د. دندشلي - محاولة لتأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي - عبد الرحمن المارديني
مقابلة مع
الأستاذ عبد الرحمن المارديني
من الرعيل الأول في حزب البعث العربي
الزمان والمكان : الأول من تشرين الأول 1989 ـ دمشق
المـوضـوع : محاولة لتأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي
من خلال التجربة الشخصية
أجرى المقابلة : د. مصطفى دندشلي
* * *
أولاً ، وبادئ ذي بَدء ، ملاحظات حول كتابي : " حزب البعث العربي الاشتراكي ، الأيديولوجيا والتاريخ السياسي . ( 1940 ـ 1963 )، يقدِّمها الأستاذ عبد الرحمن المارديني ...
سؤال : بداية ، أستاذ عبد الرحمن المارديني ، أودّ أن أبدي سعادتي الكبيرة بمقابلتكم . وقبل أن تتفضلوا علينا بتقديمكم بعض الملاحظات النقدية والمنهجية حول كتابي : حزب البعث العربي الاشتراكي ... أرغب أولاً أن تقدموا لي ما يمكن أن نسميه : بطاقة هُويّة ، المراحل الدراسية والسياسية والحزبية والمناصب الرسمية التي شغلتموها ...
الأستاذ عبد الرحمن المارديني : ... هناك نشاطات متعدِّدة : نشاطات سياسية ونشاطات وظيفية ونشاطات مهنية غير الوظيفية . في ما يتعلق بالنشاطات السياسية ، فقد عملت منذ صغري في الحركة الوطنية في عهد الانتداب الفرنسي على سورية ، في الحركة الاستقلالية ضد الانتداب الفرنسي . وإنني باشرت هذا العمل وبحماس منذ كنت في الدراسة الثانوية في دمشق ، وأنا من مواليد دمشق في عام 1921 . فإضراب عام 1936 ضد الانتداب الفرنسي الذي استمر ستين يوماً والذي سمّيَ " الإضراب الستيني "، فأنا رافقت هذا الإضراب وكنت في أول دراستي في " مكتب عنبر " أو " مدرسة التجهيز " التي كان يُطلق عليها آنذاك " مكتب عنبر " وهو يقع خلف الجامع الأمويّ ، بعدها يسمّى شارع الطويل ... وهو الآن مكان أثريّ مشهور . وهو كان مركزاً للطلاب والحركات الوطنية ، وذلك باعتبار أن دمشق لم يكن فيها حينذاك مدرسة ثانوية إلاّ مدرسة ثانوية واحدة رسمية وهي " مكتب عنبر " ومن ثمَّ مدرسة التجهيز الأولى . فكانت تخرج منها المظاهرات وكانت هي بداية المظاهرات في العهد الفرنسي . فلذلك هذه المدرسة وطلابها ، كان لهم دور رئيسي في استمرار الإضراب الستيني الذي انتهى بمفاوضات من أجل المعاهدة الفرنسية ـ السورية لعام 1936 . وبطبيعة الحال ، فإن الجماهير الشعبية تعمل مع الكتلة الوطنية في ذلك الوقت . والكتلة الوطنية هي غير الحزب الوطني . فالحزب الوطني تألف لاحقاً من بعض فئات الكتلة الوطنية . فالكتلة الوطنية في تلك المرحلة ، كانت تضمّ كل جماهير الشعب ، ما عدا فئات متعاونة مع الشيخ تاج الحسيني ، جماعة الانتداب أو فئات صغيرة غير موصولة بتنظيم الوطنيين . والكتلة الوطنية إنما هي عبارة عن تجمع ( زعامات محلية وأعيان ) أكثر مما هو تنظيم ( حزبي بالمعنى الحقيقي للكلمة )... في هذه الأجواء السياسية ، كنا نشارك في المظاهرات الطلابية وتأمين إغلاق المدينة ، وتنتهي بمصادمات مع قوات الشرطة والقوات الفرنسية التي كانت تساندها ، أي أن القوات الفرنسية كانت تأتي إلى أول سوق الحميدية ، وتدخل الشرطة إلى الأمام . وأكثر الأحيان كانت المظاهرات تقترب من جامع الأموي وتتقدم ، ثم تصطدم مع الشرطة ، كما يحصل عامة في هذه المواجهات ... وهذه العملية والمظاهرات كانت تتكرر يومياً ، أو يوماً بعد يوم وهكذا ... واستمر ذلك حتى أقام الفرنسيون اتفاقاً مع الحكومة الفرنسية على أساس إجراء مفاوضات في باريس .
لقد كان نشاطي الطبيعي السياسي الفعلي ضمن هذه المجموعات ، وقد استمريت في نشاطي في هذا الإطار مع مجموعات الشباب في الكتلة الوطنية في تنظيمات الطلاب وهي تابعة للكتلة الوطنية أيضاً . وكنت أنا تدريجاً تقريباً موجِّهاً أو ضمن ثلاثة أو أربعة أشخاص نقود العمل الطلابي . واستمر ذلك في تنظيم المظاهرات والإضرابات بتوجهات المعارضة وكان ذلك مع مجييء الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وتشكيل المعارضة التي تمّت حينذاك وحوادث اسكندرون كنا نحن كتنظيمات طلابية نساهم فيها مساهمة مباشرة ، واستمرت الإضرابات إلى أن أوقفت فرنسا العمل بالدستور وكلَّفت حكومة موقَّتة .
