د. دندشلي - حزب البعث العربي - مقابلة مع الأستـاذ جهـاد كـرم
مقابلـة مـع
الأستـاذ جهـاد كـرم
السفير وعضو القيادة القطرية في لبنان
التـاريخ: مساء يوم الإربعاء الواقع فيه 3 تشرين الثاني 2010.
الموضوع: حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال التجربة الشخصية.
أجرى المقابلة
والتحريــر: الدكتور مصطفى دندشلي.
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي:.. يسرُّني ـ أستاذ جهاد ـ أن أجريَ معك هذه المقابلة حول حركة سياسية قومية وَحدوية، يهمنا معرفة تاريخ نشوئها وتطورها، وهي للأسف لم يُكتب عنها حتى الآن أكاد أقول إطلاقاً، لذلك من الأهمية أن نقوم بعملية تأريخ لهذه الحركة القومية في لبنان، وأن تكون محاولة التأريخ هذه، موضوعية إلى أبعد حدود الموضوعية وأن تكون مقاربتنا التأريخية فيها الشيء الكثير من العمق والشمول في آن. وما يهمّني بداية أن تحدثني عن تجربتك الشخصية في حزب البعث العربي الاشتراكي: كيف تعرفت على الحزب وما هي الظروف ومتى كان ذلك، ولماذا اخترت حزب البعث وانتسبت إليه ولم تختر حزباً أو حركة سياسية أخرى؟!*...
الأستاذ جهاد كرم: .. في الحقيقة، أنا عندما جئت إلى الجامعة الأميركية في بيروت في السنة الدراسية 1952- 1953، بعد أن أنهيت الشهادة النهائية هاي ـ سكول في المدرسة الإنجيلية في طرابلس ـ وهي مدرسة الأميركان للصبيان ـ بعدها دخلت الجامعة الأميركية، وأنا من بيت سياسي لبناني، لا من بيت سياسي عقائدي. ولكن والدي كونه محامياً، وهو محامٍ ليبرالي، فكان يدافع عن الأحزاب السياسية في تلك الأيام ـ وأنا طفل صغير ومن مواليد أواخر عام 1935ـ فنشأ عندي، كوني ابن محامٍ مسيَّس، تجربةٌ ومعرفة سياسية، على الأقل ليس غريباً عليَّ الأحزاب والعمل الحزبي. وفي تلك الأيام، كان هناك حزبان في مناطقنا: الحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي. فكنت أشعر أنني أقرب إلى القوميين السوريين بسبب تأثري بشخصية عبدالله سعادة وأشعر أحياناً أنني أقرب للشيوعيين، لأن الشيوعية هي حركة تقدمية نضالية أمميَّة، لا تعرف التَّعصُّب. والحركتان في الحقيقة علمانيتان وتؤمنان بفصل الدين عن الدولة.
ففي السنة التي انتسبت فيها إلى الجامعة الأميركية في بيروت، شاركتُ في "العروة الوثقى". وكان في الجامعة حينذاك مجموعة من البعثيين، ولكنني لم أكن على علاقة صداقة معهم. بل كنت على صداقة أكثر مع "القوميين العرب" وبخاصة مع حسَّان منغو ( أُنشئ النادي الثقافي العربي عام 1955 بعد إقفال " العروة الوثقى" داخل الجامعة). وكان يُشار آنذاك إلى بعض الطلبة البعثيين وأبرزهم: خالد يشرطي وسعدون حمَّادي متخرج حديثاً، وعلي فخرو وعدنان سنّو ومحمد عطاالله وجمال الشاعر وكمال الشاعر وغيرهم، فقد كان هؤلاء أبرز الطلاب البعثيين في الجامعة الأميركية. وبالمقابل من القوميين العرب، كان جورج حبش، وديع حداد، هاني الهندي وآخرون...
ففي هذا الجو، كنت بطبيعتي لا أحب الالتزام، وأفضّل دائماً أن أبقى حراً ولديَّ استقلالية شخصية. وبعد تقصير في علم البيولوجيا، فُصلت من الجامعة لمدة سنتين، فذهبت إلى الجامعة الأميركية في حلب في 23 أيلول 1954. في تلك الفترة، كان حزب البعث في عز أوجه، بعد انتصاره في الانتخابات النيابية التي أُجْرِيت بعد سقوط حكم الشيشكلي، وحصوله على 17 مقعداً في المجلس النيابي السوري. والحركة الطلابية والعمالية ناشطة جداً، على الرغم من وجود حزب الشعب والحزب الوطني، وحلب هي مركزهما الانتخابي والسياسي ووجود المحافظين العرب وكبار الملاكين، والأخوان المسلمين والحزب السوري القومي الاجتماعي. وكان الأخوان المسلمون في صراع دائم مع حزب البعث.
وأنا انتسبتُ، كما قلت سابقاً، إلى كلية حلب الأميركية (التي أُمِّمت أثناء الوحدة). ففي هذه الكلية، كان هناك طلاب ناشطون ينتمون إلى حزب البعث. ولم أكن أنا حزبياً بعثياً إلى ذلك الحين. كنا مجموعة من الشباب العرب، أصدرنا مجلة يشرف علينا محام، عبد السلام الترمنيني، وهو قومي عربي مستقل، شوفينيّ النّزعة، ولكنه ديمقراطي، يحب العروبة والعرب ويتكلم عن الجنس العربي والتفوق العربي. وهو طيِّب ويرعانا كما يرعى الأب أولاده. وهذه المجموعة من الطلاب تضم: فاروق مسلاتي، وسعد القدسي ( ابن ناظم القدسي) ومروان الكيخيا وفوزي الزعيم، وهم عروبيون. وأنا استهوتني في هذا الجو فكرة العروبة. ولكن لم أقطع مع الحزب السوري القومي، لأسباب، كما قلت، منها ذاتيٌّ ـ علاقة والدي بالأستاذ عبدالله سعادة ـ ومنها لا طائفية الحزب السوري القومي. بالإضافة إلى كونهم تنظيماً قوياً: يقومون باستعراضات شبه عسكرية وطقوس حزبية. ولكن، وقتذاك بدأت أحضر اجتماعات للبعثيين. وأذكر منهم الأستاذ عبد الفتاح الزلطـ ـ وهو خطيب مفوَّه ـ والأستاذ الثانوي شاعر البعث سليمان العيسى والطالب في كلية الطب بهيج الكيالي والطالب فُهر بازو وأحمد عيسى غادري. وهم جميعاً بعثيون وكنت أحضر اجتماعاتهم، دون المشاركة في حلقاتهم الحزبية.
