محاولة لتأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي - محمد مسعود الشّابي
مقابلات /
سياسية /
1990-07-03
مقابلة مع
الأستاذ محمد مسعود الشّابي
بتاريخ 3 تموز 1990 ـ باريس
الموضوع: محاولة لتأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي
من خلال التجربة الشخصيَّة
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … أستاذ مسعود (الشّابي)، أنا سعيد بمقابلتي لك وحديثنا، هذا الحديث الذي أُطلق عليه هذا العنوان: محاولة لتأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال التجربة الذاتية. وأنت لك تجربة سياسية وفكرية غنيَّة في حزب البعث، ومن الأهمية أن نُلقيَ الأضواء على تاريخ حزب البعث الداخلي، وذلك من خلال تجربتك الشخصية. بداية، أودّ لو تقدِّم لي نبذة موجزة عما نسميه: بطاقة شخصية وسياسية، أولاً من أيِّ قطر عربي أنت، ومتى كان انتسابك إلى حزب البعث؟!…
الأستاذ محمد مسعود الشّابي: … أنا من جمهورية تونس.. ومن مدينة "طَوْظر" في الجنوب التونسي، ببلاد الجليد. وهي تبعد عن مدينة "طفسة" حوالي 90 كلم. وهي واحة نخيل كانت في السابق على طريق التجارة البعيدة المدى بين العالم العربي وإفريقيا. وهي مدينة ذات تقاليد علمية وثقافية منذ أمد بعيد. وأنا من مواليد عام 1934 وزاولت تعليمي في المدرسة الابتدائية الفرنسية في "طَوْظر". ثم التحقت بفرع الجامعة الزيتونية في "طَوْظر" أيضاً. ثم أنهيت تعليمي الثانوي والتحقت بالقاهرة لمتابعة تعليمي العالي. وكان انتسابي إلى حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1958. ولهذا الانتساب أسبابه ووقائعه. والواقع، أنا كنت أبحث عن الحزب أكثر مما هو يبحث عني. لأنني، أنا في ذلك الحين، كان في ذهني فكرة لتكوين حزب معارض لسياسة بورقيبه. ففي أثناء البحث والتفتيش، التقيت بحزب البعث، فالتحقت به، لأنه يحمل نفسه المشروع الذي كان عندي.
فأنا ذهبت إلى القاهرة عام 1957. وفي عام 1958 انقطعت العلاقات بين تونس والجمهورية العربية المتحدة نتيجة الخصومة بين عبد الناصر وبورقيبه. وكانت سياسة بورقيبه هي إبعاد التونسيين والشعب التونسي عن الوطن العربي. ولذلك لم يكن يريد للطلبة التونسيين أن يدرسوا في القاهرة. فأخذت الحكومة التونسية قراراً بسحب الطلبة من القاهرة. فأنا رفضت هذا القرار وقُدت مقاومته ونجحنا في إحباطه على الأقل بنسبة خمسين (50) في المائة. وعلى أثر هذه الحادثة صار عندي اقتناع بأن الشاب الوطني العربي وفي العالم الثالث بصورة عامة، ربما ليس في إمكانه أن يبتعد عن السياسة، وإنما السياسة قد تلاحقه حتى في بيته وتدق عليه بابه….
س: … مَن هم زملاؤك في حزب البعث؟!…
ج: … في الحقيقة، زملائي الذين التقيت بهم، كان أولهم لبناني وهو محمد خير الدويري. وكان في كافيتريا في كلية الآداب في جامعة القاهرة، فجرَّنا الحديث إلى أن حدثني عن حزب البعث. وكان معه إثنان من المصريين يدرسان في كليـة الصحافة واحد اسمه جلال سرحان ـ توفي الله يرحمه ـ وقد وصل لأن يكون نائب رئيس تحرير جريدة "الجمهورية"، لقد كان في أفكاره بعثياً، ولكنه لم ينتسب إلى الحزب. والشخص الآخر أيضاً اسمه جلال، ونسبت اسم عائلته، وهو الآن عضو في نقابة الصحافة في مصر. وهكذا، بدأ الحديث (عن حزب البعث)، ومن ثمَّ اتفقنا على أن نلتقي فيما بعد في دار محمد خير الدويري وكان يسكن في ذلك الوقت مع عبد القادر النيّال الذي أصبح عضواً في القيادة في حزب البعث في سورية في أواخر عام 1965. ثم بعد ذلك التقيت بأخ طبيب من البحرين، نسبت اسمه أيضاً. وكذلك حصل اتصال مع أخ عراقي اسمه قحطان جبوري ـ لا أدري الآن إذا كان لا يزال في حزب البعث في العراق أم لا ـ وكنت قد التقيت أيضاً في ذلك الحين فاتك الصافي وهو عراقي بعثي: فاتك الصافي وقحطان جبوري الذي تولى إدارة الحلقة التي كنت أنا عضواً فيها، وبعده بفترة قصيرة جاء مكانه فاتك الصافي. وبعدها أصبحت عضواً متدرباً ـ بعد أن كنت صديقاً ـ من ثمَّ عضواً عاملاً، وأخيراً انتخبت عضواً في قيادة فرقة، ثم انتخبت عضواً في مؤتمر الشعبة التي كانت أعلى مستوى في التنظيم الحزبي حيث التقيت حينها بعلي غنّام وصدام حسين وعبد الكريم الشبخلي وحسين الضناوي من طرابلس ـ لبنان. وهو صديقي وصداقتنا مستمرة. وكان معنا في الفرقة أيضاً من الأردن شاهر الطالب ـ توفي الله يرحمه ـ وأصبح محامياً وعضواً متميِّزاً في حزب البعث في الأردن. والتقيت أيضاً في الوقت نفسه بمحسن العيني وهو من اليمن… وقد أسس آنذاك مكتباً ثقافياً تابعاً للتنظيم البعثي في القاهرة. وكنا مجموعة في هذا المكتب الثقافي: أنا وعبد القادر النيّال ومحمد خير الدويري ـ لفترة ـ ومحسن العيني ومعنا فتاة عراقية اسمها أميرة نور الدين…
س: … هنا يُطرح سؤال مهم مؤداه أنه من خلال حديثك، بدا لي وكأن القاهرة كانت مكاناً لاستقطاب الطلاب العرب وتعريفهم على حزب البعث العربي الاشتراكي.
ج: … الواقع أن القاهرة كانت مركز استقطاب للطلاب العرب من مختلف الأقطار، الذين كانوا يأتون إلى الجامعات، لأنه في ذلك الحين لم تُنشأ في أغلب البلدان العربية الجامعات. لذلك، كانت النخبة التي تريد (وظروفها المادية تسمح لها) أن تواصل تعليمها العالي وبخاصة في المشرق العربي، تأتي إلى القاهرة لإكمال دراساتها الجامعية. وبما أن القاهرة أضحت مركزاً للطلاب الجامعيين، فبطبيعة الحال فإن حزب البعث كحامل لفكرة قومية، كان ينتشر في هذا الوسط الطالبي… وكان الطلاب في القاهرة من مختلف الأقطار العربية، كما ذكرت، من البحرين، ومن الجزائر يوسف فتح الله وهو الآن رئيس رابطة حقوق الإنسان في الجزائر… وكان هناك بعثيون جزائريون ولكنني لم أحتك أنا بهم، ومن ليبيا عدد كبير من البعثيين ولكنني مع طول الزمن نسيب أسماءهم (ويذكر أحدهم واسمه شرف الدين وهو محامٍ وجاء إلى القاهرة وأصبح الآن معارضاً لحكم معمر القذافي). وبعد ذلك التقيت بالأخ عبد الحميد وابور وهو طبيب بيطري وموجود الآن في ليبيا، دخل السجن وبعدها أُخرج… وكان هناك عدد كبير من الليبيين وكذلك من السودانيين وأذكر الشاعر أحمد الحردلّو وكان من ضمن الحلقة التي كنت أُشرف عليها. وفي فترة من الفترات كنت همزة وصل بين القيادة القومية في بيروت وبين الطبيب السوداني والبعثيين السودانيين، أنقل إليهم بطريقة أو بأخرى النشرات والبيانات الحزبيّة.
