د. دندشلي - مقدمة نظرية ومنهجية لدراسة الأحزاب السياسية في لبنان
حول الأحزاب السياسية اللبنانية:
مقدمة نظرية ومنهجية لدراسة الأحزاب السياسية في لبنان(*)
* * *
… من الأهمية، في ما أرى، قبل الحديث مباشرة عن الأحزاب السياسية، والإجابة عمَّا طُرح من أسئلة حول الموضوع، أودُّ أن أبديَ بعض الملاحظات التي أسميها ملاحظات منهجية ونظرية لدراسة الأحزاب السياسية في لبنان…
قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة أن الحديث عن الأحزاب السياسية، ونشوئها وتطورها في لبنان، إنما هو حديث ليس من الصعوبة بمكان كبير، خصوصاً لدى المثقفين السياسيين الذين لهم تجربة حزبية في الماضي ولربما لا تزال حتى الآن. وكثيرون يعتقدون أن الموضوع سهل، وهو معروف ومُعاش "نظرياً" وفكرياً، وممارسة، فنستطيع بسهولة الحديث عن هذه التجربة الحزبية واستخلاص منها النتائج، أحياناً تكون تفاؤلية وغالباً ما تكون سلبية، تيئيسيَّة، محبطة….
لكن، رغبتي العميقة، الدفينة، بل طموحي الفكري والسياسي، إذا استطعت القول، هو أن أكتـب عـن الأحـزاب السياسيـة ـ وأنا أعتبر نفسي اختصاصيّ في هذا الموضوع، واختصاصي في علم الاجتمـاع السياسي والأنتروبولوجيا السياسية الاجتماعية ـ وأن يكون بحثي في موضوع الأحـزاب السياسيـة، سـواءٌ في الجنـوب اللبناني أو في لبنان، يتصف بطابع الجِدَّة، بمعنى أن يقدِّم الواحد منا شيئاً جديداً فـي الموضوع، نظراً لأهميته السياسية في حاضرنا الراهن…
وفي هذا الشأن، كان قد تجمَّع لديّ، ومنذ فترة طويلة، مجموعة من الملاحظات الانتقادية، أو من "الانتقادات الاستفزازية"، وُجِّهت إلينا نحن الذين نهتم بموضوع الأحزاب وأنا في مقدمتهم ـ فأنا لا أستثني نفسي من ذلك إطلاقاً ـ ملخصها أن ما ينقصنا، نحن الباحثين عموماً وبوجه خاص في سوسيولوجيا الأحزاب وفي البحث السياسي، هو ما أسميه: العودة إلى الواقع الاجتماعي، فهم الواقع، الواقع السياسي والحزبي، وانطلاقاً من هذا الواقع الاجتماعي والسياسي والتاريخي الذي نعيش فيه، ونحن جزء منه… وذلك في ما يخصّ حديثنا، ما دام حديثنا هنا عن الأحزاب السياسية.
ففي ما يتعلق بالأحزاب السياسية، أرى أن هناك فارقاً كبيراً بين الحديث عن الأحزاب السياسية والتنظير حولها، وبين الواقع السياسي والاجتماعي، هذا الواقع الحيّ، المعيوش على أرض الواقع، ومن خلال التجربة وممارسة…. فكان دليلي دائماً، وهو مستقى من استقصاءات وملاحظات ميدانية، وكنت أشير إليه باستمرار، هو أن بين الفكر السياسي اللبناني ـ إذ إن حديثنا عن الأحزاب في لبنان ـ والواقع الاجتماعي التاريخي، تفصل بينهما هُوَّة، وغالباً ما تكون عميقة، سحيقة.. أو ما يمكن أن نسميه: طلاقاً بين ما هو فكري، نظريّ، وبين ما هو واقعي، وممارسة عملية… بمعنى أننا في أبحاثنا النظرية، السياسية والثقافية، لا ننطلق من تجربة الواقع الاجتماعي، من الحدث التاريخي الميداني…
فإننا، في هذه الأبحاث النظرية، لا نعتمد على المعلومات الموضوعية ولا على التجربة الواقعية… إنما اعتمادنا في الدرجة الأولى على التصور النظري، أحياناً يكون عقلانياً، وغالباً ما لا يكون إطلاقاً، بل أقرب إلى الرؤية الغيبية منه إلى أي شىء آخر. فنحن، وكما هو معروف، إننا نحسن الكلام الجيِّد والحديث البلاغي وطلاقة اللِّسان والخطابة والخيال الواسع، فيخيل إليّ وكأن ذلك يغنينا عن رؤية الحدث والواقع التجريبي ومعاينته وتحليله وتفسيره، وتكوين من ثَمّ نظرة شمولية عنه. ويبدو لي، نحن كمثقفين، وكأن ثمة عداوة بيننا وبين ما هو معلوماتيّ، رقمي، بحثي، ميدانيّ.. لذلك فغالباً ما نجد كتَّابنا وحملـة الأقلام عندنا تتحكم فيهـم اللغة الخطابية اللفظية أو الإنشائية المجازية.. أو الإيحاءات الرمزية..
