نشوء حزب البعث العربي وتطوره - د. مدحـت البيطــار(1)
مقابلات /
سياسية /
1983-04-12
ملّف مقابلات
د. مدحـت البيطـار
رقم (5)
المقابلـة الأولـى
مع د. مدحـت البيطــار
أحد مؤسسي حركة البعث العربي
حول تجربته الاجتماعية والسياسية والقومية
نشوء حزب البعث العربي وتطوره
الزمان والمكان: 12 نيسان 1983 ـ دمشق
أجرى المقابلة: الأستاذ جورج صدّقني
تفريغ التسجيل والتلخيص: د. مصطفى دندشلي…
* * *
… يتحدث الدكتور مدحت البيطار عن عمله السياسي قبل تأسيس حركة البعث العربي. وإن أول عمل في نضاله السياسي يعود إلى إقامة حفلة في دار فخري البارودي بمناسبة تعطيل المجلس التأسيسي الذي كان الفرنسيون عطَّلوه، لأنهم أصرّوا على حذف ست (6) مواد من الدستور الذي وضعه المجلس التأسيسي. فكان من المفروض، كما يقول د. البيطار، إقامة حفلة في دار فخري البـارودي، وكنت آنذاك طالباً في معهد الطب في الجامعة السورية في دمشق من جهة، وأعطي بعض الدروس الخاصة في المدرسة السفرجلانية. وكانت داري في "القنوات" في الحي نفسه الذي ستقام فيه الحفلة (المشار إليها أعلاه).
فكانت هذه هي البداية وانخراطه، أي انخراط د.محت البيطار، في العمل السياسي ضد الانتداب الفرنسي، وأول تنظيم أقيم هو التنظيم الطلابي الذي أسسه الدكتور مدحت البيطار وهو طالب في معهد الطب في الجامعة السورية. وكان هناك معارك بين الطلاب وبين الفرنسيين متعدِّدة يومياً، ويقول بأنه وجد أن أحسن وسيلة لمواجهة الفرنسيين هي تشكيل هيئة أو منظمة طلابية. وبالفعل، فقد وضعتُ ـ يضيف البيطار ـ دستوراً لجمعية أسميناها "جمعية الطلاب"، ولا يزال الكلاشيـه موجوداً عندي، باسم طلاب وطالبات دمشق واُنتخبت رئيساً لهذه "التشكيلة الطلابية. وكانت هذه الهيئة الطلابية تضمّ أعضاء من كلية الطب وكلية الحقوق والمدارس الثانوية المختلفة. وكنّا ننظِّم أمورنا ونجتمع في البيوت في بعض الأحيان، في داري أنا، وأحياناً أخرى في دار أحد الإخوان. كنّا نجتمع لنقرِّر القيام بإضراب أو بمظاهرة أو شيء من هذا القبيل.
وبعد أن تعرَّفت على الأخوة الطلاب المتحمّسين لوطنهم، رأيت أن قضيّة الطلاب لها مواسم، بمعنى أنه فقط في أثناء الدراسة، وبعد انقضاء فترة الدراسة والامتحانات، تتوقّف الاجتماعات ويتعذّر على الطلاب التجمع والقيام بأيِّ نشاط آخر… بعد ذلك، كل واحد من الطلاب يسافر إلى بلده، إلى قريته. فلذلك اخترت قسماً من هؤلاء الطلاب الذين تواصلتْ معهم اجتماعاتنا وشكلتُ منهم فرقة باسم "فرقة ميسلون الكشفيَّة"، والغاية منها متابعة النضال ضد الفرنسيين. إذن، غاية هذه الجمعية الكشفية هي غاية وطنيَّة. وكانت هذه الفرقة الكشفية تقوم بتنظيم كلّ حفلات الكتلة الوطنية. ولقد كان في الواقع عددُ أعضائها لا يتجاوز العشرين أو الثلاثين عضواً فقط، وربما نكون أحياناً قد وصلنا إلى خمسة وثلاثين عضواً، ثم تقلَّصت حتى وصلت وبقيت على الشكل السابق. وهذه هي بداية صلتي بـ "الكتلة الوطنية" ورجالات الكتلة الوطنية.
إذن، هذه هي الصلة التي كانت قد جمعتني برجالات الكتلة الوطنية. وحاولت قبل أن أتقرَّب وأتصل برجال الكتلة الوطنية، أن أتصل بمختلف الأحزاب التي كانت قائمة في ذلك الحين. أما الصلة بين هذه الجمعية ـ "فرقة ميسلون الكشفية" ـ والكتلة الوطنية لم تكن محدَّدة ـ كما يقول د. مدحت البيطار ـ بل ولم تكن الكتلة الوطنية تفكِّر في ذلك، إنما انعقدت صلة بين د. البيطار وبين بعض أعضاء الكتلة الوطنية، إذ إنَّ حفلات الكتلة الوطنية كان يشرف عليها قسم من شباب الأحياء دون أي تنظيم… فرأيت أنسب أن أقوم أنا بهذا العمل التنظيمي الاحتفالي الكشفي الذي يستهوي الشباب الصغار ودون أن يعلم هؤلاء الشباب بأن المقصود منه هو شيء وطني وضد المستعمر الأجنبي. وكان أهالي الطلاب يمانعون بأن يستمر أبناؤهم في مثل هذه التنظيمات (ذات الطابع السياسي). لذلك، التنظيمات الكشفية تستهوي الطلاب من جهة ولا يرى أهالي الطلاب بأساً من انتساب أبنائهم إلى هذه التنظيمات الكشفية.
