د. دندشلي -حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال التجربة الشخصية- بشارة مرهج(1)
مقابلة مع
الأستاذ بشارة مرهج
الوزير والنائب وأمين سر القيادة القُطرية لحزب البعث في لبنان سابقاً
التاريـخ: صباح يوم الثلاثاء الواقع فيه 2 تشرين الثاني 2010
الموضوع: حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال التجربة الشخصية.
أجـرى المقابلـة،
التسجيل والتحرير: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي:.. أودّ بادئ ذي بَدء، لو تحدثني عن تجربتك الحزبية في حزب البعث العربي الاشتراكي من حيث البدايات الأولى ومتى كان الانتساب والظروف التي رافقت ذلك؟!.. ولماذا وقع الاختيار على حزب البعث ولم تختر غيره من الأحزاب السياسي؟!..
الأستاذ بشارة مرهج:.. عندما التحقت بـ :الانترناشيونال كولدج (I.C)، المتاخمة للجامعة الأميركية في بيروت، كان الوسط الطلابي مهتماً بالحياة السياسية والنشاطات العقائدية عام 1962. وجدت نفسي وسط نقاشات حيويَّة، لها علاقة بالعقائد السياسية ومتعلقة بالأحداث ومواقف الأحزاب السياسية تجاهها، خصوصاً أن الانفصال في تلك المرحلة هو الموضوع الأساسي المطروح.
ومن حسن حظي أنه كان لي أصدقاء، ومنهم الأستاذ منصور حريق الذي عرَّفني إلى الأستاذ معن بشّور. ومنصور حريق ـ هو الآن في الولايات المتحدة ـ كان شاباً عروبياً يُحب عبدالناصر كثيراً وباندفاع كبير ولا يخضع لأيِّ تأثير للأجواء المعادية التي كانت سائدة في ضهور الشوير، مُناخٍ إما انعزالي وإما مُناخ الحزب السوري القومي الاجتماعي. فكان متفرِّداً في هذا الاتجاه هو ورفاقه: وليد سماحة وغيره، فهذان الرفيقان فتحا أمامي مجال النشاط العروبي والعمل الناصري والتأثير القومي العربي.
أنا من الناحية النفسية، قد كنت في هذا الاتجاه نفسه، ولم أجد في نفسي ميلاً إطلاقاً للتفكير المسيحي التقليدي ولا للمنهجية القومية التي كان يتبعها الحزب السوري القومي. لهذا، فقد لاقى هذا الطرح العروبي هوىً في نفسي وأنا كنت أحب كثيراً اللغة العربية والأدب العربي والتاريخ العربي. وكنت متأثراً بالشعر العربي والقصص العربية، كل ذلك من خلال والدي الذي كان يحب هو الشعر العربي القديم ويردِّده ويتلوه دائماً بوجودنا. وهذا أيضاً كان له تأثير كبير في تكويني الشخصي الثقافي والفكري.
ومن جهة أخرى، فقد كان والد أحد أصحابي: نجيب عيد، يتحدث عن قصص البدو والصحراء. فتلاقى ذلك أيضاً مع مزاجي وهوايَ وهو هوىً عربي. فلم أشعر قط أنني أنتمي إلى بيئة ضيِّقة، انعزالية، فأنا جزء من العالم العربي وأنتمي إليه. إذن، حُب الأدب العربي والشعر العربي كان لهما تأثير في تكويني الثقافي. وهنا لعب والدي دوراً مؤثراً في هذا الاتجاه وجارنا، والد صديقي الذي كان دائماً يقصص قصصاً جميلة جداً: إما في الشعر العربي وإما في التراث العربي وإما في أيام العرب، إلخ.. مما حبَّبني ذلك كله باللغة العربية وبالأدب العربي والمدى العربي الواسع.
هذه المرحلة في ضهور الشوير، قبل دخولي الجامعة الأميركية. فأنا من مواليد عام 1946 في بيروت ولكن ضهور الشوير هي مسقط الرأس. وعندما التحقت بالأنترناشيونال كولدج (I.C. ) والتقيت بهذا الجوّ نفسه مرة أخرى، فكان من الطبيعي أن أنشدَّ إليه. والحزب السوري القومي الاجتماعي كان ملاحقاً في تلك المرحلة، فكان لدينا نوع من العطف، من الناحية الإنسانية والاجتماعية، على القوميين السوريين الذي كانوا مظلومين وهم في السجون. ولكن من الناحية الفكرية كان الأمر محسوماً بالنسبة لي بالاتجاه العربي. إنما السؤال: أي اتجاه عربي؟!.. هل الاتجاه العربي الذي يمثله حزب البعث، أو حركة القوميين العرب أو الاتجاهات العروبية الأخرى، الناصرية وغيرها؟!.. وكان التيار الناصري في تلك الفترة في أوجِه.
صادف أن المجموعة التي تعرَّفت عليها من خلال منصور حريق، كانت عناصرها كذلك في فترة التفتيش. ومعن بشّور بالكاد كان آنذاك حاسمَ الموقف باتجاه حزب البعث. وكان يسبقني بسنة دراسية واحدة في الجامعة. وبعدما تعرَّفت إلى معن، ومن خلاله تعرَّفت إلى مجموعة أخرى: رغيد الصلح، منح الصلح، عماد شبارو، محمد صبَّاغ، نقولا الفرزلي، فواز طرابلسي (1962ـ1963 وعصام نعمان قد ترك البعث)، حسن الشريف، جهاد كرم. ومن ثمَّ أخذنا نتعرف إلى البعثيين القدامى ومجموعات من الشباب العربي: السوريين، العراقيين، السعوديين الذين كانوا أيضاً في أجواء حزب البعث.
فكنا في البداية نحضر النَّدوات في النادي الثقافي العربي وندوات في نادي العُرْوة الوثقى. النادي الثقافي العربي ـ ذو اتجاه قومي عربي، ونادي العُرْوة الوثقى اتجاه بعثي في تلك الفترة ـ 1962ـ 1963. فلم يكن لدينا أيُّ إشكال في أن نحضر ندواتهما، لهذا الاتجاه أو ذاك، فكلهم ينتمون إلى الاتجاه القومي العربي، هناك قوميون عرب وناصريون، وهنا بعثيون.
وطوال تلك الفترة كان قد بدأ الخلاف أو بالأحرى السجال السياسي والفكري يدبُّ بين الناصرية والبعث. وتولى هذا الأمر من جهة، شباب من القوميين العرب والناصريين، ومن جهة أخرى البعثيون. وكان يحصل مناظرات ويُعقد اجتماعات سجالية حول قضايا أبرزها: الانفصال ومسؤولية عبد الناصر أو مسؤولية حزب البعث، ومن الذي تسبَّب بالانفصال ومَن هو الأحرص على الوحدة العربية، والموقف من الوحدة العربية؟!...
فنحن كنا نشعر في داخلنا بانتمائنا إلى التيار العروبي ـ أي البيئة التي كنتُ أنا في وسطها، وهي تضم معن بشور ومنصور حريق وبشارة مرهج ورغيد الصلح وعماد شبارو، كنا نلتقي دائماً بمنح الصلح ـ وكان جوّنا يكن الإعجاب والمحبة لعبد الناصر، وفي الوقت نفسه نقده أنه لم يحافظ على الوحدة (المؤتمن عليها). وكان أحد شروطه لقيام الوحدة بين القطرَيْن العربيَّيْن هو إلغاء الأحزاب في القطر السوري. فهذه قد كانت النقطة الأساسية كشباب متعلّم راغب في الديمقراطية والتقدم ونهضة المجتمع، إنّ عدم وجود أداة تغيير، مستحيل أن يحصل التغيير، ولا يمكن أن يحصل من خلال شخص، ولا من خلال الدولة، بل يجب أن يكون هناك أداة ثورية للتغيير.
