د. دندشلي - ثورة أوكتوبر والشعب العربي
التاريخ في مطلع تشرين الأول 1987
ثورة أوكتوبر والشعب العربي(*)
كلمة التقديم
د. مصطفى دندشلي
هناك محطات في التاريخ الإنساني، هناك قفزات نوعيّة يتمُّ تطوُر المجتمعِ عَبْرها.. ودراسة التاريخ الإنساني إنما تتمّ من خلال هذه المحطات… ومن خلال هذه القفزات النوعيّة… ومن خلال الصراعات الاجتماعية التي تكون عنيفة أحياناً وأقل عنفاً أحياناً أخرى…
والثورة هي انتقال المجتمع من مرحلة إلى مرحلة أخرى، أعْلى، أكثر تقدماً… وهي عملية تغيير في البِنى الاقتصادية والاجتماعية وفي البِنى السياسية والتنظيمية والإدارية، وتغيير كذلك في الثقافة والمفاهيم والأفكار…
ففي هذا السياق العام، تأتي أهمية ثورة أكتوبر العظيمة عام 1917 والتي نحن في هذه المناسبة نحتفل بمرور 70 عاماً على انتصارها. وهي إحدى أهم الثورات في التاريخ الإنساني، وهي الثورة التي غيَّرت وجه تاريخنا المعاصر وأحدثت في المجتمع الذي حدثت فيه، تغيُّراتٍ نوعية سواءٌ على صعيد الاقتصاد والاجتماع والسياسة والإنسان عموماً. فقد أحدثت قفزةً نوعيةً غَيَّرت البِنى العامة في المجتمع وأنشأت نظاماً جديداً، مختلفاً عن المجتمع السابق في أسسه التنظيمية وفي مفاهيمه الفكرية والأخلاقية، بكلمة واحدة أحدثت عالماً جديداً في مواجهة العالم الرأسمالي القديم.
ثورة أكتوبر هي تجربة ثورية لا يمكن لأيِّ ثـوري ولا لأيِّ مناضل وطنـي وتقدمي ولا لأيِّ ملتزم بقضايا الإنسان والشعب أو الطبقة التي لها مصلحة في التغيُّر الإنساني، إلاّ أن يدرس هذه التجربة الغنية بالعِبَر والدروس.
في أثناء الحرب العالمية الأولى وما قبلها وما بعدها، كل الدلائل كانت تشير إلى أن انهيار النظام السياسي في روسيا القيصرية لم يكن ببعيد. وعلى أثر انهزام الجيش القيصري أمام الجيوش الألمانية، فقد تفككت الدولة وتصدع الجيش، واستلمت السلطة ابتداءً من شباط 1917، قوى متناقضة ومتصارعة فيما بينها: رؤية الهدف غير واضحة أمامها، فأخذت تتخبط في التردُّد والتقلب. الظروف كانت ظروفاً ثورية موضوعياً، ولكن الظروف الثورية ذاتياً، لم تكن بعدُ متوافرة…
أمام هذا التخبط العام في سلطة الثورة الانتقالية، تُفهم كلمة "كيرنسكي المشهورة": إنتظروا لينين، سوف يأتي ويضع الأمور في نصابهـا". وهذا ما حصل بعد مجيئه في نيسان 1917، وهذا ما حصل تحديداً في تموز.
في الحقيقة وواقع الأمر وسياق التاريخ آنذاك، لا يمكن الحديث عن ثورة أكتوبر دون الحديث عن قائدها ومفكرها لينين.
لينين جمع في شخصه بين المثقف والثوري العملي، بين المنظِّر ورجل الممارسة، بين الكاتب والمحاجج والمنظِّم في آن. لقد كان لينين هو المدرِك الواعي لظروف موضوعية ثورية سائدة، هي نفسها غير واعية أو غير مُستوعبة.
لينين حتى يفهم ماركس فلسفياً عاد إلى هيجل. وحتى يلقتط القوى المحركة في المجتمع الروسي، انكب على دراسة تطور الرسمالية في روسيا. وحتى يهيّىء لانتصار ثورة أوكتوبر عام 1917، درس بعمق واستخلص العِبَر من فشل ثورة 1905.
لينين حتى يكون فاعلاً بين القوى السياسية المتناقضة والمتصارعة في الساحة، أوجد سلاح الثورة والذي لا يمكـن أن تقـوم ثورة "حقيقيـة" بدونه وهو الحزب. فهو مُنشىء الحزب بمفهومه الحديـث وعلى أسس جديدة. ذلك أن الأوضاع الثورية الموضوعية، قد لا تؤدي بالضرورة إلى قيام الثورة، فهي تلزمها العوامل الذاتية حتى تصل إلى أهدافها.