مرَّت هاتان السَّنتان دون أن التزم حزبياً. وإنما بدأت بذور البعث تنضج في خاطري ووجداني وذهني. وعدت عام 1956 إلى الجامعة الأميركية في بيروت من جديد، في السنة الدراسية 1956- 1957 في صف " الجونيير" ـ أي الصف الثالث قبل التخرج، صف البكالوريوس. لقد درست علوم سياسية وإدارية. وكانت الجامعة أيضاً تغلي بالحركات السياسية والقومية. وكان يوجد مجموعة من البعثيين، البعثيون في الجامعة، من الرعيل الأول كانوا قد تركوا: سعدون حمّادي، محمد عطاالله وآخرون. وكان علي فخرو لا يزال حتى وقتذاك، وهو مثال الطالب الجِدّي الملتزم الأخلاقي المناضل المحبوب. وكان أيضاً طالب آخر وهو جبران حوشة من حماه.
وهنا ابتدأتُ حضور حلقات تثقيف. وفي عام 1958، أقسمتُ اليمين والولاء والانتساب إلى حزب البعث على يد خالد يشرطي ومعه أحد أعضاء قيادة الشعبة ـ أصبح فيما بعد وزيراً في الأردن ـ علي سحيمات. وكانت بداية العمل الحزبي التنظيمي والانتساب إلى فرقة الجامعة الأميركية. وأظن أنه كان هناك فرقتان حزبيتان حينذاك، ونقولا الفرزلي يقول كان هناك فرقة واحدة. وأنا لم أكن أجتمع معهم: نقولا الفرزلي، وفؤاد الزين وباسل عطاالله وغيرهم. وفي حلقتي كانت تضم: عصام نعمان وفتحي الجشيَّ ( فلسطيني) وعدنان درباس ( وهو الآن رجل أعمال ناجح في الأردن).
س:... أودّ هنا لو تقدم لي صورة أو لمحة عامة حول الطلبة الذين تمَّ الاحتكاك بهم في الجامعة الأميركية بوجه خاص، فمن أيِّ المناطق قد جاؤوا؟!..
ج:... الطلبة اللبنانيون كانوا قلة في الحقيقة: بالإضافة إلى الذين ذكرت أسماءهم، كان أحمد الكلش وهو من صيدا (في كلية الهندسة). ولكن أغلبية الطلاب البعثيين في الجامعة هم من البلاد العربية: من سورية، من العراق، من الأردن ـ فلسطين، من دول الخليج العربي، وبخاصة الكويت والبحرين، وهناك طالبات في كلية البنات ( وهي اليوم الجامعة الأميركية ـ اللبنانية )، مثلاً منيرة فخرو ( التي دخلت المعركة الانتخابية التي جرت مؤخراً في البحرين، ولم يحالفها الحظ وسقطت بفارق قليل، خمسين صوتاً فقط). وكانوا في الحقيقة شعلة من النشاط والحماس الحزبي والقومي العروبي.
ولكن، مع الأسف، لقد انضمَمْتُ إلى حزب البعث في العام 1958 ، وكانت بداية التناقض السياسي بين البعث وعبد الناصر. وهذا ما انعكس علينا سلبياً في الجامعة، ذلك أنه كانت أكثر التيارات العروبية في تلك الفترة ناصرية وفي المقدمة حركة القوميين العرب. فكانت هذه التيارات تضمُّ معظم الطلاب في الجامعة من الفئات البرجوازية الكبيرة. وفكرة الاشتراكية وطرحها كشعار كانت تخيف كثيراً آنذاك. هذا لا يعني بطبيعة الحال ( كوننا في الجامعة الأميركية) أن حزب البعث لم يكن يضم بين صفوفه طلاباً من الأوساط البرجوازية، غير أن نظرتهم إلى الاشتراكية وفهمهم لها ونظرتهم إليها على أنها اشتراكية إنسانية وعدالة اجتماعية وأطلقوا عليها تعبير" الاشتراكية العربية".
س:.. عملكم الحزبي ونشاطكم، هل كان مقتصراً ضمن إطار الجامعة؟
ج:.. لا، لا، إنني أذكر أنه بعد انتسابي إلى حزب البعث، وكان في أيار 1958، وقعت "الحرب" ( أو ما يُسمّى أحداث أو " ثورة أيار" في لبنان)، فلم يرض والدي أن أبقى في بيروت، فذهبت إلى الضيعة (حاماة في قضاء البترون). فابتعدت مدة ثلاثة أشهر، كنت من حين لآخر أذهب إلى طرابلس حيث هناك: إذاعة ومستوصف ومستشفى ومقاومة نشطة...
وعندما عدت إلى الجامعة الأميركية في بيروت، استلمت من د.عفيف الشميطلي، وهو خريج كلية الطب في الجامعة اليسوعية، حلقة أنصار عمالية في برج حمود وحلقة أخرى في الوقت نفسه، أي أنني كنت مسؤولاً عن هاتين الحلقتين العماليتين مدة سنة ونصف السنة. وكانوا جميعاً، كما أذكر عمال أحذية من بنت جبيل، ولا أزال أذكر بعض الأسماء: من عائلة حميِّد، وعائلة بزي إلخ... وكانوا في منتهى النشاط والأخلاق والنضال. وفي تلك الأيام لم نكن نسمع مَن هو شيعي أو سني أو مسيحي أو درزي.
لقد كنت سعيداً جداً عندما ألتقي بهم وأجتمع معهم مرة في الأسبوع في اجتماعين منفصلين الواحد بعد الآخر، حتى أنه نشأت بيني وبينهم علاقة صداقة رفاقية ومحبة بحيث إنه عندما حصل الانشقاق داخل الحزب (1962 بعد المؤتمر الخامس في حمص)، كانوا جميعاً قد انضموا إلى وجهة نظري (أي إلى القيادة القومية). وحين عقدنا اجتماعاً عاماً وحصلت مناظرة بين فؤاد ذبيان وغسان شرارة من جهة، وأنا وخالد العلي من جهة أخرى، فمشيت الفرقة جميعها معنا (أي مع القيادة القومية).