هذه هي النقطة المحورية في تفكيرنا. لذلك في هذه الناحية انتقدنا عبد الناصر في هذا الموضوع. ومن الجهة الأخرى، انتقدنا الفريق الآخر من البعثيين الذين أيدوا الانفصال، وكان نقدنا مراً وقاسياً تجاههم، واعتبرنا أن تضحية الحزب في المرحلة الأولى قد كانت في محلها. وقد كانت على أساس أنه سوف ينشأ تنظيم آخر يحل محله ووقتها كان "الاتحاد القومي". ولكن تأييد الانفصال اعتبرناها جريمة لا تُغتفر. فكل بعثي أو قومي عربي أو ناصري أيّد الانفصال، كنا قد اعتبرناه أنه خرج عن التيار أو الفكر القومي السليم. بمعنى آخر، فقد كانت الوحدة هي مقياسنا الوحيد، هي محور تفكيرنا، هي منطلق عملنا، هي المعيار الأساسي للحكم على الآخر.
من هنا، لم نكن مقتنعين بالمنهجية الناصرية التي اتبعت حيال الوحدة العربية والوحدة بالذات مع سوريا. لأننا قد اعتبرنا أن الأجهزة المخابراتية هي التي تحكَّمت بقيام الوحدة وألغت التنظيمات الشعبية. فكان طبيعياً أن يحدث هذا الفراغ وبالتالي أن تنقضَّ الرجعية على الوحدة، هذه الوحدة التي لم نحمها كما يجب. هنا كنا قد حمَّلنا المسؤولية إلى عبد الناصر وإلى البعث على حد سواء. الفريقان لم يحميا الوحدة فقد كان من الواجب أن تُحمى الوحدة بكل الوسائل المتاحة.
س:... لم يكن موجوداً، وليس له من وجود تنظيمي، حزب البعث في سوريا. فقد كان مشتتاً وأعضاؤه وكادراته مبعثرون هنا وهناك. فكيف له أن يحمي هذه الوحدة القائمة على أساس الأجهزة المخابراتية؟!..
ج:... حزب البعث كان محلولاً طبعاً، ولكنه يمكن أن يحميها من الناحية السياسية والإعلامية والشعبية وتنظيم المظاهرات (لا أن يقف متفرجاً عمَّا كان يحصل في الساحة السورية قبيل أو أثناء الأيام الأولى من الانفصال). كذلك القوى الرجعية السورية بكل تياراتها وفصائلها لم تكن منظمة هي الأخرى، ولكنها استطاعت أن تكوِّن دعامة لحركة الانفصال وأن تقوم بهذا العمل الكبير ضد دولة الوحدة التي هي كانت الأمنية الأولى للشعب العربي وتجسّدت بدولة قامت بالدرجة الأولى عَبْر التعاون بين عبدالناصر وحزب البعث ومع باقي القوى القومية في سوريا.
ولكن حزب البعث كان له الدور الأكبر في تحوُّل الجماهير في سوريا إلى الوَحدة وقبول الوَحدة مع عبدالناصر، ولا سيما أنه كان هناك تياران قويان في سوريا معارضان للوحدة ومعاديان لها : الحزب الشيوعي السوري الذي كان رافضاً للوَحدة (بالشكل الذي تمت فيه على الأقل ظاهرياً)، والدليل على أن النائب الشيوعي الوحيد خالد بكداش هو الذي صوَّت ضد قيام الوحدة بين سورية ومصر. فكان الشيوعيون يعبئون الجماهير ضد الوحدة وضد ما كان يسمونه الدكتاتورية الناصرية. والتيار الآخر هو تيار الأخوان المسلمين في سوريا، والذي كان قوياً أيضاً في دمشق وفي حلب وفي باقي المدن السورية الكبرى. وكان له نواب(؟؟) في البرلمان وحضور جماهيري وثقافي وسياسي وديني وشعبي.
مع كل ذلك استطاع حزب البعث ومعه التيار القومي العربي، استطاعوا جميعاً أن يوجدوا هذه الحالة الشعبية الهائلة التي أدَّت إلى قيام الوحدة وقبلوا بكل التضحيات من أجل إنشاء دولة الوحدة. ومع ذلك، انهارت هذه الدولة وانعكس علينا، نحن، هذه المجموعة ومجموعات الطلبة القوميين في الجامعة، سواءً كانوا ناصريين أو قوميين عرب أو بعثيين. فقد كان بالنسبة إلينا موضوع الوَحدة هو الموضوع الأثير والأساس والمركزي والمحوري في تفكيرنا. ومنه تشعَّبت كل النقاشات واتخاذ المواقف.
س:... هنا، إذا سمحت لي أستاذ بشارة، يُطرح سؤال حول المجموعة التي تحدّثت عنها وعن موقفها الوحدوي، هذه المجموعة الطلابية، من أيِّ جذور هي: أي الأوساط الاجتماعية أو المناطقية، هل هي من انتماءات اجتماعية برجوازية، وهل هي من بيروت تحديداً؟!..
ج:... لقد كان يعجبني هذا التنوُّع المناطقي، فقد كان الطلاب من مختلف المناطق مثلاً: معن بشور من رأس بيروت، وكان والده نائباً في البرلمان السوري، ومنصور حريق كذلك من رأس بيروت. وهم، مجموعات الطلبة بصورة عامة، ينتمون إلى عائلات يمكن تسميتها بـ "البرجوازية الصغيرة"، عائلات مثقّفة، تحبُّ العلم والانفتاح على التيارات الفكرية الأخرى. إنما قِلَّة، ينتمون إلى العائلات البرجوازية المثقفة. رغيد الصلح ولكن عماد شبارو من بيروت، فواز طرابلسي من مشغرة، جهاد كرم من الشمال، حامات قضاء البترون، منح الصلح من بيروت ـ كنا نلتقي معه دائماً. يضاف إلى هؤلاء الطلاب العرب وهم بين "الآي سي" (I.C) والجامعة الأميركية وهما المتجاورتان، والحلقات مشتركة، والتفاعل مشترك، والنَّدوات والسجالات والمناظرات كذلك مشتركة سواءٌ داخل غرف الطلاب أو خارجها.
فكانت الحلقات المشتركة بين الطلاب من هنا ومن هناك. فمن ناحية الأصول الطبقية برجوازية صغيرة مثقفة، باستثناء رغيد الصلح، ابن كاظم الصلح ومن عائلة سياسية ـ ثقافية، وكونه اختار التيار العروبي وحزب البعث، ترك أثراً حسناً في تفكيرنا ونفوسنا. بمعنى أنه شاب ذو ثقافة عالية وكان يستطيع أن يخوض الحالة السياسية من موقع تقليدي، إلا أنه اختار المدخل النضالي القومي، تركت هذه الحالة أثراً جيداً لدينا .