س: … هل كان لك اتصال بالطلبة اللبنانيين في القاهرة، مثلاً غسان شرارة ورفاقه؟!..
ج: … غسان شرارة، في الحقيقة، لم تسنح لي الظروف أن ألتقي به. بل كان من المفروض أن يكون هو مَن يتصل بي، ذلك أن أول من ألمح لي عن حزب البعث العربي هو الأستاذ يوسف الرويسي وهو مناضل تونسي وكان استقراره في دمشق، ثم انتقل إلى القاهرة، وكان قريباً من حزب البعث ومن المفروض أساساً أن يجمعني بغسان شرارة ولكن هذا اللقاء لم يحصل. وقد تعرفت عليه هنا في باريس في الثمانينات، تعرفت عليه بعمق وكذلك في لبنان بعد 23 شباط 1966، حينما هربت أنا إلى بيروت.
س: … طيِّب، بعد جولة الأفق هذه حول الفترة الزمنية التي عشتها في القاهرة، وهي مرحلة البدايات مهمة لتوضيح صورة انتشار حزب البعث بين النخبة الطلابية… فهل لديك أشياء أخرى لتضيفها حول انتشار البعث في تلك المرحلة؟!…
ج: … في الحقيقة، لمّا دخلت حزب البعث، لم يكن ليهمِّني العدد الذي يحتويه أو يضمُّه الحزب. ولكن بالنسبة إليَّ، فقد كان مشروعاً لتكوين حزب معارض للسياسة البورقيبيَّه في تونس. طبعاً، وبما أن خلفياتي الثقافية والعائلية هي خلفيات عربية وقومية، فلقائي حزب البعث كان سهلاً، بل كان أكثر من طبيعي. فقد كان هدفي القيام بالتخطيط لإيجاد فرع لحزب البعث في تونس، يقوم بهذه المهمَّة…
س: … هل كان لحزب البعث فرع في تونس؟…
ج: … لا، لا، وإنما كان هناك بعثيون، ولكنني أنا لم أكن على معرفة بهم. هناك بعثيون، فيما يظهر لي، تخرجوا من الجامعة في العراق، ولكن يبدو لي أنهم لم يكونوا متكوِّنين تماماً، لكونهم ظلوا ومرّوا بحزب البعث على فترات. فقد كان تكوين الأعضاء هناك في العراق مختلفاً. ففي الفترة الأولى، ربما يكون التكوين تكويناً عاطفياً، أكثر منه تكويناً سياسياً أو تنظيمياً دقيقاً. ففي ظنّي أنه في ذلك الحين تخرَّج عدد من الطلبة التونسيين من الجامعة في بغداد، ويخيّل إليّ أنهم كانوا متعاطفين مع حزب البعث، ولكن لا أعتقد أن كان لهم خبرة تنظيمية أو تكوين سياسي متين بحيث يستطيعون أن يجابهوا مشكلات لبلد في مجملها: يعني، فقد كان تكوينهم تكويناً جزئياً عاطفياً. وعلمت فيما بعد أنه كان هناك مجموعة من الطلبة التونسيين يتعاطفون مع بعضهم البعض الآخر. ولربما حصلت محاولات عديدة لأن ينتظموا حزبياً، ولكها لم تنجح. ولكننا نستطيع أن نقول إنه كان هناك بعض البعثيين التونسيين، غير أنه بالتأكيد لم يكن هناك حزب بعث قائم…
س: … متى وفي أيّ وقت ترى أن حزب البعث كان قد تأسس في تونس؟!…
ج: … أنا أعتقد أن تأسيس الحزب في تونس لم يحصل إلاّ في أواخر سنة 1967، وذلك على أثر دخولي أنا إلى تونس. ولقد كان في تخطيطي الذي أنا وضعته، وهو أن نحاول أن نكسب البعثيين في الخارج: في القاهرة، في دمشق، في بغداد، في باريس ـ لقد جئت أنا إلى باريس 1962 ـ 1963 خصيصاً لهذا الأمر ـ فقد كان المخطَّط تكوين مجموعة من التونسيين في الخارج، وعندما يأتون ويدخلون إلى تونس، عند ذاك يمكن تأسيس حزب بعث في الداخل… لهذا، وقبل هذا التاريخ، لم يكن هناك تنظيم حزبي بعثي. فكنت أنا أول أمين سرّ الحزب في تونس، وذلك بحكم أنه لم يكن يوجد شخصية أو شخصيات قيادية تستطيع أن تكوِّن تنظيماً أو هيكلية تنظيم لحزب البعث في داخل البلاد. لذلك، فقد تكوَّن التنظيم للحزب بعد دخولي أنا مباشرة إلى تونس.
س: … نعود إلى القاهرة، ما مدى انتشار حزب البعث بين صفوف طلاب الجامعة؟!…
ج: … الحقيقة، أنا لا أستطيع أن أقول شيئاً حول هذا الأمر، لأنه أولاً كان العمل الحزبي سرِّياً…. هل تقصد الطلبة المصريين أم الطلبة العرب؟
س: … لا، الطلبة في جامعة القاهرة عموماً…
ج: … أنا أعتقد أنه في ذلك الوقت لا وجود لأيِّ تنظيم حزبي، لا للسوريين ولا للمصريين، فلم يكن لهم أي تنظيم حزبي، بما أن حزب البعث قد حلَّ نفسه في الجمهورية العربية المتحدة، كما باقي الأحزاب الأخرى، وذلك أثناء الوحدة السورية ـ المصرية… لذلك، فلا أعتقد أنه كان هناك توجُّه نحو المصريين إلاّ ما قلّ، عدد قليل من المصريين، على سبيل المثال: رجاء النقاش، عبد المعطي حجازي، صلاح عبد الصبّور، أحمد بهاء الدين، إلخ… ولكن هذا لم يكن تنظيماً بقدر ما كان تعاطفاً مع أفكار حزب البعث وتحليلاته ورؤيته القومية.
