لبنان الغد: أية هُوية؟"
ندوات /
إدارية- وطنية - طائفية /
1989-02-22
أقام المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا ندوة دراسية تحت عنوان: "لبنان الغد: أية هُوية؟"، أشترك فيها سماحة مفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين والمطران جورج خضر والعلامة السيد محمد حسن الأمين والدكتور نزيه البزري وذلك في قاعة محاضرات دوحة المقاصد وحضور جمهور كبير من الهيئات الرسمية والاجتماعية والثقافية وفي مقدمها محافظ الجنوب الأستاذ حليم فياض ورئيس بلدية صيدا المهندس أحمد الكلش ونائب قائد منطقة الجنوب العسكرية العميد عدنان الخطيب ورئيس جمعية المقاصد الدكتور عدنان النوام، ومطران صيدا للطائفية المارونية ونائبه إبراهيم الحلو والأب حنا الحلو ورئيس جمعية التجار علي الشريف وأمين سر رابطة أطباء صيدا الدكتور عادل الراعي.
ورئس الندوة وأدار النقاش رئيس المركز الثقافي الدكتور مصطفى دندشلي الذي أكد في كلمة التقديم على أن طرح موضوع الهُوية بصيغة تساؤل: "لبنان" أية هُوية"، يحمل ضمناً معنى الالتباس والغموض ومعنى الخلاف والاختلاف حول الهُوية. وقال: "إنّ الإجابة عن هذا السؤال تستدعي تحديد الموقف وتحديد الانتماء الوطني والثقافي والحضاري، وتستلزم بالتالي تحديد طبيعة تكوين الكيان السياسي ومنطلقاته وأسسه الاجتماعية والتربوية والتاريخية. فعندما نحدد مَنْ نحن ومَنْ نكون، فإننا نحدد في الوقت ذاته نظرتنا للتاريخ وموقعنا فيه وعلاقاتنا بالآخرين إلى حد كبير…" وأضاف: "من هنا نرى أن الخلاف حول الهُوية هو أحد الأسباب العميقة الفكرية والفلسفية للحروب اللبنانية المتتالية وللحرب اللبنانية الأخيرة التي لم نخرج منها بعد…"
المفتي الشيخ محمد سليم جلال الدين
في بداية الندوة أشار مفتي صيدا والجنوب في مستهل حديثه إلى أن لبنان عندما نال استقلاله 1943 قام جدل حاد بين القادة السياسيين والروحيين والحزبيين حول هُوية لبنان المستقل. فكانت الآراء آنذاك متعددة مما حدا بالمسؤولين إلى حسم الخلافات والإشكالات أن توافقوا على تعديل بعض مواد الدستور اللبناني. وقال: "وقد كانت موافقة زعماء المسلمين في ذلك الحين على ذلك التدبير نابعة من حرصهم على وحدة لبنان ودوام العيش المشترك بين الطوائف وتمكين جذور الاستقلال. إلاّ أن الجدل حول التوزيع الطائفي في الوظائف العامة ومجلس النواب وتكريس نظام الطوائف وتمييز طائفة معينة على بقية الطوائف ظل محتدماً وبدأ شعور المغبونين من جرّاء ذلك يظهر…" وبعد أن استعرض المفتي جلال الدين عوامل تفجر الأوضاع في لبنان من عوامل داخلية وخارجية ومطامع إسرائيل التوسعية، أضاف: "إن مصدر العلة في الأزمة الحالية هو الطائفية السياسية وممارسات الدولة في تعاملها مع الناس وعدم تهيئة المواطن الصالح. لذلك يجب تحديد هُوية لبنان الجديد التي تحفظ كيانه ووحدته واستقلاله تعيد إليه دوره الحضاري والثقافي والعلمي وإلى الدولة سيادتها وسلطاتها وتصويب ممارساتها وتعاملها مع المواطنين".