جمع لينين في شخصه أهمية النظرية وأهمية الممارسة في آنٍ معاً، في العمل السياسي والعمل الثوري. الممارسة دون نظرية محددة المعالم والأهداف، قد تؤدي إلى الانتهازية أو إلى الفوضى والتخبط. والنظرية دون الممارسة العملية تؤدي إلى فكر مجرد بعيد عن الواقع أو ربما إلى آراء جميلة زاهية، ولكنها غير فاعلة. فالنظرية المستقاة من صميم المجتمع والممارسة الواعية عن طريق التجربة لهذه النظرية، هما عماد التنظيم الثوري والتاريخي الواعي.
لا يمكن أن نتصوَّر ثورة أكتوبر دون لينين، ولكن كل عبقرية لينين العملية والسياسية، الاستراتيجية والتكتيكية، تظهر بجلاء من خلال ثورة أوكتوبر. لينين نشر مفهومَيْن علميَّيْن من ضمن المفاهيم الكثيرة الأخرى التي أصبحت من التراث السياسي العالمي: مفهوم "الاستعمار، أعلى مراحل الرأسمالية" والأمبريالية، ومفهوم الحزب الثوري في التاريخ الحديث.
إن تأثير ثورة أكتوبر وفكر لينين والفكر الماركسي عموماً في حركات التحرر والتقدم والاشتراكية في العالم وفي الوطن العربي بوجه خاص، إن هذا التأثير لكبير وكبير جداً وسأترك للرفاق والأخوة الحديث عما أعطت ثورة أكتوبر وعن تأثيرها العميق والمتنوع في التاريخ العربي الحديث.
كلمات قيلت من وحي المناسبة:
* بين العمل الاجتماعي والإنساني
وبين العمل الوطني والتحرُّر الديمقراطي،
هنـاك علاقـة عضويــة،
بــل وتفـاعـل جدلــيّ،
من أجل تحريــر الإنسـانِ،
الإنسـانِ العربــي
وأيِّ إنسـانٍ في العالـم
من الاستغــلال
بأشكالـه القديمـة
وأشكالـه الحديثة
* أن تقسـوَ الظــروفِ
وتعصـفَ الأنـــواءِ
من كـل حـدب
واتجــاه
لكن المهمَّ أن تبقى شعلةُ الرفضِ.. عاليةً
وقــوةُ العــزيمــةِ صـادقـــةً
في مواجهة قوى الاحتلال والاغتصاب،
وقوى الاضطهاد والاستثمار والاستغلال،
من أجل التغيير الاجتماعي والقومي،
ولمصلحـة الإنسـان العـربــي
فـي مشـرقــه ومغـربـــه
* إنّ أصدقَ شىءٍ في شخصيةِ المثقَّف الملتزم،
هو الصدقُ عينُه،
الصدقُ في القولِ،
والصدقُ في العملِ،
واقترانُ القولِ بالعمـلِ
والفكـرِ بالممارسـةِ
بحيث يصبح ما تقولُه
هو نفسُه ما تقومُ بـه
والعكس صحيح أيضاً
والمواجهة،
مواجهة العدو المحتل،
هي عنوانُ هذا الصدق
فـي القــول
وفي الممارسة
أن تواجه بعناد،
أن تناضلَ بقوة،
أن تقاومَ بحزم،
في الوقت الذي تبدو فيه الظروف في غير صفِّـك..
هذه هـي الصـورة التـي انطبعـت فـي ذهنـي
عن المثقف المناضل، المثقف الملتزم بقضايا الإنسان،
في فترة الاحتلال الإسرائيلي ومواجهته في صيدا.
كلمة الرفيق أليكسندر أدياسوف السكرتير الثاني في السفارة السوفياتية
ثورة أكتوبر والعالم العربي
بودّي، على عتبة الذكرى السبعين لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، والتي بدون شك، أصبحت الحدث الأعظم في القرن العشرين، والتي أثرت بشكل جذري على المصائر التاريخية للعالم كله، كان بودّي الحديث عن بعض القرارات المبدئية للسلطة السوفياتية الفتية في مجال تنظيم العلاقات القومية وتطوير العلاقات مع المشرق العربي.