أما التمويل فقد كان ثمن الألبسة، بما أن العدد لا يتجاوز العشرين أو الثلاثين عضواً، فكان الأهالي، أهالي الكشافة، هم الذين يدفعون ثمناً لها. وكان ثمن الألبسة مرتفعاً نسبياً في ذلك الحين، وهو عبارة عن ليرة عثمانية ذهب، وكانت الليرة في تلك الأيام تساوي خمس ليرات ونصف ليرة سورية. وكان كل الشباب متوافراً عندهم ثمن الألبسة أو أن أهاليهم ما كانوا يعطونهم مصروفاً أكثر ممّا يوازي ثمن الألبسة، لذلك كان العدد محدوداً بطبيعة الحال. لهذا السبب، كانت خطيئتي أنني فكرت بنوع من الألبسة أنيقة ومُلفتة للنظر. وكنت أقتطع من ذلك لكي أشتري بعض الآلات الموسيقية المتعارف عليهـا في ذلك الوقت وهي الطبل والبرظان وغيرهما من الآلات الموسيقية التي كنّا نشتريها…
هذه الفرقة الكشفية هي التي استفادت منها الكتلة الوطنية ووضعناها في خدمة التنظيم، تنظيم المهرجانات للكتلة الوطنية. وبالإضافة إلى ذلك، كنّا نقوم برحلات كشفية إلى مختلف المدن السورية. وهذه الرحلات كانت تستهوي الكشّافين. وكنا نُستقبل في كل بلدة من البلدان السورية بمهراجانات شعبية كبيرة وأُلقي في هذه المهراجانات خطابات. وكنا نطالب في تلك الأيام بالوحدة السورية، لأن البـلاد كانت مقسَّمة إلى دولة أو حكومة جبل الدروز وحكومة العلويين وحكومة دمشق وحكومة حلب، فكان من واجبنا أن نسعى، قبل أن نشتغل بالوحدة العربية، أن نحقِّق الوحدة السورية على الأقل. فكانـت المهراجانات التي نُستقبل فيها مناسبة لمطالبتنا بالوحدة السورية ومهاجمة الانتداب الفرنسي الذي قسَّم البلاد، هذا التقسيم التعسّفي.وأذكر أننا كنا نذهب إلى حمص وإلى حماه وإلى حلب وإلى اللاذقية وإلى طرطوس وأيضاً إلى لبنان. وهي الفرقة الكشفية الوحيدة التي ذهبت إلى لواء الإسكندرون الذي كان شبه منسيّاً حتى عند كل الناس، ولم يكن هناك ذكر له حتى في الصحف. فالفرقة الوحيدة، المجموعة الوحيدة التي ذهبت إلى لواء الإسكندرون، واصطدمت هي وقسم من الشعب في مواجهة الأتراك الذين كانوا موجودين، وحصلت بينهم وبين الأتراك اشتباكات ومعركة بسبب رفعنا للعلم السوري الذي كان هو العلم المنتظر للبلاد وعليه فقط الشعار الكشفي. وأنا، أنشدنا، وكانت أناشيد وطنيـة، وهي أناشيد لم تَرُق للأتراك الموجودين هناك، فهجموا علينا وحصلت معركة، كان الظفر فيها لنا. وقد كان ذلك، فيما أذكر، عام 1933.
أما العمل الوطني السياسي لهذه الفرقة الكشفية، فإنني أستطيع أن أقول بأن الاسم الذي اخترناه وهو "ميسلون"، وميسلون تعني المعركة التي حصلت بيننا وبين جيش الاحتلال الفرنسي، وحصل ذلك في بداية الاحتلال الفرنسي للبلاد السورية. فكان أول شيء هو تذكير الناس يومياً ببطل "ميسلون: يوسف العظمة". وكنا نحتفـل كل سنة في هذه الذكرى وكنا ننظِّم المجموعات المختلفـة والأحزاب المتعدِّدة التي كانت كل مجموعة منها تحاول استغلال هذه المناسبة لتثبيت أفكارها. فتمكنا بعد أكثر من سنة أن تكون الحفلة هذه خاصة فقط لجماعة الكتلة الوطنية التي كانت الحركة السياسية الوحيدة التي تشتغل ضد المستعمر في هذا الوقت وفي تلك الأيـام. وأذكر بأننا كنا قد اجتمعنا في عام 1933، عندما ذهبنا إلى لواء الإسكندرون، اجتمعنا بالأستاذ المرحوم زكي الأرسوزي، وهذه كانـت أول مرَّة أتعرَّف فيها إليه وأتعرَّف أيضاً على حبه للعرب والعروبة، وجرى بيني وبينه حديث طويل لأكثر من ساعة في هذه المناسبة، وكان ذلك بعد أن حصلت المعركة بيننا وبين الأتراك في أنطاكية، وهو كان أستاذاً في هذه المدينة أيضاً.
وكنا قد ذهبنا مرة ثانية، بعد هذه الزيارة إلى لواء الإسكندرون، فيما أظن، ذهبنا إلى السويداء (جبل العرب). فأنا كنت أتوخّى أن أذهب إلى المناطق التي كانت تسميها فرنسا في تلك الأيام بأنها "حكومة"، أي أنها حكومات مستقلة عن سورية، في حين أن لواء الإسكندرون لم يكن "حكومة" مستقلة، لقد كان اسم: "سنجق لواء اسكندون"، وهكذا… فكنا لا نعترف بهذه التقسيمات ولا بهذه الحدود بين هذه الحكومات… أقول، إذن، ذهبنا إلى محافظة السويداء، محافظة الجبل التي كانت أيضاً حكومـة قائمـة بذاتها وخطبت هناك، في اجتماع دعاني إليه المرحوم عبد الغفار باشا الأطرش في حفلة عشاء، واغتنمت هذه الفرصة وخطبت وذكّرت المستمعين الذين كانت غالبيتهم من الدروز، فيما عدا الكشافين الذين كانوا موجودين معي، ذكَّرتهم بالثورة السورية التي قام بها المناضل سلطان باشا الأطرش، ودوى التصفيق عندما ذكَّرتهم بهذه الذكرى، والتصفيق بالطبع كان من كل الدروز الموجودين هناك. وكان ضمن الحفلة حسب العادة المتبعة بأنه يوجد من جماعة الفرنسيين المخبرين، كانوا يسمونهم في ذلك الوقت: "التحرّي"، مما اضطر السيد خالد الأطرش أن يلطِّف الجو وأن يرد عليّ بأننا نحن بصفتنا كشافين، مهمتنا إنسانية فقط وليس لنا علاقة بالسياسة أو بأي شيء من هذا القبيل. فانعقدت بيننا وبين الشباب الدروز المتحمس وأقمنا بيننا وبينهم صلة. ولما عدت إلى دمشق استقبلت استقبالاً حافلاً جداً بمظاهرات شعبية. واجتمعت مع أفراد "الشباب الوطني" الذي أُسِّس في تلك الأيام وكان كرديف للكتلة الوطنية، وأخبرتهم بأن شباب الجبل متشوِّق للاتصال مع "الشباب الوطني" والكتلة الوطنية لتحقيق الوحدة السورية التي كانت المطلب الرئيسي في تلك الأيام: يعني ما بقدر أتذكر كل الأشياء…
