الحياى - حول إدخال الدين... ولكنْ أيضاً القومية والماركسية في السياسة - عبدالعزيز حسين الصاوي *
الحياة
الاربعاء, 3 تشرين ثاني 2010
حول إدخال الدين... ولكنْ أيضاً القومية والماركسية في السياسة
عبدالعزيز حسين الصاوي *
في ساحة السجالات السياسيه والفكريه بين التيارات المختلفة، وقف التيار الاسلامي متهماً دوماً بكونه يقيد مجال الصراع والنقاش والتنافس الديموقراطي بزج عنصر التقديس والمقدس فيه. فمهما كان استعداد قيادات التيارات الاسلامية الذاتي ونياتها للالتزام بمقتضيات حرية التفكير والممارسة بقي ويبقى صحيحاً دائماً القول بأن الجوانب الدينية من ايديولوجيتها محاطة بقدر من الهيبة والمسلّمات المتغلغلة في الذهن العام بحيث يتعذر التعاطي النقدي المفتوح إزاءها من جانب التيارات العلمانية الى درجة الاضطرار للقبول، الظاهري على الاقل، ببعض المنـــطلقات الدينية. بناء على ذلك، ينتشر الادعاء بوجود خاصية نزوع إقصائي توتاليتاري في صلب التيارات السياسية التي تستوحي الرابطة الدينية.
على ان الفكرة التي يدور حولها هذا المقال هي أن اي تيار يستوحي رابطة طبيعيه بمعنى انها موروثه في مجتمع معين، تجتذب وتستحق هذا النوع من النقد حتى لو طرح نفسه علمانياً.
خذ مثلاً تيار العروبة السياسية، اي التوجهات الفكرية التي تقوم على تفسير للانتماء القومي العربي يشكل ايديولوجية محددة السمات. المعروف ان هذا التيار نشأ في منطقة الشام ضمن ملابسات تاريخية معينة أهمها مجابهة سياسة التتريك خلال الفترة الاخيرة من العهد العثماني الذي استطال قروناً في تلك المناطق وبالتأثر بالمفاهيم والنظريات الغربية في تكوين القوميات، مما ركز التوجه العلماني فيها كما يظهر من مراجعة كتابات الآباء المؤسسين للتيار القومي العربي: ساطع الحصري وقسطنطين زريق ثم ميشيل عفلق ومنيف الرزاز وغيرهم، حيث تنحصر مقومات القومية في التاريخ واللغة والمصالح دون الدين. ان الانتماء القومي اكثر طبيعية من الانتماء الديني، بمعنى انه من الناحية الزمنية التاريخية اعمق جذوراً في البيئة التي يولد فيها الفرد، إذ بقي العرب عرباً مثلاً وهم يتحولون من المسيحية الى الاسلام. ولكنه بالطبع انتماء اقل قداسة من الانتماء الديني وفي الآن نفسه اكثر قداسة من الانتماء الماركسي.
الاخير يبدأ حياته في ساحة السباق السياسي مع التيارات الاخرى من نقطة شروع متأخرة اكثر منها بالنظر الى انعدام مقبوليته الكلي في المجتمع، بينما يبدأ التيار العروبي الســـياسي حياته من نقـــطة شـــروع متقدمة نسبياً بالنظر الى توافق منطلقاته الاولية مع البيئة القومية المحيطة به، يضاف اليها ما يعلق عليه من رذاذ القداسة الدينية بسبب العلاقة بين القومية العربية والاسلام، ما يضفي القداسة الكاملة على التيارات التي ترتبط به. على هذا الاساس يصح القول بأن تيارات العروبة السياسية تولد بجينات وخصائص وراثية إقصائية وتوتاليتارية اكثر من الماركسية، ولكنْ اقل من التيارات السياسية الدينية. بيد ان التيارات الماركسية لها ايضاً مسحتها التقديسيه. والفرق بينها وبين قدسية التيارات الدينية والعروبية انها قدسية مكتسبة اذا صح التعبير وليست موروثة عبر سلسلة طويلة من الآباء والأجداد. ان أي ايديولوجية ذات مرجعية واحدة ووحيدة حصرياً، بخاصة اذا كانت تخلع على نفسها صفة العلمية، مثل الماركسية، تكتسب بمرور الزمن وسخونة الصراع مع التيارات الاخرى، لا سيما في المجتمعات المتخلفة، طابع العقيدة الدينية او شبه الدينية لدى معتنقيها، كما تصبح قريبة جداً من تكوين الرابطة القومية الطبيعية مما يرشحها للتصنيف ضمن تصنيف تياري المرجعية الدينية والقومية نفسه من حيث القابلية للانغلاق على الذات وضد الآخر.