لا بدّ من التذكير أن الثورة حققت انتصارها الحاسم في بطرسبورغ ليلة الثامن من تشرين الثاني عام 1917، واستمرت عملية تثبيتها على كافة أراضي روسيا حتى كانون الثاني عام 1918، وسبق أن أقرّت في 15 تشرين الثاني، الوثيقة التاريخية لحقوق شعوب روسيا. وهاكم بعض أسسها التي لم تعلن فقط وإنما ضمنت:
1 ـ مساواة شعوب روسيا وسيادتها.
2 ـ حق كل شعوب روسيا في التقرير الحر للمصير، وصولاً حتى الانفصال وتشكيل دولة مستقلة.
3 ـ إلغاء كل الامتيازات والقيود القومية، والقومية الدينية المختلفة (أريد هنا التشديد على هذه النقطة، إذا أُخذ بالحسبان خصوصية لبنان الطائفية).
4 ـ التطور الحر للأقليات القومية والمجموعات العرقية التي تقطن أراضي روسيا.
وحسب تقييم الشخصية البارزة في حركة التحرر الوطني الهندية ك.م. بانيكارا فإن هذه الوثيقة "كانت شبيهة بالانفجار". وإنها أيقظت عند شعوب آسيا المناضلة في سبيل حريتها أملاً جديداً.
* * *
وأعتقد أنه لن يكون مزايدة في القول أن هذه الكلمات ربما قيلت في لبنان أيضاً. وفي الثالث من كانون الثاني 1917، صدر نداء رئيس مجلس مفوضي الشعب ف.ء. لينين والمفوض في الشؤون القومية ئي.ف. ستالين "إلى كل الشغيلة المسلمين في روسيا والشرق" ومما يرد فيه: "منذ الآن وصاعداً، تعلن معتقداتكم، عاداتكم، هيئاتكم القومية والثقافية، حرة ومصانة، تدبروا حياتكم القومية بحريّة وبدون عوائق، هذا من حقكم".
وتضمّن النداء إلى جانب ذلك الدعوة التالية: "أيها المسلمون في الشرق، فرساً وأتراكاً، عرباً وهندوساً، أنتم الذين تاجر وحوش أوروبا الجشعون، على امتداد مئات السنين برؤوسكم وثرواتكم، بحريتكم وأوطانكم.. أطيحوا بهؤلاء الوحوش والمستعبدين لبلدانكم".
إن الحكومة السوفياتية، بأتباعها سياسة جديدة نزيهة تجاه بلدان الشرق، نشرت في كانون الأول 1917، كانون الثاني 1918، أكثر من مئة اتفاق سري، ومعاهدة ومواد أخرى للنظام القيصري المخلوع. وفضحت المعاهدة السرية الموقعة عام 1916، بين انكلترا، فرنسا، وروسيا القيصرية، حول تقسيم تركيا وممتلكاتها، والتي تطال لبنان وسوريا وبلداناً أخرى.
هكذا فإن الاتحاد السوفياتي انتهج منذ ذلك الحين سياسة واضحة وصريحة. وحسب رأينا، فإن المواصفة التالية التي أعطيت لنشاط الحزب الشيوعي اللبناني السوري، والواردة في تقرير اللجنة التنفيذية للكومنترن أمام مؤتمره السابع عام 1935، يكنها أن تكون معبر حيث ورد: "إن الحزب الشيوعي اللبناني السوري، عمل بنشاط لكسب الجماهير وقاد النشاط المطلبي ورسخ مواقعه في النقابات، واتخذ الخطوات للتقارب من الأحزاب الثورية الوطنية بهدف إنشاء جبهة موحدة معادية للإمبريالية" ويمكن الإشارة بارتياح إلى أن القوى التقدمية اللبنانية تملك التقاليد الراسخة والقديمة في النضال من أجل دمقرطة البلاد والتقدم.