في الحقيقة، الرفاق البعثيون الآخرون كانوا أيضاً في غاية من النشاط المتواصل. مثلاً، نقولا فرزلي، كان نشيطاً جداً، ويذهب دائماً إلى قرى وضِيَع جبل لبنان، هو وليلى بقسماطي ( فيما بعد زوجة الدكتور عبد الحميد الرافعي). كان هناك نشاط حزبي كبير وواسع. وأذكر أنني في تلك الفترة كنت قد اُتخبت باسم حزب البعث، رئيس جمعية طلاب العلوم السياسية في الجامعة الأميركية. وكنا ننشط دائماً في أكثر الأحيان ـ رغم التنافس والخلاف ـ مع القوميين العرب في مواقف وقضايا مشتركة في مواجهة المنتمين للتيار اللبناني وللتيارات المعادية للقومية العربية. فكنا في هذه الحالات نقيم جبهة مشتركة مع "القوميين العرب"، مع وجود بيننا التنافس الشديد. ولكن، في المواقف الصعبة والقضايا القومية الهامة المشتركة، كان البعثيون والقوميون العرب يلتقون لمواجهة الخصوم.
أما مع الشيوعيين فلم يكن هناك أيُّ لقاء أو تعاون، هذا بالإضافة إلى أنّ وجودهم في الجامعة كان قليلاً لا يُذكر، وجوّ الجامعة الأميركية لا يساعد على انتشار أفكار الحزب الشيوعي. إلا أنه كان هناك بعض الطلاب مثلاً: كمال حداد من الأردن وشفيق الحوت وعدد قليل من المناضلين. وأيضاً منصور الأرملي، وهو الآن أهم طبيب عيون في أميركا، فقد كان شيوعياً في الجامعة الأميركية في بيروت. وهو فلسطيني.
وهنا، أريد أن أشير إلى ظاهرة سائدة بيننا وهي أننا نحن كطلاب كنا قد ابتعدنا ـ من حيث النشاط الحزبي ـ عن مناطقنا. وأنا هنا أتوجه بنقد ذاتيّ. فلم أكن أفكر مثلاً، أن أذهب في عطلة الأسبوع إلى حاماة، ضيعتي، كي أبشِّر بمبادئ حزب البعث وأفكاره، مع أن منطقتي هي منطقة مسيحية، فقد كان من المفروض عليَّ أن أقوم بذلك، لأن هذا الواقع المسيحي يشكّل لنا تحدياً بالنسبة لأفكارنا القومية، فكان من الواجب علينا أن "نشتغل" ونبذل جهداً في قرانا التي تقدِّم حوافز للعمل وللنشاط الحزبي.
إنّ السبب الأساسي لذلك هو مجيىء الأستاذ ميشال عفلق إلى بيروت بعد الوحدة وفي أواخر عام 1959، والخلاف البعثي الناصري الذي أخذ يشتد حدَّة شيئاً فشيئاً، مما انعكس خوفاً على حياة ميشال عفلق الذي جاء وأخذ سكناً في رأس بيروت. وكنا حينذاك مجموعة من الطلاب مولجين بالعناية بقضاياه اللوجستية: من حيث الأكل وتجهيز المنزل لكي يكون صالحاً للسكن، بمعنى أننا كنا نهتم بقضاياه الشخصية والسكنية والعائلية ومن جملة الأشخاص الذين كانوا يحيطون به بصورة دائمة: نقولا الفرزلي، ليلى بقسماطي، فؤاد الزين، جهاد كرم...
هذه الإحاطة والاحتكاك الدائم فتحت أفاقنا على فهم المجتمع العربي. فكان يأتي لزيارته مختلف القيادات العربية، على سبيل المثال: مهدي بن بركة المناضل المغربي، فنجتمع نحن مع مهدي بن بركة ونحضر اجتماعاتهما المُطوَّلة. وكذلك يأتي لزيارة الأستاذ ميشال عفلق عبدالله إبراهيم الشخصية القيادية في المغرب العربي، وصديق شنشل السياسي العراقي، القومي العربي المناضل، وقيادات سياسية وحزبية أردنية وسورية... فيأتون جميعهم لزيارة الأستاذ ميشال عفلق. ففي هذا المنتدى الفكري والسياسي والقومي، وفي حضرة ووجود "الأستاذ"، كان لنا بمثابة تعميق وعينا وإدراكنا لما يجري من حولنا في العالم العربي. في تلك الأيام، كنا ما نزال طلاباً ورُتبتنا الحزبية لم تكن بعدُ عالية، مما وسَّع لنا أُفقَنا الفكري والقومي العربي، هذا الاحتكاك بالقيادات العربية، ونحن نشعر بشيء من الزهوّ والافتخار ونحن بصحبة "الأستاذ" ومنتداه السياسي والفكري العربي.
إلى هنا، وقبل حدوث الانفصال، وبعدما ابتدأ الخلاف البعثي الناصري مع استقالة الوزراء البعثيين في أواخر عام 1959( تشرين الثاني)، أخذ حزب البعث في التراجع والتقوقع، ونحن في بيروت في أوساط ناصرية، فلم يكن من السهل على الحزب أن يستمر في نضاله كالسابق. لقد كان الحزب قوياً في طرابلس وقوياً أيضاً في صيدا، غير أنه في بيروت لم يكن بهذه القوة. لقد كان له وجود ولكنه غير قوي جماهيرياً.
س:.. هل كان الوضع دائماً على هذا الشكل: له وجود بين الطلاب في الجامعات ولكنه على الصعيد الشعبي كان ضعيفاً؟!..
ج:.. كان دائماً هكذا!!.. لم أشعر طوال حياتي في بيروت أنه كان قوياً على الصعيد الجماهير الشعبية. هذا هو رأيي في وضع الحزب في بيروت. بالإضافة إلى ذلك أن البيروتيين هم قلائل الذين دخلوا إلى حزب البعث. في الحقيقة، في بيروت، لقد كان الحزب هو حزب الجنوبيين، وقام على أكتاف أهل الجنوب، بغض النظر عن أي اعتبار أو تفسير طائفي أو مذهبي. هذه المسألة لم تكن مطروحة إطلاقاً عندنا داخل الحزب. ( لقد كان حزب البعث عَلمانياً إلى أبعد الحدود، دون أن يأتيَ في أدبياته على ذكر مصطلح العَلمانية...). هكذا بدأ الحزب نضاله منذ البداية.