س: … ما هي في رأيك ومن خلال إقامتك في القاهرة وبخبرتك الشخصية، ما هي الأسباب التي أدَّت إلى الخلاف بين حزب البعث وعبد الناصر؟…
ج: … أنا أعتقد أن هذه المسألة مهمة، لأننا نحن كجيل من الطلبة الشباب عشنا في القاهرة في نظام عبد الناصر وكنا منتسبين لحركة البعث العربي، فكانت هذه المشكلة تواجهنا بحدَّة. وأعتقد أيضاً أن هذه المجموعة من البعثيين التي أصبح لها تأثير بعد ذلك في الحزب سواءٌ في الحكم أو خارج الحكم، وقد واجهتنا مشكلة العلاقة بين حزب البعث وعبد الناصر من الأيام الأولى. وأنا شخصياً، عندما جئت إلى القاهرة، كنت متعاطفاً مع عبد الناصر، وهذا أمر طبيعي. ولكن حينما حصل عندي الاقتناع لكي تتكوَّن معارضة حقيقية لنظام بورقيبه، لا بدّ من وجود حزب سياسي. فوجدت أن عبد الناصر يدعو إلى مواجهة الحزبية والوقوف ضدها. فأحسست أن هذا خطأ كبير في سياسة عبد الناصر. ومن هنا وقع انفصالي عن الناصرية، وليس كأفكار بقدر ما هو إشكالية أن مواجهة الوضع العربي القائم بدون تكوين أحزاب، يظهر لي بأنه كلام فارغ (لا جدوى عملية منه)، رغم أن تفكيري السياسي آنذاك كان بسيطاً، ولكن بفطرتي السليمة، أحسست بأن ليس هذا هو الطريق الصحيح، وليس هذا هو طريق الوحدة العربية، وليس هذا هو الطريق لمقاومة الأنظمة التي هي ضد الأفكار التي يدعو إليها عبد الناصر.
إلى هنا، كنت قد وصلت إلى هذه القناعة قبل أن أنضم حتى إلى حزب البعث، بحيث لم يكن عندي مشكلة في هذا الأمر. يعني، كنت قد حسمت هذه المسألة أن عند الناصر لا يمكن أن يحرك الجماهير بواسطة الإذاعة. والإذاعة يمكن أن تكون وسيلة إعلامية ثانوية مساعدة، وإنما المسألة الرئيسية والأساسية هي تنظيم الجماهير (وتأطيرها وتنظيمها في حزب). فهذه هي نقطة الفراق حتى قبل أن أنضم إلى حزب البعث، ولم أجد أيَّ إشكال في هذا الموضوع. وعندما وقع الخلاف بين حزب البعث وعبد الناصر، كان قد حدث تمزُّق بين البعثيين، تمزُّق نفسي، لأن كلاهما يحمل الشعارات نفسها والمبادئ ذاتها، فلماذا هذا الصراع بينهما؟!…
طبعاً، حزب البعث كان يقدِّم الأفكار التي تفصل بينه وبين الناصرية (والتي تميِّزه من الناصرية جملة وفي المضمون)، لأنه لا بدَّ من تنظيم الجماهير وليس هناك من ضمانة للأمة في الحاكم الفرد، ولا ضمانة للشعب. فالفرد، مهما كان، سوف يزول وقضية الأمة إنما هي قضية دائمة ومستمرة. لقد كانت هذه أهم فكرة تقريباً هي التي تلقى صدىً لدى البعثيين والتي تجعل البعثي أن يتمسك بانتمائه الحزبي أكثر مما يستجيب لدعاية عبد الناصر. واستمر ذلك إلى أن وقع الانفصال. وحينما حدث الانفصال، حصل نوع من البلبلة في منظمة حزب البعث في القاهرة. ولكن في النهاية حُسمت بشكل اُتخذ الموقف ضد الانفصال، وإنما مع نقد للنظام الناصري. وهذا الموقف لمنظمة حزب البعث فرع القاهرة يستجيب مع موقف القيادة القومية وأمينها العام ميشال عفلق من قضية الانفصال، وكان هذا الموقف في الأيام القليلة الأولى من وقوع الانفصال وكانت لا تزال المسألة حادّة جداً.
وفي العام 1962، كنت قد أعددت نفسي لأغادر القاهرة عند انتهاء دراستي، وأمرّ بباريس لكي أشكل تنظيماً بعثياً هنا. وكان هذا عملاً تلقائياً ذاتياً لم أُكلَّف به من الحزب، ذلك أنني كنت أحسّ بأني مسؤول أولاً وآخراً عن تكوين حزب بعث.
أما مسألة التفرغ للعمل الحزبي، فلم تكن موجودة وأصلاً لم تكن مطروحة قط، على الأقل في المستوى الذي أنا عايشته. ومن أين يأتي الحزب بالمال لكي يتفرغ بعض أعضائه للعمل الحزبي؟… فقد كنا نحن نساهم بالقروش حتى يستطيع أن يستمر في عمله في الحد الأدنى.
س: …. لننتقل الآن إلى موضوع مهم أيضاً، أعنى به موضوع التنظيم: فكيف يمكن أن تعطيني صورة عن محاولات إدخال حزب البعث إلى تونس؟!…
ج: … الفكرة المركزية التي كانت تسيطر عليّ شخصياً وبموجبها دخلت إلى حزب البعث ـ فأنا لم أدخل إلى حزب البعث لأن أحد أقربائي بعثي أو أحد معارفتي أو من بلدي. لا، أنا كنت في صدد البحث عن فكرة تكوين حزب سياسي. لقد كانت مسيطرة عليَّ فكرة: لازم إقامة حزب معارض لنظام الحكم في تونس ولسياسة بورقيبه ولمشروعه التغريبي الذي يهدف إلى إلحاق تونس بأوروبا. فهذا التوجُّه وضعني مع أفكار حزب البعث، التي وجدتها تتطابق تماماً مع الأفكار الأولية والبسيطة عندي. وحزب البعث وبخاصة كتاب "في سبيل البعث" للأستاذ ميشال عفلق، قد ساهم في تنظيم أفكاري السياسية، ولم يعطني أفكاراً بالأحرى، فالأفكار الموجودة في حزب البعث هي عندي، ولكنه ما أضافه إليّ، هو أعطاني المنهج في رؤيتها وفي ترابطها. فكان إذن هدفي هو إقامة حزب معارض لسياسة بورقيبه في تونس. وحسب المعايشة التي عشتها في القاهرة، لم تكن تونس نقطة مركزية في تفكير الحزب، بحيث إنه يوجِّه نشاطه الحزبي إلى تكوين تنظيم الحزب في تونس (أو في المغرب العربي بمجمله، بل كان نشاطه وعمله الحزبي عفوياً وتلقائياً ويخضع للمصادفة.). ولست أدري تماماً السبب في ذلك… ولربما يكون لعدم وجود بعثيين تونسيين، بالتأكيد، ولأن حزب البعث إنما هو حزب عفويّ بصورة إجمالية، أكثر مما هو تخطيطي، وقد كان ذلك في كل سياساته وحتى في انتشاره. وأعتقد أن انتشاره في عدة أقطار عربية كان عفوياً أكثر مما هو كان مخطَّطاً أو منظماً.
