د. دندشلي - نشوء حزب البعث -الأستاذ نعمة جمعة (2)
المقابلة الثانية مع
الأستـاذ نعمـة جمعـة
بتاريخ 19 أيار 1988
الموضوع: … نشوء حزب البعث العربي الاشتراكي وتطوُّره
في منطقـة الجنوب من خلال التجربة الشخصية
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … قبـل أن نبتـدئ هـذه المقابلـة، أودّ لو أبديـت بعض الملاحظات حول المقابلة الأولـى؟
ج: … مرة أخرى، أنا سعيد جداً بهذه المقابلة، لأنها تتيح لي إفراغ ما في ذاتي حول تجربتي الشخصية مع حزب البعث العربي الاشتراكي في منطقة الجنوب. أما بالنسبة إلى الملاحظات، فهي على الشكل التالي:
1 ـ من الممكن أن أكون قد استوفيت الحديث في المقابلة السابقة عن لعبة الانتخابات النيابية التي دخلها حزب البعث بشكل مباشَر أو بشكل غير مباشَر. إلا أن موضوع انتخابات البلدية فقد بدا وكأنني كنت أتحدّث بشكل جزئي عنه.
في الحقيقة، كانت اللُّعبة أكثر من جزئية، فكانت بحجم الجنوب بشكل معقول. وهنا لا ننسى أن خليل بركات ما زال رئيساً لبلدية كفردونين حتى اليوم. وخليل بركات، عندما ترشّح لانتخابات البلدية، كان رفيقاً حزبياً. ولا ننسى أيضاً الشاعر موسى الزين شرارة الذي كان رئيساً لبلدية بنت جبيل في يوم من الأيام. وأنت تعرف موقع موسى الزين شرارة ليس الحزبي، وإنما موقعه السياسي في المُناخ الذي رافق مرحلة نشوء حزب البعث العربي الاشتراكي. لذا لا نستطيع إغفال دور حزب البعث العربي كعامل من جملة العوامل التي أسهمت في مجيىء موسى الزين شرارة كرئيس لبلدية بنت جبيل في ذلك الحين.
وعندما أتحدّث عن كفردونين وبنت جبيل على سبيل المثال لا الحصر، أقول إن الحزب قد دخل بشكل شبه شامل في كثير من البلدات في اللُّعبة الانتخابية على صعيد رؤساء البلدية أو على صعيد المخاتير. ويمكن للذاكرة أن لا تساعدنا الآن في الدخول في تفاصيل من هذا النوع.
2 ـ الملاحظة الثانية: حدّثتكم في المقابلـة الأولـى عن مرحلة الاختلاف بيننا وبين عبد اللطيف بيضون في فترة 1955 ـ 1956، وتكلَّمتُ عنه وكأنه رمز للقوى التقليدية المناوئة لحزب البعث وللتيارات الوطنية التقدمية، بينما حقيقة عبد اللطيف بيضون اختلفت في كثير من المواقف السياسية، خصوصاً في أواخر الستينات وفي السبعينات، مختلفاً في ذلك عن علي بزي الذي أساء لتاريخه السياسي والنضالي بارتباطه الحميم بالسلطة، بعكس عبد اللطيف بيضون الذي ارتبط بالسلطة، ليأخذ منحاه الوطني والنضالي بسبب شخصيته الشعبية. فمثلاً، منذ اللَّحظة الأولى لدخول الفدائيين إلى بنت جبيل عشية اتفاقية القاهرة، أقام عبد اللطيف بيضون بالتعاون مع الأحزاب الموجودة: حزب البعث والاشتراكيين اللبنانيين ولبنان الاشتراكي والحزب الشيوعي اللبناني علاقات للدفاع عن المجموعة الفدائية التي دخلت البلدة وكان على رأسها رياض عواد.
وهنا لا بدّ من تسجيل موقف مشرّف وتاريخي لعبد اللطيف بيضون، عندما واجه أحد ضباط الجيش اللبناني الذي طوّق بنت جبيل والذي قال: "لا تنسى بأن الفلسطينيين سُنَّة… ويجب أن تخرجوهم من بلدتكم…". فردّ عليه عبد اللطيف بيضون بالقول: "إذا أراد كل العرب والمسلمين والسُنَّة محاربة الفلسطينيين، فنحن الشيعة سنستقبلهم. ولماذا تريد أن تحمّلنا هذه اللَّطخة التاريخية؟!… وإن أردتم اقتحام بنت جبيل، تفضلوا فنحن سنقف أمام الفدائيين في مواجهتكم"..
وبعد أخذ وردّ، توصّلنا إلى صيغة اتفاق تقضي بأن يأخذ الفدائيون مكاناً لتمركزهم اسمه "السنترال" بضمانة أهل البلدة. (وفي الحقيقة، أنا كنت الذي أرعى هذه الصيغة باسم الأحزاب) وذلك ريثما يتم البتّ باتفاقية القاهرة، حيث إن محادثات البستاني ـ (قائد الجيش اللبناني) عرفات كانت تجري في القاهرة في ذلك الوقت…..
وانطلاقاً من هذه الحادثة، بدأ التنسيق بيننا وبين عبد اللطيف بيضون، حيث تجسَّد بتشكيل لَجنة شعبية على مستوى بنت جبيل، تمثّلت فيها كل القوى والفاعليات الموجودة على الأرض، وذلك للتعبير عن مصالح وقضايا المنطقة، خصوصاً بعد التعديات الإسرائيلية. فسيّرنا عدداً من الوفود وأقمنا عدداً من المؤتمرات الصحفية وأجرينا بعض الاتصالات في العاصمة مع عددٍ من المسؤولين من بينهم كمال جنبلاط ورشيد كرامي وشارل حلو، إلخ… وخلال هذا التحرُّك أظهر عبد اللطيف بيضون موقفاً نقيّاً إلى جانب قضايا المنطقة الوطنية والاجتماعية. من هنا، لا بدّ من التنويه بهذا الدور الذي لعبه عبد اللطيف بيضون على الرُّغم من ارتباطه بكامل الأسعد انتخابياً..