لهذا، فأنا لا أستطيع أن أتحدث في السياسة أو في السياسة الحزبية والحزبية السياسية، إذا لم أمتلك معلومات حقيقية واقعية تفصيلية عن الموضوع… أو بكلام آخر أكثر تحديداً ووضوحاً، كيف يمكنني أن أتكلم الآن عن التجربة الحزبية في لبنان، وليس هناك من دراسات اجتماعية، منوغرافية، استقصائية، ميدانية سياسية، لا عن كل حزب من الأحزاب على حِدة، وإنما أيضاً عن الأحزاب السياسية بمجملها… أو حتى عن أيِّ حزب من الأحزاب السياسية في لبنان. مثلاً لنأخذ أيَّ حزب سياسي من الأحزاب القومية العربية، أو الحزب السوري القومي الاجتماعي في لبنان ـ عدا منشورات هذه الأحزاب نفسها، وهي في كل الأحوال لا تفي بالغرض البحثي المطلوب ـ أين هي هذه الدراسات السياسية ـ الاجتماعية حول الهيكلية التنظيمية أو التاريخية أو الأيديولوجية عن هذه الأحزاب السياسية وتطورها في مراحلها المختلفة؟!… فكيف في هذه الحالة يمكننا أن ننتقد هذه التجربة الحزبية، نقداً علمياً موضوعياً حتى نرى أين أصابت إذا أصابت وأين أخطأت، وهي كثيراً ما أخطأت، كل ذلك بطبيعة الحال حتى أتجاوز هذه التجربة الحزبية الغنية، في نهاية التحليل، ونعيد من ثمَّ بناءها من جديد بشكل أفضل…
هنا أسمح لنفسي لأقول بأننا جميعاً، وأكاد أقول دون استثناء، عندما ننتقد، أو بتعبير أصح، عندما نهاجم الأحزاب خصوصاً اليسارية منها، لا نجد أمامنا منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان سوى الحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني. وفي ما بعد، الحزب الشيوعي اللبناني، فنصبُّ جام غضبنا عليه. ففي أغلب الأحيان، وفي مختلف المراحل التاريخية والسياسية، تكون هذه الانتقادات هي ذاتها، مكرورة: إما انفعالية سجالية عدوانية، وإما من موقع تصفية الحسابات السابقة، وإما من إيحاءات أجهزة سياسية أو سياسية مخابراتية، معروفة أو محتملة…. فنعود ونكرر الاتهامات عينها والمواقف والأخطاء السياسية ذاتها، ونعيد التذكير بها مرة بعد مرة، ويدوم هذا الأمر منذ أكثر من أربعين سنة ماضية: مثلاً موقف الحزب الشيوعي، وقبله الاتحاد السوفياتي من القضية الفلسطينية، وقبلها مسألة لواء الاسكندرونة في سوريا، ومن الوحدة العربية، ومن عبد الناصر وعلاقته بالاتحاد السوفياتي، إلخ….
هذا صحيح. ولكن هنا سؤال يطرح علينا جميعاً، وأنا أطرحه على نفسي، وهو: أين هي الدراسات الجِديّة والمتنوعة عن الحزب الشيوعي اللبناني ـ إذا اقتصرنا حديثنا عن الحزب الشيوعي في لبنان ـ؟…. أين هي هذه الدراسات التاريخية ـ السياسية ـ الأيديولوجية ـ التنظيمية عن هذه الحركة الشيوعية ذات التجربة الغنية في صعودها وفي سقوطها، في مراحلها المختلفة؟!… هناك ثلاث دراسات معادية، ومن موقع الخصومة، ظهرت حتى الآن، فيما أعلم، عن الحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني: الكتاب الأول، الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان 1922 ـ 1958 بتوقيع س. أيوب، صدر عام 1959.. والذي لم يبقَ مثقف قومي عربي إلاّ وقرأه وتأثّر به وأعيدت طباعته مرات عديدة. والكتاب الآخر، للحكم دروزة، الشيوعية المحلية ومعركة العرب القومية، نشر عام 1961 وكذلك أعيد نشره مرات ومرات فـيما بعد، وكتاب قـدري قلعجي: تجربة عربي في الحزب الشيوعي… عدا ذلك بحسب علمي، ليس هناك سوى مقالات عدائية، أو تحقيقات سجالية، كانت تُنشر في مراحل الأزمات السياسية التي كان يتواجه فيها الاتحاد السوفياتي مع بعض الأنظمة العربية: الناصرية والأحزاب القومية بالدرجة الأولى، وبالتالي عند مواجهة الأحزاب الشيوعية لهذه الأنظمة، على أثر الخلافات السوفياتية مع بعض الأنظمة العربية.