كذلك محمد صباغ والده كاتب وناشر وعماد شبارو والده موظف، ووالدي كان عنده أوتيل ومقهى في ضهور الشوير وفي بيروت، وله ما يسمى "المجلس"، بمعنى المنفتح للناس. والمدرسة التي كنت فيها في ضهور الشوير، فيها أيضاً طلاب عرب، كمدرسة برُمانا ومدرسة سوق الغرب. هذه المدارس تأسست عندما تأسست الجامعة الأميركية في بيروت عام 1866 من قِبَل الإرساليات الأجنبية، فكانوا يهتمون بالعلم ونشر الثقافة. وبالنسبة إلينا، كنا قد دخلنا إلى مدرسة متطورة جداً، وهي مدرسة جذورها أميركية، ولكنها أصبحت مدرسة أهلية، وهي مدرسة الشوير الثانوية وكانت تضم طلاباً من العراق، من فلسطين. وأنا من جهتي كنت أساعد والدي في عمله في المقهى والأوتيل، فكنت في مجتمع منفتح.
والحقيقة العربية موجودة في حياتنا. فلم نكن معزولين في قرية، بل كنا نعيش في العالم العربي الذي هو عالمنا. وهذا شيء طبيعي. ومن حيث الجذور الطبقية، يمكننا أن نسمّي هذه المجموعة الطلابية أنها، كما قلت، أنها من البرجوازية الصغيرة المثقفة وتهتم بالثقافة وتعتبر العلم هو الأساس في تقدُّم الإنسان. وبالنسبة إلى هذه العائلات فإنّ الولد يجب عليه أن يتعلم، ولو أدّى ذلك إلى بيع قطعة الأرض، والالتحاق بالجامعة. هذا هو الهوس أو التَّوجه العائلي العام. هذا هو الجو العام، وكذلك اللقاءات التي كانت تتمُّ بين الطلاب في .I.C والجامعة الأميركية.
س:... لقد لاحظتُ في هذا المجال أنّ هناك مجموعات من الطلبة من طوائف مختلفة وبخاصة من الطوائف المسيحية الأورثوذكسية.. هل الأورثوذكس منفتحون أكثر من غيرهم على العروبة والأجواء العروبية...
ج:... (مقاطعاً).. المسلمون كانوا هم الأكثرية. أنا ومنصور حريق من الأورثوذكس. معن بشور، والده أورثوذكس وأُمُّه مسلمة. ووالده كان دائماً على سفر. فعاش هو مع والدته وتأثّر كثيراً بأُمّه، وهي من مراكش، المغرب العربي، ومن عائلة متديِّنة، ومواظبة على القيام بواجباتها الدينية والتقاليد الإسلامية. فتأثّر معن بشور بأمه كثيراً. فهو من هذه الناحية ابن أمه وابن أبيه في آن. لذلك فإنك تجد في شخصية معن هاتَيْن الصفَتَيْن. فهذه النقطة مهمة جداً، ولم يكن توجُّه معن اعتباطاً. فإنك لا تستطيع أن تعتبر معن بشور مسيحياً ولا يمكنك أن تعتبره مسلماً، بل يمكن اعتباره نتاج هذَيْن الجوَّين (أو المعتقدَيْن)، من الناحية الفكرية والعقائدية والاجتماعية. ووالده، لم يكن لديه أيُّ نوع من التعصُّب أو الانغلاق.
ففي هذه الأجواء السائدة في الجامعة الأميركية في بيروت، تأثّرتْ هذه المجموعة الطلابية التي كنا نحن منها، تأثّرت أكثر بجو حزب البعث العربي الاشتراكي. وكان هناك شاب أساسي في نادي العُرْوة الوثقى، هو حسن الشريف الذي كان يهتم بأمرنا ومسؤول الحلقات التي كنا نحضرها. فكنا معجبين به كثيراً، وهو مبرِّزٌ في دروسه وحيويٌ في نشاطاته السياسية والحزبية. وكنا نعلّق عليه الآمال الكبرى. فحسن الشريف، كان أيضاً من ضمن هذه المجموعة الطلابية التي أخذت تكبر شيئاً فشيئاً.... وباسل عطالله أيضاً، ومحمد عطالله الذي أصبح السنة التالية أستاذنا في الجامعة الأميركية، فكان بنظرنا رمزاً ومثالاً للثقافة والانتماء القومي. ومن ضمن هذه المجموعة الطلابية محمد الصباغ، رغيد الصلح الذي كان دائماً برفقته خالد لطفي ويصحبهما تحسين الخياط وناصر الخليل كأصدقاء وإنما في الأجواء المستقلة غير المنتمية الأخرى...
هنا، لقد بدأنا نشعر بتقارب أكثر مع "نادي العُرْوة الوثقى"، ولكن علاقتنا لم تنقطع مع النادي الثقافي العربي، ونشارك في حضور الندوات والمحاضرات التي كان يقيمها من حين لآخر... والحلقات الحزبية الضيقة مع مجموعة نادي العُرْوة الوثقى...
س:... ما هي الكتب أو الكراسات أو النشرات التي كنتم في تلك الفترة تقرأونها لحزب البعث؟!... وما هي تلك التي أثّرت فيكم أكثر من غيرها وجذبتكم إليها، عدا طبعاً الأجواء القومية العامة التي تحدثت عنها؟!...
ج:... أهم شيء بالنسبة إلينا هي مسألة الوَحدة... لقد أيقنَّا أنّ التيار البعثي الذي رفض التوقيع على وثيقة الانفصال، والذي تمسّك بالوحدة ودعا إلى المحافظة عليها، رغم الألم والانتقادات التي وُجِّهت إلى نظام الوَحدة، وكان على رأس هذا التيار في حينه ميشال عفلق. والشباب البعثيون الذين رفضوا أن يتذرَّعوا بأخطاء السياسة التي اتّبعها النظام المصري في سورية والتمدد القُطري والاعتماد على المخابرات وعلى قيادة عبدالحكيم عامر، رغم الألم الذي عاشوه وعانوه، رفضوا أن يكونوا انفصاليين، ولم يقعوا في عملية ردِّ الفعل. هذه كانت أبرز نقطة جذبتنا إليهم، وإنهم لم يلتحقوا بتيار أكرم الحوراني أو القيادة القطرية في لبنان، تيار عبدالوهاب الشميطلي ورفاقه.
هؤلاء الرفاق، أعضاء القيادة القطرية، كنا قد نظرنا إليهم على أنهم وقعوا في ردِّ الفعل أكثر مما ينبغي. لقد كان من الواجب أن يتجاوزوا الأزْمة، وهم بعثيون وحدويون. وأن حزب البعث إنما هو حركة تاريخية وحدوية، لا يجوز أن تتوقف أمام هذه الأزمات وتسيطر هذه القضايا عليها مع خطورتها. هذه هي كانت نقطتنا الأساسية. بل على العكس، قد كان على الحزب أن يستوعب هذه المسألة وأنّ تيار الحزب الأساسي هو الذي بقي متمسكاً بالوحدة وبقي متفهماً لموقع عبدالناصر التاريخي، من غير أن يكون تابعاً له ومن غير أن يكون حاقداً عليه في الوقت نفسه.