في الحالات الثلاث، حالة المرجعية الواحدة حصرياً في الماركسية والقدسية النسبية الموروثة للعروبة والكاملة للإسلام، يدلنا سير التاريخ السياسي الحديث على ان ظهور هذا الاقتران بين العقيدة او الرابطة المستوحاة وقابلية الانغلاق ليس امراً مطلقاً وحتمياً نابعاً منهما اوتوماتيكياً، بل هو من صنع الانسان الى حد كبير. في هذا يمكن القول كقاعدة عامة إن المجتمعات المتخلفه حضارياً أو تحديثياً والتي لا تتوافر فيها مجالات متسعة للتداول الفكري والفلسفي، أو لا توجد فيها اصلاً، هي التربة الصالحة لظهور الاقتران المشار اليه.
فتخلّفُ الايديولوجيات اسلامية كانت او قومية عربية او ماركسية هو من تخلف عقلية الانسان الذي ينتجها كصياغات فكرية ويطبقها كســياسات. وفي المعادلة التي ما انفك الفكر الانساني يحاول ضبطها بين الظروف التي تصنع مستوى وعي الانـــسان أو العــكس، يبقى من المرجح صحة المقولة التي تجعل الانسان سيد ظروفه وصانعها على المدى البعيد، طالما انه وحده من بين مخلوقات الكون القادر على الملاحظة والتجريب والاستنتاج المنطقي.
وتأكيداً لهذا الزعم سنلاحظ ان المجتمعات التي نزعت عن هذه النوعيات الثلاث من مصادر استيحاء الفكر والعمل السياسي خواصها الاقصائية تجاه الآخر والانغلاقية على الذات، وذللتها لخدمة التقدم والرفاهية، هي المجتمعات التي تسلم فيها العقل زمام القيادة. فالمراجعات التجديدية للماركسية ابتُدرت في اقطار مثل ايطاليا وفرنسا وليس في روسيا المتخلفة نسبياً، وفيها ايضاً تراجعت القومية الشوفينية العدوانية لتفسح مكاناً للتآخي ينسج وحدة متينة بين أقطارها عبر حروب دامية، بينما تحددت الصلة بين الدين والحياة العامة فيها في شكل بنّاء وإيجابي. كذلك يؤكد سير التطورات في المجتمعات التي لا تزال تكابد معضلة تسييد العقل الزعم المذكور. لقد ارتفعت رايات الفكر الماركسي الشيوعي والديني الاسلامي والقومي العربي في اكثر من بلد عربي مكتسحة الساحة السياسية ومشاغل النخب القيادية في فترات زمنية مختلفة، ولكنها جميعاً إذ اغترفت من مستودعات الركود المجتمعي والحضاري حملت سماته وأمراضه فتفاعلت مع عوائقها الذاتية لتصل بها في كل التجارب، عاجلاً او اجلاً وبلا استثناء، الى نقطة تشبّع تنفرط بعدها وتشتتت ولا تبقى صالحة منها للحياه إلا بؤر صغيرة تحاول إعادة بناء التجارب المعنية بادئة بالتخلي عن كل ما له صلة فيها بادعاءات وايحاءات القداسة.
في هذا تُنبئنا التجربة الشيوعية السودانية بأن قمة أمجادها التصاعدية تجلت في ثورة تشرين الأول (اكتوبر) 1964، ولكن شح الرصيد الديموقراطي في ايديولوجيتها، بحكم مقتضيات حصرية المرجع الماركسي وفي الواقع السوداني نفسه، قذف بها الى أتون ازمة تفجرت علناً بعد ذلك ببضع سنين، لتضع الحزب على منزلق التراجع. وبعد عقدين من الزمان حلت التجربة الاسلامية محل التجربة الشيوعية في مســـتوى النفوذ السياسي وهي تعاني العيب التكويني نفسه منتهية الى المصير نفسه مموّهاً بسلطة رسمية تعتاش على ادوات الدولة في المناورة والقمع الناعم والخشن، بينما يتساقط التنظيم الاصلي من حولها.
وفي فراغ محدود بين التجربتين الشيوعية والاسلامية عاشت التجربة القومية العربية البعثية تجربتها المحدودة محدودية حجمها، محكومة بالسمات والنتائج نفسها.
* كاتب سوداني.