ثم ينتقل د. مدحت البيطار إلى الحديث عن أحداث عام 1936، فيقول: في حفلة تأبين المرحوم إبراهيم هنانو، الكتلة الوطنية دعت مختلف زعمائها في كل سورية، كما دعت أشخاصاً من البلاد العربية لحضور حفلة تأبين زعيم كبير من زعماء الكتلة الوطنية ومن زعماء سورية وزعماء العالم العربي أيضاً. ومن المعروف أن المرحوم هنانو كان قد قام بثورة في شمال سورية واستمرت فترة من الزمن. ففي هذه الحفلة أُلقيت خطب حماسية متعدِّدة ضد الإفرنسيين وندَّدت بسياسة الإفرنسيين، الأمر الذي دعا السلطة الإفرنسية (إلى قمع هذه الحفلة). وكانت الحفلة في دمشق، في الجامعة السورية، وكانت "كشافة ميسلون" هي التي تُشرف أيضاً على تنظيم هذه الحفلة. وعلى أثر هذا الاحتفال، في اليوم التالي، أصدر المفوض السامي مرسوماً أو بياناً بإغلاق مكاتب الكتلة الوطنية في كل سورية وهي المكاتب التي كانت موجودة فقط في دمشق وحمص وحماه وحلب، واُعتقل من أعضاء الكتلة الوطنية السيد نسيب البكري والسيد فخري البارودي والمحامي سيف الدين المأمون من دمشق، واُعتقل من حلب المرحوم سعد الله الجابري ولا أذكر إذا كان هناك معتقلون آخرون، وقد يكون هناك بعض المعتقلين من حمص وحماه ومعتقلين آخرين من مناطق أخرى أيضاً، لا أذكر ذلك… على أثر هذا المرسوم أو هذا القرار الذي صدر من المفوض السامي، رأيت من الواجب أن أردَّ عليه. ففي اليوم الثاني من صدور هذا القرار بعد اعتقال جماعة الكتلة الوطنية مباشرة، وأظن أنه كان يوم أحد، وكانت السلطة متخذةً الإجراءات الشديدة جداً، إجراءات أمنيَّة، وكانت هذه الإجراءات متخذة في مواجهة مدخل سوق الحميديّة، لأن المظاهرات كانت تخرج عادة من سوق الحميدية ومن المسجد الأموي مروراً بسوق الحميدية، فنصبوا "المترويوزات" وجمعوا العناصر العسكرية في "التِكيَّة"، جمعوا فرقة سنغالية في شارع جمال شابا. ويقول د. مدحت البيطار إنه عندما رأى كل هذه الاستعدادات، قرَّر أن يقوم بمظاهرة كيفما يكون الأمر. وبالفعـل، لم يجتمع في بادئ الأمر من الشباب إلاّ قلَّة قليلة. في نهاية الصلاة، قام شخص، توفي رحمة الله عليه، الأستاذ رشيد الملَّوحي، وهو صحافي، وألقي خطاباً هاجم فيه الفرنسيين والتدابير التي اتخذوها لإغلاق مكاتب الكتلة الوطنية، وتلا نص برقية وطلب من المستمعين: هل توافقون على أن نرسل هذه البرقيـة إلى عصبة الأمم؟ فوافقوا على إرسال البرقية. وقام بعده د. منير العجلاني وتلا بياناً باسم الكتلة الوطنية تدعو فيه الكتلة الوطنية إلى الهدوء والسكينة وعدم القيام بأي شيء، ظناً من الكتلة الوطنيـة أن الناس غير مستعدين أن يلبوا طلب قيام بمظاهرات أو إغلاق المتاجر أو القيام بالإضراب. فكان بيان الكتلة الوطنية لتهدئة الشعب، ممّا دفعني أنا أن ثرت واعترضت على هذا البيان وألقيت خطاباً قلت فيـه: إذا كان الآن نحن نلجأ إلى الهدوء وإلى السكينة بعد اعتقال رجالاتنا وبعد إغلاق مكاتب الكتلة الوطنية ومحاولة كمِّ الأفواه تجاه أيّ عمل تقوم به السلطة المنتدبة لإسكاتنا، فمتى نقوم بالثورة إذن ضد هذه الدولة. وبالفعل فقد لبَّى الموجودون ندائي وقمنا بمظاهرة مشينا فيها ليس من الباب المؤدي إلى سوق الحميدية، وإنما من الباب الآخر المسمّى باب: "القوَّافين" الذي يؤدي إلى سوق السلاح، ثم البازوريـة، بهدف أن نصل إلى "الحِرَيْقة" التي كانت لا تزال الأرض الخضراء. وهناك أخذنا الأحجار التي كنا نجمعها لمقاومة السلطة التي لا بدّ من أن تتصدى للمظاهرة. وصدف أن مرّ في تلك الساعة حافلات الترام التي كانت موجودة وتملكها شركة بلجيكية ـ إفرنسية، والتي كانت دائماً هدفاً للمتظاهرين، كما كانت أيضاً هدفاً للمتظاهرين شركة الكهرباء وحافلات الترام في كل وقت. فأشعلنا النار في الحافلة، بعد أن ضربناها بالحجارة، ثم تابعنا سيرنا في حي "القنوات" حيث كان هناك مكتب الكتلة الوطنية، وحوصرنا من قِبَل الشرطة. ولكننا تمكنا من إزالة الشمع الأحمر عن مكتب الكتلة الوطنيـة وكسر الباب، وذلك تحدياً لقرار المفوض السامي الذي قام بإغلاقه. طبعاً السلطة في هذه الأحوال كانت تحاول أن تعتقل المسبّبين للإضرابات. فكنت أنا (أي مدحت البيطار) المسؤول الأول عن هذه المظاهرة وكنت هدفاً للاعتقال، ولكن قوى الأمن: التحري والمخابرات، طلبوا مني أن "أفُرَّ" (أهرب) من وجههم، فرفضت. ولكنني أظن أن أحدهم، وهو من عائلة آل السمّان، قال بأننا نحن لا نريد أن نعتقلك، ولكن الفرنسيين مصرّين على اعتقالك، لذلك إذا طلبنا منك الفرار، فإننا نطلب ذلك محافظة عليك. فأنا رفضت، وعلى الرغم من أن الشرطة وبقية رجال التحريّي الذين كانوا موجودين، وكان عددهم أكثر من عدد المتظاهرين، فقد مررت من بينهم ولم يفكر أحد منهم باعتقالي وخرجت، واعتقلوا بعض الصبية الصغار الذين يعلمون بأن السلطة سوف تفرج عنهم بعد يوم أو يومين أو أكثر.