إننا اعتبرنا أن الموقع الأفضل هو الموقع المتفاعل مع عبدالناصر، بعيداً عن الحقد وبعيداً عن الالتحاق. وكنا نرى أن عبدالناصر إنما هو أيضاً يحتاج إلى مساعدة، ذلك أن ما تجلَّى في دمشق قد يكون أيضاً موجوداً في القاهرة. فليس تماماً أنّ عبدالناصر يمثل الفكرة الصافية التي كانت موجودة في أذهاننا. فلديه هو أيضاً معاناة ومشاكل في نظامه السياسي. وكنا نعتبر منذ ذلك الحين أنه لم يكن هو مسيطراً كلياً على نظام حكمه السياسي. لقد كنا نطرح هذه القضايا حينذاك وبالعمق.
من هنا انشددنا بقوة إلى الموقف الذي وقفه حزب البعث بقيادته القومية وأمينها العام ميشال عفلق. وبحسب المقابلة التي أجراها معه معن بشور، عندما كان الأستاذ ميشال عفلق في بيروت، وذلك بعد حصول الانفصال، وكان معن برفقة والده، فسأله: ما رأيك بحركة الانفصال التي وقعت في سورية؟! ـ وهذه الحادثة أخبرنا أياها معن حينذاك وكانت قد أثرت فيه وبعدها أثرت فينا ـ فأجاب الأستاذ ميشال عفلق: إنّ هذا الانفصال جريمة استعمارية، ضد العرب والعروبة وضد الوحدة العربية. فقال معن: أستاذ ميشال، يعني ذلك أنه يجب أن نقف ضدها؟!.. فقال عفلق:.. طبعاً، يجب أن نقف جميعاً ضدها، ويجب أن ننظِّم التظاهرات ضدها.
يقول معن في هذا الصدد إنه في تلك اللحظة انشدَّ أكثر من أيِّ فترة سابقة للوحدة ولهذا التفكير ولهذه المنهجية في التفكير القومي، وتأكد من سلامة ومن وحدوية التيار القومي الأساسي لحزب البعث. وبقيت هذه الفكرة ملازمة لنا طوال تلك الفترة وإلى الآن.
إذن: قال الأستاذ ميشال عفلق إنّ الانفصال جريمة استعمارية صهيونية يجب مقاومتها. فقال له معن: كيف يكون ذلك؟ فأجابه الأستاذ عفلق: عن طريق المظاهرات والنزول إلى الشارع. فهذه الحادثة بقيت في ذهن معن (بشور) ونحن معه.
س:... متى كان انتماؤك لحزب البعث؟.
ج:... كان ذلك من خلال النَّدوات التي كانت تُعقد آنذاك ضمن إطار الجامعة الأميركية ومن خلال المناظرات التي كانت تُعقد في الأندية القومية أو خارجها. بالإضافة إلى ذلك كنا نقرأ للحزب. وكنا نعقد اجتماعات جانبية بعد انتهاء النَّدوة العامة في نادي العُرْوة الوثقى ونلتقي جانبياً مع حسن الشريف ومع بقية الشباب. وشيئاً فشيئاً ابتدأت هذه الحلقات تتخذ شكلاً منهجياً، ومن ثمَّ تطوَّرت إلى عقد اجتماعات ضيقة نطرح فيها أفكار حزب البعث وبالتالي وجدنا أنفسنا في هذا الجو، وأصبحت حلقاتنا نظامية ومنهجية نناقش فيها القضايا الجامعية والطلابية، فضلاً عن القضايا السياسية والتنظيمية الحزبية وبحث الشؤون الثقافية وموضوعات تراث الحزب القومي أو الكتابات القومية العامة...
وكانت الطريقة التي نعتمدها هي تكليف أحد الأعضاء بتحضير موضوع من المواضيع القومية ويُطرح للمناقشة فيما بيننا. وبعد مناقشة القضايا الثقافية ننتقل إلى مناقشة الشؤون الحزبية، ومن ثمَّ وضع برنامج للنشاطات اللاحقة أو الاتصالات التي يجب أن نقوم بها مع المجموعات الطلابية الأخرى..
وهكذا، انتقلنا تدريجياً من أعضاء في "حلقات أصدقاء" وتطوَّرت بسرعة. وبما أننا كنا طلاباً جامعيين ونقوم بنشاط لافت وحيوي، إلى "حلقات أنصار". ولم نلبث أن دخلنا إلى الجامعة حتى وجدنا أنفسنا أننا أصبحنا أعضاء متدربين ومن ثم أعضاء عاملين. ولكنه، منذ تلك الفترة، ونحن لا نزال " أنصاراً "، ابتدأنا نتحمّل مسؤوليات حزبية: الاتصال بعمال الجامعة، أنشأنا مدرسة محو الأمية، المشاركة في مسؤولية إدارة الحلقة، مثلاً في برج البراجنة، برج حمود، زقاق البلاط، خندق الغميق. وفي الوقت الذي دخلنا فيه إلى الجامعة الأميركية حتى أخذنا نتحمل مسؤوليات حزبية...
س:... هل تتذكّر متى أقسمت يمين الانتساب إلى حزب البعث، وأمام مَن مِن القيادات الحزبية؟!...
ج:... عام 1963. ولا أذكر أن العملية أخذت طابعاً رسمياً تقليدياً على طريقة الأحزاب السياسية الأخرى، بمعنى أنه لم يجر أيّ نوع من الطقوس، بل جرى الانتساب وإلقاء القسم بشكل عادي. أذكر أنه ربما يكون أمام معن (بشور) أو حسن (الشريف)،لا أذكر تماماً أيهما....
وقد فاتني أن أشير إلى أنه في تلك الفترة كان معنا أيضاً حزبي مرموق، وإن كان على مستوى آخر، هو بشير الداعوق، أستاذ في الجامعة الأميركية، معرفتنا به معرفة صداقة وودّ. الأهمية بالنسبة إلينا أنه كان بالإضافة إلى ذلك صاحب دار الطليعة ومؤسِّسها. وكل اهتمامه إصدار كُتب حزب البعث. لذلك كنا نرتاد بصورة دائمة دار الطليعة. وما إن دخلنا الجامعة الأميركية وأصبحنا في أجواء حزب البعث وبعد انتسابنا إليه، حتى أخذنا نعقد الحلقات الحزبية في منزله، في قصر الداعوق.
وهنا، وبعد مضي فترة زمنية من النشاط الحزبي المتواصل، أصبحت ـ فيما أذكر ـ عام 1965-1966، مسؤولاً عن حلقة حزبية جامعية، تضمّ من جملة مَن تضمّ من الأعضاء، بشير الداعوق: هو أستاذي في الجامعة، وأنا الطالب، مسؤول حلقته الحزبية، والاجتماعات تعقد في بيته. وهذه الحلقة الحزبية كانت تضم أعضاء من جامعة بيروت العربية مثلاً: محمد علي الدرغوثي (من الأردن)، مروان مظهر (الأردن)، بشير الداعوق...
وكما ذكرت لك سابقاً، في بداية السنة الجامعية عام 1963 كنت قد أصبحت حزبياً ملتزماً، وتخطيت مرحلة "الأصدقاء" و"الأنصار" بسرعة. وبدأنا نقرأ بغزارة كتب حزب البعث وبخاصة كتابات ميشال عفلق وصلاح البيطار وجمال الأتاسي وسامي الدروبي وعبدالله عبدالدايم وشاعر البعث سليمان العيسى الذي كان له تأثير كبير علينا. بالإضافة إلى كتب المفكرين القوميين يأتي في المقدمة ساطع الحُصْري.