وأنا أذكر هنا، في هذا السياق، أنني انتسبت إلى حزب البعث العربي الاشتراكي في أيار 1958. وفي تشرين الثاني من السنة نفسها كنت عضواً في قيادة الفرقة في الجامعة الأميركية. ولكوني طالباً في الجامعة الأميركية ومثقفاً ووجهاً جديداً في الحزب، شُجِّعتُ على أن أترشَّح في انتخابات قيادة فرع بيروت، فكنت عضواً في قيادة الفرع بعد سنة ونصف السنة من دخولي حزب البعث. وفيما بعد، لم أرغب في الترشح لعضوية القيادة القطرية في أول مؤتمر حضرته وكان عام 1961 قبل الانفصال. وقد ألحَّ عليّ، فيما أذكر، فؤاد ذبيان وعبد الوهاب الشميطلي كي أترشح في وجه مجموعة وبخاصة جبران مجدلاني وعصام نعمان اللذين كانا يُعتبران أنهما "ناصريان" داخل الحزب. وأعضاء القيادة القطرية هم أعضاء طبيعيون في المؤتمر القومي، ويُنتخب أيضاً من القطر أعضاءً نسبة إلى أعضاء الحزب. وكنت أنا من ضمن أربعة أو خمسة أعضاء انتخبنا لحضور المؤتمر القومي. وبهذه الصفة حضرت لأول مرة المؤتمر القومي الخامس( 1962) في حمص.
وكما قلت، فإن النضال الذي مارسته من خلال نشاطي الحزبي هو نضال قومي. فكنت عضواً ملحقاً بمكتب العلاقات الخارجية وكانت مَهمتي الاتصالات الخارجية ومساعدة الأعضاء الأصيلين. وأذكر في هذه المناسبة أننا وزّعنا بياناً، وكنا ثلاثة أعضاء: أنا ونقولا الفرزلي وشخص ثالث لم أعد أذكر اسمه، ضد "مشروع الليطاني" وانتصارنا للعمال وحقهم في هذا المشروع. ووُزِّع هذا البيان ليلاً في جميع القرى دون أن يعلم أحد مَن هو الذي وزَّع هذا البيان وبهذه السرعة. مرة أخرى عندما اختلفنا مع عبد الناصر، أصدر الحزب بياناً لم نتجرّأ توزيعه في النهار خوفاً من القبضايات الناصريين، وُزِّع البيان في الليل في جميع أنحاء بيروت.
والشيء الملفت طوال هذه المرحلة، قد كان حزب البعث، كما قلت سابقاً، قوياً في صيدا وقوياً في طرابلس، وكما أذكر تماماً أنه في شهر شباط 1959 نظّم البعثيون في صيدا، في إحدى قاعات السينما، احتفالاً حاشداً تأييداً ليسرى سعيد ثابت ـ التي اعتقلها نظام حكم عبد الكريم قاسم في العراق ـ فشاركتْ في هذا المهرجان "كل صيدا" والجوار والجنوب. فكان من أروع المهرجانات التي نظّمها البعثيون... ولكن ما لبث الخلاف الذي تطور إلى صراع سياسي عنيف بين حزب البعث وعبد الناصر، أن انعكس سلباً على حزب البعث في جميع فروعه.
من هنا، وبسبب مغالاة الأجهزة الناصرية، السياسية والإعلامية، في صراعها ضد الحزب، حَقد قسم كبير من البعثيين وانتقلوا من الموقف ضد عبد الناصر ونظام حكمه، إلى الموقف ضد الوحدة. في حين أن الأستاذ عفلق إذ اتَّهم أحدٌ الوَحدة أو وَجّه إهانة إلى الوَحدة، فكأنك تعمل على قتل ابنه.
س:.. وقبل أن نتحدث عن حيثيات حدوث الانفصال وانعكاس ذلك داخل حزب البعث، أريد أن تحدثني عن حضورك المؤتمر القطري اللبناني لعام 1961 والمؤتمر القومي الخامس لعام 1962 ـ وأنت كنت قد شاركت في المؤتمرين على التوالي ـ في المؤتمر القطري فقد كانت الخلافات شديدة الحدَّة بين أغلبية أعضاء القيادة القطرية وعلى رأسها عبد الوهاب الشميطلي وفؤاد ذبيان وغسان شرارة (عضو القيادة القومية) وحسيب عبد الجواد وتقريباً معظم كادرات الحزب في بيروت وصيدا، وفي المقابل تيار القيادة القومية وأمينها العام الأستاذ ميشال عفلق وعلي جابر وعبد المجيد الرافعي وجبران مجدلاني وسواهم. وأنت، كنت في أيِّ صف أو اتجاه؟!..
ج:.. أنا، في الحقيقة، كنت في موقع ما يسميه الرفاق "بين بين": فأنا أحترم الأستاذ ميشال عفلق وأحب أصحابي في الوقت نفسه. فأكثرية أصحابي والأستاذ ميشال كانوا دائماً في الموقف القومي العربي الوحدوي والمبدئي، وأنا تكويني الشخصي وكوني جئت من بيت ليس له علاقة بالسياسة اللبنانية، فكان يعجبني براغماتية أكرم الحوراني وعَملانيته (أي سياسته العملية التجريبية)، فكنت دائماً كالضائع بين هذا وذاك. ولكنني في النهاية عند الحشرة أقف مع الأستاذ عفلق وأصوّت لجانبه ومع جماعته. فأنا بطبيعتي أكن للأستاذ كل محبة واحترام وكنت في الوقت نفسه أرى الإيجابيات لأكرم الحوراني. وكنت أتمنى لو أن هذه الإيجابيات تتزاوج بعضها البعض مع الصلابة المبدئية والفكرية للأستاذ ميشال عفلق، والسياسة العملانية للأستاذ أكرم. ولكن ذلك غير ممكن....
فأنا أذكر بعض الشيء عن المؤتمر القطري اللبناني الذي عُقد بُعَيْد الانفصال بوقت قليل. ففي حينه طغى على هذا المؤتمر القطري روح اللاوحدة، وأغلبية الأعضاء الذين شاركوا فيه هم من جماعة القيادة القطرية وأمين سر القطر عبدالوهاب الشميطلي ورفاقه فؤاد ذبيان، حسيب عبد الجواد، طلال شرارة ، غالب ياغي، غسان شرارة، وهم في الحقيقة مناضلون بعثيون و"عمليون".