ثم دعوت إلى اجتماع في اليوم التالي جميع الطلاب في "التَكِيَّة" في مدينة دمشق وحاول الفرنسيون جهدهم بأن يفتحوا ولو سوقاً صغيراً أو دكانة واحدة، فلم يتمكنوا قط أن يفتحوا أي دكان. وكانت قد حضرت وفود صحفية أجنبية لأجل أن تنقل الأخبار، والفرنسيون أرادوا أن يُظهروا البلد وكأنها غير مُضربة. فأرسلوا قسماً من جنود السنغال وصاروا يفتحون المحلات التجارية بالسلاح وبالكسر، ويقعد في كل دكان عسكري سنغالي، و لكنهم لم يقدروا أن يفتحوا إلا المحلات البعيدة عن المظاهرات في حيّ "الصالحيّة"، قسم من حيّ المرجة" وقسم من ساحة "المرجة". أما الأسواق الرئيسية: سوق "الحميديـة" والأحياء الأخرى، فبقيت مستمرة في الاضراب العـام. (وهذا ما يسمى "الإضراب الخمسيني" أي إضراب الخمسين يوماً كاملاً، الذي أضربت فيه دمشق، ولم يحصل طوال هذه الفترة أي حادث سرقة، بل بالعكس، كان الشعب متضامناً كل التضامن بصورة مدهشة ومنقطة النظير. وكان أهالي الأحياء يقومون بجع التبرعات لإعالة العمال الذين انقطع مورد رزقهم بسبب الإضراب، حتى لا يشكو أحد منهم من هذا الإضراب. وبالطبع، بقيت المدن السورية الأخرى مستمرة فيما بعد الإضراب).
وهكذا انتقل الإضراب إلى كل المدن السورية، وكذلك المظاهرات وكل أعمال مهاجمة السلطة الفرنسية، مما اضطر السلطة لأن تنزل عند مطلب الشعب، على اعتبار الكتلة الوطنية هي الممثل الوحيد للشعب في سورية، وطلبت إرسال وفد من الكتلة الوطنية يمثل شعب سورية لأجل إجراء عقد معاهدة بين فرنسا وسورية. ومن المعروف بأن المحادثات من أجل عقد المعاهدة كانت قد جرت في هذه الأثناء. فالإضراب انتهى عندما نزلت السلطة الفرنسية عند رغبة الشعب في تحقيق مطالبة لعقد معاهدة تشبه إما المعاهدة البريطانية العراقية وإما المعاهدة المصرية ـ البريطانية. فصار على الكتلة الوطنية أن تُنهي الإضراب. وكان الشخص الذي له الشعبية الكبرى باعتباره أول المعتقلين هو المرحوم فخري البارودي. فأرسلوني إلى حلب لأجل مرافقة فخري البارودي إلى دمشق لإلقاء كلمة في المسجد الأموي يطلب فيها من الناس إنهاء الإضراب. وهنا، أذكر عندما دخلت عند العودة إلى حمص، لم أتمكن من دخول هذه المدينة، نظراً للمظاهرات الشعبية التي كانت تهتف للمرحوم فخري البارودي. ثم يتحدث د. مدحت البيطار عن مظاهرات التأييد التي لاقاها فخري البارودي في حمص، ثم في الدوما، وكيف كانت الناس تتبرَّك به، بحاجياته وكأنه شعار مقدَّس أو "الحجر الأسود"، …… وهكذا اجتاز الغوطة… ووصل أخيراً إلى دمشق. وفي اليوم الثاني، أراد أن يخطب فما استطاع أن يتكلم بصوت عالٍ، فأحضروا أحد الأشخاص من آل الصابوني، فكان يردّد الكلمات التي كان يلقيها فخري البارودي وينطقها همساً، وذلك لأن صوته كان مبحوحاً من كثرة الخطابات التي ألقاها في اليوم السابق، في كل قرية كان بزورها. فكان هذا الشيخ الصابوني بصوته الجهوريّ يُلقى أو يردِّد الكلمات نيابة عنه. ثم دعا فخري البارودي الناس إلى العودة عن الإضراب وفتح محلاتهم. وكانت الكتلة الوطنية بكامل أعضائها موجودة في المسجد. وعملوا عند مدخل المِسْكيّة ووضعوا شريطاً أبيض وأحضروا مقصّاً خصّيصاً وبعد انتهاء خطاب السيد فخري البارودي، مشى أعضاء الكتلة الوطنية في رأس الموجودين في المسجد الأموي حتى وصولا إلى نهاية المِسْكيّة حيث وُضع الشريط الأبيض وقام السيد هاشم الأتاسي بقص الشريط الأبيض إيذاناً بانتهاء الإضراب، وطلب من الأهالي أن يفتحوا محلاتهم. وبالفعل، فقد استجاب الناس لذلك وفتحوا المحلات. وكان الفرنسيون يشكون كثيراً في أن الكتلة الوطنية تستطيع أن تُنهي الإضراب، أي أنهم كانوا يشكون في قدرة الكتلة الوطنية على إنهاء الإضراب. وهكذا تأكد الإفرنسيون أن الكتلة الوطنية بالفعل تستطيع أن تعمل كل شيء وأن الشعب يلبيها.
