النهار - حكاية "رسالة" هنري كيسينجر! - سليم نصار
حكاية "رسالة" هنري كيسينجر!
بقلم سليم نصار
كانت بيروت تحترق، وقد غطت سماءها سحب متفرقة من الدخان الاسود المتصاعد من مواقع القتال.
ومع ان الطقس الربيعي الدافىء كان يغري بالخروج الى الشوارع، الا ان القنابل العشوائية اجبرت المواطنين على ملازمة الزوايا الحصينة من منازلهم. لذلك فوجئت بالسيارة التي عبرت حواجز المسلحين لتتوقف امام منزلي ويترجل منها زميل من اسرة "الحوادث".
كان منظره كئيباً وهو يلهث كلماته المتقطعة، ويروي مغامرته الخطرة التي قادته الى منزلي خارج العاصمة.
قال انه عبر بصعوبة خط التماس في منطقة عين الرمانة حيث مبنى مجلة "الحوادث". ثم انطلق بسرعة جنونية في خط متعرج تفادياً لرصاص القناصة المنتشرين فوق السطوح.
ولما هدأ اضطرابه، اخبرني انه فقد الاتصال مع رئيس التحرير وكتّاب المجلة بسبب القصف المتواصل، وانه بحاجة الى ملء صفحتين هما كل ما بقي من صفحات العدد الجديد. ثم رمى على الطاولة عدة جرائد محلية قال ان مواضيعها المختلفة قد توحي لي بتدبيج الموضوع المطلوب.
بعد مراجعة سريعة للصحف، استوقفني عنوان طريف في صدر جريدة "النهار" يقول: "كتاب مفتوح من العميد ريمون اده الى هنري كيسينجر" (12 حزيران 1976).
وجاء في ملخص كتاب عميد "الكتلة الوطنية" الى وزير خارجية الولايات المتحدة الملاحظات التالية:
- تدّعي ألسنة السوء انك قررت تقسيم لبنان ثلاثة اجزاء: الاول شمال طريق بيروت – شتورا يخصص للمسيحيين. والثاني، الجزء الذي يقع جنوب الطريق المذكورة حتى نهر الليطاني سوف يعطى للبنانيين المسلمين وللفلسطينيين. والثالث، يقع بين الليطاني والحدود الاسرائيلية. وهذا الجزء ستحتله اسرائيل للحفاظ على مصادر المياه.
وفي النصف الثاني من الرسالة، يتابع اده انتقاده لسياسة كيسينجر التي ادت الى تقسيم جزيرة قبرص (1974) ثم يستأنف مهاجمته للاسباب الآتية:
- جعل لبنان ميدان القتال الوحيد في المنطقة.
- ابقاء نحو من اربعمئة الف لاجىء فلسطيني في لبنان.
- العمل على تدمير لبنان كي تعيش اسرائيل.
من المؤكد ان العميد ريمون اده الملقب بـ"ضمير لبنان"، كان قد استوحى المعطيات التي عدّدها في رسالته، من الاجواء السياسية المهيمنة على الشرق الاوسط منذ اندلاع حرب 1973. وكان هاجسه في تلك الحقبة الرمادية انقاذ لبنان من مخاطر التقسيم، خصوصاً ان تقسيم قبرص رشح لبنان لأن يكون الدولة الثانية في مسلسل الدومينو الذي قدمه مرشد كيسينجر المنظر والمؤرخ برنارد لويس.
خلال فترة انتظار الزميل، قررت صوغ رسالة جوابية رداً على كتاب العميد اده في "النهار"، نظراً لحساسية قضية تقسيم لبنان، وما يمكن ان تسببه من فواجع وكوارث في حال تنفيذها. وقد تسلحت بالمشاهد المأسوية التي رأيتها في قبرص اثناء الزيارة التي قمت بها لنيقوسيا، حيث التقيت الرئيس المطران مكاريوس بحضور سفير لبنان آنذاك الشيخ منير تقي الدين.
وبعد اللقاء كتبت في جريدة "الصفاء" التي كنت رئيساً لتحريرها، سلسلة مقالات حول انشطار جزيرة افروديت قدمت لها بحديث مسهب مع مكاريوس.