وهنا أذكر أنه عندما وقع الانفصال (أيلول 1961)، خرج عبد المجيد الرافعي على رأس مظاهرة باسم حزب البعث ضد الانفصال. وعند توقيع أكرم الحوراني وصلاح البيطار على وثيقة الانفصال، استنكر عبد المجيد الرافعي هذا العمل وأصدر بياناً باسمه معلناً رفضه وإدانته لهذا العمل وذهب حينها إلى سويسرا. ففي هذا المؤتمر، طُلب منه أن يعتذر علناً وينشر ذلك في الصحف، وإلاَّ يفصل من الحزب. عندئذ التزم عبد المجيد الرافعي بقرار الحزب في هذا المؤتمر وقام بما طُلب منه أن يفعل. وعبد المجيد في هذه الناحية يتمتع بأخلاقية عالية جداً.
س:.. في هذا السياق، أريد هنا أن أطرح سؤالاً أو بالأحرى سؤالين: بداية، كيف تفسّر، مع البُعد الزمني، الأسباب الحقيقية التي دفعت مناضلين في حزب البعث، وحدويين عروبيين وعلى رأسهم عبدالوهاب الشميطلي ـ وهو في الواقع، مفكر هذه الحركة الأساسي ـ ومحرّكها مجموعة في مقدمتها غسان شرارة، غالب ياغي، طلال شرارة، فؤاد ذبيان وغيرهم وحسيب عبدالجواد وهو منفّذ، كيف يمكن تفسير موقف هؤلاء المناضلين البعثيين وعلى رأسهم عبد الوهاب الشميطلي وغسان شرارة، اللذان كانا يُعتبران من تلاميذ ميشال عفلق "المدلَّلين" ؟!..
ج:.. الأستاذ ميشال عفلق هو قائد الحزب وهو مؤسس الحزب، ولكنه يمتاز أيضاً على أنه مفكر الحزب وفيلسوف الحزب وعشيق الحزب في الآن الواحد معاً. يخاف على الحزب كما يخاف الأب على ولده. فكان فخوراً بهؤلاء الشباب في الحزب وينتظر منهم أن يفيدوا الحزب من ضمن تفكير الحزب الذي رسمه لنفسه والذي هو رسمه كما يريد. فكان يحصل بينه وبينهم نقاشات، فكانوا يبالغون في نقاشاتهم فيتخلّلها توتُّرات، فيتحاملون أحياناً كثيرة عليه. في هذه الحالة، لم يحسن هو، الأستاذ عفلق، استيعابهم ـ وهذا ما كان يحصل كثيراً داخل الحزب ـ وكل الأعضاء المناضلين الذين خسرهم البعث، فبسبب عدم القدرة على الاستيعاب. وهم من جهتهم، كانوا يتجرأون دائماً أكثر فأكثر وفوق ما هو مقبول، وزيادة. وهذه المعادلة، في الحقيقة، هي المرة الأولى التي أقولها وأنا لم أكتبها في كتابي ولم أدخل في العمق فيها.
كل المشكلة أنهم هم كانوا قد تجرأوا كثيراً وتمادوا بكثير من المبالغة. والأستاذ عفلق، كان يقول في نقاشاته أنّ حزب البعث بما أنه وحدوي، فمهما أخطأ عبدالناصر، فلم يكن من الجائر في أي شكل من الأشكال أن نوافق على الانفصال ونوقّع على وثيقة الانفصال، أو نهاجم نظام الوحدة أو عبدالناصر، أو نماشي سياسة الانفصاليين أو نسير في صفهم. البعثيون هم وحدويون، والحزب قام على أساس الوحدة وضحَّى بوجوده من أجل الوحدة. وكان هناك رفاق بعثيون على شاكلة غسان شرارة وعبدالوهاب الشميطلي وغيرهما، زادوا كثيراً في قساوتهم على البعثيين الذين هم من جماعة الأستاذ عفلق، فهنا دخلت الأمور الذاتية والشخصية لتلعب دورها، وتبدأ صغيرة، ثم تنمو وتكبر وتسدّ عليك كل المنافذ.
س:... هنا أيضاً يطرح سؤال: هل هناك تأثيرات خارجية يسارية؟!.. مثلاً، هل تأثيرات الحزب الشيوعي اللبناني والأجواء السياسية السجالية المعادية لعبدالناصر ولنظامه في الجمهورية العربية المتحدة، انعكست داخل حزب البعث في لبنان، وبخاصة لدى كثير من أعضاء القيادة القطرية؟!... إننا نعلم أن موقف الحزب الشيوعي اللبناني من خلال صحفه وحركته الدعائية، كان موقفاً حاداً وقاسياً وعنيفاً ضد نظام حكم عبدالناصر وشخص عبدالناصر بالذات، فسؤالي المقلق أطرحه بداية على نفسي قبل أن أطرحه على الآخرين: هل كتابات الحزب الشيوعي في تلك الفترة وبخاصة افتتاحيات جريدة الحزب "النداء": ضد نظام حكم الوحدة وضد عبدالناصر واتهامه بالعمالة للمخابرات الأميركية، ودكتاتورية عبدالناصر كان لها صدى في قليل أو كثير، أو تأثير في أجواء حزب البعث خصوصاً في المركز بيروت؟!...
ج:... في الحقيقة، فأنا ليس لدي معلومات حول هذا الموضوع، وليس لدي مستندات ولا أستطيع أن أقول أشياء كثيرة حول هذا الموضوع طوال تاريخ وجودي في حزب البعث والذي هو قصير من حيث التنظيم، وإنْ استمريّت دائماً بالقرب منه ومن حوله، وبقيت فيه ولكن على طريقتي الخاصة، بل أستطيع أن أقول إنه لا أحداً مارس عليه تأثيراً من خارجه، أقصد تأثيراً أجنبياً أبداً. ولا يستطيع أحد أن يسجّل على بعثي أنه مشى مع الأجنبي، أبداً: البعثي لديه مناعة قومية رهيبة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن الأفكار الماركسية وعدم الكتابات الكثيرة (الفكرية والفلسفية) داخل الحزب، واقتصار بيانات الحزب على القضايا العامة دون الدخول في التفاصيل والجزئيات، جعل كثيراً من الشباب البعثيين ينزع نحو الماركسية. ربما يكون هؤلاء الشباب والكادرات الحزبية قد تأثروا بالأفكار الماركسية وبالأفكار الشيوعية دون أن يدروا. ربما، إنما لم يكن هناك شيء مباشر (أو طروحات مباشرة). ولكن، أي واحد، في دراسته، يجد أن الفكر الاشتراكي الماركسي فكر غنيّ، فلا يمكن لأيٍّ كان أن يتجاهله أو أن يقفز فوقه. فلربما يكون من هذا القبيل، طبعاً ولا شك في أن ما جرى في عهد الوحدة وانتهاكات الحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان، فسحت المجال لأن يكون الانفصال سهلاً. فهناك كثيرون كانوا قد رحَّبوا بالانفصال، وهذا لا يجوز. ولكن الانفصال دغدغ أفكار الكثيرين اعتقاداً منهم أنهم سوف يعودون إلى الحرية الحزبية...