وهنا بعض الأمثلة الواقعية التي يرويها الدكتور مدحت البيطار. فيقول بأنه قبل هذا الإضراب وفي أثناء هذا الإضراب، كان السيد فخري البارودي، وهو كتلة النشاط، له مكتب في حيّ "القنوات"، اسمه مكتب "الفرنك": كان يجمع "فرنك" (أي قرشاً) من بعض التجار في كل شهر، يطلب من كل إنسان أن يتبرّع بفرنك لصالح القضية الوطنية. وكان مجموع ما يصل، وكنت أنا (مدحت البيطار) أُشرف على هذا المكتب، وكان مجموع ما يصل إلى المكتب في تلك الأيام لا يتجاوز بين العشرين (20) والثلاثين (30) ليرة سورية، نصرف منها على أجرة المكتب، على المطبوعات التي يقوم بها المكتب لتهيئة المظاهرات وغير ذلك. وفي إحدى تلك المظاهرات، خطب السيد فخري البارودي في الناس وقال بأنه يجب علينا نحن أن نوصل صوتنا إلى فرنسا بالذات، ولا نستطيع أن نوصل صوتنا، لأن الموجودين هنا، الفرنسيين وعلى رأسهم المفوض السامي، يخفوا الحقائق عن (شعب) فرنسا. فنحن من واجبنا أن نرسل وفداً إلى فرنسا لأجل أن يصل صوتنا إلى هناك مباشرة. ولكن ينقصنا الدراهم، وما عندنا أموال ولا فلوس. وبالفعل، فقد كان كل أعضاء الكتلة الوطنية من الجماعات الذين لا يملكون ثروات، أي أنهم لا يملكون ثروات تكفي للقيام بهذا العمل. في اليوم التالي، وأنا كنت جالساً في مكتب فخري البارودي، حضر بعض الشباب وسُئلت عن فخري البارودي، فقلت بأنه غائب، فماذا تأمرون؟ فقالوا: نحن جئنا لنتبرَّع بالجهد الذي أشار إليه السيد فخري البارودي. ونحن مستعدون أن نجمع الدراهم التي تطلبونها لأجل إرسال الوفد إلى فرنسا. ثم، يتحدث مدحت البيطار عن حماس الناس للتبرّع للكتلة الوطنية. كما أنه يظهر من حديث البيطار أن الشعب لم يكن مستعداً أو متحمساً بالأحرى لإنهاء الإضراب العام في البلاد. فهذا يدل على أن الشعب كان مستعداً أكثر (من القيادات السياسية) في سبيل الوصول إلى أهدافه وفي الاستقلال التام وطرد الأجنبي أكثر بكثير من زعماء الكتلة الوطنية…
* * *
وهنا ينتقل الحديث، حديث الدكتور مدحت البيطار، إذن، إلى الحديث عن انتقالـه من التعاون مع الكتلة الوطنية إلى تأسيس حركة البعث العربي. والسؤال يُطرح: هل تأسيس حركة البعث العربي، بالنسبة إلى مدحت البيطار، هو استمرار للكتلة الوطنية أم لا؟!… أم خيبة أمل من سياسة الكتلة الوطنية هي التي دفعت مدحت البيطار إلى العمل من أجل تأسيس (البعث العربي)؟!… قبل ذلك، يوضِّح الدكتور البيطار بعض الأشياء، فيقول: عندما قبلت فرنسا باستضافة وفد يمثل سورية لعقد معاهدة، تشكل هذا الوفد على ما أذكر من: السيد هاشم الأتاسي رئيساً، ومن السيد جميل مردم سكرتيراً، والسيد فارس الخوري وسعد الله الجابري والأستاذ نعيم الانطاكي من حلب، وهو محامٍ لامع. ومن جماعة الكتلة الوطنية أو من الذين يلوذون بالكتلة الوطنية. وعندما ذهب هذا الوفد إلى فرنسا، لم يكن هناك أيّ تنظيم جيد لذهابه، ولكن اتفق على أنه عند عودة الوفد من فرنسا، يجب أن يُقام له احتفالات واسعة. وهنا يقول د. البيطار بأنه جمع ما يقارب مائة (100) شخص من الشباب وشكل منهم فرقة سمّاها "يوسف العظمة"، أيّ أنه غيّر اسم فرقة ميسلون إلى اسم "فرقة يوسف العظمة" وجعل لأعضائها، لهؤلاء الكشاف، لباساً رمادياً على غرار "فرقة ميسلون" التي كانت موجودة في الكشفية واستعمل الخوذة، والخوذة أيضاً جعل لونها رمادياً، فسمّاها الناس "الفرقة الحديدية"، نظراً لهذا اللون الرمادي. وبالفعل، أخذت هذه الفرقة الكشفية تجوب شوارع دمشق فأطلق الناس عليها اسم "الفرقة الحديدية"، بينما أنا كنت أسميها "فرقة يوسف العظمة". ويضيف الدكتور البيطار: عندما شهدت الكتلة الوطنية هذه الفرقة وأن لديَّ "فرقة ميسلون"، خافت بأن كل التنظيمات، وهذه التنظيمات هي تنظيمات شبه عسكرية، أن تكون تحت قيادتي وهم يريدون أن يحتكروا الوطنية لأنفسهم، فراحوا وعمَّموا على الأحياء (مقاطعتي ومقاطعة فرقتي)…… وبالفعل، يذكر الدكتور البيطار بأن أعضاء الكتلة الوطنية قد خافوا من هذه التنظيمات شبه العسكرية. وكانوا يخافون أن تصبح هذه التنظيمات مثل "تنظيمات هتلر النازية"، وأن مدحت البيطار سوف يصبح وكأنه "هتلر"، حتى إنه ـ كما يقول ـ كنت أسمع: "شو هاد، رايح ساوي هتلر.."، كنت أسمعها بأذني بأنه (أي مدحت البيطار) يريد أن يصبح هتلر. لهذا، فقد طلبوا من زعماء الأحياء بأن يشكلوا أيضاً فرقاً ويسمونها "القمصان الحديدية". وكانوا هم، أي زعماء الكتلة الوطنية، يدفعون ثمن اللباس ويدفعون كل التكاليف. زعماء الكتلة الوطنية: نعم! كانوا يدفعون تكاليف جميع هذه الأشياء، حتى لا أستأثر أنا وحدي بتنظيمات من هذا القبيل وأكون مشرفاً عليها وأتوا بالسيد نزهت المملوك وهو أحد ضباط الـدرك، متقاعد، أتوابه وسلموه قيادة "القمصان الحديديـة". وأنا ما أردت أن أخرج عن المجموع، ولكني امتعضتُ بالفعل، عندما كانت فرقتي إحدى الفرق التي أصبحت بقيادة السيد المملوك. إذن، امتعض الدكتور مدحت البيطار من هذه الأشياء ومن إيجاد تنظيمات أخرى إلى جانبه، فهنا يضيف بأنه ابتدأت الدسائس تحاك حوله من قِبَل أعضاء الكتلة الوطنية بالذات. وهذه التعليمات التي وجَّهتها الكتلة الوطنية إلى زعماء الأحياء من أجل إنشاء تنظيم "القمصان الحديدية"، لمنافسة "فرقة يوسف العظمة"، كانت قد بدأت قبل عودة الوفد من باريس، وكذلك تشكيل "القمصان الحديدية" كان قد وُجد قبل عودة الوفـد… وكان أعضاء الوفد طبعاً من الكتلة الوطنية، وحدث شيء من الخلاف فيما بينهم والبلبلة، لأنه في أثناء الإضراب الخمسيني، كان السيد صبحي بركات الذي كان رئيس المجلس النيابي في ذلك الوقت، كان يمشي على رأس المظاهرات، وبجرأة، ولا يتجرأ الفرنسيون أن يوجِّهوا إليه أيّ شيء خوفاً من أن يوجِّهوا إليه أي إهانة أو أن يتعرضوا له بإطلاق الرصاص، خوفاً من هيجان الجماهير أكثر من ذلك… وهو كان يرغب في أن يكون أحد أعضاء الوفد. وبالطبع، الكتلة الوطنية ما كان بالإمكان أن تلبّي رغبته، لأنه خصم للمرحوم إبراهيم هنانو، وامتدت الخصومة إلى أعضاء الكتلة الوطنية في حلب، خصوصاً السيد سعد الله الجابري. فرُفض طلبه أن يكون من أعضاء الكتلة الوطنية، وبالتالي من أعضاء الوفد. وبما أنه سافر رئيس الكتلة الوطنية على رأس الوفد وهو هاشم الأتاسي. ولم يكن آنذاك شكري القوتلي من أعضاء الكتلة الوطنية، بل كان من معارضيها، ولكن حتى يكسبوا تأييداً شعبياً أكثر. أدخلوا القوتلي في عداد الكتلة الوطنية، وسموه نائب رئيس الكتلة الوطنية. واستأجروا داراً في حيّ "القنوات" أيضاً، غير الدار الأولى وأخذوا يقيمون الاجتماعات فيها. فمن تبقى من أعضاء الكتلة الوطنية في ذلك الوقت خارج الوفد، هؤلاء عندهم نَفَس وعقلية الجماعة التي سافرت مع الوفد برئاسة هاشم الأتاسي، فهم أيضاً يريدون حصر الزعامة فيهم، فهذه كانت أول بادرة شكّكت في نفسي جدوى استمرار العمل مع الكتلة الوطنية فيما بعد، بعد عودة الوفد وبعد إبرام المعاهدة من قبل سورية فقط.
