التطلعات المستقبلية
يهمُّنا أن نُؤكِّد أنَّ الإنجاز الأهمّ لمركزنا الثّقافيّ هو الاستمرار، الاستمرار... وهو شعارنا الدائم في العمل الثقافي الهادف، رُغم الصّعوبات الكبيرة والأوضاع المضطربة المتتالية... كما أنَّ الحاجة تبدو الآن أكثر إلحاحاً من السابق، ولا سيما في الظّروف الصّعبة والأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتربويّة والسياسيّة الّتي يمرّ بها لبنان والجنوب اللّبنانيّ ومدينة صيدا بالذات، إلى العمل الثّقافيّ ـ الاجتماعيّ الجِدّي وربطه بالفكر الواقعيّ والممارسة العمليّة والعمل الميدانيّ، وعقد التّفاعل البنّاء الدائم والحقيقيّ بين الحاضر والمستقبل. وأن نكون أصدقَ تعبيرٍعن وعي مجتمعنا وطموحاته في الإنماء الثّقافيّ والفكريّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، وعن نزوعه نحو حياة كريمة، في جوٍّ من الحرية والديمقراطية والوحدة الوطنية واعتبار الإنسان، كل إنسان أثمن قيمة في نشاطنا الثقافي...
وعلينا الآن أن نواصل بذل الجهد من أجل تحقيق انطلاقة تأسيسية جديدة، بروحيّة جديدة، بمنهجية جديدة، بأسلوبٍ جديد، شكلاً ومضموناً، ورؤية مستقبلية.
فبعد مضي نحو خمس وثلاثين سنة على تأسيس مركزنا الثقافي، وبعد حصيلة من الممارسة الثقافية ـ الحوارية ـ الفكرية ـ الاجتماعية، عَبْر استقلالية وطنية ديمقراطية فاعلة ومؤثرة، فقد انعقدت بين مركزنا الثقافي والرأي العام المحلّي واللبناني، وبخاصة المنابر الثقافية في لبنان، ما يمكن أن نسميه ﺒ "الثقة المتبادلة"، وهي رأسمالنا الفعلي في العمل الثقافي. من هذه المنطلقات، فمن الأهمية بمكان أن يتابع مركزنا عمله الثقافي والفكري والحواري، في انطلاقته التأسيسية الجديدة وأن يتركّز بَرنامجنا المستقبليّ على متابعة الإنجازات السابقة وتعميقها وتوسيعها وتحقيق الخطوات التالية:
أولاً : تمتين هذه الثقة المتبادلة وتعميقها وتعميمها حتى نكون تعبيراً صادقاً عن طموحات شعبنا في تحقيق الديمقراطية والحرية والوفاق الوطني على جميع الأراضي اللبنانية. فمن ضمن هذه الرؤية، من الأهمية الآن ولربما أكثر من أي وقت مضى، متابعة العمل الثقافي والاستمرار في تكملته تجهيز مقرّنا وتأهيله بما يلزم، لإعادة تأسيس مركزٍ ثقافيّ أكثر طموحاً، وتحديثه تقنياًّ وفنياًّ وتأثيثه من جديد، ليحتويَ على مكاتب إداريّة وقاعة لاجتماعات اللَّجنة التنفيذية ومجلس الأمناء.
ثانياً: تجهيز قاعة النّدوات والمحاضرات واللّقاءات الثّقافية وتأهيلها من جديد وتحديثها تقنياًّ وفنياًّ،حتى يكون مركزنا الثقافيّ منبراً ثقافياَّ عاماً في مدينة صيدا ومنطقتها ولبنان، وملتقىً للشباب والشّابات، للطلبة والطّالبات، للمعلّمين والأساتذة والمثقّقين.
ثالثاً: إقامة مكتبة أهلية عامة للمطالعة : وهي تبقى حتى الآن، للأسف، حاجة ثقافية وتربويّة واجتماعيّة وضرورة ملحّة، في ظروف مدينة صيدا ومنطقتها، خصوصاً بعد أن أصبحت:
* تجمّعاً سكاّنياًّ كبيراً يتجاوز وبكثير النّصف مليون نسمة.