س:.. (مقاطعاً) هل هناك بعثيون رحَّبوا بالانفصال؟
ج:.. طبعاً: أكرم الحوراني وصلاح البيطار وقّعا وثيقة الانفصال..
س:.. (مقاطعاً) صلاح البيطار، كانت منه نزوة، لم يلبث أن تراجع... هل تعتقد أن كثيراً من أعضاء القيادة القطرية في لبنان، كانوا قد تأثروا في أيِّ حال بمواقف أكرم الحوراني؟.
ج:.. لاشك في ذلك، لقد كانت جماعة أكرم الحوراني تحيط بهم وتمارس تأثيراً سياسياً فيهم. مثلاً، غالب ياغي وهو على علاقة طيِّبة بأكرم الحوراني، وشخصيته ومزاجيَّته وتكوينه النفسي يساعده كثيراً على أن يكون في صحبة جماعة أكرم. طبعاً، ومن الناحية الأخرى، استعجلت القيادة القومية بعد مؤتمر حمص (1962) في اتخاذ القرار بفصلهم، بعد أن وجدوا أنه لم يبق أيَّ مجال للتزاوج، فلا بد من أن يحصل الطلاق معهم.
س:.. ما هي الكتابات التي أثَّرت فيك أكثر من غيرها، بخاصة كتابات الأستاذ ميشال عفلق؟!..
ج:.. "ذكرى الرسول العربي"، هذا الكراس الصغير (الذي هو عبارة عن محاضرة للأستاذ عفلق ألقاها على مدرَّج جامعة دمشق عام 1943) وكتاب: "في سبيل البعث"، (وهو مجموعة مقالات وأحاديث في الفكر القومي للأستاذ عفلق أيضاً). وكتاب "نقطة البداية". ولكن الأهم من كل ذلك هو أنني كنت دائماً أجتمع به، عندما كنا نذهب إلى بيته ونجلس معه وهو جدُّ لطيف، ونُصغي إليه. كانت متعةً هذه اللقاءات، كانت مدرسة بأمّها وأبيها.
س:.. بعد الجامعة الأميركية في بيروت، يركزون الآن ومنذ سنوات مضت، المثقفون الناصريون والقوميون العرب والمستقلون، يركِّزون أكثر ما يركِّزون عليه هو دور قسطنطين زريق في الفكر القومي الليبرالي. وعزيز العظمة أصدر حديثاً كتاباً عنه، وغيره كتب ويكتب في الآونة الأخيرة مقالات وأبحاث عديدة يشيرون فيها إلى دوره في الجامعة الأميركية، دوره القومي والسياسي والتشديد على اعتباره الأب الروحي لحركة القوميين العرب. فمن خلال تجربتك الذاتية ووجودك في الجامعة طوال سنين الخمسينات من القرن العشرين على وجه التقريب، ومعرفتك بأجواء الجامعة الأميركية والحركات القومية العربية آنذاك وبخاصة مجلة "العروة الوثقى" وتأسيس "النادي الثقافي العربي".... أودُّ لو تقدِّم لي صورة حول هذا الجو والأجواء السائدة آنذاك...
ج:... لاشك في أن "العروة الوثقى" كانت أهم منتدى سياسي ثقافي خدم العروبة في الجامعة الأميركية في بيروت. وكان كل المنتسبين إلى هذا النادي هم القوميون العرب، لا شك في ذلك. وقسطنطين زريق هو أحد الأساتذة الكبار والروّاد في الفكر القومي العربي. ولكن هؤلاء جميعهم لم يأتوا بما أتى به حزب البعث، ذلك أنه أول مَن ربط الفكر القومي العربي بالمفهوم الاجتماعي والاقتصادي والاشتراكي هو حزب البعث العربي الاشتراكي. أقول ذلك لا لأننا كنا بعثيين، وإنما ضميرياً وتاريخياً هو (أي البعث) الذي أعطى البُعد العملي الاجماعي لهذا الفكر القومي.
ومن هنا، لا غضاضة إطلاقاً الإشارة إلى دَوْر قسطنطين زريق الرائد في الفكر القومي. ولكن هو شيء وحزب البعث في هذا المفهوم القومي، شيء آخر تماماً. هو كمُفكِّر قومي عربي شيء، وفكر ميشال عفلق القومي العربي شيء آخر.
س:... هل كان قسطنطين زريق، له تأثير في تفكيركم القومي العربي؟!...
ج:... (مقاطعاً)، من ناحيتي، لم يؤثر قط...
س:... يبدو أنه طوال الخمسينات من القرن العشرين لم يُنشر شيءٌ للدكتور قسطنطين زريق في الفكر القومي سوى ربما كتاب صغير بعد عام 1948: "معنى النكبة". بالمقابل كانت كُتُب ساطع الحُصُري هي المنتشرة والمقروءة آنذاك بكثرة. وما أريد أن أستوضحه منك هو أن ما يبدو لي منذ عقدَيْن من الزمن تضخيمٌ لدوره. ما قلته حول دوره الريادي في الجامعة الأميركية، وهذا شيء معروف ومعترف به وبخاصة أنه كان يُعتبر "الأب الروحي" لحركة القوميين العرب، ولكنني أنا أتحدث عن كتاباته ومؤلفاته القومية التي لم تكن منشورة أو معروفة في المرحلة التي تتحدث عنها، وإنما نُشرت فيما بعد: "نحن والتاريخ"، "نحن والمستقبل"، "في معركة الحضارة"، هذه الكتب في التاريخ والحضارة، كانت قد نُشرت بعد ذلك بكثير، في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وما أودّ أن توضِّحه لي هو التالي: هل كان له، وجود قسطنطين زريق الأيديولوجي القومي العربي، تأثير وتأثير كتاباته في الفكر القومي في مرحلة ما بعد الجامعة الأميركية وما هي؟!...
