النهار - تعقيباً على الحوارين مع "الإمام الأكبر" و"المرجع الأعلى" مـــا بـــيــــن الأزهــــر والـنــجــف ـ سعود المولى
تعقيباً على الحوارين مع "الإمام الأكبر" و"المرجع الأعلى"
مـــا بـــيــــن الأزهــــر والـنــجــف
بقلم سعود المولى
(تعقيباً على المبادرة الرائعة للصديق جهاد الزين في حواريه مع المرجع الأعلى للشيعة السيد علي السيستاني ومع شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيّب).
خلال الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، كنا نزور القاهرة برفقة الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، مرة على الأقل سنوياً لحضور المؤتمر العالمي للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (وهو ينعقد سنوياً قبيل عيد المولد النبوي الشريف ويختتم أعماله باحتفالية كبرى يشارك فيها الرئيس بكلمة عادة ما تكون شاملة ووافية حول موقف مصر في العالم الإسلامي)... وكنا نزور القاهرة مرات ومرات للقاءات ممتعة ومفيدة مع أهل الرأي والعلم والفكر ممن صاروا حلقة أصدقاء وحواريي الشيخ الراحل. أذكر منهم المرحوم الشيخ محمد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي، والدكتور محمد سليم العوا، والمرحومين الدكتورعادل حسين والدكتورعبد الوهاب المسيري، والسادة الدكاترة طارق البشري وأحمد كمال أبو المجد ومحمد عمارة ومصطفى الشكعة وفريد عبد الخالق وإبرهيم المعلم ونبيل عبد الفتاح وأبو العلا ماضي وهبة رؤوف عزت، وكل شباب وشابات حزب الوسط (قيد التأسيس). وصار هذا اللقاء تقليداً ثابتاً ينعقد في منزل الدكتور العوا كلما زرنا القاهرة، إلى جانب لقاءات أخرى مع البابا شنودة ومثقفي الأقباط الكبار مثل المرحوم الدكتور وليم سليمان قلادة، والأنبا موسى، والدكاترة الأعزاء سمير مرقس ونبيل مرقس وسمير غطاس ومنير عياد وحنا جريس وجورج إسحق وسامح فوزي... والمرحوم القس الدكتور صموئيل حبيب الخ... ناهيك عن اللقاء بأعلام "مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية"، وخصوصاً رئيسه الدكتور عبد المنعم سعيد، والمرحوم الدكتور محمد السيد سعيد، والدكتور وحيد عبد المجيد. وصولاً إلى الجهات الرسمية وعلى رأسها وزير الأوقاف الدكتور حمدي زقزوق، وشيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية.
وفي كل هذه اللقاءات كان الامام شمس الدين يستعيد سيرة الكبار من أعلام الشيعة في النجف وقم وجبل عامل في الوصل والتواصل مع مصر أم الدنيا والدين، منذ السيد جمال الدين الافغاني، وحتى الشيخ محمد جواد مغنية والسيد نواب صفي والسيد محمد تقي القمي وآية الله الكاشاني وآية الله البروجردي، وصولاً إلى الإمام السيد موسى الصدر.
في القاهرة 1996 ضجت الصحافة والناس بأخبار " القبض على تنظيم شيعي"، وخرجت أقلام سطحية موتورة تصف الشيعة بالخوارج وبأنهم أعداء مصر والعروبة والإسلام. يومها طرق شمس الدين باب القاهرة وسمع الجواب الايجابي مباشرة في الافراج عن المعتقلين، ووقف الهذيان والسخف الإعلامي. كما جرى إرساء ثوابت العلاقة بين الطرفين وصولاً إلى توقيع اتفاقية تعاون بين الجامعة الإسلامية (أنشأها شمس الدين في خلدة 1996) وكل من جامعة الأزهر ووزارتي التعليم العالي والأوقاف.
في القاهرة العام 2000 منح الرئيس مبارك وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى للإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين "تقديراً لخدماته ولجهوده في الدعوة الاسلامية"، وذلك خلال حفل المولد النبوي الشريف في ختام أعمال المؤتمر العالمي للفقه والبحوث الإسلامية لذلك العام.
