النهار - هل السينودس حدث؟ - المطران جورج خضر
السبت 30-10-2010
هل السينودس حدث؟
المطران جورج خضر
تعجب الناس لما دعا البابا يوحنا الثالث والعشرون الى مجمع في ستينات القرن العشرين اي بعد مئة سنة على نهاية المجمع الفاتيكاني الأول ظانين ان الكنيسة الرومانية دخلت في سيرورة مجمعية بما يعني ان مواقفها تتخذ في مجمع. ظنوا ذلك حتى أعلن البابا بيوس السادس ان ما دعا اليه المجمع لا يصبح منفذًا الا بقرار من البابا. السينودس الذي دعا اليه البابا الحالي يستلهمه البابا بينيديكتوس السادس عشر بالمقدار الذي يشاء. لذلك شكل فريق عمل لاحقا هذا الحدث على رجاء صدور نص نهائي ربما بعد سنة من البابا نفسه. بقيت مركزية البابا محددة على انها "ولاية عامة ومباشرة على الكنيسة كلها" وظل إخراج السينودس فكرًا لاهوتيًا ورعائيًا أتى به المشتركون من أحبار الكنيسة الكاثوليكية في شرقها وغربها وكهنة ولاهوتيون وبعض من الخاصة المدعو.
اليهم بعض الأفراد من الكنيسة الأرثوذكسية من الشرق الأوسط وعالم يهودي ومسلم سني ومسلم شيعي بصفتهم مراقبين يتكلمون في مناسبات محددة لهم ولا مشاركة لهم في التصويت. بتعبير أبسط كان السينودس تجمعا كاثوليكيا محضا وهذه قيمته اي ان الكلمات التي قيلت فيه والأمنيات التي صدرت عنه كلمات وامنيات لمفكرين كاثوليك. لم يكن هذا التجمع مجمعًا مسكونيًا وقياسًا على المجامع المسكونية القديمة التي كان الشرق والغرب يتلاقيان فيها. يبقى السينودس لقاء كاثوليكيا محضا إرادة أسقف روما الشخصية هي الحاسمة فيه. في أفضل تقدير كان هذا لقاء استشاريا للبابا الروماني.
في هذا الإطار يجب ان ينظر الى هذه المادة الضخمة من المحاضرات والأحاديث ومناقشة الحلقات المذهلة في دقتها وتوسعها والناتجة من تهنئة كبيرة والقائدة الى البيان الأخير. هذه تكون إلهاما عظيما وينبوع رجاء عند "آباء السينودس" وفي المجتمع الكاثوليكي في العالم اذ أريد تحريك لهذا المجتمع المشرقي والعالمي، غير انه تحريك مآله القانون والإرادة الحسنة لبينيديكتوس السادس عشر وهو استاذ عقائد كبير وقد أثبت حضوره في هذا اللقاء اذ كان يتابع كل يوم معظم الاجتماعات.
• • •
كان موضوع السينودس "الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط شركة وشهادة"، عنوانا مستندًا الى كلام العهد الجديد "وكان جماعة المؤمنين قلبا واحدا وروحا واحدة" على رجاء ان يظهر هذا في الشرق الأوسط الذي فيه مسيحيون ومسلمون ويهود. هناك تلاق بينهم لاهوتيا وتعايشا. في ما يختصر بالمسيحيين الآخرين قول واضح على ان الأسرار الكنسية (معمودية وسر الشكر او الافخارستيا) تكون في شركة الجميع مع الكرسي البابوي. كلام إيماني كلي الوضوح. ما مكانة الأرثوذكسيين والإنجيليين او ما الحضور المسيحي الجامع او الواحد في الشرق الأوسط لم تتطرق اليه وثيقة، ولم يلمح اليه في صيغ لاهوتية دقيقة.
اللاهوت الكاثوليكي تحمله الكنائس الكاثوليكية الشرقية التي كان حضورها كثيفا. وكان المبتغى المقول ان تتشاد وتتعاون في هذه المنطقة من العالم لتعطي الحضور المسيحي في بقعة ظاهرة فيها اليهودية وظاهر فيها الإسلام. ولا عجب ان أُعطيت اليهودية ظهورا قويا في النصوص الاعدادية بسبب من الأهمية الساطعة لها في اللاهوت الغربي كله منذ عقود كثيرة مع ان اليهودية لا تشكل مسألة الا في فلسطين بعد ان جلت عن كل العالم العربي.