هنا أسمح لنفسي أن أطرح على نفسي هذا السؤال وأن أطرحه على الآخرين، وهو: كيف يمكنني أن أقيِّم هذه التجربة السياسية والحزبية وهي تجربة غنية جداً، عمرها أكثر من ستين سنة وهي أقدم تجربة حزبية عربية، ربما بالمعنى الحديث للكلمة في الوطن العربي، وفي لبنان بوجه خاص، كيف يمكن تقييم هذه التجربة تقييماً موضوعياً علمياً، وأنا لا أملك وليس لديَّ مستندات واقعية موضوعية تاريخية، حتى نستطيع أن نتجاوزها؟!… فلا يجوز أبداً أن نهملها وأن لا نعيرها أيَّ اهتمام وأن نصنِّفها بأنها حركة حزبية معادية للعروبة أو للدين أو فاشلة سياسياً، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال، خلاص، دون أن نتوقف ملياً لنفهم هذه التجربة، لنحدِّد أسباب الفشل والظروف المحيطة بها، إلخ…
في حين أننا نقع في بعض الأحيان على كثير من مواقف المهاترات والاتهامات، ونركز على جوانب أو على عدد من الأخطاء الجسيمة التي اُرتكبت وارتكبها الحزب الشيوعي، ونعيد التذكير بها حتى الآن في مواقفنا العدائية ضد الحزب الشيوعي، وهي تلك المواقف التي ينتقدها الشيوعيون أنفسهم حالياً ويكتبونها ويشيرون إليها علناً. فعندما يشير واحد منا الآن ويؤكـد مثلاً أن الحزب الشيوعـي لم يكن في يوم من الأيام حزباً ديمقراطياً، وأن الديمقراطية كانت غائبة في تنظيماته الداخلية وفي اختيار قياداته، عندما يقول الواحد منا ذلك، فهو لم "يكتشف البارود"، كما نقول، ذلك أن الشيوعيين أنفسهم يشدِّدون على هذه العيوب والفجوات والشوائب التنظيمية التي كانت متعشِّشة داخل أجهزتهم الحزبية، فإننا لا نشير بذلك في وقتنا الحاضر إلى أشياء غير معروفة لدينا… فأحد القيادات الفكرية المثقفة، هو نفسه يكتب في مجلة الحزب ويعلن الآن أن "ما كان يشكو منه الحزب الشيوعي في تاريخه الطويل هو غياب الديمقراطية…"
وحتى تكتمل لدينا الصورة، كذلك فلا يجوز أيضاً أن نركن ونطمئن علمياً، ونأخذ على علاته، ما يكتبه الحزب الشيوعي اللبناني عن تجربته، وأن نعتمد فقط على منشوراته مع أهميتها وعلى وثائقه وأدبياته، ففيها هي أيضاً، خصوصاً تلك التي نُشرت في السابق، كثير من التعميمات وإخفاء الأخطاء والمبالغة في الانجازات أو الانتصارات، فهي لا تقدم لنا أيَّ صورة حقيقية للتجربة الحزبية للحزب الشيوعي. فلا يجوز أن نركن إليها ونعتمد فقط عليها في دراستنا للحزب الشيوعـي..
من هنا إذن الصعوبة في دراسة التجربة الحزبية، وضرورة الاعتماد على الجهد البحثي، التاريخي، الذاتي والموضوعي وهو ما يتطلب في ظروفنا الحالية، عملاً مضنياً وجهداً متواصلاً، دؤوباً ومتفرغاً زمناً معيناً: ولا يمكن في هذه الحالة أن يقوم بذلك سوى مراكز الأبحاث العلمية أو مؤسسات النشر الكبرى..