أما إنعام الجندي الذي كنا نعرفه، فقد كان هناك التباس في شأن موقعه، إذ إنه في الفترة التي أتحدّث عنها، لم يكن في التيار (الحزبي) تماماً، رغم الاحترام الشديد له، خصوصاً أنه من مؤسِّسي حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان. ومما يؤسف له آنذاك أنه لم يكن يتمتع بالدينامية الحزبية الموجودة والسائدة قبل 8 شباط وقبل 8 آذار 1963، أي بعد الانفصال 1961 من جهة وعهد فؤاد شهاب من جهة أخرى.
س:... هنا، في هذا السياق العام، أودّْ أن توضِّح لي نقطة تاريخية: عام 1961-1962، كان قد حصل الانشقاق في حزب البعث في لبنان...
ج:... (مقاطعاً).. أنا لم أكن فيها... ولكن أضيف أنه كان لنا تقدير لديناميكية عبدالوهاب الشميطلي وهو القيادي المسؤول في الحزب، والقيادة بمُجملها كانت نشيطة، بَيْدَ أنه، للأسف، كانت قد انفعلت كثيراً بالموقف من الناصرية. لقد اعتبرت أن اضطهاد الأجهزة الناصرية أو بالأحرى جعلت من اضطهاد الأجهزة الناصرية لحزب البعث ولا سيما في سورية مدخلاً (أو مبرّراً) للخروج من فكرة الوحدة. فكان هناك إعجاب بديناميكية هذه المجموعة البعثية وعلى رأسها عبدالوهاب الشميطلي، غير أنه كنا نوجّه إليهم نقداً في أوساطنا، ذلك أنه مهما كانت الأخطاء إلاَّ أنه لا يجوز أن نتخلى عن فكرة الوَحدوية.
أعود وأكرّر أن هذه النقطة كانت بالنسبة إلينا نقطة أساسية ومركزية وجوهرية. الوحدوي، لو كان في حركة القوميين العرب، هو أقرب إلينا من البعثي الذي هو غير وحدوي تماماً. لم نكن نحن نفرِّق بين هذا الوحدوي أو ذاك: الناصري الوحدوي بالنسبة إلينا أقرب إلينا من أيّ بعثي آخر وحدويته مشكوك فيها. من هنا، فإنّ فكرتنا نحن ليس الانتماء الحزبي إنما الأساس هو الفكرة، فكرة الوَحدة، الموقف الفكري الوَحدوي.
لذلك فإنّ انتماءنا الحزبي لم يجعلنا أن نتقوْلَب بالفكرة الحزبية الشاملة التي كنا دائماً نرفضها، ونعتبر أن الحزب إنما هو بمثابة الانتماء إلى الفكرة، والتنظيم الحزبي هو في خدمة الفكرة، وليست الفكرة في خدمة التنظيم الحزبي. بل يجب على التنظيم الحزبي دائماً أن يخضع هو للفكرة وليس العكس، أو أن يُخضع الفكرة للاعتبارات الحزبية التنظيمية الداخلية، أو للاعتبارات الحزبية السياسية المرحلية.
هذه هي البوصلة التي كنا متمسكون بها ونسير بهديها، ولم نعتبر أن التنظيم الحزبي هو أكثر تقدّماً أو "رقيّاً"، منّا. طبعاً هناك حزبيون كثيرون يعتبرون أن الحزب أهم من الوحدة، أهم من القومية العربية، بما أنه هو الأداة. ولكن ما قيمة هذه الأداة، عندما تغدو خالية من هذه الفكرة أو معاكسة لها أو حتى ضعيفة في سلوك هذا الاتجاه.
س:... إنما سؤالي له شقٌّ آخر وهو أنه عندما انسحب أكثرية أعضاء القيادة القطرية برئاسة عبدالوهاب الشميطلي، يبدو أنه قد أُحْدث فراغ في التنظيم الحزبي، أقلّه في العاصمة بيروت وبلبلة أو هزة حزبية كبيرة في لبنان: لا وجود لقيادة قطرية في لبنان، حصول بعض الانسحابات هنا وهناك، بكلمة، لقد تشرذم الحزب في كل لبنان، أنتم في هذه الفترة بالذات أقصد البعثيون في الجامعة الأميركية، بما أنه لم يعد ثمة وجود لتنظيم حزبي قائم بعد المؤتمر القومي الخامس عام 1962، كيف عملتْ القيادات الحزبية الباقية مثلاً عبدالمجيد الرافعي، علي جابر، جبران مجدلاني، علي الخليل، لإعادة قيام الحزب وخروجه من هذه الأزْمة، هل لديك فكرة عن كل ذلك إما ممارسة أو معايشة، وإما رواية أو أي شيء من هذا القبيل؟!...
ج:... ليس لدي معلومات تفصيلية، وإنما ما أعلمه هو أن الحزب في لبنان أعاد تنظيم نفسه، وعندما انتسبنا إلى حزب البعث كان بالنسبة إلينا أنه موجود وقائم. وكنا نحن ضمن الفرقة الحزبية الطلابية الموجودة في الجامعة الأميركية والجامعة اللبنانية وجامعة بيروت العربية. وقد كان عالمُنا وجوُّنا العام هو النضال الشعبي والتواصل مع الأوساط الشعبية والعمالية. واهتمامنا هو تنظيم أوضاع الفرقة الطلابية كي تثبت وجودها وفاعليتها عَبْر تشعُّب نشاطاتها وكنا دائماً على تفاعل مع التنظيم الحزبي العمالي.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ بعض الطلاب البعثيين السوريين في لبنان، أخذوا يتأثرون "بالاتجاه القطري"، ذلك أنه كان قد بدأ داخل الحزب يتبلْور هذا الاتجاه القطري في مقابل الاتجاه القومي. لهذا عملنا على جذب هؤلاء الطلاب البعثيين السوريين في الجامعات الثلاث إلى التيار القومي. بيد أنه في حينه لم نكن نعير اهتماماً بالقيادة الحزبية العليا (أي القيادة القومية). ولكن عندما أصبحنا حزبيين "عاملين" عام 1963، وبعد حركة 14رمضان (8 شباط) في العراق و8 آذار في سورية، غدونا على تواصل مع كبار قيادات الحزب ليس فقط في لبنان، بل في سورية، وتكررت زياراتنا ميشال عفلق، منصور الأطرش وغيرهما ونحن ما زلنا طلاباً في الجامعة الأميركية. وأنا تخرِّجي من الجامعة عام 1967، بكالوريوس في الاقتصاد...
س:... عند انتمائك لحزب البعث، قلت لي بأنك أنت ورفاقك كنتم تقرأون تراث الحزب وكتب المفكرين القوميين، سؤالي في هذا المجال هو التالي: ما هي كتابات ميشال عفلق، التي لفتت نظرك وجذبتك فكرياً إليها أكثر من غيرها؟
ج:... في ذلك الوقت، كتاب ميشال عفلق. في سبيل البعث، ومقالاته في الفكر القومي، ولا سيما محاضرته في ذكرى الرسول العربي هي أكثر ما تأثرت بها من كل كتاباته، وكتاباته الأخرى في الفكر والقومية العربية والنظرية القومية: إذ إنه قد ربط في هذه الكتابات الوحدة بالحرية وربط النظرية القومية بالعمل الوَحدوي، بمعنى أنّ النظرية القومية، ليست نظرية مجرّدة، بل إنها موجودة وفاعلة بقدر ما نعمل لها ممارسةً وعلى الأرض. وأهم من كل شيء أنّ الأستاذ ميشال عفلق قد ربط بين الوَحدة والحرية والاشتراكية، وربط بين النظرية القومية والنضال الشعبي، وهناك طبعاً هذه الرومنطيقية القومية التي تأثر بها كل الشباب، غير أنّ أهم شيء إنما تركيزه على فكرة الحرية والديمقراطية.
