النهار - الحوار الإسلامي العلماني: التجربة الشخصية - هيثم مناع - باريس
الخميس 11-11-2010
الحوار الإسلامي العلماني: التجربة الشخصية
بقلم هيثم مناع - باريس
أبدأ بما عرفت وعايشت: بعد أن كنت نصيرا للحوار الإسلامي العلماني أثناء دراستي الجامعية، وبشكل خاص بين 1970 و1974، تخليت تماما عن هذه الفكرة مع صعود تيار إخواني متصلب كنا نسميه اتجاه قطب-حديد نسبة إلى المصري سيد قطب والسوري مروان حديد. كانت الشبيبة في حركة الإخوان المسلمين تتجه أكثر فأكثر نحو فكرة الجهاد والحزب الإسلامي والحكم الإسلامي، وكنا في صلب الحركة الماركسية حينذاك نناقش جدوى العنف المسلح أو ما سمّيناه البؤر المسلحة أو الثورية، فقد كنا جميعا أبناء هزيمة 1967، وكنا أيضا جيل المراهقة التي اعتبرت المقاومة الفلسطينية أمها بالتبني مع رفض السائد جملة وتفصيلا.
وكانت الفكرة المركزية التي تناقش في كل الخلايا السرية إسلامية ويسارية: هل المقاومة المسلحة مشروعة فقط ضد العدو الإسرائيلي؟ وكما توصلت المنظمة الشيوعية العربية لضرورة خلق البؤر الثورية في كل مكان ولكنها كانت أقلية في أوساط الحلقات الماركسية، أنجب الجيل الإخواني الجديد الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين واستطاع أن يستقطب غالبية شبابية ابتلعت التنظيم التاريخي، وبعد أن كنا نتعاون ونناضل مطلبيا ونتعاون علميا، بدأت الشبيبة الإخوانية تبتعد عن الأحزاب غير الدينية وتتبنى أكثر فأكثر فكرة الحاكمية الإلهية والخلاص الإسلامي. وأذكر في آخر جلسة نقاش مع طلبة من تنظيم الإخوان كانوا يسعون لإقناعي بحلّ "الطليعة الطلابية" وترك الأفكار الغريبة والعودة إلى الإسلام، فقلت لهم نحن نتحاور كمنظمتين لا كمنظمة إسلامية تبحث عن منتسبين، أجاب محاوري: "عاجلا أم آجلا ستدخلون في دين الله أفواجا فكن من أول الداخلين لا ممن يتبع الطريق نفاقا ومنفعة".
وكان هذا الموقف في عام 1974 وراء قطيعة في الحوار بل والاجتماع العام مع حركة الإخوان المسلمين، قطيعة بكل الأشكال استمرت حتى اجتماع تشاوري مع عدنان سعد الدين في باريس في 1983 بوجود عدد من المثقفين والحزبيين. وقد ذكرّت المراقب العام للحركة يومها بأنها في تراجع وهزيمة لطروحات حقبة الصراع المسلح التي أحرقت الأخضر المدني وتركت لحالة الطوارئ كل أسباب البقاء. وأن سوريا متعددة سياسيا متعددة دينيا ومذهبيا وهي لا تحتمل برنامجا إسلاميا يجري الحديث فيه عن قوننة التشريع الإسلامي، كما كان طرح جبهة إنقاذ سورية. واختلفنا ولم نعد الى حوار أو لقاء، حتى وقف العملية الإنتخابية في الجزائر ومشاركتي في تظاهرة لإطلاق سراح المعتقلين في التجمعات الصحراوية من الإسلاميين أمام السفارة الجزائرية. تقدم مني يومها الصديق سلطان أبازيد مع شاب وسيم ودمث، وقال لي: هذا مسؤول حركة الإخوان المسلمين في فرنسا وهو يرغب بالتعرف اليك. كانت بداية حوار أكثر نضجا، أولا لغياب المشاريع الجاهزة المسبقة، ثانيا لغياب الإيديولوجية السياسية الشمولية وثالثا، كانت الحقبة حقبة إعادة اكتشاف العالم بعد هزات أرضية جيوسياسية من العيار الثقيل تبعت إنهيار معسكر وارسو والنتائج الكارثية لاحتلال الكويت ونتائج حرب الخليج الثانية.
ويمكن القول أن لحقوق الإنسان الفضل الأكبر في مد جسور الثقة خاصة وقد اكتسبتُ وقتئذ صورة الحقوقي الذي لا يميز بين علماني وإسلامي يضطهد. الإنتقال إلى حوارات أوسع وأكبر أثرا كان على الصعيد العربي وبعيد الإحتكاك بالحركة الإسلامية السياسية في المغرب الكبير. ثم عملية التقريب بين الإتجاهين في ندواتنا الباريسية التي نعتز بقدرتها على جمع من كان اجتماعهم صعبا إن لم نقل من سابع المستحيلات. طبعا مجرد الإنتقال إلى دور التقريب، يحرم المرء من دور المفكر والناقد، ويصبح من واجبه التركيز على ما تجتمع عليه الكتلة الأكبر من الديموقراطيين العلمانيين والإصلاحيين الإسلاميين. ولعل من علامات النجاح في هذه المهمة أن يتصل بي المرحوم ماهر عبد الله ليطلب مني المشاركة في حلقة من برنامج "الشريعة والحياة" عن التقارب بين الإسلاميين والوطنيين، باعتباري كما كان يظن، من الإسلاميين!