وأنا كنت قد أنهيت دراستي الثانوية في العام 1940 ـ 1941 ـ عند دخول القوات الإنكليزية إلى سورية ـ وبعدها دخلت إلى الجامعة السورية في دمشق ـ كلية الحقوق . وتخرجت عام 1945 ... لكن ، هنا أشير إلى أن هذه الفترة كانت مليئة بالأحداث المتعلقة بالنضال الوطني ضد الإفرنسيين . وقد انتسبت إلى حزب البعث العربي عام 1946 . وقد كان سبب انتسابي إلى حزب البعث العربي ، هو أنني كنت أتطلع إلى النواحي الاجتماعية . فالكتلة الوطنية في الواقع عبارة عن تجمعات قائمة من أجل مناهضة الإفرنسيين . فلم يكن لها هدف اجتماعي يتعلق بالإصلاح الاجتماعي ، بطبيعة الحكم ، بسير الحكم . لم يكن هناك أيّ شخص ( أو أيّ قيادي ) يعطي انطباعاً ، رغم التنبيه إلى أهمية هذه الأمور ، بتأثير الكتلة الوطنية بهذا الاتجاه ( الاجتماعي ـ الإصلاحي ). وبدأت الخلافات تدبّ فيما بينهم ضمن الكتلة الوطنية ، وذلك على أساس نزاعات (وخلافات سياسية) شخصيّة : اتجاه جميل مردم ، اتجاه شكري القوتلي ، اتجاه سعد الله الجابري ، اتجاهات الآخرين ، إلخ ... وهذه الاتجاهات ( أو التيارات أو التجمعات السياسية حول الزعامات المحلية ) لم تكن اتجاهات اجتماعية ولا هي سياسية في الواقع ، وإنما تنازع على النفوذ (والسيطرة السياسية المحلية) وخلافات شخصية ، وكل " زعيم " كان يرى بأنه أحقّ أن يكون صاحب السلطة والنفوذ . فضمن هذا الجو ، فقد جرى دراسة ما هو الجوّ الأفضل بالنسبة إلى شخص درس الحقوق ( أي مثل عبد الرحمن المارديني) ويتطلع إلى اتجاهات سياسية . فطبعاً ، كان هناك الاتجاه الاشتراكي مطروحاً بشكل شيوعي أو غير شيوعي ، ومطروحاً في الوقت ذاته الاتجاه القومي العربي . فضمن هذه الاتجاهات الفكرية ، ولكنها لم تكن قد وصلت بعد إلى حدِّ الصراعات السياسية... ونحن كمواطنين ، يتطلعون إلى الهدف الذي يجب أن يسيروا فيه ، وجدتُّ في الشكل الذي يمشي فيه حزب البعث العربي، ولو لم يقرر أسلوبه وقتها ، ولكن من خلال الأفكار المطروحة أنه هو الذي يؤمِّن الغاية لكل مواطن عربي يتطلع إلى الوحدة العربية مع تحقيق العدالة الاجتماعية : هذا هو الدافع الرئيسي (لانتسابي إلى حزب البعث العربي). وكنت أنا في ذلك الوقت على صلة بالشيوعيين ودرست الشيوعية ، وعلى علاقة بالأساتذة الشيوعيين في " معهد التجهيز " ( أثناء الدراسة الثانوية )، ومنذر الموصلّلي كان يزودني بالكتب الشيوعية ، كان أستاذاً في معهد التجهيز ولكنه كان شيوعياً ... فكان يطلعني على بعض الكتب باللغة الفرنسية ... وكان زميلاً وصديقاً للأستاذ ميشال عفلق وللأستاذ صلاح الدين البيطار ... وكان الأستاذ الموصلّلي يحدثني عن النظريات الجدلية ، والمادية التاريخية والتناقض الجدلي... طبعاً ، أنا وجدت أنه ليس إلاّ الناحية الاشتراكية ، وليس بتفاصيلها، هي اتجاه يحقق العدالة والعدالة الاجتماعية على وجه الخصوص . ولكن ، في الشيوعية ، أو الاشتراكية الشيوعية ، ثمة أموراً لا تلاءم وضعناالاجتماعي ووضعنا القومي ، من حيث وحدة العمل الشيوعي الأممي في العالم . وبدأت التناقضات تظهر بين المصالح العربية والخطط التي تضطر إليها الحركة الشيوعية في سيرها السياسي . مثلاً، مسايرة فرنسا في زمن الحرب العالمية الثانية ، بعد دخول الاتحاد السوفياتي الحرب إلى جانب الحلفاء ، على الرغم من أن الاتحاد السوفياتي يصدر بيانات مؤيدة للاستقلال ، لكن كان يراعي أيضاً ظروف الحرب وتحالفاته مع الحلفاء ... فالمصلحة الوطنية لا تجعل الواحد منا أن تكون أموره تابعة إلى دولة أخرى أو دول أخرى . هذا هو الشيء الأساسي في هذا المجال السياسي الوطني .
س : ... هل هناك حالات أخرى مثلكم ، من طلاب ومثقفين ، تركوا الكتلة الوطنية وانتسبوا إلى حزب البعث العربي ؟...
ج : ... طبعاً ، د. مدحت البيطار شأنه شأني أنا ... نفس الشيء ... كان في الكتلة الوطنية ... ولكنه أكبر مني سناً ... كان الكثيرون مثلنا في الكتلة الوطنية انتقلوا إلى حزب البعث (في البدايات الأولى) أعداد كبيرة ومجموعة كبيرة كذلك ... في الواقع ، لقد أصبحت الكتلة الوطنية عبارة عن صراعات سياسية ما بين الأشخاص (والقيادات والزعامات المحلية أو على الصعيد الساحة السورية عامة)، وما بين المجموعات التي لها مصالح معها (أي مع الكتلة الوطنية). أما سواد المثقفين (ولربما أيضاً بعض الجماعات المحلية في المدن السورية) فلم يعد هذا الارتباط الذي يربطه (بالقيادات الوطنية)، فبدأ ينحلّ . وأخذ الكثيرون يفتشون عن ارتباط (سياسي) آخر ، بطبيعة الحال . فلذلك أنا اخترت طريق حزب البعث العربي .
ففي عام 1946 ، عدد المتخرجين ( من كلية الحقوق ) وهم أعضاء في حزب البعث كانوا قلائل . كان هناك مجموعة من الأساتذة من المدارس ، أما حاملو الشهادات من الجامعات ، عدا طبعاً الأستاذ ميشال عفلق والأستاذ صلاح الدين البيطار ، فكانوا قلائل جداً . أنا ربما الوحيد الذي تخرجت من كلية الحقوق في تلك السنة بعثياً ، وكان هناك بعض الأطباء : وهيب الغانم ، جمال الأتاسي وقبلهما مدحت البيطار ... في هذه الأوساط ، أنا كان معروفاً نشاطي . فقد كنت في بادئ الأمر ، في أعوام 1941 ـ 1942 ضمن مجموعة ضد البعثيين ، ولم تكن على وفاق معهم ، بمعنى أن " الشباب الوطني " الذين ينتمون إلى الكتلة الوطنية ، لم يكونوا على وفاق مع البعثيين . فكنت أنا من المناهضين الأُوَل ضد البعثيين . ففي المظاهرات كان يقع اصطدامات بيننا وبين البعثيين . فكذلك ، أنا كنت في الواجهة . عندئذ ، رَحَّب البعثيون بقبولي وانضمامي إلى حزب البعث، فكان ترحيباً جيداً ، لأنهم يعرفون أن اتجاهي تقدمي ، رغم أني في الكتلة الوطنية ... فلذلك، رحبوا بي كثيراً . وكُلِّفت بعمل كان من المفترض ألاّ يُعطى إلى منتسب جديد ، في تنظيمات فرع الحزب في دمشق. ثم ، بعد ذلك ، إعداد مؤتمر للحزب، فكنت أنا من اللجنة التحضيرية ، وقد كُلِّفت بوضع البرنامج الاقتصادي في وثيقة الدستور مع أخ كان في السنة الأخيرة في الجامعة السورية في دمشق هو د. عبد المنعم شريف . فقد كانت مطروحة منطلقات أو أفكاراً مُحدَّدة ، مكتوبة (سابقاً) من حزب البعث العربي ومن دراساتنا الشخصية، فعلى أساسها وضعنا الجانب المتعلق بالاشتراكية، أي أنه في دستور الحزب ، أنا والدكتور عبد المنعم شريف وشخص ثالث لا أتذكر اسمه الآن ، وقد غاب عن ذهني، نحن الثلاثة وضعنا هذا القسم المتعلق بالمواد الاشتراكية والاقتصادية . كما وضعت أنا مع أخوان آخرين النظام الداخلي لحزب البعث العربي ( ملاحظة : عبد الرحمن المارديني هو حقوقي ، فكان من الطبيعي أن يكلف بوضع مواد النظام الداخلي للحزب ، فاقتضى الإشارة ).
س : ... هنا يطرح سؤال حول هذا الموضوع بالذات : د. وهيب الغانم يزعم بأنه هو الذي وضع الجانب الاقتصادي في دستور حزب البعث ...
ج : (مقاطعاً)... أنا قرأت ما كتبه وهيب الغانم في هذا الموضوع . فإذا كان له دور ، فيكون في الأشياء المكتوبة قبل إعداد وثيقة الدستور ، أي ربما يكون في الفترة السابقة على ذلك . وهذه الفترة ، أنا لست مطَّلعاً عليها ، على اعتبار في المرحلة الأولى إنني لم أكن منتمياً بعد إلى الحزب .
س : (مقاطعاً)... لا، هو يؤكد في المؤتمر التأسيسي الأول أنه هو الذي كتب النص الاشتراكي الوارد في الدستور ...