لهذا، فكنت أشعر باستمرار أنني أنا مسؤول عن حزب البعث العربي الاشتراكي في تونس. وقيادة حزب البعث لم تكلفني، ولكنني كنت أشعر أنني أنا مسؤول، أي أنا المسؤول الذي يجب أن يخطِّط ويدفع الطلبة التونسيين في القاهرة أن يدخلوا حزب البعث وينتسبوا إلى الاتحاد العام للطلبة التونسيين، بحيث يحاولون أن يقيموا لنا مواقع حزبية داخله ويأثِّرون في سياسته، إلى غير ما هنالك. فكنت أنا أقوم بهذا العمل حين وجودي في القاهرة مع مجموعة من الطلبة التونسيين، حتى إننا قَدِرنا أن نسيطر على اتحاد الطلبة التونسيين واستطعنا أن ندمج الناصريين معنا… وعقدنا صلة وصل مع تونس بصورة سريّة، ذلك أننا لم نكن نحن معرفين أننا بعثيون. وفي الوقت نفسه، عملت على أن تكون فيدرالية منظمات الطلبة في المشرق في أيدينا واُنتخب فيها المرحوم عمر الطحيني، اغتيل في بيروت، فأنا الذي رشحته وعملت على نجاحه حتى يكون هو صلة الوصل بيننا وبين تونس. وكذلك لدى ذهابي إلى باريس، مررت بدمشق والتقيت بالطلبة التونسيين وكسبت إلى صف الحزب عدداً منهم. طبعاً، لم يكن ذلك عفوياً، وإنما حينما دخلت أنا إلى الحزب، غدا لدينا مخطّط لتكوين فرع للبعث في تونس. فالتوجّه نحو تونس أصبح مخطّطاً، ولم يعد عفوياً. بل هناك إرادة مصمِّمة، تعمل على القيام بمجموعة عمليات من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى تكوين تنظيم لحزب البعث في تونس.
لذلك، عندما رجعت أنا في عام 1967 إلى تونس، كان هناك عدد لا بأس به من البعثيين بين 30 ـ 40 عضواً ملتزمين حزبياً، منهم من كان بعثياً في القاهرة أو في دمشق أو في باريس، فكنت أنا المحور الأساس لهذه المجموعة من البعثيين، لأنهم جميعاً قد كانوا في السابق على صلة معي شخصياً. وكما أذكر تماماً، في الأسبوع الثاني لعودتي إلى تونس، أقمنا تنظيماً لحزب البعث العربي الاشتراكي وكان ذلك لأول مرة. وهذا التنظيم الحزبي البعثي أصبح له سياسة قومية محدّدة وهو موجود في الجامعة ويطرح شعاراته المعروفة. وقد فوجئ نظام الحكم في تونس بهذا الوجود لحزب البعث الذي ظهر فجأة على الساحة السياسية.
س: … هنا أودّ فقط أن أشير إلى نقطة وردت في حديثك: لماذا العودة إلى تونس عام 1967 وتأسيس فرع لحزب البعث في هذا الوقت بالذات، هل لأنه حدث تغيير في سياسة النظام وفتح لكم المجال لكي تعودوا؟!…
ج: … لا، أنا رجعت دون خوف عام 1967. ولكن، هناك حادث معيَّن دفعني إلى العودة إلى تونس، وهو أنه في حرب 1967 كان بورقيبه مسروراً للهزيمة التي أصابت الأمة العربية وعبد الناصر بالذات، بحيث إن الهزائم كانت متتالية، والوضع السياسي متوتراً والإذاعة التونسية تطلق الأغاني، فيها تورية تعبيراً عن الفرح لوقوع الهزيمة. فالجماهير التونسية خرجت إلى الشارع، ملايين من الناس في الشوارع واحتلتها في تظاهرات عارمة وذهبت الجماهير إلى مبنى الإذاعة وأوقفت الأغاني وفرضت مكانها الأناشيد الوطنية. فأنا عند ذاك أحسست أنه ليس هناك قيادة سياسية في تونس. لو كان يوجد قيادة سياسية حقيقية، لكان باستطاعتها الاستيلاء على الحكم وليس فقط بتغيير برامج الإذاعة. فهذا ما جعلني أشعر أنه أصبح من الضروري أن أرجع وأدخل إلى تونس، ذلك أنني كنت قد فهمت المسألة السياسية بحيث إني أقدر أن أقوم بخطوة عملية، لو حصلت التجربة من هذا النوع وعلى هذا الشكل… وقد وصلت الاضطرابات الجماهيرية إلى الحد الذي فكر فيه كل فرد مسؤول في النظام أن يأخذ جواز سفره ويهرب من البلد. الجماهير الشعبية كانت قد احتلت البلد، حتى إن نظام الحكم حاول أن يساير الجماهير ويتفاهم معها إلى أن استطاع أن يسوّي الأمر في النهاية.
أما السبب الثاني لعودتي إلى تونس، فهو أنني شعرت أنه رغم صوابيَّة أفكاري تجاه الأحداث التي استجدت في حزب البعث في سورية، سواءٌ قبل 23 شباط 1966 أو بعد ذلك، رغم صوابيَّة أفكاري وتحليلي، أنه طالما لم يكن هناك قوة تنظيمية وإطار، فلا أستطيع أن أؤثِّر في الحزب وأطوِّره أكثر من ذلك. فأثناء وجودي في سورية شعرت أن حزب البعث يحتوي على نواقص كبيرة. هذه النواقص، يجب أن يتمَّ إصلاحها عن طريق عملية توضيح فكري وإدخال عملية تخطيط داخل الحزب، وأن لا تستمر العملية بطريقة عفوية، وبالتالي إيجاد قيادة أيضاً، لأنني شعرت أن حزب البعث ليس لديه قيادة تاريخية، قيادة سياسية تساوي أفكاره. فأفكاره كبيرة ولكن قيادته السياسية ليست في مستوى هذه الأفكار.
لهذا السبب أنا أقول بأن الأستاذ ميشال عفلق كان مفكراً عظيماً ولكنه لم يكن سياسياً عظيماً. وأعتقد أنه جزء كبير من الفشل الذي لقيه حزب البعث، وأن الانتكاسات المتتالية، إنما راجعة إلى أن ميشال عفلق مفكر كبير وصاحب نظر بعيد، ولكنه ليس القيادي الديناميكي لحزب سياسي والذي يقدر أن يخطِّط للأحداث اليومية ويُحدث المؤسَّسات القادرة على القيام بهذا العمل. يعني، ميشال عفلق، يتصوَّر في داخله أن على الحزب هو الذي يأتي إلى بيته، وليس هو الذي يذهب إلى الحزب. وهذا نقص في القيادة السياسية.
لهذا، فقد كان عندي إحساس بأنه في إمكاني أن أطوِّر الحزب في هذا الاتجاه وأوجد كادراً قيادياً عَبر عدد من السنين يعوِّض عن قيادات كانت قد تربَّت على نمط معيَّن من العمل السياسي. وهذا ما خلق لي متاعب وخلق لي أعداء في ظل القيادات القديمة، وتصوروا وكأنني أنا أريد أن أزيحهم. والواقع، ليس هذا هو الهدف، بقدر ما كان توفير قيادة تقدر أن تقود حزباً لديه هذه المهمة العظمى وهي توحيد العالم العربي ووضع الأمة العربية في الساحة الدولية. لقد كنت أشعر أنه لا بدّ من هذا العمل. ورغم صحة أفكاري ومواقفي سواءٌ في سورية أو في أيِّ بلد عربي آخر، فإنني شعرت بأن تأثيري لم يكن إلى درجة يستطيع أن يجيِّر فيها الحزب. ولقد تصورت أنه لو كان عندي قوة تنظيمية في قطر عربي ما، وخصوصاً في القطر التونسي، فقد كان من الممكن أن يكون تأثير الحزب أقوى وأكبر وإمكانية أن أدفع بالحزب إلى الأمام أكثر.