واتهم الرئيس القبرصي صراحة هنري كيسينجر بتدبير غزو الجزء الشمالي بواسطة القوات التركية (20 تموز 1974) لاعتقاده بأن اليساري الدكتور لسيريدس هو الذي أمن تسليح "ايوكما" – ميليشيا النظام – بالصواريخ عقب زيارة ناجحة لموسكو.
ورأى كيسينجر في ذلك التحول انقلاباً في ميزان القوى لمصلحة حلف وارسو، الامر الذي شجعه على القيام بانقلاب ضد الملكية في اليونان، واعطاء الضوء الاخضر للغزو التركي.
وصدف ان طائرة "الميدل ايست" كانت آخر طائرة تغادر مطار نيقوسيا. لذلك عدت الى بيروت على متنها بعدما اخبرني السفير تقي الدين ان القوات التركية تتقدم بسرعة نحو محيط السفارة. وكان المشهد محزناً في المطار بسبب تدافع المراسلين الاجانب والمهاجرين اللبنانيين لاحتلال مقعد في طائرة تشبه آخر طائرة غادرت سايغون!
في غمرة ذلك الجو السياسي القاتم، قررت الرد على رسالة العميد اده بطريقة افتراضية على ان اجمع فيها خلاصة المعلومات التي استقيتها من مصادر مختلفة، رسمية وغير رسمية. وقد اعتمدت في هذا السياق على تفسير مقنع سمعته من احد كبار مساعدي الدكتور جورج حبش يؤكد فيه شائعة خبر استعداد "الجبهة الشعبية" لاسقاط طائرة كيسينجر قبل ان تحط في مطار بيروت. ونفى اي وجود لمثل هذا المخطط لدى جماعة حبش. وقال ان التشويش صادر عن عميل لبناني يشتغل لحساب الاستخبارات الاميركية التي يهمها نقل مكان الاجتماع من قصر بعبدا الى اي مكان آخر. وقد استغل كيسينجر عملية تغيير مكان اللقاء، من اجل اتهام الدولة اللبنانية بالعجز عن تأمين حمايته، الأمر الذي مهد للقوات السورية للدخول الى الاراضي اللبنانية.
وقد استفاد الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد من هذه الرغبة للقيام بمبادرة عسكرية ادت الى فك حصار الفلسطينيين اليساريين عن المعاقل المسيحية، وخصوصاً في مدينة زحلة. وهكذا دخلت الكتيبة السورية المدرعة الاولى يوم 31 ايار 1976، ثم تبعتها كتيبة اخرى دخلت من شمال لبنان. المهم، ان روحية نص الرسالة لم تخرج عن حدود الحوار الساخن الذي دار في مطار رياق يوم 14 كانون الاول 1973 بين كيسينجر وسيسكو من جهة، والرئيس سليمان فرنجية ورئيس الحكومة تقي الدين الصلح ووزير الخارجية فؤاد نفاع من جهة اخرى.
ويبدو ان التنسيق بين الثلاثة لم يكن موجودا، بدليل ان افتتاح الجلسة بدأ بطريقة منفرة للوزير الاميركي الذي سمع من الرئيسين فرنجية والصلح العبارة التالية: حضرة الوزير، نحن نعلم ان اختصاصك هو التاريخ. لهذا نحب ان نذكرك بالعلاقة الوطيدة بين الشيوعية والصهيونية. والشاهد على ذلك عدد التروتسكيين الذين تصدروا الثورة البلشفية.
والواضح من سياق المحادثات ان كيسينجر لم يتوقف عند هذا التفسير التاريخي لأحداث الثورة البلشفية، لاعتقاده بأن الفريق اللبناني كان يوظف هذه الحاشية للاستهلاك الداخلي في حال سربت المعلومات الى وسائل الاعلام. لذلك قفز بالحديث الى الشأن الذي يهمه متسائلا عن قدرة الجيش اللبناني في ضبط نشاط المقاومة الفلسطينية! ورد عليه فرنجية بسؤال محرج، عبر فيه عن موقف لبنان من القضية الفلسطينية، وحق المقاومة في استرجاع الوطن السليب
ولما وصل النقاش الى مستوى الصدام السياسي، قرر كيسينجر انهاء المحادثات، ثم نظر الى ساعة يده وقال لمساعده جوزف سيسكو ان عليهما المغادرة بسرعة. عندئذ استمهله الوزير فؤاد نفاع لأن قلعة بعلبك ليست بعيدة عن مكان الاجتماع، ولأن الخارجية حريصة على استضافته. واعتذر كيسينجر عن تلبية رغبته، وقال ان كل دقيقة تأخير عن العجوز الشمطاء (يعني غولدا مائير) ستكلفه دزينة قبلات. وعلق الوزير نفاع على هذه المداعبة السمجة بالقول: انا لا اريد ان تكون زيارتك لقلعة بعلبك سببا في عذابك!