ج : ... في الدستور ؟!... لا ، في المؤتمر الأول ، الوثيقة والقسم الاشتراكي الوارد في الدستور من إعداد وكتابة اللجنة الاقتصادية التي ذكرتها ... وهيب الغانم تكلم أثناء المؤتمر في هذا الموضوع (الاشتراكية والاقتصاد) ولكن عند التحضير للمؤتمر هو كان في اللاذقية. وأُعِدّت الوثيقة قبل المؤتمر في دمشق . وهناك قسم آخر يتعلق بالقومية العربية والقسم الاجتماعي والسياسي ، كل ذلك كان معداً قبل المؤتمر في دمشق . وقد يكون الأخوة القادة في الحزب ( ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار ) ذهبوا إلى اللاذقية وناقشوا معه هذه المواضيع ، قد يكون ... أما هذا القسم المتعلق بالاشتراكية والاقتصاد ، فهو قد أُعدّ من اللجنة التحضيرية الثلاثية التي أتيت على ذكرها أعلاه .
د. جمال الأتاسي كان مشتركاً في لجنة أخرى ، اللجنة المتعلقة بالناحية القومية ، وكان له دور كبير فيها ، فكان جمال الأتاسي في اللجنة المكلفة بذلك ... ذلك أنه كان هناك عدد من اللجان الاختصاصية في جوانب فكرية وسياسية واجتماعية مختلفة . ثم مجموعة هذه الوثائق درسها ووحَّد بينها وأعاد صياغتها الأستاذ ميشال عفلق والأستاذ صلاح الدين البيطار . ولكن أكثرية الوثائق ومضمونها بقيت كما هي مع التعديلات البسيطة الطفيفة ، خصوصاً الفصل المتعلق بالاشتراكية لم يجر عليه تعديل . أثناء المؤتمر ، حصلت مناقشات عديدة وظهرت آراء متحمِّسة إلى هذا الجانب وآراء معارضة إلى ما دونه . ولكن لم يكن يوجد أن أحداً فيما يتعدّى في ما كُتب في هذه الوثيقة ، بمعنى أنه قد اُعتبر أن هذا الاتجاه متقدماً ووافٍ وكافٍ في هذه المرحلة . وهناك بعض المؤتمرين الآخرين ، كانوا من المعترضين (على جانب الاشتراكية) وأنه يجب أن لا يكون بهذا التطرف، لقد اعتبر هذا القسم من جانبهم نوعاً من التطرف. بمعنى أن يأتي ذلك في دستور الحزب ، فقد اعتبر تطرفاً وأرادوا أن يلغوا هذا القسم أو فقرات من هذا القسم : التركيز على تأميم المؤسسات الكبيرة وتحديد المِلكية ، فهذه الأشياء ليس وقتها الآن وبهذا الشكل ، ليس وقتها الآن ... ليس كاتجاه فكري ، وإنما المرحلة السياسية لا تسمح بذلك : فإن البلاد العربية (بما أن حزب البعث حزب قومي عربي وحدوي ويدعو إلى الوحدة وإلى وحدة الأقطار العربية ) لا تقبل بهذا التوسُّع ، وإن هذا الجانب يضرّ في ما يتعلق بالاتجاه القومي الوحدوي .
س : ... كيف كان توزيع المناصب الإدارية في هذا المؤتمر التأسيسي الأول ؟...
ج : ... أنا كنت أمين سر المؤتمر وكان معي د. عبد المنعم شريف ـ وأنا أذكر كذلك د. شاكر الفحام ، ولكن آخرون اعترضوا وقالوا : لا ، لم يكن أمين سر المؤتمر ... ـ بمعنى أن هناك من يقول بأن معاون أمين السر إثنان ...
بعد الخدمة العسكرية الإجبارية ، عملت في المحاماة ، وانتخبت في نقابة المحامين عضواً أصيلاً عام 1954 ، وكانت هذه انتخابات سياسية ضد عهد الشيشكلي . فوضعنا قائمة ضمن إطار التجمع الوطني القائم آنذاك. وكانت تضم تيارات من حزب البعث وحزب الشعب والحزب الوطني. ووضعنا قائمة واحدة ونجحت هذه القائمة المؤيدة والمعترف بها من الشرطة . ومارست النقابة أعمالها ضد عهد الشيشكلي في بيانات متعدّدة من أجل الحريات واستمرينا في هذا النشاط . وقد اعتقلنا في شباط 1954 ولم نخرج من السجن إلاّ بوقوع الانقلاب في ذلك الوقت ضد حكم الشيشكلي . وقد اعتقل ظافر القاسمي وأنا ورزق الله إنطاكي ، وكنا نحن أعضاء مجلس النقابة الثلاثة ، واحد من الحزب الوطني وواحد من حزب الشعب وأنا من حزب البعث . وكنت أنا أمين سر النقابة . وبعد ذلك ، في الدورة الثانية للنقابة ، انتخبت في " الصندوق التقاعدي " للمحامين . وفي الدورة التالية أيضاً ، كذلك عدت وانتخبت أمين سر نقابة المحامين ... وبعد ذلك ، انتسبت إلى القضاء ، وهذا الانتساب ، كان قد جاءني عرض بصدور مرسوم بتسميتي دون أن أتقدم بطلب . وكان ذلك في عهد الوحدة السورية المصرية . في ذلك الوقت ، شعرت أنه عليّ أن أبتعد عن العمل السياسي نظراً للتناقضات القائمة من جهة ما بين العهد الناصري وحزب البعث والتناقضات داخل الحزب من جهة أخرى . ولم أرد أن أنجرّ إلى مثل هذه التناقضات بمعنى أن سبب ابتعادي عن العمل السياسي هو هذه التناقضات الداخلية ... وعندما انتسبت إلى القضاء ، كنت برتبة مستشار واستلمت نائب عام للجمهورية ـ وأنتم تسمونه في لبنان نائب أو مدعي عام التمييزي ـ ثم نائب رئيس محكمة النقض ، وبعدها رئيس محكمة النقض ، من عام 1976 ـ 1983 ... وعندما وقع انقلاب 8 آذار 1963 ، بعد الانفصال ، لم أكن داخلاً في تنظيم الحزب آنذاك وكنت مبتعداً عن العمل السياسي . والحكومة التي تألفت بعد 8 آذار ، كانت مكوّنة من البعثيين والناصريين والمجموعات التي كانت ضد الانفصال . فأجمعوا على أن أكون أنا أمين عاصمة دمشق ، يعني محافظ مدينة دمشق . أنا تردّدت ، فلا أريد هذا المنصب . ولكن تحت الإلحاح ومراعاة للظروف فقبلت هذا المنصب ندباً وليس أصالة ، وذلك على أساس حتى يتفقوا على أمين عام للعاصمة آخر . وبعد سنة طلبت إلغاء عقدي ، وعدت إلى القضاء وباشرت أعمالي القضائية ... أما المناصب السياسية فقد اعتذرت مرات عديدة ...
س : ... يخيل إليّ أني لمحت اسمك وزيراً في إحدى الحكومات ، هل صحيح أم هذا خطأ مني ؟...