س:... الآن وفي هذا النطاق، أودُّ أن أطرح عليك سؤالاً مباشراً فيما خصَّك أنت شخصياً: متى لعبت دوراً أساسياً في حزب البعث العربي الاشتراكي وكيف؟!... لقد قلت لي في ما سبق، إنك كنت قد ابتدأت بتحمّل مسؤولية أمانة سر حلقة تضمّ نخبة من المثقفين البعثيين المعروفين، فكيف بعد ذلك تدرَّجت في المسؤولية الحزبية التنظيمية؟!..
ج:... إنني ابتدأتُ تسلُّم مسؤولية إدارة الحلقات الحزبية: أصدقاء وأنصار في العام 1964، أي بعد مضي نحو سنة ونصف السنة من انتسابي للحزب: حلقة أصدقاء للحزب في برج البراجنة وحلقة أصدقاء طلابية للحزب في المعهد العربي (صاحبه حسن يتيم) وأمين سعد هو المسؤول التنظيمي... الشهيد "الأخضر العربي" هو المسؤول التنظيمي وأنا المسؤول الثقافي والسياسي حيث إنني كنت ما زلت طالباً. لقد ابتدأتُ بتسلّمي مسؤولية هاتَيْن الحلقتَيْن، ثم بعد ذلك تحمّلتُ مسؤولية حلقة عمالية في الجامعة ونشطت في العمل لمحو الأميّة، وفي تلك الأثناء أيضاً، دخلت في عدد من الجمعيات، وأخذنا نتصل بالطلاب في الجامعة الأميركية. وشاركتُ بعدها في حوارات فكرية مع القوميين السوريين، مع الكتائبيّين، والناصريين، والقوميين العرب.
من هنا بدأتْ مجموعتنا أن تتبَلْوَر في الجامعة الأميركية، وكان لها فاعلية كبيرة في هذه الأوساط على صعيد التواصل الطلابي والنشاط الطلابي والانتخابات الطلابية. وهكذا برزنا كمجموعة وكنواة بعثية تضمُّ رغيد الصلح، معن بشور، عماد شبارو، منصور حريق، بشارة مرهج، وشباب من أجواء عربية: فلسطينيون، سوريون، أردنيون، كويتيون، إلخ... هؤلاء هم العناصر الديناميكيون المحرّكون الذين أصبحوا أعضاء في قيادة الفرقة الطلابية.
في أثناء تلك الفترة، وتحديداً عام 1966، وقعت أحداث 23 شباط واعتُقلتْ القيادة الحزبية، فأخذ حينذاك يزداد التركيز أكثر فأكثر علينا هنا، في لبنان: فتضاعف نشاطنا الحزبي على صعيد قومي وضمن التيار القومي. هذه الحركة في 23 شباط، أحدثت هَزَّة كبيرة في لبنان على صعيد حزب البعث كَكُل، فحصل مرة أخرى انشقاق داخل الحزب يقوده مالك الأمين وعاصم قانصوه ومحمود بيضون وكادرات بعثية أخرى سارت في هذا الاتجاه ونحن استمرّينا في انتمائنا للخط القومي. وكان احتكاكنا في ما سبق بمالك الأمين وعلي الخليل ونقولا الفرزلي.
صحيح أنّ علي الخليل قد كان له مظهر خارجي غير ديناميكي، إلاّ أنّ أهميته الحزبية أنه كان قد ترأَّس جمعية الطلاب العرب في الولايات المتحدة الأميركية، وهي جمعية أحد مؤسِّسيها البارزين كمال الشاعر. وكذلك فيما بعد ترأَّسها نقولا الفرزلي. وكان مَن هو رئيس جمعية طلاب العرب في أميركا سابقاً، كنا ننظر إليه نظرة فيها شيء من التقرير والأهمية النضالية الحزبية. وهذا الموقع، على سبيل المثال، أعطى نقولا الفرزلي أو فسح له مجالاً، عندما جاء إلى بيروت، أن يكون عضواً في القيادة القُطرية مباشرة وقبله على الخليل أيضاً الذي أصبح بعدها أمين سر قيادة قطرية. ولكنه كانت قد فترت علاقته الحزبية بعد 1968 وتراجعت أكثر فأكثر حين ترشّحه للانتخابات النيابية في صور. في تلك الفترة كان واضحاً أنه يسير في ركاب التيار القومي بصورة عامة دون أن يكون له تلك الديناميكية التي يتمتع بها القيادي الحزبي.
نحن لم نكن على علاقة وثيقة مع القيادات القومية الحزبية العليا، بل كنا كطلاب في الجامعة بمثابة "القوة الضاربة" إذا جاز التعبير، على صعيد الحركة الطلابية والعمل الشعبي... وكنا مثقلين بالنشاطات في القواعد الحزبية والحلقات الطلابية التي تستحوذ على وقتنا كله. وكان في صلب اهتمامنا تنمية هذا النشاط وتوسيع العمل الحزبي بين هذه الأوساط الطلابية والشعبية. بالإضافة إلى كل ذلك، المناظرات الفكرية التي نعقدها أو نشارك فيها هنا وهناك. فقد كان همّنا الأساسي في فترة 1966 إعادة تركيز حزب البعث وإعادة بناء قواعده وتوسيعها واكتساب الأصدقاء والأنصار إليه.
س:... يستتبع ذلك سؤال آخر: هل لمست، أو وقفت، من خلال تجربتك الحزبية على أن حزب البعث العربي الاشتراكي، في مختلف المراحل وبصورة عامة، سواءٌ المراحل التي عايشتها أو تلك التي علمت بها بحكم موقعك في التنظيم الحزبي، على أنه كان قد استطاع أن يخلق "جواً عروبياً"، "جواً بعثياً" في لبنان، جواً قومياً جديداً، سياسياً، فكرياً، اشتراكياً "عربياً "، أم أنه بقي تياراً عروبياً من ضمن التيارات العروبية السائدة ماضياً وحاضراً؟!... بل أكثر تحديداً ووضوحاً: هل أوجد حزب البعث جواً عروبياً جماهيرياً عاماً مؤثراً في العاصمة بيروت؟.
ج:... في هذا الجانب، ما أعلمه أن حزب البعث العربي الاشتراكي في أعوام 1956 ـ 1957 ـ 1958، كان يتمتع بوضع شعبي جيد في المدن اللبنانية: في طرابلس في بيروت، في صيدا، في صور، في بنت جبيل، في النبطية، في بعلبك. كان للحزب حضور شعبي قوي، وشارك في "ثورة" 1958 بفاعلية كبيرة جداً، وإذا لم يكن حاضراً من حيث الوجوه السياسية القيادية، إلاّ أنه كان حضوره الفاعل في القاعدة الجماهيرية وفي الممارسة العملية الحقيقية وفي الانتخابات النيابية 1957 ـ في صيدا وطرابلس. وقد استمر هذا الجو العام حتى حدوث الانفصال في سورية عام 1961، بمعنى أنّ الانفصال إنما قد كان نكسة للأمة ونكسة لحزب البعث على حد سواء.