ومن خلال "مشروع كيسينجر" تقرر تمديد الحرب اللبنانية الى حين الانتهاء من عقد اتفاقية "كمب ديفيد" للسلام بين مصر واسرائيل، وتوقيع اتفاقية فصل القوات مع سوريا حول الجولان. وقد ضمنت الرسالة الافتراضية كامل المبررات التي تصور هنري كيسينجر انها تصلح لاعلان لبنان حقل اختبار لسياسته الملتوية.
ومن أجل اقناع القارىء بصدق محتوياتها، احلتها الى عنوان كيسينجر الموقت في منتجع نيو مكسيكو حيث كان يقضي شهر العسل. كذلك اعطيت العميد اده في الرسالة حيزا كبيرا من الامور الشخصية التي اعرفها عنه بحكم الصداقة المزمنة. ويبدو ان هذه الامور الحميمة هي التي اقنعت الكثيرين بأن الرسالة مسربة عبر طرف ثالث، ولكن القراءة المتأنية كافية لاكتشاف المزالق باعتبار انه من الصعب على كيسينجر كتابة نص يدينه ويعرضه للمحاكمة في المستقبل.
وتخيلت ان الرسالة الوهمية التي صنعتها ستموت مع الوقت شأنها شأن اي خبر مثير. الى ان فوجئت بإحيائها في صحيفة "الديار" تحت باب "ملفات وقضايا" (18 شباط 1998). ويقول العنوان الرئيسي: "صفحات من اسرار المخابرات اللبنانية (الحلقة 11) رسالة كيسينجر الى إده وثيقة تاريخية تكشف جميع وجوه المؤامرة".
واتصلت بالصديق شارل ايوب، ثم زرته في مكتبه لأروي له ان الضابط اللبناني المجهول اخطأ الهدف، وان وصفه للرسالة بالوثيقة الدامغة ليس عملا موثقا. بعد مرور سنة على تلك الحادثة، فوجئت بمجلة "الدستور" تنشر نص "الرسالة" وتميزها بصورة غلاف مركب تحت عنوان: حقيقة المؤامرة على لبنان".
واتصلت بالزميل رئيس التحرير خلدون الشمعة لأخبره عن المطب الذي سقط فيه واحالني على مصمم الصفحات صابر كامل الذي كان يعمل في "الحوادث" لاقناعي بأن هنري كيسينجر لم يكذب الخبر. والثابت ان عملية احياء هذه "الرسالة" لم تقتصر على الصحف فقط، وانما تعدتها لتصل الى الكتب الرزينة الموثقة، والى ارشيف الجامعات. والسبب في رأيي، انها كسبت اقتناع القارىء لشدة قربها من سياسة كيسينجر، ولأن كل ما افترضته على لسانه كان اكثر من الحقيقة.
في الحديث المسهب الذي اجريته مع الرئيس ريتشارد نيكسون، عقب استقالته بسبب "ووترغيت" سألته عن هنري كيسينجر فأجاب: لا استطيع ان الوم احدا في اختياره مديرا للأمن القومي ووزيرا للخارجية، سوى نفسي. انا الذي عرضت عليه هذين المنصبين اللذين استغلهما الى حد العمل على اسقاطي. فقد ثبت لي بعد التحقيق ان الذي زود الصحافي بوب وود ورد بمعلومات حول مهمة لجنة التحقيق، كان كيسينجر.
- والسبب؟
- السبب انني توصلت الى اتفاق مع الرئيس حافظ الاسد في لقاء حضره كيسينجر يوم 16 حزيران 1974. ولما عدت الى واشنطن صدمتني فضيحة ووترغيت التي اعدها العزيز هنري. وهكذا ضاعت فرصة السلام.
وفي ضوء هذه الواقعة يمكن قراءة "رسالة" هنري!
(كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن)