكن الأول طبعاً. لكن الذين أقسموا قلائل قبلي، بالرغم من أنه يوجد تجمّع من الطلاب حول الأستاذ ميشيل عفلق، لكن ليس كلهم أقسموا اليمين، تدريجياً، اعتباراً من عام 1943 و 1944، أخذوا يقسمون اليمين... وهيب الغانم كان هنا في كلية الطّب في دمشق، وبالتالي انتسب إلى حركة البعث العفلقية فعلياً. وأكثر من ذلك الذين كانوا ينضوون تحت لواء زكي الأرسوزي في الغرفة نفسها ويأكلون وينامون معاً إلى آخر ما هنالك.. ثمّ أيضًا ومنهم صدقي إسماعيل وعلي محسن زيفا إلخ... كانوا أيضاً جزءاً من حركة لوائية تريد إنشاء حزب ولكنهم ليس فيهم كبير السِّن إلاّ زكي الأرسوزي والباقي تتراوح أعمارهم بين 17 ـــــــ 18 سنة. ليس بذوي عمر.. بالرغم من وجود سامي الجندي أحياناً بينهم وشخص آخر هو عبد الحليم قدور أيضاً... لكن هؤلاء كلهم لم ينجحوا وليس في مقدورهم إنشاء حزب. في أثناء ذلك كان حزب البعث بقيادة عفلق والبيطار ينمو موازياً لهذه المجموعة الصغيرة الثانية، الهامشية جداً والتي لم أسمع بها أصلاً.
فإذا كان د. وهيب الغانم يقول إنه أنشأ حزباً فهذا غير صحيح. الحزب أُنشئ هنا، وانتسب إليه هنا. وكلّف من قِبَل الأستاذ ميشيل بأن يتزعّم المنطقة التي هو فيها، نظراً لملاحظة الأستاذ ميشيل أنه على شيء غير قليل من الرجاحة العقلية وحسن الكلام والشخصية المحبّبة.. أما أن نقول إنّ رافداً ما من روافد حزب البعث هو حركة الأستاذ الأرسوزي، فأنا شخصياً مستعد للقسم على أننا لم نسمع بذلك لا من قريب ولا بعيد، إلاّ من فترة متأخرة جداً، عندما تكلّم د. سامي الجندي أو تكلم عرضاً عبدالحليم قدور. لكن هذا لم يكن ينمّ عن وجود تيار تأثّر بِزَكي الأرسوزي، تمّ دمجه في شيء اسمه حزب البعث. فهذا غير صحيح، أقطع بذلك...
هنا يمكن السؤال أيضاً: هل هناك روافد أخرى لحزب البعث؟ كنت تقول لي عن روافد أخرى ما هي؟ أهم هذه الروافد الحزب العربي الاشتراكي. ولكن هذا الحزب لم ينشأ إلاّ بعد نشوء أول مجلس نيابي في سورية، في عام 1943.. وحزب الشباب الذي أنشاه الأستاذ أكرم الحوراني، بدأ بعد 1943. هناك شخص اسمه رئيف الملقي، وهو زعيم حموي، لكن شعبي: ليس ببرازي ولا عظم ولا من العائلات الكبيرة.... كان محامياً ناجحاً. أخذ معه في الانتخابات النيابية شاباً يمثل الشباب، أكرم الحوراني. أكرم الحوراني جاء إلى البرلمان 1943 وأنشأ حزب الشباب بعد ذلك. وليس بعد ذلك بأيام وإنما قضى ذلك مدة زمنية. فعندما نشأ حزب البعث لم نكن نسمع إطلاقاً بشيء اسمه حزب الشباب وبالتالي لا أظن إطلاقاً بأنه يوجد أدنى علاقة بين حزب الشباب وبين حزب البعث، وأقل من ذلك أنه كان رافداً للبعث. إنه لم يكن رافداً للبعث. أصلاً، لم يكن لحزب الشباب أيُّ برنامج مكتوب أو معروف. ولم يكن فيه أيّ فكر غير فكر الذي يعبّر عنه أكرم الحوراني. أمّا وجود حزب بعقائدية معينة وتصبح رافداً لحزب البعث: قل ما شئت في البعث إلاّ ذلك. ليس له رافد من هنا ولا من هناك. وعندي أنّ الرافد الحقيقي لحركة البعث هو تيار شعبي يتجلّى في عواطف عروبية، يملكها كل الجيل بصورة عامة. وأنّ هذه العواطف متأججة لحريّتها ولتقدّميتها أيضاً وثالثاً لوَحدتها العربية التي كانت ضرورية للإنقاذ. ورابع إضافة، وهذا شيء هام جداً، لم يكن حزب البعث يظن لحظة واحدة أنه سيستلم الحكم خلال مدة معينة. كان كل منا يظن أنه سيموت قبل أن يجد سورية مستقلة. إذن، بعيدٌ جداً ما بيننا وبين الآمال الطموحة والكبيرة التي راودت مفكري البعث عام 1943 أو مناضليه..
سؤال:... لماذا لم تهتموا بما فيه الكفاية بالعلاقة بين العروبة والإسلام مثلاً؟!
الجواب:.. الآن، بعد فوات الأوان طبعاً، يلاحظ الإنسان بأنّ الكشف عن علاقة عضوية بين العروبة والإسلام، مسألة هامة، ولكنها في نفس الوقت مشكلة. مشكلة لماذا؟! أولاً، نحن أمام بلد فيه موزاييك من الشعوب، وموزاييك من الديانات والطوائف إلخ... فلا نريد أن ندخل في المسألة الدينية. ثانياً، كان هناك أخوان مسلمون. وهؤلاء الأخوان المسلمون عبثاً نريد أو أردنا أن نكون على اتفاق معهم. كانت خصومة للعضم. ولذلك لم نكن نُدخل هذا الموضوع في حسابنا، حتى لا نزيدهم هم طغياناً. يعني، كما لو أننا نصبّ من مائنا في بئرهم. هذه اعتبارات وردت.
لكن داخلياً، مثلاً، ما هو شعوري؟! داخلياً، الإنسان خُلق مُسلم. لا يمكن أن يتخلى عن إسلاميته، وعصبيته إسلامية. ولكن نحن نريد أن ننزّهها عن الشعور الطائفي. ولا نريد أيضاً أن نفرض الإسلام على مَنْ هو غير مسلم. أي أننا لا نريد أن نخلق حساسيات في بلد مملوء أصلاً بالحساسيات..