يمكن القول أن هذه المرحلة، التي سبقت احتلال العراق، كانت مرحلة ذهبية في الحوار ونوقشت فيها طبيعة الدولة السائدة ومشروع دولة عهد وعدل ومفهوم مدني للعمل السياسي والتأكيد على دنيوية الفعل السياسي والمسؤولية الشخصية والجماعية خارج أي تقديس للمواقف والأحزاب، وأخيرا القدرة على إنتاج مشاريع نظرية-سياسية مشتركة.
هزّ احتلال العراق كل المفاهيم وزعزع جل التجارب، فقد سبق الإسلاميون العرب العلمانيين العرب في التعامل والتنسيق مع الإحتلال (ندع المثل الكردي جانبا)، وبرز للعيان، أن كل الأحزاب الإسلامية، سنية وشيعية، هي أحزاب لا تختلف عن العلماني والوطني والليبرالي والشيوعي بشيء. ولولا الأحزاب الدينية لما استطاع بريمر أن يغطي الوجه القبيح للإحتلال. لأن العلمانيين في مجلس الحكم كانوا أقلية. ويمكن القول أن العدوى قد عبرت الحدود لحركة الإخوان السورية ومشتقاتها، فإذا بهم يتحاورون مع المحافظين الجدد بعد أن كنا متفقين على رفض الإستقواء بالخارج من حيث المبدأ والنتائج (لأنه يشوه الخريطة النضالية الفعلية للمجتمعات في الداخل ويحطمها بشكل غير مباشر). وقد دفعت المعارضة الديموقراطية في سوريا مثلا ثمن انفراد الإخوان بتجاوز إعلان دمشق لتكوين ما عرف بجبهة الخلاص، التي كانت أول معول هدم لوحدة العمل الوطني المعارض، والتي ضربت الثقة المشتركة لأي عمل مستقبلي مع الإخوان المسلمين عند قطاعات مهمة من المعارضة داخل البلاد، ناهيكم عن كونها زجت المعارضة الديموقراطية في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل. ولا شك في أن صمت العديد من الأحزاب الإسلامية والعلمانية عن انتهاكات مخيفة لحقوق الإنسان في العراق مقابل ورقة حسن سلوك أميركية قد طرح بقوة ضرورة إعادة الفرز والتصنيف على أسس أخرى.
لقد عبر بعض الإسلاميين جسورا لم يجرأ أكثر الليبراليين الجدد عبورها، وتفككت فكرة أن الحزب الإسلامي يحمل أصالة وطنية وقداسة دينية وحصانة أخلاقية. وتحول هذا الحزب حزبا سياسيا كغيره من الأحزاب، له ما له وعليه ما عليه ويفترض التعامل مع كل حالة بذاتها وفق ما تقول وتفعل.
مع سقوط ورقة التوت، عاد الكثير من الأحزاب السياسية الإسلامية للعبة الإقصاء غير المعلن والإبعاد واحتكار مواقع العمل المشترك وجعل العصبية التنظيمية المرجع المسلكي في النضال العام والعمل العام مع ما يمكن تسميته الغطاء الإيديولوجي للعصبيات والمحاباة.
ففي كل التجارب الإعلامية المشتركة أو القائمة، وحيث ارتقى إسلامي الى موقع المسؤولية الأول، تتم عملية احتلال هادئة للموقع، بحيث تصبح السياسة العامة وخطة العمل وتحديد الضيوف قضية تحت السيطرة.
إن ما أصبح أكثر وضوحا وجلاء من ذي قبل عند معظم التعبيرات الإسلامية هو التمسك بالشكليات أكثر، من هيئة وملبس وعبادة، والتحلل من النواظم السلوكية أكثر. بحيث أصبح الناظم الأساسي، باستثناء كلمات جرت شيطنتها (مثل العلمانية والجندر مثلا)، ميزان القوى الميداني مع عدم الإمتناع عن توظيف القضايا المذهبية لشحن الجمهور حيث يمكن ذلك. ويتم من بعض الأطراف توظيف المعطى الديني للحديث عن إسلامية أو عدم إسلامية الآخر ضمن معايير ذاتية وذرائعية. ونلاحظ بوضوح، أنه عندما يكون الطرف الإسلامي قويا، يقوم بكل عمليات الإستبدال الضرورية لتغطية الفضاء المدني: جمعيات خيرية إسلامية، أسلمة النوادي، السيطرة على وسائل الإعلام، السيطرة على مراكز الدراسات والبحوث، إضعاف غير الإسلاميين بل وغير الحزبيين. باختصار، عندما ندخل في منطق استراتيجيات السلطة، الفكر الشمولي حاضر ناضر وهو المسهل لعملية احتلال الفضاءات العامة.