س: … سوف أعود إلى هذه النقطة بالذات، وهي نقطة مهمة جداً وسوف نأتي إلى مناقشتها بالتفصيل فيما بعد. أما الآن فأودّ أن نتحدَّث عن ظروف انعقاد المؤتمر القومي السابع لعام 1964 ونتائجه. لقد شاركت أنت في هذا المؤتمر، فهل يمكن أن تقدِّم لي صورة عن التيارات السياسية والحزبية داخله، ذلك أننا نعلم أن داخل حزب البعث في ذلك الحين وهو في السلطة، ثمة تيارات أو صراع، إذا أمكن القول، صراع يمكن أن نسميه صراعاً على السلطة في سورية وعلى السلطة داخل الحزب، فهذه المرحلة هي مرحلة مهمة جداً، فأودّ أن تعطيني صورة واضحة وتفصيلية عن الوضع وعما جرى داخل المؤتمر آنذاك؟!…
ج: … هنا، أودّ أن أشير إلى أنني، عندما حضرت المؤتمر القومي السابع وشاركت في أعماله، لم أكن في داخل الأحداث التي جرت قبل ذلك. بمعنى أنني لم أكن مقيماً في سورية أو في العراق حتى أعرف تماماً التيارات (والتكتلات السياسية وأسباب الأزمات داخل حزب البعث). لقد كنت أنا في باريس حيث جئت إلى هنا عام 1962 وكوَّنت منظمة لحزب البعث في مستوى "الفرقة" تضمُّ نحو 12 أو 13 عضواً من مختلف الأقطار العربية: من ليبيا ومن تونس ومن سورية، كانوا في السابق متفرقين، بما أنه لم يكن هناك من تنظيم حزبي، فجمعتهم…. ذلك أنني أنا جئت لهذا الغرض، لأقيم منظَّمة بعثيَّة في باريس. فلما وصلت الدعوة إلى المؤتمر ووُجَّهت إلينا، فذهبت للحضور والمشاركة في أعماله، أنا وشاب بعثي تونسي ـ توفي الله يرحمه ـ واسمه محمد الأرقش. وحتى ذلك الحين وعند مشاركتي في هذا المؤتمر، لم يكن لديَّ فكرة عمّا يجري من صراعات داخلية في الحزب. وكل ما أعمله طبعاً أن حكم الحزب كان قد سقط في العراق وأن هناك أخطاراً تحدق بسلطة الحزب وحكمه في سورية. ولم أكن على معرفة إطلاقاً بالصراعات داخل الحزب. وأنا بقيت في حزب البعث أكثر من عشرين (20) سنة، وفي عمري لم أدخل في تكتل حزبي، وفي عمري أيضاً قد شاركت في انتخابات حزبية ولكن لم أطلب من رفاقي أن يدلوا لي بأصواتهم….
في داخل المؤتمر القومي السابع، كانت المشكلة قائمة بين علي صالح السعدي وتكتله من جهة وبقية أعضاء الحزب من جهة أخرى. إن علي صالح السعدي كان يتَّهم القيادة القومية بالتآمر على الحزب في العراق وإلى آخر ما هنالك من اتهامات أخرى كثيرة. والآخرون ومعهم القيادة القومية، يقولون إن سبب الفشل في العراق هو علي صالح السعدي وتياره، نتيجة شهوة في السلطة ونتيجة عدم دراية في شؤون الحكم والأفق الضيِّق في إدارة المسائل السياسية. وهم السعدي ورفاقه كانوا يرفضون في هذه الأجواء من الاتهامات حضور المؤتمر القومي السابع.
وإنني أعتقد أن الفكرة التي كانت مسيطرة عليهم أنهم إذا حضروا المؤتمر لن ينتخبوا في القيادة القومية (أو بالأحرى أنهم في كل الأحوال سوف يصدر القرار بفصلهم من الحزب، لأن الخلاف فيما بين الاتجاهَيْن أو التيارَيْن قد وصل إلى نقطة ألا عودة إلى الوراء… ولهذا اتخذوا القرار بعدم الحضور والمشاركة في المؤتمر). ولذلك الأفضل بالنسبة إليهم ألاّ يحضروا وينشقوا عن الحزب ويحاولوا أن يجروه وراءهم. هذه هي، فيما أرى، خطّتهم. أنا، عندما ذهبت وحضرت المؤتمر، كنت أكثر تعاطفاً مع علي صالح السعدي، يعني بسيكولوجياً، لأنني كنت أرى فيه الشاب البطل…. فأنا لم أكن أعرفه عن قرب، وإنما هو كان بنظري في اتجاه أكثر يسارية… وكنت أرى فيه أيضاً، ربما، أنه محقّ (في توجهاته وانتقاداته السياسية للحزب وللقيادة القومية).
ولكن، بعدما وصلت إلى سورية، واتصلنا بمختلف الأطراف: علي صالح السعدي وحمدي عبد المجيد ومن معهما، وأيضاً اتصلنا بالأستاذ ميشال عفلق وبعض أعضاء القيادة القومية ـ وكان الأستاذ صلاح الدين البيطار حينذاك مرفوضاً من الحزب. وكان رأينا نحن أنه يجب أن يحضروا المؤتمر وأو يشاركوا فيه ويدلوا بآرائهم ـ فلماذا لا يحضرون؟!.. ـ . فحصلت محاولات للاتصال بهم وإقناعهم بالحضور إلى المؤتمر. وتكوَّنت لجنة وكنت أنا أحد أعضائُها ومنها إبراهيم ماخوس وزهير بيرقدار وعضو آخر لا أذكر اسمه، وقابلنا علي صالح السعدي وحميد عبد المجيد وآخرين معهم، وذلك لمحاولة دعوتهم وإقناعهم بحضور المؤتمر ونحن مستعدون، كما قلنا لهم، أن نصوِّت إلى جانبكم، وهناك جوُّ في المؤتمر مستعد أن يدعم وجهة نظركم ويصوِّت لصالحكم. وليس الهدف أبداً معاقبتكم ومحاسبتكم وإخراجكم من الحزب، كما تدَّعون. فجوّ المؤتمر ليس في هذا الاتجاه. ولكن، لقد كان تقديرهم خاطئ بالنسبة إلى الجوّ السائد في المؤتمر. فأصروا على أن لا يحضروا المؤتمر واستمروا على السير في الانشقاق عن الحزب.
في ذلك الحين، اتخذت أنا موقفاً تماماً ضدهم، لأنه ومن خلال اتصالي بهم، اكتشفت أن علي صالح السعدي لم يكن في مستوى إدارة دولة وأن ما جرى في العراق، بالتأكيد، يتحمل مسؤوليته هو، لأنه ليس لديه الذهنية والكفاءة الفكرية حتى يستطيع أن يدير بها الدولة، وبالتالي فإن سياسته إنما هي سياسة طائشة ويقوم بأعمال غير منظَّمة، مما جرَّ الكارثة على الحزب. ففي هذه الحالة، انحزت كلياً إلى الطرف الآخر. ولكنني اكتشفت فيما بعد أن الطرف الآخر يضمُّ هو أيضاً اتجاهَيْن: جماعة الأستاذ ميشال عفلق أو اتجاه القيادة القومية من جهة وجماعة العسكريين أو التكتلات التي هي على اتصال بالعسكريين. وبتعبير آخر، فإن الفريق الآخر المناوئ لاتجاه علي صالح السعدي ورفقائه، يتكوَّن هو أيضاً من شقَّيْن: شق يمثله الضباط العسكريون السوريون ومَن معهم من الكادرات البعثية المدنية وشق آخر مع ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار وحزب البعث المدني تحت راية القيادة القومية.