* تجمّعاً تربوياًّ يضم اكثر من خمسة وسبعين ألف طالب وطالبة من الجامعة اللبنانية: كليّة الآداب، وكليّة الحقوق، ومعهد العلوم الاجتماعية، وكليّة الصحة العامة، ومعهد التكنولوجيا العالي، وكذلك الجامعة اليسوعيّة، والجامعة اللّبنانية ـ الأميركية في صيدا، والجامعةاللبنانية الدوليةLIU، جامعة الجنان، جامعة صيدون SUT، الجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا AUST، مهعد المقاصد للتعليم العالي (سابقاً)، ومعاهد جامعية عالية أهلية وأجنبية، يُضاف إلى ذلك المدارس الثانوية العديدة : الرسمية والخاصة.
* وإنشاء المكتبة الأهلية العامة في مدينة صيدا أو الدعوة إلى إنشائها، إنّما هو مشروع بحدّ ذاتة يحتاج إلى دراسات معمّقة ومفصّلة من حيث: المكان، والقاعات، والتجهيزات، والتّقنيات الحديثة إلخ...
رابعاً: إعادة تأهيل قسم التّوثيق والمعلومات والبحوث الاجتماعية لدينا، وتطويره بما يتناسب مع المرحلة الجديدة والعصر الحديث، وإنشاء مؤسسة معلوماتيّة متطوّرة تقنياًّ وفنياًّ، بشرياًّ وإنتاجياًّ، مع كلّ ما يستلزم من أجهزة حديثة.
لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنَّ مركزنا الثّقافيّ قد لعب دوراً رائداً وبارزاً في مدينة صيدا والجنوب اللبنانيّ في تعميم فكرة التّوثيق والبحوث والدِّراسات وتأكيد أهميّة جمع المعلومات وتوثيقها ونشرها.
ولكن، كلّنا يعلم ما يتطلّبه قيام مركز للتّوثيق والبحوث من جهود ثقافيّة وفكريّة كبيرة وخبراتٍ فنيةٍ وكفاءاتٍ علميّةٍ وتقنيّةٍ ورؤيةٍ مستقبليةٍ واضحةٍ، وما يتطلّبُه بوجه خاص من تكاليف ماليّة باهظة.
من الأهمّية إذن الآن تطوير مركز التّوثيق والبحوث عندنا تدريجياًّ حتّى يتم له الاستمرار والتّقدّم، وذلك ضمن أهداف محدّدة يأتي في مقدّمتها:
1 ـ التّأثيث : تجهيزُ قسمٍ حديثٍ يختصُّ بأعمال التوثيق ومتفرِّعاته وقاعة المكتبة والمطالعة بما يلزم من مفروشات وتجهيزات ضرورية.
2 ـ الكفاءة : تأمين الكفاءات التّقنية والعلميّة البشريّة المتخصّصة والكادرات والخبرات الفنيّة، وذلك عن طريق التّدريب والخبرة العمليّة في شؤون التَّوثيق والبحوث والأعمال الإدارية والسكرتاريا والمكتبيّة، إلخ...
3 ـ التجهيزات : تطوير قسم التّوثيق والبحوث والدراسات الاجتماعيّة وتحديثه من حيث التّجهيزات التّقنية الضرورية: أجهزة كمبيوتر ومستلزماتها، انترنت، بريد الكتروني، تلفزيون، آلات طباعة وتصوير وسحب، إلخ. من جهة، وإقامة قاعة للبحث والاستقصاء والمطالعة وتجهيزها بما يلزم من مفروشات من جهة أخرى... كل ذلك بتأمين المساهمات الماليّة الضروريّة من مصادرها الثابتة.
4 ـ المكتبة : إغناء المكتبة لدينا بكلّ ما يصدر عن صيدا والجنوب اللبنانيّ في مختلف المواضيع والاهتمامات. والعمل على وضع "بيبلوغرافيا" (Bibliographie) مفصّلة عن كلّ ما له علاقة بهذه المدينة التّاريخيّة والعالميّة، من الكتب والدّراسات الجامعيّة والصّحف والدّوريات في لبنان أو في الخارج، كلّياًّ أو جزئياًّ...
خامساً : متابعة البرامج والنّشاطات الثّقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والتربويّة والتّاريخيّة، بأسلوب جديد وروحيّة ومنهجية علميّة وتقنيّة وفنيّة حديثة، وذلك عن طريق:
• تنظيم النّدوات والمحاضرات والمؤتمرات واللقاءات الثقافية والاجتماعية، ونشرها في كُتُب ووثائق...