س: … ما دمـتَ تتكلم عن عبد اللطيـف بيضـون وعلي بزي، هل يمكنك تحديد علاقة عبد اللطيف بيضون مع القوى السياسية التقليدية وتحديداً مع كامل الأسعد؟!.. وبرأيك، كيف كان يوفّق في علاقته مع كامل الأسعد ومع القوى الوطنية والتقدمية في الوقت نفسه؟! هذا سؤال. أما السؤال الآخر، فيتعلّق بعلي بزي الذي انطلق باتجاه وطني عروبي تقدمي، ثم أخذ يرتبط تدريجياً بالسلطة، ما مدى انعكاس هذا الارتباط بالسلطة في الواقع السياسي لبنت جبيل ومنطقتها؟.
ج: … للأمانة التاريخية، كان عبد اللطيف بيضون أكثر تماساً مع الحالة الشعبية والحسِّ الشعبي، فكانت مواقعه (الشعبية) المؤثِّرة انتخابياً، علماً أنه لا يستطيع أن يكون نائباً إلاّ بفضل دعم كامل الأسعد الذي كان يُمسـك بأكثر مفاصل اللُّعبة الانتخابيـة في المنطقة… وبتركيبته الذاتية، كان عبد اللطيف بيضـون قريباً من الحالة الوطنية. وهنا لا ننسى بأن وَلَداه (الدكتور أحمد بيضون ومحمد بيضون) انتميا إلى منظمة العمل الشيوعي ولبنان الاشتراكي…
أما بالنسبة إلى علي بزي، فمشكلته أنه نشأ نشأة شعبية، وعندما ارتبط بالسلطة، خصوصاً في عهد فؤاد شهاب، أخذ يسلك سلوكاً برجوازياً، حيث إن هذا العهد أخذ يحقّق له امتيازات على حساب بيت الأسعد المُحارَب من "الشعبة الثانية" في ذلك الحين. وعلي بزي أصلاً وتاريخياً، بعيد عن بيت الأسعد، وذلك منذ فترة انخراطه في التيار العروبي، لكن بصيغته التقليدية. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى حادثة اعتقاله من قِبَل الفرنسيين عام 1936 في سجن المية ومية، وإلى مشاركته في حرب فلسطين عام 1948 في معركة المالكية..
في الحقيقة، كان علي بزي مؤهّلاً لأن يكون وجهاً شعبياً يشبه وجه معروف سعد ووجه جعفر شرف الدين في فترة من الفترات، لكنه ذهب باتجاه السلطة (بالاتجاه البرجوازي)، ولم يبق على تماس مباشَر مع الجماهير…
س: … بمعنى آخر، تريد أن تقول إن السلطة قد مارست على النائب ورجل السياسة علي بزي نوعاً من الانجذاب والسيطرة، فهيمنت عليه وجذبته…
ج: … كان علي بزي واحداً من أركان السلطة في اللواء عهد فؤاد شهاب رئيس الجمهورية…
س: … بالنسبة إلى عبد اللطيف بيضون، يبدو وكأن هناك تناقضاً: فمن ناحية هو مَدين بزعامته السياسية في المنطقة إلى كامل الأسعد، وفي الوقت نفسه لم يقطع علاقاته مع القوى الشعبية والتقدمية على الأرض. وعندما كانت القوى الوطنية والتقدمية تدخل في معركة ضد كامل الأسعد، كيف يكون موقف عبد اللطيف بيضون؟.
ج: … بالطبع، يكون مُحرَجاً. فمثلاً، بالنسبة إلى قضيَّة حانين التي تحدّثتُ عنها في المرة الماضية، كان موقف عبد اللطيف بيضون توفيقياً، إذ إنّني عندما التقيت به بحضور وفد من حانين عام 1972، حاول أن يأخذ موقف التوفيق وإصلاح ذات البَيْن بيننا وبين كامل الأسعد، فلم يستطع أن يكسرها مع الناس وفي الوقت نفسه لم يستطع أن يكسرها مع كامل الأسعد. من هنا نجد أن تركيبته هي تركيبـة الرجل السياسـي التقليدي "الآدمي" بلغة أهل بلادنا، الذي يهمّه مسايرة الحسّ (الشعبي) والتيار العام للناس. وقد يكون مردّ ذلك لاعتبارات دينية لأن عبد اللطيف بيضون رجل ورع ومتديّن.
س: … كيف كان وضعه المادي؟.
ج: … كان فلاحاً يزرع الدخان، بحيث إن زوجته (أم أحمد) كانت تعمل في الأرض..
س: … هل نستطيع القول بأن عبد اللطيف بيضون زعيم نشأ من طبقة الفلاحين؟.
ج: … كان الوجه العائلي لعائلة بيضـون التي تُعتبر بالمرتبة الثانيـة بعد عائلة البزي من حيث العـدد والنفـوذ. لكن عندما نتكلم عن نشـأة عبد اللطيف بيضون الاجتماعية، فكان مزارع تبغ..
س: … إذن، يمكن القول بأنه ينتمي إلى عائلة كبيرة، لها وزنها في المنطقة، لكن من فرع فلاحي فقير؟.
ج: … بشكل عام، آل بيضون، ليسوا من الملاكين الكبار، كما هو الحال بالنسبة لآل بزي، حيث إن والد علي بزي كان يملك أرضاً واسعة في صلحا (أفيفين حالياً، من القرى السبع.)، وأيضاً في مارون الراس، باعها علي بزي عندما وصل إلى درجة الإفلاس نتيجة أعباء النيابة… وبيت البزي الآخرين، كانوا يملكون أرضاً في المالكية وأدس.. إذن، إن عائلة بزي من العائلات التي تملك أملاكاً واسعة، بينما عائلة بيضون، لم تكن عائلة ممتلكات، بالكاد حتى يكون للواحد منهم قطعة أرض…
س: … أليست هي عائلةً تتّصف بالمِلكية الزراعية الكبيرة؟.
ج: … كلا…
س: … من أين يأتي نفوذ هذه العائلة إذن؟.
ج: … من عددها الكبير. والمسألة لها علاقة بالانقسامات ضمن العصبوية البلدية العائلية. فالتركيبات السياسية والانتخابية، كانت على الأساس العائلي، بَدءاً من لائحة آل 14 حتى اللوائح المنفردة.
وفي هذا المجال، لا بدّ من ذكر أنه قبل دخول الشيعة في الجنوب في لعبة الوظائف والمصالح، كانت أدوات الصراع هي على المختار والناطور ورئيس البلدية في الضيعة. فسياسة المختـار والناطـور، هي التـي تحـدّد الولاء الانتخابـي لهذه العائلة أو تلك. مثلاً، أتكون مع بيت بـزي أم مع بيت بيضـون، باعتبـار أن العائلتيـن هما محور الاستقطـاب العائلي في بنت جبيل، إلخ….