قبل سفر الوفد وقبل الإضراب الخمسيني، كانت توجد تشكيلة اسمها "الشباب الوطني". والشباب الوطني، فقد كان المعروف بأنه رديف للكتلة الوطنية ولا يخرج عن إرادة الكتلة الوطنية. ولكن، كانت له اجتماعاته الخاصة، إنما لم يحدث ولا مرة من المرّات أن تعارضت سياسته مع سياسة الكتلة الوطنية. فبعد عودة الوفد من باريس، اجتمعنا مع أعضاء "الشباب الوطني" وتذاكرنا وطرحنا موضوع تحديد علاقتنا بالكتلة الوطنية. وطبعاً، فإن الكتلة الوطنية ليس لديها أيُّ تنظيم سياسي بالمعنى الحقيقي (وإنما هي عبارة عن تجمعات حول أعيان وزعامات شخصية في الأحياء، في المدن أو في القرى، ليس إلاّ) وكانت الكتلة الوطنية عبارة عن قيادات وأشخاص وزعماء لا غير، وليس لديهم قاعدة شعبية منظمة: جماهير الشعب كله، كان يلبي شعاراتهم في الاستقلال والوحدة السورية، ولكن لم يكن هناك شيء اسمه تنظيم (سياسي حزبي) إطلاقاً. كل زعيم من هؤلاء الزعماء له جماعة يعتمد عليها (في محيطه الاجتماعي والعائلي في عمله السياسي) فقط لا غير.
فابتدأنا نحن في تشكيلة "الشباب الوطني" نتساءل عن وضعنا بالنسبة إلى الكتلة الوطنية. فكان هناك فكرتان: فكرة تقول بأن نكون ونبقى تابعين للكتلة الوطنية وننفّذ سياستها. وفكرة أخرى وكنت أحمل لواءها وهي أن نكوِّن حزباً مستقلاً عن الكتلة الوطنية، إما أن يجاريها إذا رأى أن الوضع يستدعي ذلك، وإما أن يعارضها إذا رأى أن الوضع يستدعي مناهضتها. وكنت آخذ على نفسي مثالاً وهو بأن الإضراب الخمسيني، لو كنت مستعداً لأن أطيع الكتلة الوطنية في كل شيء، ما كنت أّوُجدّت الإضراب الخمسيني، ولا كانت صارت المعاهدة، ولما كان حدث كل ما حدث… فأنا بدأت بخطاب ضد الكتلة الوطنية. لذلك كان رأيي أن نكون حزباً مستقلاً، لنا سياسة مستقلة عن الكتلة الوطنية، تناقش الأمور السياسية مناقشة موضوعية ونتخذ المواقف التي تفرضها علينا نتيجة المناقشة. وبالطبع، الكتلة الوطنية كانت عالمة بهذا الشيء، وعالمة بأني أنا من محبِّذي الانفصال عنها، لذلك بدأت أن تلعب في "الشباب الوطني". وبدلاً من أن أكون أنا سكرتير الشباب الوطني، كما كان كل أفراد الشباب الوطني يريدون أن أكون أنا في اللَّجنة العليا، وأنا السكرتير في "الشباب الوطني"، فاستطاعت الكتلة الوطنية، بأساليب زعمائها، استطاعت أن تُبعدني عن ذلك. وقد صارحني جميل مردم، وكان رئيس الوزارة في ذلك الوقت، صارحني بأنه لم يعد في البلد كلها شخص واحد معارض للكتلة الوطنية، إلاّ أنا، هذا ما صارحني به مصارحة واضحة، ولا لزوم لذكر الأسماء ولا الأساليب التي اتَّبعها والتي أعلمها تماماً حقّ العلم، حتى ينفِّذ فكرته… وهي أساليب إغراء بوظائف وبمنافع. وبأشياء أخرى من هذا القبيل،.. فأنا بالفعل أشمأزَّيت من هذا الوضع، وبدأت أفكر بأن هؤلاء الزعماء وهذه الأساليب التي يتّبعونها لا تأتلف مع ما يجب أن يكون عليه الموقف وما يجب أن يكون عليه الزعماء من التجرّد. ولم يكن الهدف بأن انفصل عنهم لأجل أن أشكل زعامة مستقلة، ولكن الهدف كان أن أشكل مبادئ معيَّنة لخدمة القضية الوطنية، وخصوصاً أن المعاهدة لم توقَّع أساساً من جانب فرنسا ولم يقبل مجلس النواب الفرنسـي بها وعلى الرغم من التعديلات التي أدخلها عليها السيد جميل مردم، عندما كان رئيساً للوزارة، أجرى علـى المعاهدة تعديلات مرَّتين، ومع ذلك رُفضت المعاهدة من قِبَل فرنسا وفي النهاية طووا صفحاً عنها واستقالت الوزارة، وأُجبر هاشم الأتاسي على الاستقالة من رئاسة الجمهورية، وشكلوا "حكومة المديرين" برئاسة بهيج الخطيب الذي كان من أذناب الفرنسيين. فأنا بالفعل عندما أُعلنت الحرب العالمية الثانية، كنت عائداً من قيامي بالحج، وبدأ الفرنسيون بإلقاء القبض على الشباب دون أن يقوموا بأي عمل… ولم يكن أحد يتصور كم من الوقت ستدوم الحرب، فرأيت الابتعاد عن البلد في تلك الظروف.