ما قرأته أخيراً على لسان بعض القيادات الحزبية الشيوعية هو أيضاً، من جهتهم، إعادة النغمة القديمة ـ الجديدة، مفادها أن الحزب وإن كان قد أخطأ في السابق، إلاّ أن الأوضاع الشاذة أو الاستثنائية هي المسؤولة عن ذلك. ولكن الخط العام للحزب الشيوعي كان صحيحاً وقد برهنت التطورات السياسية اللاّحقة سلامة خطه العام. هذا الأسلوب هو أيضاً طريقة خادعة اختزالية وهمية، تضرُّ كثيراً في دراسة التجارب السياسية السابقة واستخلاص منها النتائج والعِبَر. ومن ثَمَّ القول: إن الحزب الشيوعي يعيد النظر في تجربته الحزبية وفي إعادة تنظيم صفوفه وفي خطه السياسي والفكري، الفلسفي والأيديولوجي، إلى آخر ما هنالك…
ما أريد أن أقوله هو أنني أستفيد من هذه المناسبة لأشكر الدكتور أنطوان مسرّة، والجمعية اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، التي فسحت لنا المجال لأن نطرح هذا الموضوع الشائك، موضوع الحزبية في لبنان على بساط البحث والنقاش، وهذه المؤسسة في الحقيقـة هي المؤسسة الثقافيـة الوحيدة، فيما أعلم، التي اهتمت بهذه القضية اهتماماً علمياً وبمشاركة جميع المهتمين دون استثناء، وأقامت ندوتَين في ظرف زمني قصير حول الأحزاب السياسية في لبنان. وهذه هي، برأيي، المنهجية الصحيحة والسليمة والعلمية ـ إذا أردنا فعلاً، كديمقراطيين، أن نعيد بجديّة وبعلمية بناء أو إعادة بناء العمل الحزبي وإعادة النظر في التجربة السابقة، فيجب إذن أن ننطلق من هذه النَّماذج، لا من غيرها، نماذج دراسية تتمحور حول تجربة الأحزاب السياسية عندنا في لبنان…
ففي الحقيقة، نحن نتحدث كثيراً وكثيراً جداً عن الأحزاب، وغالباً من موقع الناقد الرافض، من موقع الإلغاء والشطب، ولكن دون أن نبحث بحثاً جِدياً علمياً تاريخياً في مشاكل أو إشكاليات هذه الأحزاب السياسية المتنوعة، في تطورها التاريخي أو هيكليتها التنظيمية أو فكرها الأيديولوجي. مثلاً من جهة الأحزاب اليسارية، الحزب الشيوعي ـ وقد أشرت إليه ـ ومنظمة العمل الشيوعي والأحزاب القومية الاشتراكية، أو القومية اللبنانية، من حزب التقدمي الاشتراكي، مروراً بأحزاب البعث والحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى أحزاب اليمين المحافظة: حزب الكتائب، حزب الكتلة الوطنية، حزب الوطنيين الأحرار، إلخ.. وغيرها من الأحزاب الأقل أهمية منها..
فلا يجوز في هذه المرحلة السياسية الانتقالية وفي هذا المنعطف التاريخي الذي نمر به الآن، ونبحث فيه عن هُويتنا السياسية، الذاتية والخصوصية، فلا يجوز والحالة هذه أن نبقى أسرى شعارات سابقة ومواقف سياسية أو أيديولوجية ماضية، في مجملها كانت أقرب إلى "الأسطورة السياسية" منها إلى الحقيقة الواقعية، أقرب إلى "الأيديولوجيا الخادعة"، الوهمية، وإلى الانفعالات العاطفية، منها إلى أيِّ شىء آخر، فلا يجوز أن نبقى حتى الآن سجناء تلك المرحلة الانفعالية السابقة حيث الجميع كان قد أخطأ، والبعض ارتكب أخطاء فادحة، مميتة للوطن وللذات الوطنية بالدرجة الأولى…
هنا أرى أننا نمرُّ الآن في مرحلة إعادة النظر في تجاربنا السياسية السابقة بكل موضوعية وعلمية وجِدية، وخصوصاً التجربة الحزبية منها على وجه الخصوص…. مثلاً، وإذا كان من ضرورة أيضاً إعطاء بعض الأمثلة، فأرى أنه من غير المعقول ومن غير المقبول، بل ومن الخطأ الفادح في هذا المجال، أن لا أعير اهتماماً علمياً وتاريخياً، وموضوعياً ومنهجياً لدراسة الأحزاب التي نسميها "يمنية محافظة": حزب الكتائب اللبنانية، الكتلة الوطنية، حزب الوطنيين الأحرار… فهذه الأحزاب اليمينية المحافظة غير معروفة لدينا علمياً، وبالتالي غير مدروسة في تطورها التاريخي والسياسي على الإطلاق، لذلك نبقى أسرى أوهام شعارتيـة، مرحلية سابقـة، لا تثبت دقتها التاريخية ـ الاجتماعية أمام أي نظرة علمية موضوعية…
لقد مررنا في السابق بمرحلة صراع بين الأحزاب من يمين ويسار، تتصف بكثير من جوانبها بالغوغائية والشعاراتية السجالية الوهميـة، دون أن تكون حقيقـة وفعلاً تعبيراً عن مصلحة الجماهير الشعبية العريضة من هذه الجهة أو تلك. فعن طريق هذه القنوات الحزبية المتحاربة والصراعات المتناقضة، وهي قنوات سياسية أساسية، فاعلة، مؤثرة، استطاعت القوى الخارجية، جميعُها ومن كل الاتجاهات والتيارات، أن تتدخل في الشؤون الداخلية للبلد، وأن تكوِّن لها بالتالي موطىء قدم، وأن تكون لاعباً كبيراً أم صغيراً في الساحة السياسية وفي موازين القـوى الداخليـة.