في البَدء، كان المؤتمر قد انتخبني رئيساً لجلساته لفترة قصيرة، ولكنني في تلك اللحظة لم أكن أرى الخريطة السياسية للتكتلات البعثية داخل المؤتمر، فلم أحسن الإدارة ولم يكن في استطاعتي أن أستمر في رئاسة المؤتمر. بيد أنني بعد ذلك قدمت مداخلة حول أكبر مشكلة كان يواجهها الحزب حينذاك في سورية هي مشكلته مع الناصرية. لقد كنت مقتنعاً تمام الاقتناع أن عبد الناصر غير قادر على أن يوحِّد الأمة العربية، نتيجة كراهيته ومعاداته لفكرة الحزبية. وأنا في أواخر أيام إقامتي في القاهرة عام 1962 ـ 1963، كنت قد كتبت دراسة عن "الوحدة"، لأن الحزب آنذاك لم يقدِّم لنا تحليلاً نظرياً مقنعاً للانفصال. وبحسب تفكيري في تلك الفترة، كتبت دراسة تحت عنوان: "وحدة 58 وتناقض الوحدة مع دولتها". وملخَّص هذه النظرية أن الوحدة إنما هي عبارة عن تركيب من قطرَيْن، ولكن دولة الوحدة قد كانت عصبيتها تركيب من دولة واحدة وهي العصبية المصرية للضباط الأحرار. فكان من المحتم أن عصبية الضباط الأحرار ستبعد (أو ستتغلب وتسيطر على) العصبية الأخرى، وبالتالي تصبح دولة الوحدة دولة إقليمية، معبِّرة عن إقليم واحد وقطر واحد بدلاً من أن تكون معبِّرة عن إقليمين. وهذا، في ذهني، التناقض الأساسي الذي سهَّل الانفصال أن يقع وسهَّل التآمر على الوحدة بين الإقليمين. وهذه الفكرة طوَّرتها في كتابي الذي حدثتك عنه، حول "الاستراتيجية للثورة". (.. الصادر عن دار الطليعة ـ بيروت). وبما أن عبد الناصر هو عصبية قُطرية، فلا يمكن إذن أن يكون وحدوياً في النهاية، ذلك أنه كل عصبية قُطرية هي في النهاية معادية للوحدة شاءت أم أبت. (مفهوم الوحدة في سورية هي وحدة بذاتها ولذاتها ورافضة أصلاً، يحكم تكوينها التاريخي والثقافي والسياسي، لكل مفهوم قطري: الأصل في الوجود والأساس هو الوحدة ـ أقله وحدة المشرق العربي ـ وليس القطر الذي هو صنيعة التدخلات الغربية ـ البريطانية الفرنسية ـ والاتفاقات فيما بينها على أثر زوال الامبراطورية العثمانية وتقسيمها بعد الحرب العالمية الأولى).
فقد كان تقييمي، من هذه الناحية، للنظام الناصري أنه لن يستطيع أن يقوم بالمشروع الذي طرحه هو نفسه على أنه سيقوم به. وهذه هي الفكرة التي رسَّخت في ذهني مسألة الانتماء إلى حزب البعث، باعتباره هو العصبيَّة العربية والدعوة إلى وحدة الأمة العربية. وفي الوقت نفسه، فإنه يخلق عصبيَّة عربية بحيث إنه حينما تصبح (هذه العصبيَّة العربية) هي الدولة (العربية الواحدة) بعد ذلك، فلم يعد ثمة تناقض في داخلها يمكن أن يدخل من خلاله المتآمرون. هذا ما جعل قناعتي في حزب البعث عميقة جداً لا تنفصل مهما مرَّت من أحداث. وكل النواقص التي كانت موجودة في حزب البعث وكنت أراها تماماً وأنتقدها، فقد كان في اعتقادي من الممكن تصحيحها، إنما الإطار كإطار هو الإطار الملائم.
س: … هنا، أنا أقول، بتعبير آخر، إن حزب البعث من وجهة نظرك هو حزب عروبي، عربي قومي، في حين أن عبد الناصر واتجاهه السياسي هو في الأساس وفي المضمون اتجاه قطري أو إقليمي. ولكن، بأيِّ معنى تستعمل هنا تعبير "العصبيَّة"؟…
ج: … أنا أستعمل اصطلاح "العصبيَّة" بالمعنى الخلدوني. فلقد حاولت في هذه الدراسة أن أطبق نظرية ابن خلدون في العصبيَّة على الوضع العربي الراهن في ذلك الحين. وهذا ما اعتبره مساهمة سياسية مهمة في الفكر السياسي العربي أصلاً، لأنه قبل هذا التاريخ لم يُستخدم قط منهج ابن خلدون في التحليل السياسي في الأوضاع الراهنة….
س: … أودّ هنا أيضاً أن أطرح سؤالاً في هذا السياق: هل بعد استلام حزب البعث السلطة في العراق ومن ثمَّ في سورية، قد استمرت هذه الرؤية القومية في سياسته العربية؟!…
ج: … إن هذه الرؤية القومية التي أتحدث عنها، ولو هي بديهيَّة في فكر حزب البعث spontanément، عنوية، بمعنى موجودة في فكر ميشال عفلق وهي أيضاً في فكر بعض البعثيين، فقد وجدتها في فكر سعدون حمّادي. إن مسألة القومية وأهميتها، فيما يخصّ مثلاً الوحدة العربية، لقد أدركت فيما بعد أنها موجودة لدى البعث، ولكنني لم أكن مطّلعاً عليها، عندما كتبت كتابي، ولا على طرحها بهذا الشكل. بيد أن البعثيين لم يكونوا واعين لهذه المسألة. لذلك، فقد كان همّي هو خلق وعي في حزب البعث، مفاده أنه ليس حزباً كالأحزاب بالقياس إلى الأحزاب القُطرية. إنه حزب قومي عربي من نوع آخر تماماً. وهو مختلف عنهم نوعياً. وهذه الناحية، لم يكن حزب البعث على وعي تام بها. فكان يقارن نفسه بـ "جبهة التحرير الجزائرية" أو بـ "اتحاد القوى الشعبية" في المغرب، إلخ… بمعنى، لم يكن لديه الإحساس أنه مختلف نوعياً عن هذه الأحزاب. (بل ربما كان هناك نوع من التناقض الحاد بين الفكر والممارسة…). ولذلك، فإن المشاكل والتناقضات التي كانت داخل حزب البعث، كانت ناجمة عن أنه لم يكن هو مدركاً حتى لهذه القيمة التي يمتلكها.