لذلك، في هذه الفترة ـ يتابع د. مدحت البيطار حديثه قائلاً: إنه ابتعد وذهب إلى العراق وبقي في العراق مدة ثلاث سنوات. وعدت قبل أن تنتهي الحرب، في عام 1943، بمعنى أنه عندما نشبت ثورة رشيد عالي الكيلاني كان مدحت البيطار في العراق، ولكنه لم يكن في بغداد، وإنما في مدينة اسمها "الناصريّة". وهو يضيف: لقد عاصرت تلك الأحداث في العراق وعدت بعد انتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية وبعد وفاة الشيخ تاج الحسيني… وكنت قد اجتمعت أيضاً بالسيد شكري القوتلي في بغداد في تلك الأثناء. وعند عودتي، تعرفت إلى الأستاذ ميشال عفلق والأستاذ صلاح الدين البيطار. وقبل ذلك، الدكتور مدحت البيطار لم يعرف الأستاذ ميشال عفلق ولم يكن يعرف الأستاذ صلاح الدين البيطار إلاّ بالشكل. لكن، لم يكن هناك أي صلة بينهما ولا بينه وبين الأستاذ ميشال عفلق. فكنا نجتمع في مقهى "الطاحونة الحمراء" على ضفَّة بردى. بعد عدد من الاجتماعات وجدت بأنه يوجد بيننا تقارب قويّ جداً بين أفكاري وأفكارهما، وبالأخص الموقف من الحكم والموقف من الوحدة العربية التي كانت هدفاً من أهدافي حتى في أيام الانتداب الفرنسي الذي كنا ننادي فيه بالوحدة السورية، وليس بالوحدة العربية. وأذكر أنني في بعض الخطابات كنت أتطرق إلى الوحدة العربية في خطاياتـي، ولكن ذلك كان يعني عندئذ شيئاً بعيد المنال في تفكير كل الناس في ذلك الوقت. فباجتماعاتي المتكررة مع الأستاذ ميشـال عفلق والأستاذ صلاح الدين البيطار، صدف وقوع حادث وهو في مباراة كرة القدم بين الجيش الفرنسي وبين إحدى الفرق الوطنية، ولما افتكر الفريق الفرنسي بأنه سوف يُغلب، قام بأعمال عدوانية وامتهان للاعبين السوريين، مما دفع أحد أعضاء الفريق الوطني الذي كان يباري فريق الجيش الفرنسي، وهو فريق الشرطة الوطنية السورية، فما كان من أحد أفراد الشرطة السورية، عندما سمع الإهانة، إلاّ أن أطلق مسدسه على الشخص الفرنسي الذي تلفظ بالإهانة فأرداه قتيلاً في الملعب، وفرّ هارباً. وكان ذلك في أرض الملعب بالذات، ولاذ هذا الشخص بالفرار، وأذكر أن لقبه من عائلة "أنارة" وتوارى عن الأنظار، وسرت شائعات بأن الحكومة ستسِّلم هذا الشخص إلى الفرنسيين، لأجل تنفيذ حكم الإعدام به، نظراً لقتله اللاعب الفرنسي. فما كان مني إلاّ أن ذهبت إلى المسجد الأموي، بعد أن حصلت على رخصة من نصوحي البخاري الذي كان نائب رئيس الوزراء، ورئيس الوزراء في ذلك الوقت هو سعد الله الجابري، وكان في جولة داخلية برفقة رئيس الجمهورية شكري القوتلي، فذهبت إلى دار نصوحي البخاري وطلبت منه رخصة لأجل القيام بمظاهرة تنتهي في السراي وطلبت منه أن يكون هو موجوداً، لأنه كان اليوم الثاني عطلة. وطلبت منه أن يكون في السراي لإنهاء المظاهرة هناك. وبعد أخذ ورد، قبل مني بأن أقوم بالمظاهرة. وبالفعل، ذهبت إلى المسجد الأموي وألقيت خطاباً ومشيت على رأس المظاهرة التي تندِّد بالفرنسيين والشعارات ضد الفرنسيين، حتى وصلت إلى ساحة السرايا. وهناك ألقيت خطاباً وتعرّضت للحكومة إذا هي أقدمت على تسليم الشرطي، لأن الشعب سيقف ضدها. وأنهيت المظاهرة هناك. بالطبع الأستاذ ميشال عفلق والأستاذ صلاح الدين البيطار لم يشتركا في هذه المظـاهرة، وإنما عرفا بأخبارها. وكنا متلاقين بتفكيرنا. فعلى أثر هذه المظاهرة وبعد بضعة أيام، حصلت بيننا مناقشة: كيف شكلت المظاهرة وكيف هيأت لها..؟!… هنا، سألني الأستاذ ميشال عفلق: هل عندك استعداد، إذا شكلنا حزباً سياسياً، أن تكون من أعضاء الحزب وأن تدخل في الحزب؟!… فقلت له: على هذه الأسس التي نحن نتناقش حولها، فأنا مستعد بأن أكون أحد أعضاء الحزب. قال: لكن، عندنا شخصان يجب استدعاؤهما وهما الأستاذ جلال السيد في "دير الزور" والدكتور وهيب الغانم في "اللاذقية". ويقول د. مدحت البيطار بأنه لم يكن يعرف جلال السيد ولا الدكتور وهيب الغانم. وبالفعل، أرسل لاستدعائهما، واجتمعنا في دار الأستاذ صلاح الدين البيطار، رحمه الله، وتذاكرنا في تأسيس الحزب وفي تسمية الحزب. وكان هناك رأي إما أن نسميه: "البعث العربي" وإما "الخَلْق العربي". ويمكن في هذا الاجتماع لم يكن موجوداً معنا وهيب الغانم، وإنما كنا نحن الأربعة: ميشال عفلق، صلاح الدين البيطار، جلال السيد، مدحت البيطار. إذن، الدكتور وهيب الغانم لم يكن موجوداً وترجّح تسمية الحزب باسم "البعث العربي"، وكان أساساً الأستاذ ميشال عفلق والأستاذ صلاح الدين البيطار، قبل حضوري وأنا في العراق، يصدران نشرات باسم: "البعث العربي"، وليس باسم حزب البعث العربي. وبالفعل، بعد أن حضر الدكتور وهيب الغانم من اللاذقية واجتمعنا واعتبرنا أنفسنا أعضاءً مؤسسن لـ "حزب البعث العربي"، وصرنا نصدر النشرات منذ ذلك الحين باسم "حزب البعث العربي". فهذا الانتقال، إنما كان هو الانتقال الرسمي، من نقدي لأساليب الكتلة الوطنية السياسية ومن النقد الذاتي إلى النقد المباشر وتأسيس (حركة سياسية) مستقلة. وكما ذكرت سابقاً بأنه في الأصل أنا كنت أريد أن "الشباب الوطني" يكوّنوا حزباً سياسياً مستقلاً عن الكتلة الوطنية. أما الآن فقد تهيأ لي هذا الشيء بوجود أو بقيام حزب البعث العربي الذي رحَّبت كل الترحيب بالفكرة التي اتفقنا عليها من حيث تحقيق الوحدة العربية، من حيث توحيد النضال العربي مع الأقطار العربية الأخرى، من حيث مفهوم المواطن العربي في البلاد العربية.