ففي هذا الإطار ومن ضمن هذه المعطيات، كانت تتشابك العوامل الداخلية والخارجية وتتداخل بحيث إن أيَّ قضية سياسية مهما كان شأنها، صغيراً أو كبيراً، تظهر بمظهر وكأنها قضية إقليمية أو دولية، إضافة بطبيعة الحال إلى العامل الطائفي ـ المذهبي والصراع الطائفي ـ المذهبي في هذا المجال…
لهذا، فلا يجوز حتى الآن أن نبقى أَسْرى شعارات سابقة، وسجناء مواقف أيديولوجية أو سياسية أثبتت التجارب أنها كانت انفعالية خاطئة، وقد جرّت الويلات على البلد وعلى القوى السياسية والحزبية نفسها… فشعارات مثلاً: الانعزالية، العمالة، الشيوعية ـ الالحاد، العروبة، الناصرية، المنظمات الفلسطينية، المقاومة ضد العدو الإسرائيلي وغيرها وغيرها أيضاً كثير، فهذه الشعارات كانت، في الحقيقة والأعماق، تعبيراً في آنٍ: إما عن صراعات على السلطة والنُّفوذ، وإما عن صراعات سياسية في أساسها طائفية، انفعالية، وهمية تخدم أو خدمت مصالح خارجيـة.
ومهما يكن من صعوبات مرحلية آنية، فلا يجوز على الإطلاق أن نهمل الآن هذه التجربة السياسية الحزبية. قد نكون مثلاً، معادين للأحزاب السياسية اليمينية المحافظة، أو لتلك الأحزاب السياسية اليسارية بكل فصائلها، ولي الحق في أن أكونه، إذا أردت، ولكن ليس لي الحق أبداً في أن تكون المواقف منها اعتباطية، والتقويمات ارتجالية، أو إغفالها (هذه الأحزاب السياسية) وكأنها لم تكن: فكيف لي أن أبنيَ مستقبلـي السياسي والحزبـي دون أن يكون معتمداً على نقد التجربة السابقة وتحليلها بكل ما لها وما عليها، وما فيها من إيجابيات أو ما تحمل من سلبيات وهي ليست بالقليل في كل الأحوال…
فهذه الأحزاب لها جماهيرها، لها رأيها العام، لها موقعها الاجتماعي والسياسي، لها تأثيرها بالغ الأثر في الواقع السياسي المحلي، فلا يجوز أن أمحيها من الوجود وأزيلها بشحطة قلم…. قد تكونُ، أنت، معادياً لها وضدها، ولربما يكون لك الحق في ذلك، ولكن لا يجوز لك حذفها من الوجود… فيجب العودة وعقد ورشات عمل متخصِّصة، تفصيلية وشمولية، لدراسة هذه المرحلة السياسية السابقة والانطلاق من نقدها في أيِّ تصور مستقبلي لبناء أو إعادة بناء عمل حزبي يكون تعبيراً عن مستقبل ديمقراطي أفضل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) ـ هنا النص الحرفي للكلمة الشفهيَّة التي ألقاها الدكتور مصطفى دندشلي في النَّدوة الدولية الحادية عشرة التي عقدتها المؤسسة اللبنانية للسلم الأهلي الدائم، بالتعاون مع مؤسسة كونراد أدينهاور تحت عنوان: الأحزاب والقوى السياسية في لبنـان: الالتزام وستراتيجية سـلام وديمقراطية للمستقبـل.. وذلك في قاعة محاضرات دار سيدة الجبل (فتقا ـ كسروان) في 21 ـ 22 تشرين الأول 1995. لقد حافظنا على روحية هذه الكلمة وتركتها كما قيلت دون إدخال عليها أيِّ تعديل في المضمون أو المعنى المقصود، سوى بعض التنقيحات وضبط الصياغة اللغوية.. فاقتضى الإشارة والتنويه.