ج : ... أنا ، عندما وقعت الوقيعة بين عبد الناصر والأساتذة : ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار ومصطفى حمدون ، في اليوم ذاته تقريباً ، علمت أن هناك إمكانية في أن أدخل في الوزارة، إذ جاءني عبد الفتاح فؤاد وكان قائد الجيش الشعبي في سورية ، وهو مصريّ ، ولكن واقعه الفعلي هو رئيس المخابرات المصرية في سورية ، اتصل بي في ذلك اليوم وقال لي : إن الرئيس عبد الناصر ليس ضد البعثيين . ولكن ، زملاؤكم في مصر لم يتفقوا فيما بينهم حتى إنه وقع الخلاف بينهم وبين سيادة الرئيس . ولكن الرئيس عبد الناصر ليس ضد البعثيين ، وهو مستعد أن يتعاون مع كل البعثيين الموجودين في سورية ، ومَن تريدون أن ترشحوا إلى أن يحلّ محلهم ؟!... فقلت له : أنا ، اعتزلت العمل السياسي ( وبالتالي الحزبي ) وأنا الآن في القضاء . هذه هي إحدى المرّات (التي عُرض عليّ الدخول في الوزارة ). كذلك ، بعد 8 آذار 1963 ، منذ الوزارة الأولى ، أثناء قيامي بأمانة العاصمة دمشق ، حصل تبديل وزاري ، فاقترح عليّ الأستاذ صلاح الدين البيطار أن أدخل في الوزارة ، فاعتذرت . وكذلك ، عندما استلم يوسف زعيّن رئاسة الوزارة ( بعد 23 شباط 1966 ) كلفني أن أشترك في الوزارة ، فاعتذرت . وكذلك أيضاً د. عبد الرؤوف الكسم عندما شكل الوزارة وبتكليف من الرئيس ( حافظ الأسد ) كذلك اعتذرت ، وقلت بأنني أشغل وظيفة ذات طابع وأثر في الخدمة العامة تتعدى الوزارة ، فأفضل أن أبقى في رئاسة محكمة النقض ....
س : ... شكراً لك كثيراً على هذه المعلومات الشخصية المهمة ، الدراسية والسياسية والوظيفية الإدارية التي قدمت لنا فيها صورة عن إحدى الشخصيات القيادية في حزب البعث العربي الاشتراكي ... نعود الآن ، إذا سمحتم ، إلى ملاحظاتكم النقدية حول كتابي : حزب البعث العربي الاشتراكي .
ج : ... طبعاً ، ملاحظاتي سوف أسير فيها حسب تسلسل الكتاب ، وسوف تكون على هذا الشكل . هناك خطأ غير غامض وهو موضوع يتعلق بـ" عصبة العمل القومي "، في صفحة (12) إن الدكتور عبد الرزاق الدندشي لم يقتل اغتيالاً ، وإنما قتل بحادث ترامواي في دمشق ، أصيب في رأسه ، رحمة الله عليه ، كان له الأثر البارز في تأسيس وفي قيادة عصبة العمل القومي . وفي صفحة (29)، حول تكتُّم الأستاذ ميشال عفلق ولا يفصح عن رأيه وتقولون : " لا قدرة له على أخذ المبادرة بشأن مشكلة أساسية أو حسمها ، وترك الآخرين يتصرفون ويلوذ بالكتمان" : طبعاً هذا ليس رأيكم ، وإنما نقلاً عن بعض الأشخاص . لا ، أنا أقول إنه متسرِّع . يعني تطلب منه حديثاً ، يجيبك بسرعة . فليس لديه هذا الكتمان أو هذا التحفظ الزائد . بل العكس ، فإن ما ينقصه هو التحفّظ . ولكن ، عندما تتفاعل الأفكار ، يصيغها هو بأمانة ، لا يسكت عند إبداء الرأي في بادئ الأمر ، وقد يكون متعجلاً في إبداء هذا الرأي .
س : ... الأستاذ ميشال عفلق ، أليس متحفِّظاً ، أليس متأنياً في إبداء الرأي أو تقديم وجهة نظره ؟...
ج : ... هو دائماً متأنٍ ، ولكن ، في النقاش هو متسرِّع . هو يتكلم بهدوء ولكن في أمور قد تكون بحاجة إلى مزيد من الدراسة ، إلى التعمُّق فيها ، فأنْ تعطي رأيك فيها بشكل متعجِّل !!... (فهذا غير سليم) ولكن ، في الأخير ، فإنه يصيغ رأيه بالشكل الذي يراه من حيث النتيجة هو الأفضل . إنما ليس هو المتحفظ ، بل هو متأنٍ ويستمع للآخرين ، فلا يواجههم بالجواب بسرعة . ولكنه متسرع في إعطاء الرأي في الأحداث .
س : ... هل يمكن أن تعطيني مثلاً على ذلك ؟...
ج : ... يعني إذا حدث حادث سياسي ، أو موقف ، فكان الأستاذ عفلق يتعجب ويقول : لازم أن يُتّخذ فيه موقف وتخرج مظاهرات . والمظاهرات ليس من السهل إنزالها إلى الشارع ، فهي تحتاج إلى ترتيبات وتحضيرات حتى تكون ناجحة ، فيتراجع الأستاذ عفلق عن رأيه . مثلاً ، في الانتخابات، نقاطعها !!... المقاطعة تبعد عن اتصال الحزب بالجماهير ، الاتصال مع الجماهير أفضل ولو فشل الحزب فيها .... فهو يميل دوماً إلى موقف المعارضة من حيث هو موقف سلبي مبدئياً . ومجرد اتخذ هذا الموقف السلبي ، طبعاً تختلف وجهات النظر بينه وبين رفاقه في الحزب .
س : ... أستاذ ، أنا ما أقصده أن الأستاذ ميشال عفلق كتوم بمعنى أنه إذا كان يريد شيئاً ما (موقفاً سياسياً للحزب معيناً) أو يرسم مخططاً ، لا يبوح بكنه أفكاره حتى إلى المقربين إليه . هكذا قيل لي . بمعنى آخر ، إذا كان يريد شيئاً يكتمه في ذاته ، إلى أن تنضج الفكرة ، فيوعز بالتالي إلى المقربين ، إلى مريديه لأن يعبِّروا هم أنفسهم عن مكنونات نفسه . هذا ما أقصده بتعبير "الكتمان ".