وأعطى الشيخ جلال الدين تصوراً لهُوية لبنان الغد وفقاً للآتي: لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية على أساس الديمقراطية العددية ونظام الشورى، لها رئيس ينتخب من أفراد الشعب، ويحق لكل مواطن لبناني تتوافر فيه الشروط ترشيح نفسه للرئاسة، ولها مجلس نيابي يمثل السلطة التشريعية ومجلس وزراء يمثل السلطة التنفيذية ولها قضاء يمثل السلطة القضائية.. وقال: "لبنان دولة مستقلة ذات سيادة على جميع الأراضي اللبنانية في حدودها المعترف بها دولياً ولن يكون لأجنبي أو مستعمر مقراً ولا ممراً وهو واحد موحداً أرضاً وشعباً ومؤسسات…. ولبنان دولة مستقلة عربية ذات سيادة وسلطة غير قابلة للتجزئة… لبنان عربي ولا حاجة للاختباء وراء الألفاظ عن هُويته العربية كأن يقال "لبنان ذو انتماء عربي" أو "لبنان ذو وجه عربي" أو "لبنان عضو في جامعة الدول العربية" إلى غير ما هنالك من تعابير… لأن العروبة التي رابطة اللغة والثقافة والتراث والتاريخ بين مختلف الشعوب العربية نشدّ الشعب اللبناني إلى حظيرتها ونفرض عليه القيام بدوره في تطوير ما تحمله من معانٍ ومفاهيم وندفعه إلى أداء رسالته الحضارية والثقافية ضمن إطار التمسك باستقلاله وحريته. ولأن للبنان دوراً عربياً نابعاً من إيمان شعبه برسالته الثقافية والحضارية في الوطن العربي ومصالحه العميقة فيه، لا يمكنه التخلي عنه".
ثم أضاف: "وبالنظر إلى الروابط المتينة التي تربط لبنان بالشقيقة سوريا والمصالح المشتركة بينهما والواقع التاريخي والجغرافي والترابط المصيري، جميعها تفرض عليه إقامة علاقات خاصة مميزة مع الشقيقة سورية ووضع استراتيجية مشتركة للتخلص من خطر العدو الإسرائيلي.."
المطران جورج خضر
المتحدث الثاني في هذه الندوة المطران جورج خضر، راعي أبرشية الطائفة الأورثوذكسية في جبل لبنان، فأكد في مداخلته على أن "السؤال المطروح يتعلق بالغد ويتعلق بالماضي بآن. لأن السؤال عن الهُوية هو عن الأصول، عما نجى منه. فالهُوية مشتقة من الـ "هو" للدلالة على مذهبنا الجماعي، وكأن من صاغ هذه العبارات يوحي بأن لنا هُوية ثابتة وبأننا مضطرون، انطلاقاً منها، على صنع المستقبل. فهل لنا حقاً هُوية؟ هل الكيان السياسي ذو طبيعة، ذو جوهر لا ريب فيه أم هو متحرك ينحته المواطنون في نوع من إجماع الأمة وَفق مصالحها؟" ثم أضاف: "أنه ليس لدينا في الفكر الديني عند الساميين ما يحتم التنقيب عن الهُوية. لماذا نحن مضطرون إلى القول بها في الحياة الوطنية، إلى التحدث عن الوطن بما هو منذ القديم وبما هو أبداً.. الوطن في صيرورة دائمة. سيكون ما يصنه الاخلاص والمعرفة، غير أسير لمسبقات، منصوتاً بحركيته، منحوتاً بأيدي أبنائه وعقولهم." ويطرح المطران خضر سؤالاً ليجيب عنه: "رب معترض يقول: ولكن للوطن ذاكرة تاريخية. أنا أعترف أن من لا ذاكرة له لا وجود له. ولكني أيضاً ألاحظ أن قراءتنا للتاريخ هي إلى حدٍ بعيد وليدة مواقفنا في الحاضر.
التاريخ مذهب وأيديولوجية وليس له قراءة واحدة. ليس المؤرخ في حياد أو سكينة مهما ادّعى. كل منا يضع بدءاً للتاريخ الذي ينتسب إليه. ينتسب من نقطة. أنت تنتسب إلى لبنان بدءاً من الفتح العربي وأنا أنتسب إليه قبل ذلك بكثير. أنت اخترت نفسك بذلك وأنا اخترت نفسي. أنا قررت تاريخي بدءاً من التزامي بنفسي. أليس ثمة اتفاق ممكن على ذاكرة تاريخية واحدة؟ أظن أنها ممكنة بعد بضعة عقود. بعد حقبات معايشة صادقة يكتشف فيها أحدنا الآخر. بالحب بالانصهار تجيء معي إلى الجمالات التي فيها أقيم. خذوا العروبة التي نادينا بها في المشرق عند ملتقى القرنين، هل أردنا بها قومية حقاً أم أردنا ثقافة نحن عليها، وهذا نداء حرية، صرخة تمرد؟ المقهورية التي كنّا عليها، نكران الأتراك لذاتنا الجماعية جعلانا طلاب حرية. الودية كانت حاجتنا إلى الحرية. ما كانت ماهية سرمدية عند آباء التحرر في بلادنا. كانت بدمه نهضة لنكون على إنسانيتنا والرقي. بعد الحرب العالمية الثانية أمست العروبة إعلان استقلال عن سلطة الانتداب. غدت دعوة حرية أيضاً هذه المرة. العروبة في طورها الثالث عنت لنا رفضاً لإسرائيل وإقراراً بحق الفلسطينيين على أرضهم. اليوم، ماذا تعني العروبة، ما مضمونها، ما زخمها؟ تصوري أنها تعني أولاً رفض الفلسفة الصهيونية من حيث تقود عندنا إلى العنصرية الدينية ولعلّها تعني في المستقبل القريب سعياً إلى الوحدة الاقتصادية وكأن العرب أدركوا أخيراً أن العروبة تبنى على الأرض أولاً ثم تعلو. نحن لسنا مع ماهية عربية ثابتة، صلبة. نحن مع حركة تحرر مستمر، مع مصير نرسمه نحن البشر. في المدى العربي، سمينا الحرية عروبة. لعل هذا المدى وفعلنا فيه هو كل العروبة."