لذا، فإن الكلمة التي ألقيتها في المؤتمر القومي السابع، كان فيها هذا التركيز على إقامة هذا التحليل للناصرية وهذا التحليل لحزب البعث ولفت نظر ووعي البعثيين إلى أهمية هذه المسألة لديهم، والذين هم غير منتبهين إليها. لذلك، لقِيَت هذه الكلمة صدىً لم يلقه أيُّ بعثي في مؤتمر قومي. فجرى تصفيق لم يحصل في السابق لكلمة قيلت في مؤتمر قومي، لأنه كان ممنوعاً التصفيق في مؤتمرات الحزب. فلأول مرة حدث تصفيق حادّ. لماذا؟ لأنني كشفت لهم أشياء هي موجودة لديهم ولكنهم لا يحسّون بها. لهذا، فبعد أن كنت عضواً عادياً في المؤتمر، برزتُ على السطح وصار يُنظر إليّ باعتباري سلطة فكرية، وينبغي أن أكون عضواً في القيادة. فأصروا على ترشيحي في انتخاب أعضاء القيادة القومية. ولكن لم تكن حساباتي الشخصية أن أبقى في سورية. فلم يكن آنذاك مشروعي هو مشروع قومي، وإنما كان مشروعي هو أن أكون في تونس، وإقامة فرع لحزب البعث في تونس. وأنا لم أكن أتصوَّر أن حزب البعث كان محتاجاً إليِّ إلى هذه الدرجة، كما أحسست ذلك أثناء المؤتمر القومي السابع. ولذلك ولمجرد انتهاء أعمال المؤتمر، أوعز صلاح جديد إلىَّ أن ألقيَ الكلمة التي قدمتها في المؤتمر في جميع فروع حزب البعث العسكرية والمدنية.
وفعلاً، لقد ألقيت حوالي ثلاثين محاضرة خلال سبعة أيام في فروع الحزب المدنية والعسكرية وأول وآخر مدني يحاضر في القطاعات العسكرية في سورية. ورغم أني لم أترشَّح كعضو في القيادة، لكن، على المستوى الفعلي، كنت أحضر اجتماعات القيادة القومية وأحضر حتى اجتماعات القصر الجمهوري لمجلس قيادة الثورة، في الوقت الذي لم يكن لي أيُّ صفة رسمية. ثم، صار اهتمام الأستاذ ميشال عفلق بي بشكل كبير وكذلك الأستاذ صلاح الدين البيطار، فصرت في الصف القيادي، رغم أني من الناحية الرسمية لم أكن في القيادة.
س: … في هذا السياق، لقد ألمحت في حديثك أن الفريق المناوئ لمجموعة علي صالح السعدي، كان يتكوَّن من تيارَيْن، هل يمكن أن تعطيني صورة أكثر تفصيلاً عن تيار القيادة القومية وأمينها العام الأستاذ ميشال عفلق والتيار الآخر وهو تيار العسكر وأسباب هذا الخلاف والانشقاق بينهما؟..
ج: … أسباب الخلاف الجوهرية هو الصراع على السلطة. ولا تُطرح المسألة على صعيد الصراع بين يمين ويسار، إطلاقاً. وليس هذا هو سبب الخلاف أو الانشقاق. إن السبب الحقيقي يكمن في مجموعة الضباط الذين كانوا يشكلون "اللَّجنة العسكرية"، وهي في ذلك الحين كانت سريَّة، غير معروفة للحزب ولا لأحد من البعثيين. هذه اللَّجنة العسكرية لها اجتماعاتها الخاصة، بحيث هي التي تتفق فيما بينها وتقرِّر وتُحدِّد سياستها، ثم تأتي إلى اجتماعات القيادة برأي موحَّد. لقد كان للعسكريين تنظيم خاص بهم ـ وهذا ما توضَّح فيما بعد. وهذا، كان له عدة أسباب، في اعتقادي. والسبب الأبرز في ذهني أن القيادة الحزبية السورية لم تُثبت أنها كفؤة بما فيه الكفاية. والقيادة القومية الأساسية هي التي كانت مكوَّنة من الأساتذة ميشال عفلق، أكرم الحوراني، صلاح الدين البيطار… لقد كان هناك إحساس لدى البعثيين السابقين في سورية ـ ربما قسم كبير منهم على الأقل ـ أن أتيحت فرص للقيادة لم تحسن إزاءها أن تتصرف كما ينبغي. وأنها كانت قد دعت إلى الوحدة، وبعدها سارت في تحقيق الوحدة دون منهج أو تخطيط. شاركت في الحكم أثناء الوحدة، دون أن تشارك فعلاً في قرارات الحكم وسياسته. وهذه القيادة الثلاثية: ميشال عفلق وأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار، دائماً هم على خلاف فيما بينهم وكل واحد منهم يحاول أن يخلق تكتلاً حزبياً يسير وراءه. هذه الأشياء جميعها ولّدت انطباعاً ـ توقيع الأستاذ صلاح الدين البيطار والأستاذ أكرم الحوراني على وثيقة الانفصال، عدم قدرتهم على مواجهة عبد الناصر بصورة متكافئة ـ كل هذه المسائل ولَّدت انطباعاً، في اعتقادي، لدى عدد كبير من البعثيين في سورية بأن هذه القيادة التاريخية للحزب لا تستطيع أن تفعل شيئاً، ولربما لم تكن على مستوى تحمُّل مسؤولية قيادة الحزب، ولا حتى تحمُّل المسؤولية القومية، لأنهم، فيما أعتقد، لم يكونوا يفكرون قومياً. وكذلك العسكر في صراعاتهم الداخلية، كانوا يفكرون إقليمياً، وسورياً. وأكثر ما يفكرون فيه: كيفية الاستيلاء على السلطة وبخاصة الاستيلاء على الحزب في سورية.
س: … مَن هو الوجه البارز بين الضباط، القيادات العسكرية المشاركة في المؤتمر القومي السابع، والذي كان يتداخل ويتحدث أكثر من غيره؟!..
ج: … لا، العسكريون كانوا أكثر ما يعتصمون بالصمت في المؤتمر، فقد كانوا متخفين (ويعملون في الخفاء)…. في هذا المؤتمر نفسه، فلم يكن يشعر الواحد منا أن خصوم علي صالح السعدي ومَن معه، إنما هم أيضاً منقسمون، لقد عرفنا ذلك بعد المؤتمر، ذلك أن السوريين لديهم الإحساس بأنه قبل انعقاد المؤتمر القومي السابع، كان قد انعقد مؤتمر قطري في سورية والذي اُنتخب فيه عدد كبير من العسكريين في القيادة القطرية. فصارت القيادة القطرية في سورية، من الناحية الواقعية، بيد العسكريين وبيد اللجنة العسكرية على وجه التحديد. فنحن، بعد انتهاء أعمال المؤتمر، أحسسنا بهذه الأشياء (وبهذا التناقضات والصراعات الداخلية ضمن الحكم والحزب في سورية على حدٍّ سواء).