ج : ... أنا لست من هذا الرأي ، وليس عند الأستاذ ميشال عفلق هذه القدرة التنظيمية . هذه قدرة تنظيمية قد تكون إيجابية ، ولكن ليس لديه هذه القدرة ، وإنما هو يبوح بأفكاره ... قد تكون فقط حالات خاصة شخصية متأثِّر فيها ، يكتمها ، يجوز ذلك ... أعطيك مثالاً على ذلك ، رسالته إلى حسني الزعيم ، هذا حدث كبير مرَّ بالحزب ، حدث كبير خضَّ الحزب . طبعاً ، الأستاذ عفلق لاقى ردود فعل قويّة من الحزب ومواقف الاستنكار : كيف يمكن أن يصدر هذا البيان (الرسالة) من عميد الحزب إلى حسني الزعيم ؟... وأنا شخصياً كنت من المستنكرين ، رغم صداقتي له في ذلك الوقت ، كنت مستنكراً . ولمّا عُقد مجلس أو مؤتمر الحزب من أجل البتّ في هذا الموضوع ، كنت مع الأشخاص الذين يروْن أن يتنحّى بعيداً عن القيادة ، بعد أن أُحرج وقوطع في هذا المركز . أما الأشخاص الآخرون ، حتى الذين كانوا متطرِّفين في الحزب ، فقد غفروا له هذه الخطيئة ، باعتبار أنه هو ، الأستاذ ميشال عفلق ، الأقدر على تمثيل آراء الحزب وأفكاره . الفريق الآخر ( منهم جلال السيد وصلاح الدين البيطار في المقدمة ) كان رأيه : لا ، (يجب إبعاده عن قيادة الحزب). وهم كانوا أقلية من حيث التصويت . وعندما حصل التصويت على هذه النقطة (حول موضوع إدانة عميد الحزب ميشال عفلق على رسالته إلى حسني الزعيم أم لا)، فقد كان رأي الأكثرية ترك هذا الموضوع جانباً (وعدم البحث فيه) وترك الأستاذ ميشال عفلق يباشر أعماله القيادية في الحزب كما هي ، وأن هذه الحادثة كان لها ظروفها التي أجبرته على إصدار هذه الرسالة . هنا ينبغي الإشارة ـ وأنا سمعت منه ذلك مباشرة ـ إلى أنه لم يمارَس على الأستاذ عفلق تعذيب أو ضرب ، أي أن الحادثة كما وقعت في السجن ، وإنما ضُرب الأستاذ صلاح الدين البيطار من قِبَل المشرف على حراسة السجن بالسوط وأدخل إلى الغرفة . ثم جاء رئيس الشرطة العسكرية إبراهيم الحسيني وتكلم مع ميشال عفلق ـ هذا نقلاً عمّا قاله لي ـ وقال له : إن حسني الزعيم غضبه صابّه على البعثيين وهو يريد أن يعتقلهم جميعاً ، وسيعمل على إهانتهم وتعذيبهم ، ومن الجائز أن يحاكمهم أو يُعْدمهم. فأنا أنصح أن توجِّه رسالة إلى الزعيم حسني الزعيم تتفق مع الاتجاهات المبكرة لمّا باشر الانقلاب ، على أساس أنه يريد أن يقوم بإصلاح سياسي، وتعطونه أمل في التعاون معه . وأعتقد ـ والكلام هنا لإبراهيم الحسيني ـ أن ذلك ينهي المشكلة ... هذه هي الظروف ـ كما يرويها الأستاذ عفلق ـ التي أحاطت بكتابة الرسالة إلى حسني الزعيم . فاستجاب عميد حزب البعث لهذا الرأي. فهل هو توهّم أو عدم استيعاب مثل هذه الحالات أو التعوُّد عليها ؟!.. ولكن من حيث النتيجة كتب هذا الرسالة ( المشؤومة بالنسبة إلى مؤسس حزب البعث ، والتي ستبقى لاحقته حتى نهاية حياته ). هذا الكلام سمعته من الأستاذ عفلق مباشرة .
س :... هل كتب هذه الرسالة هو شخصياً أم أُمليت عليه أم كتبها أحد غيره وهو وقّعها ؟.
ج " لا ، هو كتبها شخصياً دون أن تُملى عليه ، وإنما باتجاه (ما قاله له) إبراهيم الحسيني. يعني أن تودّد إلى حسني الزعيم وأعطاه أمل بالتعاون الإيجابي وأن البعثيين سيتعانونون مع العهد الجديد . فإبراهيم الحسيني أعطى عفلق أو قدّم له ( الأفكار ، المضمون ) الاتجاه العام ، وإنما لم تُملَ عليه ... وقد سمعت ـ أعود وأكرر ـ هذا الكلام من الأستاذ ميشال عفلق . كما أن مَن يدقِّق في هذه " الوثيقة " يراها أنها من إنشاء وكتابة الأستاذ ميشال (عفلق). فإذا كان الواحد متابعاً كتاباته، يجد أن الصياغة ليست هي بعيدة عن صياغته مطلقاً . وهذا نحن كنا سمعنا منه مباشرة بعد الحادث في الأيام الأولى ، عندما كان يشرح هذا الموضوع مع عدد من إخوانه في الحزب . هذا كان كلام الأستاذ ميشال عفلق . أعود وأكرر مرة أخرى : فهو لم يتعرض للضرب أو للتعذيب ، وإنما ضُرب الأستاذ صلاح الدين البيطار أمامه ... ومن ثمّ قال له إبراهيم الحسيني إن البعثيين سوف يتعرضون للعذاب والإهانة والملاحقات ، إلخ ... ومن ثمَّ طلب منه أن يرسل رسالة استعطاف إلى حسني الزعيم حتى ينهي الموضوع ويذكر فيها التعاون مع العهد ، إلخ ... فكتب هذه الرسالة بإنشائه وخطّه ...
س : .... رواية سامي الجندي مختلفة كلياً ...
ج : (مقاطعاً) ... سامي الجندي لم يكن في دمشق ، في الواقع . هو صديق ، ولكن ، كان يأتي إلى دمشق في فترات متباعدة . أما أنا فقد سمعت هذا الكلام من الأستاذ ميشال عفلق مباشرة .
س : ... إذن ، التردّد أو الكتمان ليستا صفتان من صفات الأستاذ ميشال عفلق ...
ج : ... لا ، لا يتَّصف بهما إطلاقاً ... إنما هو يتَّصف بالتأنّي ويجيب ببطؤ ... والحالات التي يكتب فيها هي قليلة ، وقد تكون هذه الحالة من حالات التأثّرات (التي ينفعل بها).
س : .... طيّب ، ما هي الصفات أو الجوانب التي كانت تجذبكم في شخصية ميشال عفلق ؟....
ج : ... والله ، ما في انجذاب شخصي ، ما في ... إنما هناك الأفكار . في الحقيقة ، أنا كنت بعيداً عن التكتلات داخل الحزب وضمن الحزب . لم أكن فيها ... ولكن عند الأستاذ ميشال عفلق قدرة فكرية متميِّزة ، بيد أنه لم ينسِّقها ولم يركِّزها في كتاب يمكن أن تعتبره يحتوي على "نظرية". فكانت أفكاره تصدر في " مسائل "، في منشورات ( في مقالات أو افتتاحيات في الجريدة). وأكثر نشرات الحزب إنما هي من صياغته . هذه هي طريقة إنتاجه ( الفكري أو النظري ). وكان هو يعترف أن أوقاته أو ظروفه (الحزبية) لم تعد تسمح له أن يركِّز على الكتابة ( أو أن يتوجه فقط إلى الكتابة )، ولكن الواقع ، هذا نقص كبير . في حين أن قدرته ( أو بالأحرى مقدرته ) على الكتابة قدرة فائقة ، وأسلوبه في التعبير ، وهذا ما كان يغذّي منشورات الحزب الداخلية وبياناته الجماهيرية مما كان يعطي صدى في الأوساط الشعبية . حتى الأستاذ صلاح الدين البيطار كان "ينقّ" دائماً ويدعوه إلى الكتابة ، وهو يعترف له بهذه القدرة الفائقة في الكتابة . والحقيقة أن الأستاذ عفلق له موهبة كتابية متميِّزة ، هذا واقع ... وأن ثقافته الفلسفية في السليقة مرتفعة ، ودراسته التاريخية (والتراثية بالنسبة إلى حيله) جيدة . لذلك ، فإن تحليله الاجتماعي إنما يكون أدقّ (وأوضح) بمعنى يكون أكثر علمية عادة ... وكما نلاحظ ، فإن مجموع كتاباته ونشراته تدلّ على ذهنية متميِّزة ، لا شك متميِّزة . لكن ، متابعة الأحداث السياسية وما يجب أن يكون لها من امتداد ونتائج ، فهذه كانت عنده ضعيفة ، بمعنى أن الأحداث وتتابعها تدفعه إلى أن يركِّز موقفه السياسي ، فليس لديه هذه المبادرة أو السرعة (في اتخاذ الموقف السياسي المناسب). هذا الجانب يختلف عن أنه يجيب بسرعة ( أي سريع الإجابة عن رأي طُرح عليه )...هذا ما أراه نقصاً كبيراً ( في جانب من جوانب شخصية الأستاذ عفلق )...