إن الأشكال العائلية أخذت أشكالها السياسية في إطار هذا الواقع التقليدي الذي وفدت إليه الأحزاب، فدخلت في عمق تركيباتها السياسية ولم تدمّرها، لأنه حتى ندمّر بِنية سياسية يجب أن يكون لدينا بِبنية سياسية بديلـة. فالخليَّة الحزبية لوحدها لا تصلح أن تكون بِنية سياسية، حيث إن الخليَّة تُعتبر بمثابة القلب الذي يتطلّب مجموعة شرايين وأوردة وأطراف، إلخ.. ليصبح قادراً على التفاعل مع باقي أعضاء الجسم. وهكذا بالنسبة إلى الخليَّة الحزبية التي هي بحاجة لأطراف أو مؤسسات اجتماعية. فكان على الأحزاب أن تنحو منحى تكوين مؤسسات في الجنوب من النادي إلى المستوصف حتى الجمعية أو المدرسة، إلخ… يكون قلبها الخليَّة الحزبية التي تدير هذه المؤسسات وتوجهها، عندهـا يصبح الإطار الحزبي هو البديل للمؤسَّسة العائلية (التقليدية). وإن بقاء المؤسَّسة العائلية مترسّخة في واقعنا الاجتماعي، يعود إلى أن أحزابنا لم تعِ هذه المسألة بشكلٍ مُرضٍ.
والخلل الذي أصاب عملنا نحن كحزب، هو أننا عملنا في إطار صيغة المؤتمر الوطني لدعم الجنوب ولم نستمر. ثم قفزنا إلى إطار اللَّجنة العليا للمساعدات القومية.. ومن ثَمَّ إلى إطارات أخرى. لم نراكم نشاطنا في مؤسسة معينة، حيث إن استمرار المؤسسة وتراكم عملها هو الذي يؤدي إلى بناء البِنية الجديدة التي نتكلم عنها. لم يكن هناك نظرة متكاملة وشاملة لمسائل من هذا النوع، قد تكون النجدة الشعبية أرقى من مؤسَّساتنا، لأنها ما زالت مستمرة…
س: … متى أُنشئت النجدة الشعبية؟.
ج: … على ما اعتقد، أنها أنشئت عام 1972 وهذه مسألة يدخل في تفاصيلها أكثر مني بالتأكيد، المسؤولون عن النجدة.
س: … القوى الحزبية في المناطق الريفيَّة، لماذا لم تعمد إلى تأسيس وقيام مؤسَّسات، كما تقول، مثل مستوصف ـ مدرسة ـ نادٍ ثقافي ـ نادٍ اجتماعي.؟!….
ج: … أولاً بالنسبة إلى النوادي، في البداية لم تكن تسمح الدولة بإنشائها، لأنها ستشكّل غطاءً للقوى الحزبية، علماً بأن حركة إنشاء النوادي وغيرها من مؤسَّسات في منطقتنا بدأت في السبعينات…
س: … مثلاً أندية غير مرخّص لها، مثلاً في صور، هناك نادي التضامن.
ج: … كان للبعثيين في صور نادٍ اسمه نادي الحياة، وكان بموازاة نادي التضامن. وفي صيدا عندكم نادي الساحل، كان له دوره. في صيدا وصور قد تمَّ تشكيل أو إنشاء نوادٍ، إنما في بنت جبيل لم يحصل شىء من هذا القبيل حتى عام 1974 حينما حصلتُ على رخصة نادٍ. وهنا لا يمكن الحديث عن تراث نادٍ في بنت جبيل، لأننا لم نستطع تجسيد مشروع النادي بسبب اضطراب الوضع الأمني في بنت جبيل ابتداءً من عام 1976.
الملاحظة الثالثة: تحدّثتُ في المقابلة الأولى بالنسبة إلى الجانب المسيحي في الشريط، وكأن خليل صادر هو الذي أدخل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى المنطقة المسيحية، علماً بأن البعث قد دخل إلى المنطقة المسيحية قبل خليل صادر. وهنا أذكر شاب كادر من جيلي اسمه الياس عجاقة من يارون، إنما حزب البعث كحالة، لم يفرض نفسه في المنطقة المسيحية إلا في عهد خليل صادر. وهذه ملاحظة لا بدّ من ذكرها…
س: … مَن هي الزعامات العائلية في المنطقة التي قد تكون لعبت دوراً سابقاً على زعامة علي بزي وعبد اللطيف بيضون؟.
ج: … يظهر أن عائلة بزي هي عائلة تاريخيـة. ومن أبرز وجوه آل بزي، إلى جانب علي بزي، الحاج عبد الحسين بزي (كان رئيس بلدية بنت جبيل)، وأخوه الحاج محمد سعيد بزي وأخوه عبد الحميد بزي، حيث إن ابن أخيهم محمود أحمد البزي هو الذي هاجم عين إبل عام 1920. وتربطهم علاقات زواج مع آل العبد الله في الخيام.
ومن الأسماء التي ظهرت عند المطالبة بالوَحدة السورية إلى جانب رياض الصلح، أسماء: علي بزي والحاج علي بيضون وعبد اللطيف بيضون وموسى الزين شرارة، إلخ… حيث شارك بعضهم في تحركات ومؤتمرات وطنية وقومية عُقدت في صيدا وفي بيروت… وفي مجال الحديث عن الزعامات العائلية في بنت جبيل، لا بدّ من الإشارة إلى أن زعامة بنت جبيل كانت مكرّسة لبيت البزي، ثمَّ أتى بيت بيضون ليناوئهم عليها لاحقاً. ويميّز آل البزي ثقلهم الانتخابي: من بين 8000 ناخب على لوائح الشطب لعام 1972 حوالي 3000 ناخب من بيت البزي.
س: … إذن، الزعامة العائلية قائمة على العدد الكبير، كما فهمت منك، ألم يكن هناك مقومات أخرى، مثل النفوذ الديني؟.