ولفت الكاثوليك العرب الحاضرين ان كم الكلام عنها كان أقوى وأضخم مما قيل عن الإسلام. غير انه لا بد من الاعتراف ان الكلام في الإسلام والمسلمين كان إيجابيا كثيرا وذلك بفضل الكاثوليك العرب. في الحلقات الخاصة كان يُلاحظ ان أقصي كل كلام متحفظ عن الإسلام والمسلمين وفي شعوري ان الآباء العرب لم يقفوا هذا الموقف فقط بسبب انهم يعايشون المسلمين بحب ولكن لانهم كالارثوذكسيين كانوا غير منجذبين الى اليهودية واليهود وذلك اتباعا منهم لموقف الآباء القدامى في الشرق الذين اعتبروا ان مجيء المسيح قضى على اليهودية وحقق في نفسه كل ما يظن عهدا الهيا لليهود. لقد كان صوت صارخ للاهوتي ماروني قال اننا نرفض العنف في العهد القديم ونرفض الوعد بالأرض.
وفي الكلام عن الإسلام استشهد التقرير الذي استند اليه السينودس الى ما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني: "تنظر الكنيسة بتقدير الى المسلمين الذين يعبدون الله الأحد، الحي القيوم، الرحمان الجبار، الذي كلّم الناس". هذا كان آنذاك الكلام اللاهوتي الوحيد عن الإسلام وفيه أشياء كثيرة واحدة مع العهد الجديد. كان بندلي الجوزي الأرثوذكسي الفلسطيني يقول: "نحن نقبل كل السور المكية". كنت أتوقع ان تقال كلمات كثيرة في القرآن هي واحدة مع المسيحية. كنت أتوقع ان يقال شيء عن مريم المرأة الوحيدة المذكورة باسمها في القرآن الذي خصص لها سورة باسمها وسورة آل عمران. ما عدا ذلك ذكرت مع المسلمين "الحياة المشتركة" والقيم المشتركة والسلام والتضامن ومكافحة العنف والحوار.
اذا نظرنا الى الحياة المجتمعية الواحدة في الشرق الأوسط أحسب ان العبارة الهامة جدا في السينودس هي عبارة العلمانية الإيجابية التي كان البابا الحالي قد استعملها سابقا وهي الخالية من الارتباط الفلسفي بالعلمانية الغربية بعامة والفرنسية بخاصة وتشير الى عدم المزاج بين السياسة والدين. واذا فهمناها فهما صحيحا يزين لي ان المسلمين يتقبلونها، وفي التقرير الأساسي للسينودس تعني "تحويل العقليات والذهنيات ومواقف الطائفية الى ذهنية حياة وعمل من أجل الخير العام". ومن أجمل ما ورد في النصوص ان السينودس على رفضه عنف الحركات الإحيائية في دار الإسلام القائمة على التطرف الكبير اهتم بدعوة أبنائه على ان يتحرروا من تجربة الانطواء وان يعملوا مع الناس جميعا للعمل معا من اجل تعزيز العدالة والسلام والحرية وحقوق الانسان وحماية البيئة وقيم الحياة والعائلة. اما المشكلات الاجتماعية والسياسية فلا بد من معالجتها لا على انها حقوق المسيحيين يجب المطالبة بها، بل على انها حقوق شاملة يدافع عنها المسيحيون والمسلمون من اجل الخير العام.
الى جانب التشديد على توحد الطوائف الكاثوليكية وتقاربها الحياتي يبدو لي ان ما سيبقى من هذا السينودس في هذه الدنيا دعوته الى الحياة المجتمعية الواحدة في دنيا العرب. المطلوب عنده هو الخلاص من عقلية الذمية مارسها المسلمون وعاناها المسيحيون. المبتغى حياة جديدة، مدنية في بلاد العرب والشرق الأدنى. ومن الحياة المشتركة يأتي عقل تتجدد فيه روح الشعوب الناهدة الى كرامتها وقد يتجدد فيها الفقه. ولكن هذا مسعى يقوم به المسلمون المتنورون أنفسهم.
في هذا السلام الحياتي يعقل ان يتجدد اللاهوت وعن هذا تعلو أصوات جديدة جريئة في الإسلام. وهذا ما سنقدمه جميعا لاستقلال فلسطين.
ما من شك بان في الكثلكة روحا جديدة ربما أسهم هذا السينودس في إطلاقها من الشرق الأدنى اذا فهمت الكنائس الكاثوليكية هكذا نداء البابا. لا يستطيع صوت البابا وحده ان يقوم بهذه المهمة الصعبة. مفاتيح هذه الروحية الجديدة وخواتيمها على الأرض هي في أيدي الكاثوليك العرب. الأرثوذكسيون مهتدون الى هذه القناعة من زمان طويل. ولكن هذا التجلي غير ممكن الا اذا اقتنعت به الأنظمة الإسلامية وقبلت مشاركة المسيحيين على النهوض مع المسلمين لتكوين حضارة عربية مستندة الى العقل ومستلهمة ربها الواحد. كان الإمام علي يقول: الفهم، الفهم. وكان ابو العلاء ينادي بإمامة العقل. الكاثوليك لن ينسوا ولا أحد يجب ان ينسى انه العقل المدعوم بالقلب المستنير برب القلوب. اذ ذاك يصير السينودس حدثًا.
المطران جورج خضر