س : ... هل ينفعل بالأحداث السياسية أو يتفاعل معها ولا يسيطر عليها ، بل تسيطر هي عليه ؟...
ج :... يعني ، ينفعل بالأحداث ، أحياناً يقع هذا طبعاً . ففي المرحلة الزمنية قبل الوحدة بقليل وبعد الوحدة السورية ـ المصرية ، الأحداث هي التي كانت العامل الرئيس الذي يدفع (الجماهير الشعبية وتياراتها السياسية الوحدوية ). ولكن ، في المرحلة الأولى ، الجانب الفكري أو النظري والتوجيه )السياسي) الفكري كان هذا هو الطابع الذي يأخذ الاهتمام (بالنسبة إلى الحزب وإلى القيادة). بعد ذلك ، دخلنا في الصراع ، ولو لم يكن حزب البعث في السلطة ، وإنما دخل في صراع مع السلطة القائمة . قبل الوحدة بقليل ، أصبح الموضوع شيئاً آخر . فلذلك صارت الأمور تأخذ شكلاً آخر ...
س : ,,, هنا يُطرح سؤال حول الموضوع نفسه : الأستاذ ميشال عفلق مؤسس والأمين العام لحزب البعث العربي طوال الفترة الزمنية السابقة ، ما هي الصفات السلبية لقائد حزب سياسي وذلك من خلال تجربتكم الشخصية ؟!...
ج : ... الضعف البارز من الناحية السياسية أنه ليس لديه قدرة تنظيمية . القدرة التنظيمية ضعيفة عند الأستاذ ميشال عفلق . ولا يهتم بها إطلاقاً ، ولا عند أحد من القادة لديه فعلاً وحقيقة قدرة تنظيمية، لا ... وعند الأستاذ عفلق، كعميد للحزب ومؤسس ، القدرة التنظيمية ضعيفة جداً ، وأكاد أقول إنها شبه مفقودة . فهو يتركها للآخرين ، وكذلك ترجمة الأمور التنفيذية، مثلاً : النشرة كيف تصدر ، العمل السرّي ، إلخ ... هذه الأمور كأنه لا علاقة له بها مطلقاً . هذه ناحية ، والناحية الأخرى وهي أنه ، في الواقع ، الوقت الذي يخصِّصه للعمل محدود . وهذا ناتج عن أشياء مرضية ، وذلك بسبب " البواصير ". وقد كان يأتي إلى مقرّ الحزب متأخراً دائماً ، الساعة الحادية عشرة والنصف ، الثانية عشرة صباحاً ، وذلك بعد القيام بالترتيبات الصحية اللازمة ... فهذا يعطل وقته الصباحي ... فلذلك فإن الوقت المتخصِّص ـ على الرُّغم من أنه متفرِّغ حزبياً ـ للعمل الحزبي يبقى محدوداً ، بسبب تركيبته الصحية التي لا تسمح له بأن يعطي وقتاً طويلاً . فأنا كنت قد اطلعت على كل ذلك ، عندما دخلت إلى الحزب ، وبخاصة عندما أصبحت رئيس فرع الحزب في دمشق ... وكان الأستاذ صلاح الدين البيطار نفسه يتشكّى من هذا الوضع : يا أخي ، لماذا لم يأت (الأستاذ عفلق) حتى الآن ؟... (ضحك) متى سنجتمع ، حان وقت ذهابنا ؟!... (ضحك).
س : ... طيِّب ، بالمقارنة مع الأستاذ صلاح الدين البيطار ، ومن وجهة نظركم ؟...
ج : ... هو مثقّف الأستاذ البيطار ، ولكن الناحية الفلسفية والفكرية ليست (متوافرة لديه)، ربما فيما بعد أغناها بالمطالعة ... ولكنها لم تكن بعمق ما لدى الأستاذ ميشال عفلق ، ليس هو فقط وإنما أيضاً الآخرون جميعاً ، لا يتمتّعون بهذا العمق (الفكري القومي والفلسفي والتاريخي والتراثي). الأستاذ صلاح الدين البيطار ربما يكون قد نمّا هذا الجانب الفكري فيما بعد ، بعد أن تبوأ المناصب السياسية العديدة فأخذ يقرأ كثيراً . ولكن يبقى الأستاذ ميشال عفلق من الناحية الفكرية والفلسفية متقدماً ... الأستاذ صلاح الدين البيطار دؤوب على العمل وهذه ميِّزة ثانية ، دؤوب على العمل : فهو يتابع ... هناك صفاء في الذهنية . وبالنسبة إلى الأحداث ، فأنه متحفِّز أكثر من الأستاذ ميشال عفلق ، وخلافاً له في اتخاذ الموقف ومتحفِّز أكثر منه . (عندما تُطرح قضية من القضايا ، عفلق يقترح تأجيل بحثها إلى وقت آخر ، وضعها جانباً حتى تختمر الأمور أكثر ، بهذا المعنى) يعني يريد الأستاذ عفلق أن يعطى الأمور شيئاً من الروَّية والدراسة ، وهذه صفة جيدة في مواجهة الأحداث السياسية ...
وهناك نقطة ، لقد قلتم في الدراسة إن جلال السيد محامٍ ، لا ، هو ليس محامياً ، وإنما دراسته على طريقة المدرسة القديمة .....
* وفي صفحة (48) لقد قلتم إن فشل الأستاذ ميشال في انتخابات 1947 : " إن الحركة لعبت دوراً قيادياً ... ولكنها لم تكن قد نفذت إلى الطبقات الشعبية في المدن والريف . وخير دليل على ذلك الفشل الذريع الذي مني به مؤسساها عفلق والبيطار في الانتخابات التشريعية عام 1947". والواقع أن انتخابات عام 1947 ، نال الحزب أصواتاً لم يكن يحلم بها . ولكن عمليات التجميع ، لم يكن هناك إمكانية في أن ينجحا وهما إثنان . فانسحب صلاح الدين البيطار لصالح الأستاذ ميشال عفلق . فدخل الانتخابات وجرى فرز الأصوات . وأحد الوزراء في تلك الوزارة سعيد الغزّي والذي أصبح فيما بعد رئيساً للوزارة ، أرسل للأستاذ عفلق برقيّة يهنئه بنجاحه في الانتخابات ليلاً ، وكان ذلك مع فرز الأصوات وقبل ظهور النتيجة . فظهر أن ميشال عفلق ناجح على خصمه واسمه كحّالة ، صاحب مجلة " المضحك المبكي " وهو مرشح الحزب الوطني ويتنازعان على المقعد المسيحي ... عندئذ حصل التزوير وكان واضحاً تماماً ، بعد أن نزل الجيش إلى الساحة ، وأحمد الشرباتي كان هو وزير الدفاع ... فأخذوا يلعبون بصناديق الاقتراع وبجداول كل صندوق اقتراع ، ومن ثمَّ ظهرت النتيجة .