فأنا مبدئياً كنت أعتقد أن الخطر على حزب البعث، كحركة قومية وليس فقط على سورية، إنما هو من جانب العسكر. لأن استيلاء العسكر على الحزب، فسوف يؤدي إلى سقوط حياة الديمقراطية داخل الحزب. وأنا حتى ذلك الحين، لقد عشت داخل حزب البعث، فكانت فيه، وفيما أعتقد، حياة ديمقراطية واسعة، وهذا شىء مهم. وأنا أعتبر أن تطوير حزب البعث ضمن الأفكار وضمن الاستراتيجية التي هي موجودة في ذهني، هي في الأساس مرهونة بالحياة الديمقراطية. فإذا انفقدت الحياة الديمقراطية في حزب البعث، فلا تستطيع أن تنشر الأفكار والثقافة بعمق فيه…. وإن تطوير حزب البعث لا يمكن أن يتمَّ إلا في ظل الحياة الديمقراطية. لذلك، فأنا منذ البداية كنت قد قرَّرت أن أنحاز إلى الشقِّ المدني في الحزب ومع مَن يكون من العسكريين متشبِّث بالمسألة القومية في حزب البعث وبالقيادة القومية. فكنت أحاول الاحتكاك بالعسكريين وجلبهم للدخول في التيار الديمقراطي والقومي. وأنا في هذا الخصوص فاتحت الأستاذ ميشال عفلق لخلق هذا التيار الديمقراطي والقومي بين العسكريين واتفقنا على تسمية هذا التيار بـ "تيار تصحيح" داخل الحزب ومنذ ذلك الحين. وعقدنا عدداً من الاجتماعات بداية حزبية، كانت محدودة، ثم بعد ذلك اتسعت حتى أضحت تشمل تقريباً قسماً كبيراً من فرع الحزب في دمشق ومن كوادره الأساسية. ومضمون هذا الاتجاه وملخَّصه: أن حزب البعث، قد اختلطت فيه الأفكار (القومية والإقليمية) وحدث داخله اختراق فكري من الناصرية. إن الحدود بين الناصرية والفكرة القومية لم تكن واضحة، وبالتالي فإن الناصرية (كمفهوم سياسي وطني) اخترقت حزب البعث (وتسرَّبت كردّات فعل إلى داخله). بمعنى، في الوقت الذي لا تعطي فيه أهمية للتنظيم الحزبي على المستوى القومي وأثر ذلك في الوحدة العربية، وفي الوقت الذي لا تعطي فيه أيضاً أهمية إلى أن تكون دولة الوحدة دولة وحدوية (أو بتعبير آخر أن تكون دولة الوحدة، هي وحدة الدولة) ذات عصبية وحدوية، عند ذاك، ما الفرق بين حزب البعث وعبد الناصر. بل، عبد الناصر والناصرية أفضل وأقوى، لأنه يمسك بزمام دولة كبيرة وقوية وهي مصر، ولديه وسائل (أمنية وإعلامية وحرية التحرك السياسي) أكبر. فإذن، فإنه سيكون له فاعلية وتأثير أكبر في القضية القومية، هذا إذا لم ننتبه إلى هذه المسألة.
ولكن، إذا عملنا على توضيح هذه الناحية، حينها لا يحصل أيُّ اختلاط أو اختراق، رغم الاتفاق في الأهداف مع عبد الناصر، لكن هناك اختلاف أساسي في الوسائل. والاختلاف في الوسائل قد يكون له أهمية أكبر حتى من الاتفاق على الأهداف. فالبعثي، إذا لم يحسّ ويشعر بالاختلاف في الوسائل بينه وبين الناصرية (حقيقة وفعلاً، لا أن يتبنى الوسائل والأساليب الناصرية هي ذاتها)، فإنه في هذه الحالة يغدو ناصرياً، فهو ناصري داخل حزب البعث. وهذا ما سيُحدث ارتباكاً (واضطراباً وتناقضاً) في الحزب. لهذا، لا بدّ من خلق فاصل واضح بين الناصرية وحزب البعث (من حيث الأيديولوجية القومية ومن حيث أيضاً وبخاصة الأسلوب والوسائل في العمل القومي على الصعيد الإقليمي والعربي على حد سواء.)، حتى يصبح الحزب مسيَّجاً، وبالتالي لا يحدث اختراق لحزب البعث من قِبَل الفكر الناصري، مما يؤدي إلى ازدياد انشقاقاته وتعميقها.
س: … هل استمر هذا التيار الذي تشير إليه، أو هل كان له أثر فاعل من الناحية العملية؟!…
ج: …. بالتأكيد، كان له أثر سياسي وفكري. أولاً هذا التيار، أنا سرت فيه لأنني كنت ضد التمحور حول ميشال عفلق لأسباب شخصية، يعني أنا كنت ضد التكتل، وإنما أكون جزءاً من تيار فكري في حزب البعث. فلذلك، إذا لم نوضِّح أفكاراً جديدة، فأنا لا أمشي…. وقَبِل الأستاذ ميشال عفلق هذه الفكرة واستمرينا في العمل من أجل تحقيقها. وهكذا، فقد خلقنا لأول مرة في حزب البعث تجمعاً فكرياً وليس على أسس شخصية. أن تحب ميشال عفلق هذا شىء شخصي، ولكنه ليس هو قضية موضوعية. أما القضية الموضوعية، فهي أن تلتقي وإياه في الأفكار. وهذا أيضاً قوّى الجبهة (القومية) ونشأت كتلة حزبية كبيرة أساسها فكري لمجابهة سيطرة العسكريين على الحزب.
س: … التيار العسكري حينذاك، هل كان متجانساً، وماذا يجمع على صعيد الفكر والسياسة؟!…
ج: … في البَدء كان التيار العسكري متجانساً (وموحداً على صعيد الإمساك بالسلطة والتخلص من الخصوص وهم كُثُر ومتنوِّعون ومتفرِّقون). ولكن القيادات العسكرية والضباط في السلطة، على صعيد الفكر السياسي، ليس لديهم أيّ شىء. وإن ما كان يجمعهم فقط هو ما يسمى بـ "اللَّجنة العسكرية" ورفض "القيادة التاريخية" لحزب البعث (ومواجهة عودة الناصرية وعبد الناصر وسيطرتهما على سورية وبأيّ ثمن). ولذلك، بعدما تصوَّروا أنهم أبعدوا القيادة التاريخية عن الحزب في المواقع المؤثِّرة، سرعان ما دبَّ بينهم الخلاف بين محمد عمران من جهة وبقية الضباط، أعضاء اللجنة العسكرية من جهة أخرى. فاضطروا إلى أخذ القرار بإخراج محمد عمران من سورية…. فنحن، عندما وقع هذا الحادث وعُرف، وغدا طبعاً مسألة علنية، والخلاف بين العسكريين ظهر علناً، أصدرنا مناشير وعملنا على توزيعها داخل الجيش تحكي على هذا الخلاف.
كيف كان تكتيك الضباط، أعضاء اللجنة العسكرية؟!… لقد كان تكتيكيهم ببساطة أن يأتوا إلى الحزب، باعتبارهم هم الممثلون للجيش، ويذهبوا إلى الجيش باعتبارهم ممثلين للحزب. في حين أن هذا ليس هو الواقع، لأنه ليس كل الجيش معهم، وليسوا هم في الوقت نفسه ممثلين للحزب في الجيش، ولا كل الحزب معهم. فعلى أثر إثارة قضية محمد عمران، كانت القيادة القومية قد اتخذت قرارات ووضعت تحليلاً للوضع، فوُزِّع هذا المنشور داخل صفوف الجيش، لكي يصبح معلوماً أن هناك "لَجنة عسكرية" تحاول أن تسيطر على الحزب وأن هذا، وما ورد في المنشور، هو رأي القيادة القومية بحيث جرى نوع من الاختراق للَّجنة العسكرية، وبالتالي صار الجيش يعرف أن هذه فئة متسلطة على الجيش ومتسلطة على الحزب في آن معاً. لقد كان ذلك يشكل انتصاراً كبيراً للحزب المدني، لو كانت القيادة القومية قد استمرت هي نفسها التي تقوده. ول