ج: … بيت بيضون، لا يوجد بينهم أيُّ رجل دين، وكذلك الأمر بالنسبة لبيت البزي. علماً بأن كل رجال الدين الذيـن أتوْا إلى بنت جبيل، كانـوا من خارجها. فمثلاً، رجل الدين الأول الذي وعينتُ عليه كان هاشم الحكيم وهو عراقي، أخوه لمحسن الحكيم، مرجع الشيعة في العراق، وإن السيِّد عبد الرؤوف فضل الله من بلدة عيناتا…
وهناك ملاحظة لا بدّ من ذكرها، في معرض التسجيل التاريخي لوقائع حصلت، وهي واقعة تُدلّل على حالة متطورة في العمل السياسي، حيث إنه عندما انهارت الدولة في حرب السَنتَيْن، أخذ قادة الأحزاب في بنت جبيل يدعون إلى سلسلة اجتماعات للتفتيش عن سُبُل ووسائل لمعالجة الأوضاع الاجتماعية الناتجة عن القصف الإسرائيلي اليومي والتدمير والتهجير، إلخ…، حضرها بالإضافة إلى مندوبي الأحزاب، عدد من الفاعليات المستقلة من بينها السيد محمد حسن الأمين، وشاركت فيها الفصائل الفلسطينية، باعتبار أن التحديات والمتطلبات تستدعي أن تشارك فيها كل الأطراف الموجودة على الأرض.
ولقد أسَفَر عن هذه الاجتماعات صيغةُ تشكيل مكتب أسميناه مكتب تأسيس لجان العمل الشعبي في منطقة بنت جبيل، حيث تمَّ ذلك قبل تشكيل المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية. ومن جملة القضايا التي تابعناها من خلال هذا المكتب موضوع تصريف الدخان، في وقت حاولت فيه إسرائيل فتح نافذة رميش لاستلام الدخان. عندها دعونا إلى اجتماع المكتب، حضره حوالي 40 شخصية سياسية واجتماعية من كافة أنحاء منطقة بنت جبيل، تمخَّض عنه موقف حاسم من المسألة، وضعنا فيه علامات استفهام على تجميد الأموال الليبية المخصّصة لشراء موسم التبغ عنـد الضابط المسؤول أحمد بوتاري (جيش لبنان العربي). وهذا يعني بنظرنا أن هناك رضىً علـى مدّ يد إسرائيل اقتصادياً إلى الجنوب… في هذا اللقاء شكّلنا وفداً من عبد اللطيف بيضون ومحمد نجيب الجمال وصبحي حمادة والسيد محمد حسن الأمين، اجتمع مع قيادة جيش لبنان العربي في ثكنـة صيدا، تقرّر فيه تسليم الدخان بعد ثلاثة أيام. وفعلاً حصل ذلك حسب الموعد تماماً.
س: … هل يمكنك الحديث عن الأحزاب المسيحية في الشريط الحدودي؟.
ج: … في الفترة السابقة على بداية تكوين الشريط، كان المسيحيون موزّعين قطاعات قطاعات،… ففي قطاع دير ميماس ـ مرجعيون كان الاتجاه الغالب هو الاتجاه الماركسي الشيوعي… أما بالنسبة إلى الأحزاب المسيحية، أفهم من حديث مع المطران بولس الخوري بأنه كان لحزب الكتائب وجود، ولكن ليس له تأثير فاعل. وعلى ما أذكر بأنه لم يكن هناك أيُّ وجود لحزب الأحرار حتى عام 1958.
أما بالنسبة إلى منطقة بنت جبيل وصور، أكثر بلدة كان يوجد فيها تيار كتائبي هي بلدة عين إبل، حيث إن آل بركات دخلوا في حزب الكتائب واستطاعوا أن يشكّلوا تياراً كتائبياً في عين إبل، إنما لم يجرّ نفسه إلى القرى المسيحية الأخرى. رميش ودبل، كان ولاؤهما لكميل شمعون وحزب الأحرار. إنما بشكل عام، لم يكن لهذه الأحزاب دور كبير وفاعل سياسياً واجتماعياً في المنطقة..
بعد تكوين الشريط، أخذت هذه الأحزاب دورها، وخاصة بعد أحداث 1978 (الاجتياح الإسرائيلي العسكري)، فالشريط حالياً يوجد فيه أحزاب حراس الأرز (إتيان صقر، أبو أرز من عين إبل) وكتائب وأحرار وقوات لبنانية…
س: … في السابق، أي في الخمسينات والستينات، هل كان هناك وزن سياسي كبير للأحزاب المسيحية؟.
ج: … لا، كان التيار العَلماني أقوى. ففي عين إبل مثلاً، أذكر بأن مجموعة من الشباب تحمل عقلية الانفتاح وأفكاراً ليبرالية ديمقراطية، حاولت في أوائل الستينات استقطابنا، إلاّ أننا كنا نرى في ذلك الحين بأن الديمقراطية والليبرالية حالة متأخّرة قياساً على الحالة القومية. وعلى ما أعتقد بأن هذه المجموع، على رأسها محامٍ من بيت دياب، كانت الأساس بالنسبة للحزب الديمقراطي العَلماني، مؤسسه ورئيسه جوزيف مغيزل.