ج:... في الحقيقة والواقع، لقد كان وجوده بالنسبة إلينا إنما هي هيبته. أنا كنت أنظر إلى هيبته كرجل عالِم وأستاذ التاريخ ورئيس جامعة، وأساؤوا إليه أنصار الشيشكلي في مطلع الخمسينات (1950) في الجامعة السورية في دمشق. كنا نحترمه ونُجِلَّه. ولكن أنا لا أعتبر أنني تأثرت به، لا هو ولا بساطع الحُصري. هذا قصورٌ مني أنني لم أقرأ لهما شيئاً. ذلك أنني لا أضع نفسي في عداد مَن يسمَّوْن "الأيديولوجيين" (idéalogues) (المفكرين العقائديين) أو المفكرين في حزب البعث. فأنا أهتم بالفكر السياسي العملي، لا بالفكر الفلسفي أو العقائدي الذي ليس لي اطلاع عميق عليه.
س:... لقد كنت من المقربين إلى الأستاذ ميشال عفلق ومعرفتك به معرفة جيدة طويلة وعميقة، حدثني عن شخصيته وفكره وأحاديثه والجوانب التي أثَّرت فيكم، في جيلكم وجذبتكم إليه...
ج:... أولاً الأستاذ ميشال عفلق من أذكى الرجال الذين عرفتهم في حياتي. فأنا لم ألتقِ أحداً بذكائه ولا قابلت أحداً بدماثة خلقه وصفاء ذهنه وأصالة عروبته. فهو "عربيٌّ " حتى السذاجة. ويؤمن بالوحدة العربية لدرجة أنه ضحَّى بالحزب وحلّه من أجل قيام الوَحدة، مع أن ذلك لم يكن معقولاً أو مقبولاً. فكره نيِّر (ذو بعد مستقبلي).
ولكن الأستاذ ميشال عفلق من ناحية أخرى، عنده خطأان: أولاً إنه حسّاس لدرجة أنه من الصعب عليه أن يستوعب المناوئين الآخرين له، بمعنى أنه إذا زَعِل منك أحياناً ـ مع أنه طيب القلب ويصفح سريعاً ـ ولكنه إذا غَضِب، يكون قاسياً. مثلاً، الشباب اللبنانيون ـ أعضاء القيادة القطرية في لبنان ـ لو أنه استوعبهم، ولو لم يدخل بينهما فريق ثالث أزكى الخلاف، لم نخسرهم ولا هم خسروا أنفسهم، ولا كان قد خسرهم الحزب.
ثمَّ ومن جهة أخرى، فإن الأستاذ عفلق كسول بعض الشيء. فكان في الإمكان أن يُنتج أكثر مما أنتج. أما في ما يختص بالوطنية والقومية والأخلاق والتزهُّد، لا أحد يجاريه فيها.
س:... هل كان يقرأ كثيراً ؟
ج:... نعم! بكثرة، لقد استوعب في زمانه الفكر الفرنسي والاشتراكي العالمي. وهو فوق ذلك أديب لامع، وكاتب قصة...
س:... (مقاطعاً).. كان ذلك في البداية، أثناء الدراسة في فرنسا والعمل في مجلة "الطليعة" في الثلاثينات من القرن العشرين. ولكن فيما بعد، فقد قيل لي وأكدوا أنه في الفترة الأخيرة كان لا يقرأ...
ج:... (مقاطعاً)، لا، لا، لا !! إنه كسول لا يكتب، ولكنه غير كسول في ما يتعلق بالقراءة، فقد كان كثير الاطلاع ويقرأ في اللغة الفرنسية والعربية.
س:... هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى، ما هي برأيك، سلبيات ميشال عفلق السياسية، أي من حيث المواقف السياسية؟... ذلك أنه، كما نعلم، هو الأمين العام لحزب البعث، فإذا كان عليه أن يكون مفكر البعث وفيلسوفه، يجب عليه أيضاً أن يكون سياسياً ديناميكياً متحركاً...
ج:... صحيح، وكما قلت لك، فلا يتمتع الأستاذ ميشال عفلق بحركة ديناميكية: فهو كسول وغير ديناميكي. ولست أعرف إذا كان تكوينه الشخصي يساعده على أن يكون "عملانياً" (actif ). وهناك أناس لا يستطيعون أن يتولوا القضايا العملانية....
س:... هل تراه في موقعه كأمين عام لحركة سياسية قومية...
ج:...(مقاطعاً) طبعاً، طبعاً!! لا أحد في حزب البعث يستطيع أن يحل محله (هذه ناحية أثبتت التجربة التاريخية الطويلة صحتها، لماذا؟ هذا هو السؤال!!). البعثيون نوعان: نوع يؤلِّه الإنسان ـ الشخص، ولا يرى له غلطة، ونوع آخر يسيئ للإنسان ـ الشخص ولا يرى له حسنة. الأستاذ ميشال عفلق هو إنسان، له وعليه. وإنما حسناته وإيجابياته مليون مرة أكثر من سلبياته. ولم يوجد في حزب البعث مَن يمكنه أن يكون الأمين العام غيره. والدليل على ذلك كان قد جاء الدكتور منيف الرزاز إلى الأمانة العامة، فارتكب أخطاء كثيرة.
وخطأ الأستاذ ميشال عفلق أنه كان يجب عليه أن يكون أكثر صبراً ويستوعب البعثيين اللبنانيين أكثر... في الحقيقة، وكما كان يُقال عنه، "إن نَفَسه ضيِّق": ضيَّق النَّفَس، ويحرد، ويسافر...
س:... هل هذه تراها صفاتٍ لأمين عام لحزب نضالي في خارج السلطة أو في داخلها؟!..
ج:... أنا من الذين يقولون إن هذه الناحية (الصفة) لا يجوز دائماً أو بالأحرى هذا الموقف أن يحصل. ولكن الأستاذ عفلق إنسان. والإنسان عنده قدرة محدودة على التحمُّل، ذلك أن المعارضين له كانوا يسيئون إليه ويقسون عليه كثيراً ويتجاسرون ويتجاوزون حدودهم ويعتبرون أنفسهم أهم منه.
وأنا أقول دائماً إن هؤلاء المناضلين الأحرار الأخيار الشرفاء: غسان شرارة، وعبد الوهاب الشميطلي، وفؤاد ذبيان، وغالب ياغي، وطلال شرارة ورفاقهم، فكل واحد منهم يساوي " قبيلة ومملكة". ولكنهم هم أيضاً غلَّطوا كثيراً، كذلك هم استعجلوا... ومن الجهة الثانية خالد يشرطي ومَن معه أساؤوا هم أيضاً كثيراً وزرعوا الشقاق بينهم وبين الأستاذ ميشال، مما أثاروهم واستفزوهم.