أيها الأصدقاء الأعزاء،
بالرغم من كل الجهود، فِإنه للأسف، ما زالت مسألة تسوية الأزمة الخطيرة في بلادكم تراوح مكانها، ومع ذلك فإنه من الواضح أن محاولات فرض هكذا مخططات "مزعومة" للتسوية على الشعب اللبناني المحب للسلام قد فشلت، والقوات المتعددة الجنسية، بالأصح قوات "الناتو" التي دخلت بيروت عام 1982، اضطرت في العام 1984، للخروج من لبنان بشكل خزي. وظهرت عند الأميركيين، كما قالت صحافتهم، "الوهم اللبناني"، بينما ينظر وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز إلى الشعب اللبناني بمثابة عدو شخصي له أو على قاب قوسين من ذلك. إلى ذلك فشلت حملة إسرائيل في لبنان، وفي تل أبيب يبحثون حتى الآن عن المذنب الأساسي في الخيبة اللبنانية ويقولون أن شارون خذل بيغن بإخفائه عن مجلس الوزرء الإسرائيلي، الحقيقة عن الحرب اللبنانية، ولكن من المرجح أن الذي اضطر بيغن وقادة إسرائيل الآخرين للاعتراف بهزيمتهم في لبنان هي المقاومة البطولية للاحتلال في كل المناطق اللبنانية، وفي صيدا،
وفيما يخصنا نحن، فإن الاتحاد السوفياتي، صرح أكثر من مرة، أنه مستعد لدعم أية جهود تبذل في سبيل الحل السلمي والعادل للمشاكل اللبنانية الداخلية المتراكمة.
كذلك اغتنم هذه المناسبة للتحدث ببضع كلمات عن التغييرات الهائلة التي تجري في كل ميادين حياتنا في الاتحاد السوفياتي، والتي أصبحت معروفة في العالم كله كعملية إعادة بناء "بيريسترويكا" والتي للأسف، تفسر أحياناً بشكل سطحي أو بشكل غير صحيح،
أود في البدء إيراد الكلمات التالية للأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي غورباتشوف والتي قيلت خلال اللقاء مع ممثلي الرأي العام الفرنسي في 29 أيلول 1987، "يخطىء من يعتقد الآمال على أن تؤدي الديمقراطية وعملية إعادة البناء إلى انقلاب اجتماعي وسياسي في الاتحاد السوفياتي".
بكلمات أخرى، فإن عملية إعادة البناء لا تعنى القليل، إنما المزيد من الإشتراكية للجميع ولكل بمفرده. ومن ضمنهم شعوب الشرق السوفياتي وجمهوريات آسيا الوسطى. وهاكم بعض الأرقام عن طادجكستان: تخطط الجمهورية لزيادة الدخل القومي بمعدل 6 ـ 7% في العام منذ عام 1990، وستضاعفه بثلاث مرات خلال 15 ـ 20 عاماً. ويجب القول أنه سيتم بلوغ هذه الوتائر في الكثير بفضل التعاون الاقتصادي الوثيق لشعوب الاتحاد السوفياتي، والمساعدة الأخوية من جانب الروس، الأكروانيين، البيلاروس والشعوب الأخرى. وعلى سبيل الذكر، اعتمدت في سنوات خططنا الخمسية الأولى، أي في بداية الحرب العالمية الثانية مخصصات الاقتصاد الوطني في عدد من الجمهوريات الآسيوية، وصولاً حتى ثلثيها، على ما يردها من الدخل الوطني العام السوفياتي. وفي بعض الأعوام لم ينحط نصيب هذه الجمهوريات في دخلها الوطني آل 10%. هكذا كان، ما زال، وسيبقى واحد من مبادئنا الأساسية في العلاقات المتبادلة بين شعوب الاتحاد السوفياتي وقومياته ـ الأكبر يساعد الأصغر، والجميع يقومون بعمل مشترك.
أصدقائي الأعزاء!
اسمحوا لي أن أهنئكم اقتراب اليـوم التاريخي ـ الذكرى السبعون لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ـ أقامت اللجنة الوطنية لاحتفالات الذكرى السبعين لثورة أوكتوبر الاشتراكية، ندوة جماهيرية حاشدة تحت عنوان: "ثورة أوكتوبر والشعب العربي"، تحدث فيها كل من:
الرفيق الدكتور حكمت الأمين، عضو الحزب الشيوعي اللبناني في الجنوب اللبناني وموضوع كلمته: الأبعاد التحررية لثورة أوكتوبر الاشتراكية.
نهاد حشيشو، عضو اللجنة المركزية في التنظيم الشعبي الناصري، وعنوان مداخلته: "ثورة أوكتوبر وتأثيراتها في حركة التحرُّر العربي".
غسان عبدو، مسؤول الحزب الديمقراطي الشعبي، تحدث عن: "ثورة أوكتوبر والشعب العربي".
أخيـراً كلمـة الـرفيق أليكسنـدر أديـاسـوف، السكرتيـر الثانـي في السفـارة السوفيـاتيـة: "ثورة أوكتوبر والعالم العربي".
وألقى كلمة التقديم وأدار النَّدوة الدكتور مصطفى دندشلي.