وخلال الأعوام 1996 ( تاريخ قضية التنظيم الشيعي) ومطلع العام 2001 (تاريخ وفاة الامام شمس الدين) حمل الشيخ هّم ومسؤولية تنظيم وتطوير علاقة الشيعة العرب بأوطانهم وكياناتهم وتحقيق المساواة الموطنية لهم ومشاركتهم السياسية الوطنية الكاملة فكانت جولاته ما بين مصر والسعودية والبحرين والكويت والإمارات بداية طرح مشروعه في اندماج الشيعة العرب بأوطانهم ومشاركتهم الكاملة في المواطنة والكرامة والمساواة تحت سقف العدالة والقانون والمؤسسات. كما حمل الشيخ همّ ومسؤولية تطبيع وتحسين العلاقات الإيرانية – المصرية والإيرانية-العربية على العموم، وأيضاً على أسس العدالة والكرامة والمساواة والمنفعة المتبادلة.
أثمرت جهود الامام الراحل انفتاحاً مصرياً كبيراً على الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ لحظة انتخاب الرئيس خاتمي (1997). إلا أن مسار العلاقات الايجابية هذا شابه الكثير من العراقيل والمؤامرات والانتكاسات كان البعض في إيران يشارك في إنجازها منعاً لتحقيق السيد خاتمي أية نجاحات أو إنفراجات في سياسة إيران الخارجية (كما الداخلية).
أذكر من زياراتنا إلى القاهرة في تلك الأيام عتب المسؤولين المصريين والشارع المصري العفوي على إيران لأنها لم تذهب خطوات أقوى وأكبر في اتجاه ملاقاة التقارب المصري... في تلك الزيارات سمع الشيخ شمس الدين من الرئيس مبارك قوله إن مصر تريد تضامناً إسلامياً فاعلاً تحت سقف منظمة المؤتمر الإسلامي (وكان يومذاك مقرها طهران ورئيسها هو الرئيس الإيراني خاتمي الداعي إلى حوار الحضارات) لتحقيق تعاون مثمر ولقيام منظومة فاعلة في العلاقات الدولية تسمح بتحقيق مصالح العرب وخدمة قضاياهم الكبرى وأولها فلسطين... وعلى سيرة دعوة الرئيس خاتمي إلى حوار الحضارات، فقد حصل أيضاً ما أساء إلى هذه الدعوة حين قام الإيرانيون بتوجيه دعوات إلى مؤتمر لحوار الحضارات وجاء في نص الدعوة "إن الحضارات المدعوة للحوار وللتفاعل هي الفرعونية والفارسية واليونانية والرومانية". يومها سألهم الشيخ شمس الدين: "وهل في إحياء حضارات بائدة أية فائدة لحوار انساني تاريخي يهدف إلى التأثير في مستقبل البشرية ؟ ولماذا الفرعونية والفارسية وليس العربية الإسلامية في وقت توجه فيه إيران حملة تعمل على إظهارها بمظهر المتعصبة فارسياً ضد العرب والعروبة؟" (نتذكر اليوم تلك الدعوة مع عودة السيد مشائي، كبير مستشاري الرئيس نجاد، إلى طرح القومية الفارسية على حساب الإسلامية وطرحه العلاقة مع الغرب واسرائيل على حساب العرب).
وقد لاقت مساعي الامام شمس الدين وجهود الرئيس خاتمي أذناً صاغية لدى المسؤولين المصريين فشهدت العلاقات المصرية- الإيرانية تحسناً كبيراً خلال عهد الرئيس خاتمي، رغم استمرار المنكدات والمنغصات. وأتذكر هنا أيضاً قضية شارع خالد الإسلامبولي أو فيلم اغتيال فرعون. وقد رحبت القاهرة بالشيخ محمد علي التسخيري (أقرب معاوني السيد خامنئي) في مؤتمر البحوث الاسلامية (عام 2000) وحظي الشيخ التسخيري بحفاوة بالغة حيث أخذ الكلام عدة مرات على منصة المؤتمر كما شارك في حفل تكريم الشيخ شمس الدين. ويومها نقل لي الشيخ التسخيري تقديره الكبير لخطوة الرئيس مبارك في تكريم شمس الدين واعتبرها موقفاً سياسياً بالغ الخطورة تجاه الجهود الإسلامية للتقريب وللوحدة، الأمر الذي يستحق الثناء والتقدير كما التجاوب والتعاون... والتسخيري هو صاحب مبادرات التقريب الإسلامية في إيران.