س:... هنا وفي هذا السياق، لو حاولنا أن نقوم بنوع من المقارنة ـ لا أريد أن أقوم بالمقارنة مع قيادات سياسية حزبية نضالية غربية ـ وإنما مع قيادات حزبية من بلادنا العربية، وعلى سبيل المثال فقط: أنطون سعادة أو خالد بكداش أو غيرهما، القيادات الحزبية ذات الشخصية القومية وصاحبة السلطة العليا في المؤسسة الحزبية، لا يسمحون، بحكم شخصيتهم ونشاطهم وديناميكيتهم، لأي عضو مهما كان أن يتمادى عليهم أو أن يتجرأ لإهانتهم. لقد قلت لي فيما سبق إن هناك قيادات بعثية حزبية كانوا يتمادون على الأمين العام، مَن كان يتمادى من أعضاء حزبه مثلاً على أنطون سعادة أو خالد بكداش؟ هل أفهم منك إذن في هذه الحالة، وبحسب معرفتك، أن شخصية الأستاذ ميشال عفلق، لم تكن شخصية قوية؟!...
ج:... لا،لا، شخصيته قوية جداً. ولكنهم كانوا يتمادون عليه لأنهم كانوا يرَوْن أنه كان يحبّهم ويقدِّرهم. وهناك ناحية كثيرون ربما لا يعرفونها وهي أن الأستاذ ميشال عفلق، إذا "عَثَر" على مناضل (أو على مثقف حقيقي)، يشعر وكأنه عَثَر على كنز. لهذا كان دائماً يشجعهم على الترشيح إلى المناصب القيادية العليا (وبخاصة في لبنان، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً أبرزها جبران مجدلاني ورفاقه الذين انتسبوا إلى الحزب وبسرعة فائقة أصبحوا من القيادات العليا). ولكنهم في الأغلب وبعد مدة يفتكرون ويعتبرون أنفسهم أنهم أصبحوا مثله، إذا لم يكن أهم منه (فكرياً وديناميكياً ونشاطاً). ولا يأخذون بعين الاعتبار أيضاً وبخاصة عامل السن والتجربة السياسية والحربية، وهناك البُعد والقرب (من الأحداث وتطورها). بالإضافة إلى ذلك كله، فهو، ميشال عفلق، مؤسس حزب البعث.
ماذا يعني: يتمادون عليه؟!.. لا يشتمونه، لا، وإنما كانوا يرفعون أصواتهم أمامه ويتجاسرون على فكرة الوَحدة ويتمسكون بمواقف سياسية تبدو له وبالنسبة إلى مبادئ الحزب، غريبة.
س:... وقد قيل في هذا الجانب من شخصيته أنه كان كثير الخوف لدرجة مَرَضية!!
ج:... أنا لا أعرف فيه هذه الناحية. فأنا لم أسجن معه ولم ألحظ منه ذلك، عندما كنت أجلس معه مطوَّلاً. ولكنني أعتقد أن الأستاذ ميشال عفلق صلب الموقف. لقد حارب كل البعثيين الذين كانوا في السلطة، وهو كان يستند إلى ماضيه وإلى تاريخه كونه هو مؤسس البعث. ولم يكن يخاف شيئاً...
س:... أودّ في ختام هذه المقابلة أن تقدم لي بطاقة شخصية .c.v.
ج:... لقد تخرجت من ثانوية طرابلس (المدرسة الأميركية) في حزيران عام 1952وانتسبت إلى الجامعة الأميركية في بيروت في العام الدراسي 1952- 1953 والعام الدراسي 1953-1954. ولم أنجح في علم الأحياء (Biologie). عندئذ مُنعت من متابعة الدراسة، فكان يجب عليّ أن أتغيب مدة سنتين حتى يُسمح لي أن انتسب إلى الجامعة من جديد. فذهبت إلى الكلية الأميركية في حلب وتخرجت منها. ومن ثمّ بعد سنتين دراسيتين تخرجت حاصلاً على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية عام 1958 من الجامعة الأميركية في بيروت. وحصلت عام 1961 على ماجستير في العلوم السياسية من نفس الجامعة.
وفي الوقت نفسه انتسبت إلى الجامعة اللبنانية وتخرجت منها حاملاً ليسانس في الحقوق. ولم أنشط حزبياً ضمن الجامعة اللبنانية لعدم دوامي في حضور المحاضرات، ذلك أنني كنت عضواً في قيادة فرع بيروت وكان نشاطي محصوراً في بيروت وضواحيها. ثم بعد ذلك، صدر تعييني سفيراً للعراق عام 1970 حتى عام 1983. بعدها، حاولت أن أكون رجل أعمال، وكان عملي ما بين بغداد وباريس، ولكنني فشلت.
س:... كيف يمكن أن ينجح رجل سياسي مناضل وحزبي بعد أن يحاول أن يكون رجل أعمال، فهذا صعب على كل مناضل حقيقي..... فشكري لك وإلى أن ألقاك في مقابلة قادمة، أتمنى لك أن تكون صحتك جيدة...
* * *
___________________________________________________________________________________ * هنا النص الحرفي الكامل للمقابلة التي أجراها الدكتور مصطفى دندشلي مع السفير وأحد كادرات البعث القيادية في بيروت ولبنان، الأستاذ جهاد كرم مساء الإربعاء الواقع فيه 3 تشرين الثاني 2010. وقد حافظنا كلياً على الجو الحيوي التلقائي الذي أُجريت فيه هذه المقابلة وعلى السياق اللغوي وحتى الألفاظ واللغة الفصحى المحليّة. ونحن لم نتدخل في الصياغة إلاّ لتوضيح ما قد يكون يحتاج إلى شيء من التوضيح وضبط الأسلوب اللغوي وإعادة الصياغة عند الضرورة مع المحافظة الكلية على المعنى المقصود. وقد قرأ الأستاذ جهاد كرم النص وأجرى عليه ما يراه من تنقيح وتصحيح وتعديل وتغيير إذا لزم الأمر، ووافق بعد ذلك على السماح لنا بنشره كلياً أو جزئياً كما نراه مناسباً. فاقتضَ منا التوضيح...