وذلك يعود إلى أنّ موقف الحزب لم يكن واضحاً تماماً، إذ إنّ فريقاً من الحزب ومن قادته، لم يقاوموا الانفصال بل مشوا مع الانفصال وأيّدوه، في حين أن فريقاً آخر قاوم الانفصال. بيد أنه بقيَ الُّلبسْ قائماً والغموض وعدم الوضوح سائداً في موقف الحزب، مما أدّى إلى توجيه أصابع الاتهام إليه وكان يأتيه من كل جانب، فسبّب له انتكاسة شعبية كبيرة وعامة.
ونحن لو لم نوقن في تلك الفترة أن الفريق القومي التاريخي في حزب البعث قد كان حقيقة وفعلاً ضد الانفصال ونتائجه ليس في سورية وحدها، وإنما في الوطن العربي قاطبة، وكان قد وقف هذا الفريق بشدّة وعنف مع بقاء الوحدة، لم نكن لنؤيّد موقف الحزب القومي وننجز في هذا الاتجاه الوحدوي. لذلك فإن حزب البعث بعد الانفصال، كانت قد نالت منه ومن جماهيريته هذه النكسةُ وأُصيب بضعَف وشلل في كل مكان، وخصوصاً في بيروت على وجه التحديد. (إلاّ في طرابلس كان قد استطاع أن يحافظ على تماسك وضعه التنظيمي والجماهيري، والسبب في ذلك موقفه القاطع والعلني وتظاهره الحاشد ضد الانفصال).
وهنا لابد من الإشارة في هذا السياق إلى أن القيادة التي تسمّى "القيادة القطرية"، رغم أنها خرجت من الحزب وسحبت معها أعداداً كبيرة جداً، وبخاصة في بيروت وفي صيدا، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يستمروا ويتابعوا مسيرتهم، فانكفأوا وتبخّروا سريعاً فيما بعد، لأن حركتهم لم يتجاوب الجمهور معها ومع طروحاتها القُطرية، هذا الجمهور هو جمهور وحدوي.
س:... هنا، وقبل أن أدخل في طرح سؤالي الشخصي عليك من ناحية المراكز الحزبية التي تبوَّأتها، ألا تعتقد أنكم أنتم كوَحدويين عروبيين كنتم قد طرحتم هذه الشعارات الوحدوية ورفعتمونها وهي شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي أو شعارات حركة القوميين العرب، حملتم لواء هذه الشعارات العروبية في لبنان. بحدِّيَّة وبعنف وبحماس، كما طرحت في سورية، في العراق، في الأردن وفي مختلف الأقطار العربية، في حين أنه في لبنان لم تؤخد بعين الاعتبار خصوصية لبنان، لبنان الطوائفي والمذهبي، بحيث إن انتشار الفكر القومي العربي بصورة عامة، وحزب البعث العربي بشكل أخص، إنما تمَّ بين الأوساط وفي المناطق الإسلامية في الوقت الذي أُغلقت عليه أبواب المناطق المسيحية، أو حتى المناطق الدرزية، فتحليلك أنت الشخصي مع البعد الزمني، كيف ترى إلى ذلك وما هو تفسيرك لهذه الظاهرة؟!...
هل هناك من خطأ منهجي، إذا جاز التعبير، في التفكير كان قد ارتكب؟!... إن الأستاذ ميشال عفلق في كتاباته العديدة، كان يُصرُّ دائماً أنه لن يُغيِّر أو يُبدِّل أو يُعدِّل شعارات حزب البعث ومبادئه لأن هناك أقلية مسيحية ترفض العروبة!!...
ج:... حزب البعث العربي الاشتراكي إنما هو حزب الأمة العربية، وهو حزب الأكثرية. هذه هي في الأساس قناعتنا. وكونه حزب الأكثرية ـ وهذه هي نظريتنا ـ واستطاع أن يكون فعلاً حزب الأكثرية، وأن يكون ديمقراطياً، فتجد مشكلة الأقليات حلاً لها بصورة طبيعية. وفي هذا المعنى، كنا نحن متأثرين بطُرْفة كان يرويها الأستاذ منح الصلح: جاءه مرة أحد الأعضاء في الحزب الشيوعي، وقال له: هل تستطيع أن تنكر أن الحزب الشيوعي كان قد فهم قضية السريان؟ فقال منح الصلح: لا! قال الشيوعي: هل تستطيع أن تنكر أن الحزب الشيوعي قد فهم قضية الأرمن ونشط بين الأرمن؟... فأجابه: لا! صحيح، إنه فهم مشكلة الأرمن. فأردف الشيوعي قائلاً: هل يمكنك أن تنكر أيضاً أنه قد فهم قضية الأكراد؟!.. فجاءه الجواب: طبعاً، لقد فهم هذه المشكلة فهماً جيداً.. فتابع الشيوعي في طرح السؤال: هل تقدر أن تنكر أنه كان قد فهم قضية المسيحيين واستطاع أن يطرح قضاياهم وينشط في أوساطهم؟.. قال منح الصلح: صحيح ما تقوله. فقال الشيوعي: إذن، لماذا تعترض على الحزب الشيوعي؟ فأجابه: لسبب بسيط جداً، لأنه لم يفهم قضية الأكثرية..!!.
هذه طبعاً طُرفة، ولكننا نحن كنا قد تأثرنا بها كثيراً ومنذ العام 1963. (ولكن مع طرافة هذه الطُّرْفة، تبقى مع كل ذلك مشكلة الأقليات الدينية أو القومية أو الأثنية إشكالية مطروحة بحدة في الوطن العربي!!!). هذا يعني أن الحزب، حزب البعث العربي، لا يجوز أن يكون منفعلاً أو متأثراً أو مُنشغل البال بالفكر وبالوضع الأقلوي. لا!!.. بل عليه أن يكون مع الأكثرية، وعندما يكون في الاتجاه الصحيح، فلم يعد لدى الأقلية مشكلة. إنّ مشكلة الأقلية تبرز في الوقت الذي تشعر فيه أن ثمة تمييزاً ضدها، أو تجاهلاً لها. لكن حزب البعث كان يرى أن التجاهل الأكبر إنما هو قد كان بالنسبة إلى الأكثرية، فهل يجوز أن يكون هذا التجاهل للأكثرية؟!..
إنّ الجو الإسلامي القائم، سواءٌ زمن الانتداب، قبله أو بعده، كانت الأكثرية هي المضطهدة. فيجب على الحزب أن يتوجّه نحو الأمة، نحو الأكثرية. وعندما يكتشف صيغة الحل، فلم يعد هناك من مشكلة، على أقل تقدير. لذلك رفض حزب البعث أن يكون حزب الأقليات. وبالنسبة إلى الأستاذ ميشال عفلق، كان قد تخطاها منذ اليوم الأول في تفكيره، منذ تأسيس حزب البعث، بدليل محاضرته: ذكرى الرسول العربي وقوله فيها: لقد كان محمـدٌ كـلَّ العربِ، فليكن اليوم كلُّ العربِ محمداً.