وحول سؤال إذا كانت هذه الاجتماعات (من أجل تأسيس حركة البعث) قد حصلت قبل انتخاب شكري القوتلي لرئاسة الجمهورية أم بعد ذلك، لأن هناك بياناً منشوراً في سلسلـة "نضال البعث"، يدلّ على أن الأستاذين عفلق والبيطار أيّدا ترشيح شكري القوتلي لرئاسة الجمهورية. ولكنه من الواضح ـ كما يقول مدحت البيطار ـ لم يكونا مؤسسَيْن بعد للحزب (لحزب البعث، كحزب). فالموضوع إذن أنه أثناء الانتخابات الرئاسية، كان مدحت البيطار لا يزال في العراق، ولما حضر إلى سورية، كان حضوره بعد انتخاب شكري القوتلي لرئاسة الجمهورية، ويضيف: ولكني علمت من حديثي مع الأستاذ ميشال عفلق بأنهما عندما أصدرا أول بيان باسم "البعث العربي"، كانا قد استقالا من التدريس في مدرسة التجهيز الأولى، وما كانت في تلك الأيام سوى مدرسة تجهيز واحدة، ولا أذكر على التَّمام سبب الاستقالة، وإنما عندما استقالا أرادا أن يصدرا بياناً، فاتصلا بالكتلة الوطنية… هذا ما فهمته من الأستاذ ميشال عفلق بأنهما اتصلا بالكتلة الوطنية. وكان المفهوم عندهما بأن الكتلة الوطنية سوف ينضم إليها إثنان من الأساتذة (عفلق والبيطار، ويخوضان، فيما يبدو، الانتخابات النيابية على لائحة الكتلة الوطنية..) وذلك لسبب وهو سبب جوهريّ، أن هذَين الأستاذين ضد الانتداب الفرنسي. فكان من المفروض أن ترحِّب الكتلة الوطنية بالبيان الذي سوف يصدرانه وبهذين الشخصَيْن اللذين يقدران أن يستغلا استقالتهما للمجهود الوطني. ولكنهما قوبلا من قبل الكتلة الوطنية بالجفاء ولم يقابلا بالترحاب باعتبارهما استقالا. وكانا لا يزال سوى إثنين، وليس لديهما إلاّ بعض الطلاب، وما كانا مؤسسَيْن لحزب (سياسي) ولا لديهما فكرة تأسيس حزب (سياسي بالمعنى المتعارف عليه آنذاك..) فأرادا أن يقيما صلة ما مع الكتلة الوطنية. وأساساً لم تكن تحتفظ في ذلك الوقت باسم الكتلة الوطنية، وكان وصول شكري القوتلي إلى رئاسة الجمهورية قد حصل باسم "الوطنيين"، وبقائمة مستقلة برئاسته، لمّا خاضوا الانتخابات (عام 1943). وملخَّص الحديث أنه جرت الانتخابات، وخاضها شكري القوتلي باسم "الوطنيين" في خوضِهم هذه الانتخابات. وبقائمة مستقلة برئاسته. وحاول الأستاذ ميشال عفلق ترشيح نفسه وأن يكون ضمن هذه القائمة برئاسة شكري القوتلي. وترشح فقط الأستاذ ميشال عفلق، وطبعاً ترشيحه على اعتباره مسيحياً، من الممكن أن يلاقي قبولاً، لأنه عندما يُدخلوا في قائمتهم الأستاذ ميشال عفلق، بدل أي مسيحي آخر، أو بالإضافة إلى أيّ مسيحي، فلا يأخذ ذلك أيّ استهجان من قبل الناس. لكن إذا كان الأستاذ صلاح الدين البيطار دخل في قائمتهم، فهذا يعني بأنهم سوف يستغنوا عن أحد أعضاء الوطنيين، وذلك سيسِّبب مشكلة، لهذا لم يكن هناك من مشكلة من ترشيح الأستاذ ميشال عفلـق كمسيحي. وحاول، حسب ما فهمت منه، من الأستاذ ميشال عفلق، حاول أن يتصل بهم، أي بالكتلة الوطنية، ولكنه لم يقدر (أن ينجح في محاولته). وأذكر أنه حَكى لي، وأن الانتخابات كانت على درجتين في تلك الأيام، أنه قَدِر أن يحصل على عشرين صوتاً من أصوات الناخبين الثانويين، وهذا كان يعني خطوة لا بأس بها، لأنه مرشح مستقل عن "الوطنيين" أن يحصل على عشرين صوتاً من الناخبين الثانويين، فكانت خطوة مقبولة كبداية.
والسؤال الذي يُطرح أيضاً أنه في بداية الثلاثينات، كان هناك "عصبة العمل القومي"، لماذا لم يعمل البعثيون على الاحتكاك بأعضاء عصبة العمل القومي، وإنما بأعضاء الكتلة الوطنية؟!… الجواب: هو أن الاتصال بأعضاء عصبة العمل القومي، كان مقبولاً ومقبولاً أكثر من الاتصال مع الكتلة الوطنية، إذ إن أهداف عصبة العمل القومي تأتلف تماماً مع البعث. لكن، عصبة العمل القومي، من الواضح أنها كانت في حالة تفكك في تلك الأيام، والسبب هو قد يتبادر إلى الذهن أنه عندما تشكلت عصبة العمل القومي، لم أكن أنا مع عصبة العمل القومي. والسؤال أيضاً يوجَّه إلى مدحت البيطار: لماذا لم يعمل منذ البداية مع عصبة العمل القومي، وعمل سياسياً في ظل الكتلة الوطنية؟!… الحقيقة، أن عصبة العمل القومي تشكلت عام 1933. والأهداف كانت مقبولة جداً وهي الأهداف التي ينبغي على كل مواطن عربي أن يسعى لتحقيقها، لكن كان دائماً في ذهني شيئان: هو، الأهداف كمبدأ، والعمل لهذه الأهداف كواقع. فكنت أشك كثيراً بالأشخاص الذين انتسبوا وقاموا بتأسيس عصبة العمل القومي والأشخاص الذين كانوا في قيادتها آنذاك…
* * *