سنوات عشر مرت على هذه الأحداث التي رويت بعض مجرياتها.. سنوات حملت انقطاعاً في التواصل الشيعي- المصري والإيراني- المصري، وتوتراً في العلاقات أعاد مرة أخرى إنتاج أفلام وروايات "المؤامرات الشيعية المجوسية الفارسية". والقبض على "تنظيمات وهمية" أو على "متسللين شيعة". وفي تلك السنوات شهد العالم أحداث 11 أيلول ثم غزو واحتلال أفغانستان فالعراق. نعم: تأزمت العلاقات السنية-الشيعية منذ سقوط بغداد (نيسان 2003) وقد عاشها السنة العرب كصدمة شبيهة بسقوطها على يد المغول العام 1258 أو بسقوط الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى... غير أنه كان لأحداث لبنان منذ إغتيال الرئيس الحريري 2005 وحرب تموز 2006 الدور الأساس في انهيار العلاقات الصريحة الشفافة التي عمل الإمام شمس الدين على تطويرها ورعايتها بحدقات العيون. وليس المقام هنا لفتح سجال حول المسؤول والمسؤوليات إنما خلاصة القول أن إيران مطالبة اليوم أكثر من غيرها بفتح آفاق إعادة بناء علاقاتها مع العالم العربي والإسلامي وخصوصاً مع مصر والسعودية. كما أن مصر والسعودية مطالبتان أيضاً بفتح آفاق واضحة لهذه العلاقة من أجل مصلحة العرب وإيران، ومصلحة الإسلام والمسلمين.
إن تدهور العلاقات السنية – الشيعية في العالم العربي ينذر بشر مستطير ما لم تبادر المرجعيات الحاضنة للعقل والوجدان وللفكر والرأي، في الأزهر والنجف خصوصاً،إلى وقفة حق ووقفة ضمير تعيد الصفاء والنقاء إلى العلاقات الشيعية - السنية (والشيعية- المصرية تحديداً) وتعيد وصل ما انقطع وترميم ما انكسر قبل أن يجرفنا طوفان العصبيات الجاهلية. وفي هذا السياق فإن المبادرات الحوارية الجريئة والتاريخية التي بدأها الصديق جهاد الزين ما بين اسطنبول والنجف والأزهر تفتح أفقاً لحوار راشد عاقل موزون حول كيفية استعادة المبادرة والنهوض.
إن العالم العربي يتمزق داخلياً بين فئات تعيش هواجس الماضي وآلامه وترفض عودته وبين فئات اخرى تعيش قلق المستقبل وأخطاره وتريد إعادة الماضي. وعلى المستوى الإقليمي يتمزق العالم العربي بين وجود صهيوني توسعي استيطاني واحتلال أميركي ودولي يهدد الأمن القومي للمنطقة وبلدانها وإستقرارها وازدهارها، وبين صراع عربي- عربي، وعربي- إيراني وعربي- تركي، يلقي بظلاله القاسية والمدمّرة على أمن العرب ووحدتهم كما على أمن المنطقة واستقرارها وازدهارها. والى هذه الهواجس العربية المشروعة هناك هاجس الصعود الشيعي الذي يقلق دول المنطقة حيث للشيعة وزن وإن لم يكن لهم دور في الحكم والسلطة (السعودية، الكويت، البحرين، الامارات، واليمن اخيراً)، وهاجس الصعود الكردي أيضاً والذي يقلق دول المنطقة حيث للأكراد وزن ولا دور (تركيا، سوريا، إيران). فضلاً عن الخوف من الحضور الشيعي في لبنان والعراق (وقنبلته النووية الإيرانية) وهو خرج من القمقم محدثاً زلزالاً في الواقع الجيو-استراتيجي الإقليمي كما في التوازنات الداخلية لكل بلد حيث يتواجد الشيعة العرب.