فالعمل السياسي في قرى وبلدات الشريط، قبل ظهور الحالة الإسرائيلية فيه،. لم يعرف الاحتقان الطائفي قطُّ، إذ إن القنوات كانت مفتوحة بشكل طبيعي على عموم المنطقة، بحيث إن الجميع كانوا يزورون بعضهم البعض في المناسبات كافة…
وإذا كنتَ تريد الوصول إلى مَن الذي أدخل الوسخ الإسرائيلي أكثر في الوقت الراهن، فإنني أرى بأن جماعتنا قد أدخلوا هذا الوسخ أكثر من المسيحيين. فمثلاً، عندما يُحكى عن أحمد شبلي (من رميش) وحسين عبد النبي (من برعشيت) وغيرهما، نجدهم يتسافلون أكثر من عقل هاشم وشَربل بركات وباقي العملاء المسيحيين، والكثيرون يجهلون هذه الحقيقة. علماً بأن أكثر الناس تضرراً من الحالة الإسرائيلية في الشريط حالياً هم المسيحيون. وهنا أذكرك بمظاهرة حصلت في علما الشعب منذ شهرَيْن، احتجاجاً على قضم أراضٍ من البلدة…
س: … أريد أن أطرح سؤالاً له الطابع الفكري التحليلي: لمّا دخلت التيارات القومية والوطنية التقدمية إلى منطقة الجنوب، أدخلت معها أفكاراً جديدة وثورية مثل الاشتراكية والعدالة الاجتماعية وتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي بشكل جذري، إلخ.. بحيث إن هذه المفاهيم قد انتشرت في عموم المنطقة، والسؤال هو التالي: كيف تفسّر تحوّل جماهير المنطقة إلى التيار الديني الأصولي، كيف تفسّر هذا الانتقال من حالة فكرية قومية اجتماعية إلى حالة فكرية دينية اجتماعية مناقضة؟…
ج: … يجب أن لا ننسى بأنه لم يكن للشيعة دور يذكر في إطار صيغة 1943. ولكن، فيما بعد، أخذ التطور الثقافي الاجتماعي الاقتصادي للشيعة، يحاول فرض نفسه على الحالة السياسية في لبنان من خلال بعض المداخل أوّلها مدخل الأحزاب التي بلورت حالة وطنية تقدمية في الجنوب. بعدها يمكن القول بأن دخول المقاومة الفلسطينيـة عام 1969 إلى الجنوب وما تركه من آثار سيِّئـة ومآس: تدمير وتهجير، على وضع الجنوبيين، كان أكبر من أن تستطيع أن تحمله هذه البيئة الاجتماعية، خصوصاً في ظلّ التراجعِ القومي وغياب مشروع النصر، أيِّ مشروع نصر. وتعرف أن حالات التراجع تعكس نفسها بنفسها، حتى وصل الجنوبيون أخيراً إلى أن يحصل لديهم حالة من التراجع عن الحالة الوطنية التقدمية، تعمّقت مع الحالة الإسرائيلية التي استجدّت على البلد بعد الاحتلال العسكري عام 1982. ونحن نعرف بأن غاية المشروع الإسرائيلي في المنطقة، كانت في التركيز على الأقليات وكياناتها: شيعة، دروز، موارنة. إذ إنه وبعد اللُّعبة المارونية، نظروا إلى الشيعة ومعاناتهم التاريخية: تهجّروا من النبعة إلى الجنوب، تدمَّر الجنوب هربوا إلى الضاحية، الآن تدمّر الضاحية، إلخ… أنظر إلى عمق المأساة التي يحملها الجنوبيون معهم من مكان إلى آخر، فتبقى المشكلة مشكلة…
ضمن هذه الصورة، وُلدت الحالة المذهبية قبل الحالة الإسرائيلية، إنما كانت الأصابع الإسرائيلية وراء تكوينها على الأرض اللبنانية، إذ إنه بعد دخولها من خلال ثغرة مسيحيين وغير مسيحيين، أخذت تُفتّش عن منفذٍ آخر، فظهرت المسألة الشيعية التي كبرت يوماً بعد يوم في ظل حالة من الضياع، كانت تعيشها الأحزاب الوطنية التقدمية وغياب المشروع الوطني في البلد. ولكون هذا الجمهور يعيش مشكلته ولديه مأساته الاجتماعيـة والسياسية، إلخ… لم يلقَ في وجهه إلاّ إطار حركة أمل وإطار حزب الله، حيث إن دورة المجتمع لا تتجمّد عند حلقة معينة، فحصل الذي حصل، وكان التحوّل الموجود خالياً على أرض الجنوب…
ومن أحداث الضاحية الأخيرة، استنتج الكثير من الأمور الإيجابية: من زمان كنت أقول إن الشيعة غير مذهبيين، وإن هناك فهماً خاطئاً عن الشيعة وعن مسألة وحدانية المرجع. لا يوجد شىء اسمه وحدانية المرجع عند الشيعة، وإنما هناك تعدديّة المراجع، الخميني مرجع هذا صحيح، والخوئي مرجع، إلخ.. وكذلك أيُّ عالمٍ يمكن أن يكون مرجعاً إذا كان على مستوى معيَّن من العلم. ولا يوجد شىء اسمه رئاسة دينية عند الشيعة وولاية الفقيه غير صحيحة، إذ إنه من الممكن أن يفرض ولايته (أي الفقيه) على الذين يقلّدوه (باللغة الدينية)، ولكنه لا يفرض ولايته على العامة من الناس ويقول لهم هذا حكم الدين. إن ولاية الفقيه منافية للدين وللمذهب الشيعي..
وإن عمق مأساة الشيعة لا يحلّها إلا حل وطني ديمقراطي. وبعد الذي حصل أخيراً من جرّاء الصراع بين أمل وحزب الله، لا تتفاجأ بمسألة الخروج على الحالة المذهبية، سيعود الشيعة، كما كنا نعرفهم، خزاناً للعمل الوطني، وهذا ما تُدلّل عليه الأحداث.
بشكل عام، إن الحالة المذهبية هي حالة طارئة، ويجب أن نربطها بالظروف التاريخية التي مرَّ فيها الشيعة، خصوصاً في فترة الحرب الأهلية اللبنانية، وبالسمّ الإسرائيلي الذي أخذ يدخل في الوسط الشيعي حتى يعزّز اتجاهات وتيارات من هذا النوع.
س: … إن طرحي للسؤال كان بصيغة فكرية أيديولوجية وليس بصيغة طائفية مذهبية، لأن هناك فترات من التطور الإيديولوجي وفترات من الانتكاسات الإيديولوجية حيث نرى نوعاً من التقهقر نحو التقليد، بعكس ما كان في السابق، ونوعاً من الرجوع نحو المفاهيم الدينية التقليدية. هذا المدُّ والجزر هو ما نريد تفسيره. ولا أعلم إذا كانت بقية المجتمعات قد عرفت هذا المدَّ والجزر، هذا الصعود والهبوط، على الصعيد الإيديولوجي الفكري، كما هو ظاهر في مجتمعنا.