على العكس ، في تلك الفترة ، كان حزب البعث يلقى تجاوباً كبيراً من طبقات الشعب في دمشق . طبعاً ، لم يكن للحزب تنظيم متغلغل في طبقات الشعب في دمشق ـ وهذا أمر أكيد . لكن نتيجة المواقف السابقة ومعارضة الحكم القائم وإظهار مفاسده والكتابات التي كان ينشرها حزب البعث ، تمكن الحزب من أن ينال أصواتاً كبيرة في دمشق . فأنا أنسب ذلك إلى أمرَين : أولاً نشاط الحزب في هذه الفترة بالذات ، وثانياً فإن أعداداً كبيرة من المنتسبين إلى الحزب ، كان لهم تأثيرهم في أحيائهم في مدينة دمشق . فهؤلاء ولو عائلاتهم كانت ماشية مع الكتلة الوطنية ، مع صبري العسلي أو شكري القوتلي ، إلاّ أنهم هم أنفسهم لهم احترامهم في أوساطهم وفي أحيائهم . فكان الناس يعطونهم أصواتهم لمصلحة مرشحهم . (وهنا يعطي بعض الأمثلة الحسيّة بأسماء العائلات والأشخاص الحزبيين تأييداً لما يقول ...) داخل الحزب ، أفراد من عائلة حبّاب ، عائلة شموطي ، وعائلات أخرى كثيرة ... فلذلك كان لهذا الواقع الاجتماعي العائلي أثره .
والواقع أن ما نسميه الوضع العائلي كان له أثر في أن يكون للبعثيين نفوذ في كل سورية. مثلاً إبراهيم باخوس (وزير خارجية سوريا بعد 23 شباط 1966)، أبوه شيخ عشيرة في منطقة اللاذقية ، وابنه بعثي ، فيجب تأييده ، وهو يلاقي الاحترام بصفته العائلية وبالتالي الحزبية . وكذلك د. وهيب الغنم وأيضاً محمد الحسن من منطقة أخرى من محافظة اللاذقية ، وآل حرفوش كذلك ... فهؤلاء جميعاً ينتسبون إلى عائلات . وكما نعلم ، فإن الوضع ، إنما هو وضع عائلي (عشائري) وليس وضع طبقي . فهذا الوضع له أثره (السياسي)، واستطاع البعثيون أن يحموا أنفسهم بعائلاتهم وليس بالسلطة القائمة. مثلاً ، جلال السيد من هذا النوع ، جو السلطة كان ضده بالنسبة إلى تركيبة الحكومة وتكوينها . ولكن كان له وضع محترم بالنسبة إلى عشيرته ... فكان يُترك دون أن يشدّدوا عليه ، بهذا المعنى ...
فكان هذا كله يعطي قوة للحزب... لذلك لا نستطيع أن نقول إن ميشال عفلق فشل في الانتخابات عام 1947. فلم يكن فشلاً، بل بالعكس من ذلك ، كان نصراً كبيراً ، وإن سقط رسمياً ولكنه كان للحزب نجاح كبير ، لأن الواقع هو أن الحزب قد تحرك وأتى من كلّ الجهات في سورية والبعثيون دخلوا ووقفوا أمام الصناديق في دمشق والغوطة ، فجمع أصواتاً لم نكن نحلم بها وبجمعها.
جاء في صفحة (48)، أن المؤتمر التأسيسي كان مفتوحاً لكل عضو في الحزب . الواقع : لا ، كان هناك اختيار للأعضاء من أجل الحضور . فكنا عدداً محدوداً ، فليس كل الحزبيين حضروا . كان هناك اختيار مجموعات حزبية من مناطق مختلفة : مجموعة من اللاذقية ، مجموعة من حلب ، مجموعة من دمشق ، المجموعة التي كانت أكثر اندفاعاً للعمل الحزبي دعيت للحضور والمشاركة في أعمال المؤتمر ، وليس كل الحزبيين دون استثناء ـ كما جاء في الكتاب . فأنا كنت في اللجنة التحضيرية . فلم يكن الحزب عبارة عن مائتين عضو حزبي في كل سورية . القاعدة الحزبية البعثية كانت أكثر من ذلك بكثير . في دمشق نفسها كان الحزب يضم أكثر من مائتي عضو حزبي ، في دمشق لوحدها، إنما الذين حضروا المؤتمر من دمشق ثلاثون أو أربعون عضواً حزبياً، ولم يحضر الحزبيون كلهم .
هذه ناحية أنا أكيد منها ، ولا تحتمل الجدل . أما عدد حضور المؤتمر التأسيسي الأول ، فحوالي مائتي (200) عضو . ومحاضر الجلسات كانت موجودة عندي باعتباري أمين سرّ . ولكن في عهد الشيشكلي ، كانت المداهمات والاعتقالات . وأنا كنت معرضاً للاعتقال باعتباري كنت واجهة في نقابة المحامين ونعمل على إرسال البرقيات ضد حكم الشيشكلي ، فكنت معرضاً للاعتقال ، فوضعت محاضر جلسات المؤتمر عند الأخ جلال فاروق الشريف. وبعد سقوط عهد الشيشكلي ، سألته عنها، فقال لي بأنه لم يجدها . وهذا ما كان . وهذه المحاضر تحتوي على جميع الكلمات التي قيلت وكلام كل عضو في المؤتمر .
س : هنا سؤال يُطرح وأودُّ توضيحه ، إذا سمحت ،
ج : (مقاطعاً)... لم يُطرح على المؤتمر ـ كما جاء في الكتاب ـ وثيقتان : واحدة مقدمة من الأستاذ ميشال عفلق أو من الأستاذ صلاح الدين البيطار وأخرى مقدمة من آخرين ... لا ، كان هناك وثيقة واحدة مقدَّمة من اللجنة التحضيرية التي كان يتفرَّع عنها عدد من اللجان الاختصاصية ، فهي التي قدَّمت هذه الوثائق إلى المؤتمر لمناقشتها ، وبخاصة القسم الاقتصادي والاشتراكي الذي لم يطرأ عليه أيِّ تعديل أو تغيير ولا حرف واحد . ولم يكن معنا في اللجنة وهيب الغانم الذي كان أثناء ذلك عند التحضير للمؤتمر في اللاذقية .
س : ... وهيب الغانم يصرّ على أن الجانب الاقتصادي والاشتراكي هو الذي كتبه ...
ج : ... أنا أقول لك ما حصل فعلاً في المؤتمر وما قدمته اللجنة التحضير وخصوصاً ما له علاقة بالجانب الاقتصادي والاشتراكي . ولكن ، يجوز في المرحلة السابقة ، قبلنا ، قبل سنة من انعقاد المؤتمر ، يجوز أنه أجرى نقاشاً مع الأساتذة : عفلق والبيطار وكتب بعض المبادئ لحزب البعث العربي ، وكانت توزع وذلك قبل إقرارنا وثائق المؤتمر ، على مَن يريد الاطلاع على مبادئ وأفكار الحزب ، يجوز أن يكون قد كتب شيئاً في ذلك .
س : ... أنتم كلجنة اقتصادية ، من أين كنتم قد استوحيتم المبادئ الاقتصادية والاشتراكية الواردة في دستور الحزب ؟...