إلا أن كل هذه الهواجس والأخطار ليست ولا يجوز أن تكون من النوع الذي يهدد استقرار وأمن وأمان المنطقة العربية-الاسلامية الشرق الاوسطية وإنما ينبغي أن تكون من نوع التحديات التي يتوجب أن نعمل جميعاً وكل من موقعه على وضعها في سياقاتها الفعلية وطرحها ضمن أطرها وإيجاد حلول لها تكون واقعية وعملية ولمصلحة العرب ودول الجوار أولاً ثم لمصلحة كل العرب والمسلمين ثانياً، ناهيك عن مصالح المجتمع الدولي والسلم العالمي.
إن على العرب والمسلمين اليوم المبادرة إلى العمل على تحييد وشل الصراعات الخارجية وضرب معادلة الغلبة والاستقواء التي أضعفت العرب كما أضعفت وأضرت دول الجوار، واستشراف مستقبل العرب من خلال صياغة خلاقة لدورهم في المنطقة وعلاقاتهم بدول الجوار والأخذ بالمثال التركي في هذا المجال. إن الحرص على العلاقات الاخوية والمميزة مع الجيران وفي طليعتهم الأخوة في الإسلام (تركيا-إيران) يتطلب أن يتم توضيح جملة حقائق أولها أن بلداناً مثل لبنان والعراق لا يجوز أن تبقى مسرحاً لتضارب السياسات الدولية والعربية وإنما يتوجب أن تكون ملتقى العرب والمسلمين لصياغة دور حضاري يليق بها في عالم اليوم. إن المطلوب اليوم هو الدعوة الى صياغة شراكة إقليمية استراتيجية حقيقية بين الدول العربية-الإسلامية الشرق الاوسطية تشمل الأمن والاقتصاد والسياحة والزراعة والصناعة والخدمات وتضمن دوراً محدداً لكل دولة وحدوداً منطقية معقولة ومقبولة ومتعاهداً عليها لكل دور، دون افتئات ولا طغيان، وعلى أسس الحوار الدائم، وحل المنازعات بالوسائل السلمية، والتحكيم في النزاعات، والاحترام المتبادل لمصالح الجميع، والتعاون والتضامن على البر والتقوى ورد الإثم والعدوان، وحسن الجوار، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل. وبإمكان لبنان والعراق أن يلعبا دور المحرّض والمحفّز لإقامة شرق أوسط جديد فعلاً هو شرق أوسط الشعوب والدول العربية-الاسلامية المتعايشة لا المتحاربة، المتعاونة لا المتضاربة. شرق أوسط تتحقق فيه وبواسطة شعوبه ودوله الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والديموقراطية والتنمية والاستقرار والإزدهار لكل العرب والمسلمين...
إن دخولنا عالم الغد باعتبارنا شركاء ومسؤولين لا عملاء وتابعين مرهون بتنظيم شروط ذلك أي أن نغيّر ما بنا ليمكننا الله من تغيير وضعنا وما حولنا.
إن الشرط الداخلي للنهضة هو نحن: وحدتنا الداخلية وسلامنا الأهلي وديموقراطيتنا وحرياتنا.
وإن الشرط الخارجي للنهضة هو التوازن والعدل في السياسة الدولية. غير إن عدم تأمين الشرط الخارجي لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى التضحية بالشرط الداخلي.
إن علينا المساهمة في إنخراط الأمة من خلال قياداتها كلها في مجال الفكر والمعرفة والسياسة والتنظيم لمواجهة التحديات، وإلى دمج القوى الكامنة في أمتنا عبر المصالحة والحوار الحي المفتوح بين مجموعاتنا دولاً وموارد وقوى سياسية وفئات ثقافية وإجتماعية؛ وعبر إطلاق طاقات الخير والبركة والحب والتضامن، وإعادة ترميم ذاكرة العيش المشترك وثقافة الوحدة، أي إعادة بناء الشخصية الحضارية السوية للفرد وللمجتمع.