بمعنى آخر، إن التيار الطاغي في الخمسينات والستينات على صعيد الجنوب، كان التيار العروبي (البعثي والناصري) وقبله ومعه التيار الاشتراكي الماركسي، ولكن فيما بعد ضُرب هذا التيار حتى العظم…
السؤال المطروح، ما هي أسباب هذا السقوط الفكري الإيديولوجي والسياسي؟!… وما يعنينا نحن عن الأحزاب، لماذا فشلت القوى الحزبية، القومية والتقدمية والاشتراكية، في منطقةٍ كانت تُعتبر ساحتها الرئيسية، هل لأنها لم تهتدِ إلى سياسة تتوافق مع الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي للمنطقة، هل لأن شعاراتها أو برامجها السياسية كانت بعيدة عن هموم وطموحات معظم الجماهير الشعبية في المنطقة؟!…
ج: … سأتناول هذا الموضوع من زاويتَيْن، هما زاوية الارتباط القومي وزاوية تأسيس البِنية الحزبية والشعبية الجديدة التي هي نقيض البنية التقليدية، حيث إن شرط إقامة أساس جديد وضخم لهذه البِنية الجديدة لم يكن متوفِّراً، وهذا ينطبق على أحزاب الحركة الوطنية بمجملها من بنيها حزب البعث العري الاشتراكي.
وهناك ملاحظة أو هامش لا بدّ من الوقوف عنده، وهو أنه لما دخلت المقاومة الفلسطينية عام 1969 إلى لبنان، فإنها لم تدخل في عزّ المدّ الحزبي الذي كان قبل ذلك بفترة، أي في أواخر الخمسينات وبداية الستينات. فجاءت المقاومة في ظل ضعف البِنية الحزبية الوطنية التقدمية التي اعتبرت المقاومة عاملاً دافعاً لها إلى الأمام، في حين أن المقاومة اعتبرت هذه الأحزاب عامل استقواء لها. فحصل التفاعل بين الطرفَيْن. والناس بحكم حسّها القومي كانت مع هذا التفاعل، إلاّ أن كلاً من الأحزاب والمقاومة، لم تقف تاريخياً عند محاولة تأسيس بِنية جديدة للمجتمع، وتركت الأمور تجري كما سيّرتها الظروف حيث طُرحت يافطات عمومية لم يكن لها التأثير الكبير على الأرض.. حتى أن المحاولات التي كان حزبنا سباقاً في دفعها إلى الظهور، مثل المؤتمر الوطني لدعم الجنوب…، لم تشكّل حالة بثقل متطلبات الوضع، تدفع باتجاه تركيب بِنية جديدة للمجتمع.
وفي الحقيقة، لما بدأ الخلل يظهر بين الحالة الشعبية والحالة الوطنية المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية، بدأت المأساة تجرُّ نفسها على عموم المناطق الوطنية، خصوصاً عشية اجتياح 1982، عندما حصلت سلسلة ن الحروب الداخلية بين التنظيمات الوطنية، مما سبّب ضرراً فادحاً في العلاقة بين هذه التنظيمات والجماهير…
وإن الأزْمة التي عاشتها الحالة الوطنية التقدمية قبل الاجتياح، أسهمت في تضخّم بِنية حركة أمل وبِنية حزب الله لاحقاً، لأن الناس لا تريد أن تدور في الفراغ. فالتفّت حول إطارات نمت بفعل عوامل داخلية وخارجية. أما فيما يتعلّق بزاوية الارتباط القومي (الزاوية القومية)، فنحن في لبنان نخضع دائماً لكل الصراعات الإقليمية بشكل آليٍّ وتلقائيّ. ولقد برز ذلك بمسألة العلاقة بين الفلسطينيين وبعض الأطراف العربية…. وعلى الرُّغم من الحالة الإقليمية المحكومين بها، فنحن كوطنيين لبنانيين، لا يوجد لدينا رؤية منهجية للأرض. وأصل إلى أكثر من ذلك لأقول إنه لا يوجد لدينا حسّ بالمواطنية، والحسّ بالمواطنيـة له علاقة بالانتماء للأرض والشعـب. فمثلاً، تخرب الدنيا حولنا، لا نسأل، المهم أن نكون بعيدين عنها… وذلك بعكس الفرنسي مثلاً. نحن لا نسأل، لأنه وحتى الآن لا يوجد لدينا حسّ بالواطنية، علماً بأن الأحزاب مسؤولة عن تكريس حسّ المواطن، الحزبي مسؤول عن النظام في السير، الحزبي مسؤول عن النظافة في الشارع، إلخ… لكن ذلك لم يحصل، وهناك شواهد كثيرة من حياتنا اليومية تؤكد هذا الكلام…
س: … بمعنى آخر، أن يهتم الحزبـي ويولي عنايتـه إلى القضايا الحياتية اليومية للمواطن وللمجتمع، لكن الأحزاب لم تقم بهذا الدور…
ج: … هذه لها علاقة بمنهجية عمل الأحزاب، فإذا كنتُ مثلاً أطرح شعار الوحدة العربية، وأنا غير قادر على توحيد زاوية من زوايا الحي الذي أقطنه، فأنا بالتالي أعجز من أن أطبق هذا الشعار الكبير وأساهم في بناء دولة الوحدة العربية. وفي خضمِّ الحرب اللبنانية، هناك مسائل مهمة يجب الوقوف عندها. وهنا أقول بأننا وقعنا بفخّ بيار الجميل، عندما دمّرنا الدامور والجية، وهذا أول فخّ…
ووقعنا بالمطبّ الصعب، عندما انتصب أول حاجز في بيروت الغربية (بيروت الوطنية) يفتّش على الهُوية.. ومن خلال هذه الممارسات وصل بيار الجميل بمشروعه لأن يجعل الشيعة موارنة بأسماء أخرى، والسنّة موارنة بأسماء أخرى، والدروز موارنة بأسماء أخرى. مَن يتحمّل مسؤولية عمل من هذا النوع؟.. بالتأكيد يتحمّلها السلوك العام للحزبين على الأرض، ويتحملها أكثر قادة المرحلة…
س: … سؤال آخر، يصبّ في هذا المنحى، كيف يمكن أن نفسّر في هذه الجلسة، امتداد وتوسّع الأحزاب الوطنية والقومية والماركسية في المناطق الإسلامية، بينما أُغلقت في وجهها المناطق المسيحية؟!… أقول هذا وفي ذهني منطقة جزين حتى صيدا، حيث لم ينتشر حزب البعث العربي الاشتراكي في مجدليون والصالحية وعبرا، إلخ… وكذلك الأمر بالنسبة إلى القوى الماركسية والقوى الناصرية، إلا فيما ندر. فكانت الأحزاب تتجه وكأن هناك ضابط سير يقول لها من هنا وليس من هنا، إلخ… أودُّ أن أجد تفسيـراً اجتماعيـاً أيديولوجياً مختلفاً عن التفسيرات الطائفية، هذا لا يعني أن أهمل كلياً المنهج الطائفي في تفسير هذه الظاهرة.