ج : ... مما كان مكتوباً لدى الحزب . وأنا أقول بأنني اطلعت على الدستور للاتحاد السوفياتي ، ودرسته وأخذت منه الأشياء التي يمكن ( أن تناسبنا ) حتى إنه قد تجد بعض الفقرات مطابقة لما هو موجود في الدستور ـ طبعاً بعض الفقرات ، وفقرات أخرى مستبعدة ـ مطابقة تماماً بنصها لما جاء في الدستور السوفياتي ، بمعنى أكثر تحديداً ، عندما تأخذ القسم الاقتصادي في الدستور السوفياتي ، فإنك تجد بعض الفقرات تقريباً متطابقة مع بعض التعديل وقسم آخر منها مأخوذ نصاً ، ولكن ليس بفلسفتها . والمصادر الأخرى تأتي من قراءاتي العامة (ينبغي الإشارة أيضاً في هذا المجال إلى أن عبد الرحمن المارديني خريج كلية الحقوق ، فهو لا بد إذن من أنه قد درس الاقتصاد السياسي والتنظيمات السياسية ، إلخ ...). وكما قلت سابقاً بأن الشيوعيين يتصدّونني بنشراتهم وبياناتهم ، حتى إن الأستاذ الموصلّلي أهداني الكتاب بعنوان " المادية التاريخية ". ولكن النظرية الشيوعية ، أنا أخذت منها موضوع العدالة الاجتماعية . طبعاً ، هناك دراسات اقتصادية لكارل ماركس ، فلا خلاف عليها . وإنما في ما يتعلق ببقية الأمور الماركسية ، فأنا لم أهتم أو لم أغص فيها : مثلاً الناحية الأممية ( أو ربما القضايا الدينية ) لا ، لأنني أرى أن البلاد العربية لها أوضاع خاصة وأن سياستها تتقرّر من الداخل ( وبحسب مصلحتها ) ويقررها الشعب ، إلخ ... حتى الأشياء أو المواد الاقتصادية التي جاءت في الدستور لا تطبق في دولة صغيرة ، وإنما كتبت للمستقبل وللمدى البعيد ، لا أقول صمن وحدة عربية كاملة ، ولكن ضمن مجموعة عربية كبيرة يمكن أن تطبق هذه المواد الاقتصادية أو النظام الاشتراكي . أما في دولة صغيرة ، فلا يصح ذلك، فالسلبيات في تطبيقها كبيرة . النتائج : تأميم مصنع ، إذا لم يكن لديه توزيع واسع وسوق وحدوية كبيرة ، فسوف يخسر هذا المصنع . وهذه هي أمامنا التجربة العالمية ...
س : ... د. عبد المنعم شريف ، ماذا كان دوره في الحزب آنذاك ؟...
ج : ... توفي سريعاً رحمه الله ، بسبب مرض أصابه ، وهو من قرية " جباب " في شمال حلب . لم يعش طويلاً . كان نشيطاً وفعالاً ومن أنشط الأعضاء الذين كانوا في العمل الحزبي . وقد اُنتخبنا هو وأنا في أول قيادة التي انبثقت عن المؤتمر الأول : ميشال عفلق ، صلاح الدين البيطار ، جلال السيد ، وهيب الغانم ، عبد الرحمن المارديني ، عبد المنعم شريف ، مدحت البيطار ... هذه الأسماء تأتي على هذا الشكل حسب تسلسل الأصوات ... وقد استمريت في اللجنة التنفيذية أو في قيادة الحزب في سورية ، على فترات متعدِّدة . في عهد حسني الزعيم ، كنا نحن اللجنة التنفيذية. ثم جاء عهد الحناوي، بعدها عُقد مؤتمر في هذا العهد على اعتبار عادت الحياة الديمقراطية. فلم أرشِّح نفسي لعضوية القيادة ، كنت رئيس فرع الحزب في دمشق . بعد ذلك ، أعيد انتخابي مرة ثانية في قيادة الحزب في سورية أثناء التنظيم السرّي ، هنا مرحلة من المراحل المتداخلة مع بعضها البعض، قبل توحيد الحزبيين وبعد توحيد الحزبيين ...
س : ... كنت أريد أن أطرح سؤالاً وهو فعلاً سؤال مهمّ في رأيي ويطرحه جلال السيد ، ملخصه هو التالي : حزب البعث العربي منذ النشوء كان عبارة عن حزب يضم الأقليات الدينية والطائفية ، فالحزبيون البعثيون الذين كانوا ينتمون إلى الأقليات المذهبية الدينية والطائفية ، هم الأكثرية الطاغية في الحزب ، هل توافقون على هذا الرأي ؟!...
ج : ... أنا لا أوافق على هذا الرأي مطلقاً . مثال على ذلك : الحزب في دمشق ، لم يكن له أي طابع طائفي . المنتسبون إلى الحزب هم كافة الطوائف وبالنسبة نفسها الموجودة فيها تقريباً . فليس هناك نسبة من طائفة معينة هي أقلية ( في دمشق ) هي أكثرية في الحزب، لا !... طائفة على سبيل المثال تمثل عُشر عدد السكان ، فهم لا يعادلون هذا العُشر في الحزب . والشيء نفسه في دير الزور، في حلب ، في حماه، في حمص. قد تأتي منطقة معينة، منطقة اللاذقية مثلاً، وبحسب النشاط كان يوجد في الحزب من كل الفئات الطائفية ومن كل المذاهب : من المسيحيين ، من السنّة ، من العلويين . قد يكون وجود نشيطين من فئة معينة ، سببت كثرة من هذه الفئة ، ولكن ليس على أساس طائفي . بمعنى أن هذه النظرة الطائفية لم يكن لها أي وجود في الحزب في مراحله الأولى ، وأشدّد على ذلك حتى الوحدة مع مصر . فأنا لم ألحظ أي شعور طائفي أو مذهبي في الحزب ... بل العكس من ذلك ، كان يسود جو من المحبة وهي موجودة بين كل الفئات الحزبية . وهذا الذي بات يسمى " الصراع الطائفي "، فهو غير موجود وبأي شكل من الأشكال . مثلاً مرة أنا ذهبت إلى اللاذقية ، فوجدت صورتي معلقة في منزل عند أحد الأخوان وأنا لا أعرفه فقلت له : لماذا هذه الصورة ؟... قال : أنت كنت مرشحاً للانتخابات أنت والأستاذ رياض المالكي : فوضع صورتي وصورة رياض المالكي في بيته ، مزيّن بها بيته ... دليل محبة ووئام وعدم وجود أي جو طائفي ... وعندما كنا نذهب إلى اللاذقية ، يقيمون لنا الحفلات والاستقبالات ...
س :... لا ، لا ، ليس هذا هو المقصود أن ثمة صراعاً مذهبياً داخل حزب البعث . لا ، لا ... إنما المقصود هو أن حزب البعث كان يضم من الأعضاء البعثيين بين صفوفه الأكثرية من الأقليات المذهبية : إسماعليون ، علويون ، دروز ، مسيحيون ، إلخ ... لا يقول جلال السيد في كتابه : حزب البعث ، إنه كان هناك صراع مذهبي أو طائفي داخل الحزب ، وإنما يقول ويؤكد أن حزب البعث منذ البداية كان حزب الأقليات الطائفية والمذهبية في سورية .
ج : ... هذا أيضاً غير صحيح ، هذا غير صحيح ... ولا بشكل من الأشكال ...
وهنا نأتي إلى موضوع النظام الجمهوري ومناقشته في المؤتمر التأسيس الأول ، هل من الأهمية أو الفائدة أن نتحدث فيه أو نشير إليه في دستور الحزب ؟!... والواقع أن النظام الجمهوري وغير النظام الجمهوري ، كانت نقطة نقاش حسّاسة ، سواءً كان ذلك في اللجنة التحضيرية التي أعدّت وثيقة المؤتمر أم داخل المؤتمر كان البحث معروضاً ، ولكن الترجيح سواءٌ في اللجنة التحضيرية أو في المؤتمر بالذات حتى يوافق على رأي اللجنة التحضيرية، أنه عدم ذكر النظام الجمهوري ، وإن كنا نحن (كبعثيين) نعمل من أجل النظام الجمهوري . هذا هو الاتجاه العام . وقد ووفق تقريباً على ذلك بشبه إجماع . لقد كان النظام الجمهوري معتمداً من الحزب، ولكن وإنما وُجد من الأنسب ومن المصلحة ومن مصلحة العمل الحزبي والعربي أن لا يُشار في ذلك الوقت إلى النظ