مثل بسيط، في التحالف الدولي لملاحقة مجرمي الحرب الذي ولد بعد عدوان "الرصاص المسكوب" على غزة. منذ البدء كان ثمة محاولة لإضعاف المنظمات الفلسطينية غير الحكومية داخله والتدخل في توجهاته (عبر طلب استبدال العلاقة مع المنظمات غير الحكومية باللجنة المركزية للتوثيق التي عينتها الحكومة المقالة، وطلب الإطلاع على أية دعوى قضائية قبل تقديمها) وعندما رفضنا هذا، لم تزودنا اللجنة المركزية للتوثيق بحالة واحدة لأي ضحية من ضحايا العدوان الإسرائيلي، وكل ما نناضل به هو من مركز الميزان لحقوق الإنسان ومؤسسة الضمير لحقوق الإنسان. وأكثر من ذلك، تم اختطاف عدد من المحامين من التحالف والدفع لهم عبر هيئات موازية بشكل أثر سلبا على تحركنا وخلق حالة بلبلة في أوساط المحامين.
مقابل حالات الفشل هذه كان هناك نجاح في دفع الإسلاميين، بما في ذلك السلفيين، لتشكيل منظمات لحقوق الإنسان. وبالفعل أصبحت الخريطة اليوم تضم عددا مهما من الجمعيات التي شاركت في إغناء ثقافة حقوق الإنسان وهمشت الخطاب الذي كان يختزل هذه الحقوق بالمستورد الغربي.
اليوم، الوضع أسهل بكثير، لأننا نعيش حقبة نزع القداسة عن الحزب الإسلامي، وبالتالي فهو حزب كغيره من الأحزاب، ولم يعد بإمكانه أن يتهم الحزب العلماني بموبقة واحدة لم يرتكبها هو نفسه. وكم حدثت في السنين السبع الأخيرة اصطفافات واصطفافات مضادة مختلطة في الجبهتين. لذا يمكن القول أن الدور التاريخي للحوار والتقارب قد تم تخطيه، وأننا اليوم في مرحلة الإصطفافات والتحالفات من أجل دولة مدنية ديموقراطية يناضل من أجلها إسلاميون وعلمانيون، ويناضل ضدها إسلاميون وعلمانيون أيضا.
وبودي استخلاص بعض العبر:
1- لقد نجحنا، كجمع محدود العدد من المثقفين المناضلين في تأصيل فكرة الاعتراف بكامل عناصر الجغرافية السياسية كشرط واجب الوجوب لحياة سياسية طبيعية وصحية، ويمكن القول أن من يدافع عن هذه الفكرة اليوم لم يعد أقلية في المجتمعين السياسي والمدني.
2- لقد نجح الإحتلال في زعزعة مفهوم السيادة ليس فقط على صعيد الدولة وإنما أيضا على صعيد الأحزاب السياسية. وبالتالي نشأت تشنجات وعصبيات جديدة خارج الاصطفاف التقليدي الذي رافق صعود الحركة الإسلامية السياسية.
3- دخل مفهوم الشخص القوى السياسية نفسها، بحيث أصبح هناك شخصيات حوارية مقبولة من معظم الإتجاهات كونها بالممارسة تمكنت من إثبات أن ما تقوله هو محصلة اقتناع عميق وليس مجرد تكتيك سياسي.
4- توجد وصفة سحرية للتقارب والحوار، هناك تجارب عيانية محددة بالزمان والمكان والموضوع وقادرة بصفتها كذلك، على تأصيل أخلاقيات جديدة في التحالفات والنضالات اليومية.
لقد ساهمنا، كلجنة عربية لحقوق الإنسان في حوار علماني إسلامي حول شكل التغيير في تونس (صدر في كتاب "تونس الغد" الذي شاركت فيه مختلف أطياف اللون السياسي التونسي) وأول وثيقة سورية في هذا القرن بين الإسلاميين والعلمانيين، والحوار بين أطراف عدة مصرية في ندوات مشتركة، وإصدار كتب حول الإصلاح الدستوري في السعودية لشخصيات مختلفة المنابع والتعريف بالتجربة المغربية (القطب الديموقراطي) وخلق نواة صلبة من الحكماء تستمر في الحوار الفكري والمدني بغض النظر على المواقف السياسية المباشرة والآنية. وأظن بأن الخطوات التي حدثت، رغم كل النقاط السلبية التي أشرت اليها، قد زرعت تراكمات لا يحتاج بعدها أي حوار للعودة إلى نقطة الصفر.