والواقع أننا نعيـش في مجتمع تكوينه طائفـي، إنما الاقتصار على هذا التفسير الطائفي، كان يُرضي ويُقنع البعض إلى سنوات عديدة، حتى ظهرت القوى المتنافسة والمتصارعة على ساحة المذهب الواحد. فعلى صعيد الموارنة، نجد بأن هناك صراعاً حاداً بين شتَّى القوى المتواجدة على هذه الساحة: القـوات اللبنانية والكتائب والأحرار واتجاه فرنجية السياسي في الشمال والجيش اللبناني…
وعلى صعيد الساحة الشيعية حيث كانت حركة أمل تعبّر عن التمثيل الرسمي للمناطق الشيعية، فظهرت داخلها اتجاهات عديدة فيما بعد، ثم إلى جانب حركة أمل ظهر اتجاه مناقض هو حزب الله الذي نشأ وانتشر في التربة الشيعية…
فالتناقض، إذن، ظهر بين أبناء الطائفة الواحدة لا بل بين أبناء المذهب الواحد. هذا الصراع يُظهر بأنه إلى جانب الصراعات المذهبية والطائفية، هناك صراع أعمق، وهو المفسّر لجميع هذه الصراعات ولنزاعات هو الصراع السياسي أي الصراع على السلطة…
ج: … ما أريد قوله هو أن التركيبة السياسية اللبنانية التي تكوّنت على أساس صيغة 1943، والتي كان على هامشها الشيعة، لم يطرأ عليها إلا محاولة جادة عند شخص اسمه اللواء فؤاد شهاب، بغض النظر عن حاشيته، من أجل تركيب دولة بإطارها الخدماتي والاجتماعي والمؤسساتي، ليُخرج المسألة من إطارها الطائفي المذهبي، وليُعزّز مسألة المواطنية بطرفيها الحقوق والواجبات (الأخذ والعطاء…). فهذه المحطة، أوجدت بعض المؤسسات مثل مجلس الخدمة المدنية ومجلس الشورى الدولة، إلخ… لكنها لم تستمر طويلاً، إذ سرعان ما عادت الأمور للدوران في إطارها التقليدي…
وفي معرض حديثي عن الانقسامات العائلية في الجنوب، التي تسحب نفسها على كل الأوساط الطائفية الأخرى في لبنان، لا بدّ من الإشارة إلى أن بِنية المجتمع تركّبت من تحت على أساس عائلي ومن فوق على أساس طائفي: فهناك مجلس ماروني ومجلس كاثوليكي ومجلس إسلامي سُنِّى ومجلس درزي. مَن بقي خارج الحلقة؟… بالتأكيد الشيعة…
وهنا لا بدّ من الدخول في موضوع موسى الصدر وملابسات إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حيث إن المحاولات كانت تجري على قدمٍ وساق من أجل تكوين مجلس إسلامي موحّد يضم الشيعة والسنّة والدروز، وذلك قبل مجيىء موسى الصدر إلى لبنان، والذي جمّد طرح مشروعٍ من هذا النوع شخص اسمه موسى الصدر. وهنا لا أريد الدخول في عمق المسألة لمخاطرها في هذه الظروف. إلاّ أنني لا بدّ أن أشير إلى القوى التي هيأت موسى الصدر للمجيىء إلى لبنان في سبيل إبراز الحالة الشيعية في وجه الحالة السنيّة….
س: … مَن هي هذه القوى؟.
ج: … مَن يكون غير الموارنة؟!.. إذ إن موسى الصدر قد مُنح الجنسية اللبنانية مباشرة بعد مجيئه إلى لبنان، علماً أنه لم يُفتَّش على أرض المطار، في وقت كان فيه أيُّ عالم دين يُفتَّش بطريقة أمنية دقيقة…. وهذه الأمور، لا تحصل بقدرة قادر وبشكل عفوي. بعدها مباشرة قام بإنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى (…).
وفي هذا المجال، يُطرح سؤال مهم هو كيف تمّ إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي بهذه السرعة؟. وهنا لا يغيب عن ذهني أن الشيعة كانوا خارج لعبة المصالح والامتيازات في إطار تركيبة الطوائف المعتمدة في مجتمع الخدمات والوظيفة، علماً بأن الطرف المسيحي، عدا رعايته الإكليركية لبيئته من خلال المدارس والأديرة والمؤسسات، إلخ… أفرز حزب الكتائب ليمدّ نفوذه بشكل برجوازي على الإقطاع المسيحي، فحجّم الكثير من الزعماء الإقطاعيين في الوسط المسيحي، وإن لم يستطع مقارعة بعض الزعماء التاريخيين إلا مؤخراً من أمثال جان عزيز ومارون كنعان وآل فرنجية… فكان هذا الحزب يرشّح لائحة موحّدة في بعض المناطق وتنجح. ويظهر أن هذا الحزب قد راعى الجانب الخدماتي للناس. وكما أسلفت، إن المجتمع اللبناني هو مجتمع خدماتي، بينما القوى المتنفّذة في الطوائف الأخرى لم تلبِّ الجانب الخدماتي، كما هو حاصل في الساحة المسيحية… ففي الجنوب مثلاً، يُحكى عن أم كامل الأسعد التي خاطبت أهالي ضيعة في أقاصي الجنوب جاؤوا يطالبونها بإنشاء مدرسة، بالقول: لماذا تريدون المدرسة، فإن كامل يتعلّم…
وعلي بزي، كان يتهرّب من مطالب الناس، إذ إنه عندما يأتيه طالب وظيفة من نبت جبيل يقول له بأنه نائب عن مرجعيون، وعندما يأتيه طالب حاجة من مرجعيون، يقول له بأنه من بنت جبيل… أما بالنسبة إلى عبد اللطيف بيضون، فقد وصل إلى درجة عدم القدرة على فرض أية وظيفة لأحد، بسبب موقعه من السلطة…