• كما العمل على متابعة إصدار الدراسات الاجتماعية والبحوث العلميّة والوثائق المتوافرة لدينا ـ وهي كثيرة ـ وطباعتها ونشرها وتعميمها على نطاق واسع، ونشر الندوات والمؤتمرات والمحاضرات والبحوث والدراسات لدينا، بعد تأمين التغطية المالية لها...
سادساً :الاستمرار في تحقيق الدراسات والبحوث الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة والعمرانيّة والتّراثيّة التي تتناول المجتمع الصّيداويّ وعلاقاته بمحيطه المحليّ، الجنوبيّ واللبنانيّ والعربيّ.
• وفي هذا المنحى أيضاً، تقديم المنح الدراسية لباحثين اختصاصيّين لمعالجة قضايا تهمّ مدينة صيدا وتناولها من جوانبها الاجتماعية كافة، مع اهتمام خاصّ بشؤون البيئة والصحّة العامّة والتلوّث ومشاكل النّفايات المزمنة، وتنفيذ برامج التّوعية العامّة في المنطقة.
• ومهما يكن، فإن أيَّ تطلعات مستقبلية طموحة أو أيَّ ترجمة عملية لأهدافنا الثقافية ةوالفكرية والاجتماعية، يجب أن تعتمد على تأمين المصادر المالية الثابتة ورسم سياسة مالية متطورة. وهذا ما سيأخذ منا مستقبلاً الجهد الكبير تنظيماً وإدارةً...
سابعاً : السعي إلى تحقيق مشروع قديم لنا، كنا قد طرحناه منذ بداية التأسيس، وهو إصدار مجلة (دوريّة موقّتاً) تحت اسم "الآفاق الثقافية"، تكون ناطقة ومعبِّرة عن توجّهات مركزنا الثّقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة والحواريّة والتربويّة...
ثامناً : العمل على تحسين الوضع الإعلاميّ لمركزنا الثَّقافيّ،
لبنانياًّ، عربياًّ ، دولياًّ... وهذا توجُّهٌ ينبغي أن يأخذ منَّا جهداً واهتماماً خاصاً في المستقبل...
* * *
وأخيراً وليس آخراً، يسرُّنا في هذه المناسبة، مناسبة مرور خمسٍ وثلاثين سنة على تأسيس مركزنا الثقافي، أن نضعَ الرأي العام اللّبناني والعربي ونحيطَهُ علماً بما كُنّا قد قمنا به وأنجزناه من نشاطٍ ثقافيّ وطموحات.
في الحقيقة، فقد حاولنا منذ ذلك التاريخ، رُغم الظروف القاسية، والنِّزاعات السياسية المتعاقبة والاضطرابات الأمنيّة والعسكريّة المتتالية، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية المستمرة وضعفِ الإمكانات المادّية والطاقات البشريّة، حاولنا أن نقوم بإنجاز ما كُنّا قد وَعَدنا به، وأن نُترجم عملياًّ، وباستقلالٍ كليّ، الأهداف والمبادئ الفكريّة والثّقافيّة والاجتماعية التي قام المركزُ على أساسها، ومواصلتها دون انقطاع...
ويحقُّ لنا أن نعتبرَ أنَّ مركزنا الثّقافيّ قد خطا، في هذا المجال، خطواتٍ واسعةً إلى الأمام. وهو يمرُّ الآن بانعطافٍ مرحليّ، بل بانطلاقة تأسيسيّة نأمل أن تكون جديدةً، نتابع فيها خطّنا الثّقافيّ والتّربويّ والاجتماعيّ، بأسلوبٍ حديثٍ، وروحيّةٍ جديدةٍ، وبخطواتٍ ثابتةٍ متقدِّمةٍ، تعتمد على خبرةٍ وتجربةٍ غنيّةٍ.
كما أنّنا نسعى في الوقت نفسه إلى تطوير مركزنا الثّقافيّ تقنياًّ وفنياًّ حتى يغدوَ، أكثر من المرحلة السابقة، ملتقىً ثقافياًّ وفكرياًّ، ومنطلقاً لكل عملٍ تربويٍّ اجتماعيّ مثمر ومفيد لصيدا والجنوب اللّّبنانيّ ولبنان بعامة...
رئيس المركز الثقافي للبحوث والتوثيق
الدكتور مصطفى الدندشلي
صيدا في 15 آذار 2011