وحتى مفهوم الرسالة في شعار حزب البعث: أمة عربية واحدة/ ذات رسالة خالدة، فهي ليست رسالة حزب البعث، وإنما هذه الأمة العربية الواحدة، من حقّها أن تتوحَّد وتقيم دولتها الواحدة الموحدة. ورسالة العرب الخالدة، كونهم أمة عربية، تعني أن ثورة الإسلام كانت قد خرجت من هذه البيئة العربية، وهي ثورة ضد التمييز العرقي، ثورة عالمية ضد الظلم، ضد القهر. فهي بالتالي ثورة العدالة وثورة الإنسانية. هذه الثورة هي التي ينظر إليها ويعتبرها ميشال عفلق أنها ثورة الإسلام. فإذا كان لهذه الأمة العربية أن تتجدَّد، فيجب أن يكون لديها ـ دون أن يقول إنه هو مسلم، أو إنها ثورة إسلامية ـ وأن تقوم بثورة عربية. ذلك أنه قد اعتبر طوال تلك الفترة أن الإسلام هو الأساس، هو السبيل الأساس، مع وجود طبعاً مكوِّنات أخرى.
من هنا، لم يكن لدى ميشال عفلق (كونه مسيحياً) هذه العقدة، عقدة الأقليات. ولكن، هذا الجانب الأقلوي في شخص عفلق كان يُرفع (من قِبَل الخصوم) ويشار إليه أحياناً تلميحاً وأحياناً صراحة ويُعتبر "ثغرة" سواءٌ من ناحية اسمه أو انتمائه الديني، في حين أن هذه "العقدة" أو هذه "الثغرة" ـ أي مشكلة الأقليات في الوطن العربي ـ لم تكن لتشغل فكره أو لها وجود في ذهنه.
إنني أستطيع أن أقول من خلال معايشتي له، لم يكن لديه هذه "العقدة"، عقدة الأقليات على الإطلاق. بل كان يعتبر نفسه أنه عربي (انتماءً وهُوية ووجوداً)، وعندما يكون عربياً، يكون حكماً مسلماً ثقافة وتراثاً وفكراً وانتماءً. ليست مشكلة البتة بالنسبة إليه كونه وُلد مسيحياً في عائلة مسيحية، ليست هذه الناحية ذات أهمية تقلقه أو له اعتراض عليها. إنما هو كعربي، في التيار العربي، في البيئة العربية، فيكون الإسلام بالتالي في جوارحه وشرايينه وتفكيره وثقافته وولادته ومكوِّناته. هذا هو ما كان يعتبره ويعتقده.
لذلك لم تكن بنظره آنذاك، المشكلة المطروحة أمامه هي مشكلة الأقليات وإيجاد حلول في الآن، لهذه المشكلة. هذا، ولكن من ناحية أخرى، مَن الذي وضع الصيغة الأولى لحل مشكلة الأكراد في المنطقة؟!... أليس حزب البعث العربي الاشتراكي؟!... أول حزب اعترف بالحكم الذاتي للأكراد وشارك الأكراد كقومية في السلطة في العراق؟!... أليس هو حزب البعث العربي الاشتراكي؟!... فلم يحصل ذلك في إيران، كما لم يحصل في تركيا ولا في العراق قبل حكم حزب البعث.
فلا يجوز، إذن، أن نُغفل ذلك أو أن نتنكَّر له. لقد "اشتغلنا" نحن هنا في لبنان على هذا الموضوع وشاركنا فيه: رغيد الصلح ومعن بشور وأنا، كما سعوا وعملوا لإيجاد هذا الحل في بغداد. كنا هنا في بيروت، نعقد الاجتماعات مع أخواننا الأكراد بوقت قبل انقلاب تموز 1968، وعلى مدة طويلة ودورياً. وكذلك الفريق الآخر في العراق، وكان من نتيجة ذلك كله وثيقة "اتفاق الحكم الذاتي" للأكراد في العراق عام 1970. فحزب البعث العربي الاشتراكي لم يكن حركة عابرة في تاريخ الأمة العربية.
هذا النشاط القومي الذي قمنا به، إنما قمنا به من لبنان. وكان موقف حزب البعث حينذاك أن مشكلة لبنان مع العروبة إنما هي مشكلة تقدمية العروبة، وهي مشكلة العروبة نفسها. فعندما تتبلور العروبة من خلال حركتها وديناميَّتها ومن خلال النضال العربي، تظهر العروبة بحقيقتها الناصعة: الديمقراطية الإنسانية، فلن يكون عند ذاك أي مشكلة مع لبنان. بيد أن العروبة، عندما تتخذ شكل نظام ملكي أو ديكتاتوري أو إسلامي، تخرج عن حقيقتها.
فالأستاذ ميشال عفلق يتحدث عن العروبة وليس عن الإسلام. العروبة الحقيقية هي التي يكون الإسلام أساسياً في صلبها وتكوينها.. هنا لم يخطئ في هذا المعنى ولو خطأً قليلاً، كما أنه لم يُساير أحداً أو يداور، لا في فهمه للعروبة ولا في فهمه للإسلام. فإذا كنت أنت عروبياً، ولا تحب النبي محمد، ففي هذه الحالة تسقط عنك صفة العروبة والانتماء إلى العروبة. فإذا كنت حقيقة عروبياً لا لفظاً، فأنت منتمياً حكماً إلى هذا التُّراث، الإسلام وإلى هذه الحضارة العربية الإنسانية العظيمة التي تنتسب إليها باكستان وأفغانستان وأُمم كثيرة غير عربية انتسبت إليها، وأنت العربي لا تنتمي إليها، مع أنها هي مسرحك وحيِّزك الحيوي وتاريخك وتراثك وعمق تفكيرك، فكيف يمكنك أن تخرج منه. معنى ذلك أنك، حينما تغفل عروبتك وتتغاضى عن مكوّنك العروبي الأساسي الذي هو الإسلام، لم تعد أنت ذاتك حقيقة، بل غدوتَ غريباً، أجنبياً.
لذلك، أنا أعتقد أنني أستطيع أن أجد حلاً لمشكلة العروبة في لبنان، في الوقت الذي أناضل فيه داخل التيار العربي لإبراز الحقيقة العربية في جوهرها الديمقراطي والمعادي للاستعمار والمعادي أيضاً للدكتاتورية. كيف يمكن أن أكون معادياً للاستعمار أو للدكتاتورية، ولا أكون في الوقت نفسه ديمقراطياً؟ كيف يمكن أن أشنَّ حرباً ضد القهر، وأنا أقهر غيري؟ لذلك، ومن هذه المنطلقات، كنّا على صدام دائم مع الأنظمة الدكتاتورية والأنظمة السياسية التسلطية التي ظهرت داخل حزب البعث وداخل أنظمة الحزب.
س:... إلى هنا أختم بطرح موضوع لاحقاً، له علاقة بموقعك في حزب البعث من حيث التدرُّج الحزبي ما بين 1966 ـ 1969 سوف نتحدَّث عنه في المقابلة المقبلة وتحديداً في النقاط التالية: عضو قيادة فرع بيروت، أمين سر قيادة فرع بيروت، عضو قيادة قُطرية، ومن ثم أمين سر القيادة القُطرية، وما يتفرع من ذلك من نقاط أخرى كثيرة سوف تكون مدار بحثنا...