هذه البِنية المتخلفة التي تحدّثتُ عنها، استوعبت حزب البعث العربي الاشتراكي وغيره من الأحزاب، ومن ثم المقاومة الفلسطينيـة، واستقبلـت أمل التي حرّضت باسم المحرومين في لحظة من اللحظات، وتأثّرت بالسيد محمد حسين فضل الله فيما بعد، حيث إن شعبنا يتأثر بالعواطف. كل هذه الموجات أتت بسبب الأزْمة الاجتماعية العميقة في البلد… فيما يعنينا نحن كحزب بعث، طرحنا شعارات مثل الوحدة والحرية والاشتراكية، ولم يكن لدينا برنامج يخصّ الوضع اللبناني. وإذا كنت ترى جانباً من برنامج، فإنه كان يقوم على مبادرات فردية.. أما فيما يتعلق بالشيوعيين، فلقد خاطبوا الطبقات المسحوقة بدعوتها إلى الإضراب، وكما نعلم إن الإضراب لا يحلّ مشكلة…
أعود إلى القول بأن أساس الخلل يرجع إلى عدم وضوح خطة عمل واضحة للتعامل مع الساحة اللبنانية ضمن استراتيجية محدَّدة وضمن التعاطي بذهنية مواطنية. بمعنى أن الأحزاب لم تستطع تكريس الحسّ بالمواطنية كانتماء لدى الإنسان اللبناني، كما أن القوى التقليدية، لم تستطع تثبيت هذه المواطنية كانتماء. وما نعيشه حالياً في خضمِّ الحرب الأهلية، يؤكد ذلك. فعلى سبيل المثال نجد بأن ابن الجنوب، عندما يتهدّم منزله في الجنوب يذهب إلى الضاحية، هُجِّر من النبعة فأتى إلى الجنوب..…. وهذا ما يهدّد الطاقة الاقتصادية الاجتماعية في إطار الترتيب الطبقي للمجتمع. فالخلل هو خلل البِنية، مع تأثيرات الأوضاع الإقليمية. نحن معنيون بخلق بِنية جديدة حتى لا تبقى هذه البِنية من الكرتون، أيٌّ كان يهزّها بالشكل الذي يريده. وذلك حتى تبقى هذه البِنية الجديدة حاملةً للَوْنها الطبيعي، واللون الطبيعي لهذه الأرض لا يمكن أن يكون إلاّ لوناً عربياً، إنما بخصوصية يمتاز بها هذا البلد…
س: … لكن، تبقى الإجابة عن السؤال الذي يشغل بالي، وهو أنه لماذا أُغلقت بعضُ المناطق على قوى حزبية معيَّنة، بينما فتحت لها مناطق أخرى؟.. وهل يمكن الاعتماد في تفسيرنا على البِنية الطائفية والمذهبية للمجتمع الذي تنتشر فيه هذه القوى الحزبية، أم هناك تفسير اجتماعي آخر يُضاف إلى التفسير الأول؟.
ج: … حتى أدلّل بشكل عملي على الطبيعة الخدماتية للمجتمع، في الانتخابات التي ترشح فيها علي الخليل على رئاسة بلدية صور عام 1962، ترشّح في وجهه محمد الزيات (حركة القوميين العرب). وهذا انقسام في الصف الوطني (والقومي العربي الواحد)، استفاد منه عبد الرحمن الخليل الذي نجح بفعل هذا العامل التنافسي، وبفعل عامل آخر هو العامل الخدماتي، حيث إن شعبنا البسيط بحاجة أحياناً لخدمةٍ مثل إصدار إخراج قيد، فيُمسك عبد الرحمن الخليل التلفون ويتصل بإبراهيم حلاوي لإعطـاء فلان مـن الناس إخراج قيـد. وهنا تسجّل هذه الخدمة سياسياً لصالح عبد الرحمن الخليل… واحد آخر لديه دعوى في المحكمة، يتلفن للسيد علي صالح بشأنه، فيُشعر السيد علي صالح صاحب الدعوى، بما يرضي عبد الرحمن الخليل، إنما لا يُقدَّم ولا يؤخر في الدعوى في نهاية المطاف…. من هنا كان يأتي الارتباط بالتقليديين…
س: … على ذكر الزعامة التقليدية، هناك رأي يقول بأن الزعامات التقليدية في الجنوب وفي لبنان عموماً، بغض النظر عن فترات الانحسار التي أصيبت بها أثناء الحرب اللبنانية، لا تزال تتمتّع بقواها الشعبية. وهناك من يقول بأنه بعد مرور وانتهاء هذه المرحلة، ستعود الزعامات التقليدية إلى الواجهة، هل هذا رأي مقبول ومعقول؟..
ج: … أنا مع هذا الرأي، لسبب معروف وهو أن أكثر هذه الزعامات لم تدخل لعبة الموت والدمار والتخريب في هذه الحرب الأهلية، بينما أصبح الناس يشعرون بأن الذين أسهموا في خراب بيوتهم هم الأحزاب والفاعليات التي قامت بتثوير هذا المجتمع. إن هذه الأحزاب والفاعليات والقيادة السياسية التي عرفتها الحرب اللبنانية، لم تترجم هذه الحرب باتجاه تطور المجتمع.. ولقد ساهمت هذه الفاعليات في لعبة المذاهب والطوائف وحروبها في الفترة الأخيرة. والناس، كما تلاحظ أصبحوا رافضين لأيِّ شكل من أشكال السلاح والعنف ويريدون الخلاص على يدّ السلطة أو وجود السوريين أو غيرهم.
المهم أنهم يريدون الخلاص من حالة التسيّب والفلتان التي سببتها القوى الموجودة على الأرض. ولأن التقليديين لم يكن لهم دور في حالة التسيّب هذه. من هنا، تبقى لهم قواعدهم الشعبية. فالمواطن العادي لا يمكن أن يدور في الفراغ وحركة المجتمع لا تدور في الفراغ، وإنما تدور دائماً في إطار سياسي معيّن، إذ إنه عندما يسقط هذا الإطار يتوفّر إطار آخر بديل. إذا لم تستوعب الأحزاب الوطنية والعقائدية المرحلة القادمة ولم تطوِّر نفسها، لن تكون هذه المرحلة لها، فستبقى على هامشها بالتأكيد…
وإذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، سيأتي التقليديون بلا شك إلى واجهة العمل السياسي. فالجنوبيون الذين كانوا ضد كامل الأسعد، يقولون في الوقت الحالي: "يا محلى أيام كامل الأسعد…".