ويختم المطران خضر حديثه قائلاً: " من زاوية الحركية التحررية التي لا تنقطع، أرى إلى لبنان. هذا التعريف الذي أعطيته للعروبة لا عسفاً بل من ملاحظة تاريخنا الحديث، يجعلني أرى وحدة اللبنانيين في رفض الصهيونية موقفاً كافياً وكاملاً.. أنه يستتبع مبدأ الرفض لكل تبعية ولكل تقسيم. من قال بهذين الأمرين تتوفر له لبنانية جامعة مانعة في ذاكرة تاريخية واحدة.."
العلامة السيد محمد حسن الأمين طرح الموضوع كتمهيد له من جهة الصراعات التي تشهدها الساحة اللبنانية وأن لهذه الصراعات سواء في إقليم التفاح في السابق أم في المنطقة الشرقية حالياً وجهها الذي يقول بأن الحرب الأهلية اللبنانية بدأت تواجه مأزقها وتقدم أدلة على إفلاسها. وهذا الشعور لا يختص بمنطقة بعينها ولا بطائفة بذاتها.. بل يشكل المظهر التوحيدي لكل اللبنانيين…. ثم أضاف: " عندما نتحدث عن الهُوية في لبنان فنحن نتحدث عن واقع تاريخي وواقع اجتماعي. قد يكون المسلمون في لبنان بحكم الظروف التي رافقت الفترة التاريخية الماضية من نشوء لبنان أكثر اهتماماً بإعطاء لبنان صفة العروبة… والمسيحيون أيضاً بحكم ظروف متعددة هم في موقع الحساسية من تحديد هُوية لبنان بوصفها هُوية عربية." وقال: "لا شكّ أننا نحاول أن نضفي على التاريخ شيئاً ما من دواتنا ومن ثقافتنا ومن رؤيتنا للوجود وللكون وللإنسان. ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل واقعاً موضوعياً، أن نتجاهل المحطات الأساسية في التاريخ.. لبنان بهذا ليس كياناً مستقلاً كل الاستقلال والشعب اللبناني ليس أمة قائمة بذاتها، الشعب اللبناني يملك ذاكرة تاريخية تنتمي إلى هذه المنطقة التي نسميها بالمنطقة العربية ويرتبط بهذه المنطقة بعوامل اللغة والتاريخ وبعوامل المصير المشترك أيضاً وبعوامل الجغرافيا…" ثم يؤكد السيد الأمين على "أن العروبة التـي تتسع كمضمون وكهوية لمواجهـة الإشكاليات الكبيرة التي تواجه مصير لبنان، ما زالت هذه العروبة هي الإطار الذي نحتاجه من أجل أن نخرج من الأزمة اللبنانية. هُوية لبنان العربية ليست صناعة المسلمين في هذا البلد ولربما كان الموقف الإسلامي من القضية العربية هو أشدّ المواقف قسوة… غير أننا نحن كمسلمين لبنانيين نقول: إن لبنان الموحّد الديمقراطي، لبنان الحياة المشتركة الصيغة المشتركة، إنما ينسجم تمام الانسجام مع الفكر الإسلامي في بناء العلاقة الإنسانية. من هنا فإن الأزمة اللبنانية شهدت طروحات تتعلق بالكيانية اللبنانية أو بالكيانية المسيحية أو بالجمهورية الإسلامية، تشهد الآن في إطار التراجع الذي يصيب الحرب اللبنانية. تراجعاً في مثل هذه الطروحات التي تتجاوز واقع التنوع القائم وتتجافى مع التاريخ والواقع… وأمامنا نحن اللبنانيين فرصة تاريخية حقيقية لأن نرتقي في الحياة المشتركة بين المسيحية والإسلام إلى المستوى السامي، بوصف الإسلام والمسيحية كدينين حضاريين يشكلان استجابة عميقة وواسعة الآفاق لتطلعات المنتمين إلى هاتين الديانتين من أجل إيجاد نموذج في العالم المسيحي وفي العالم الإسلامي للحياة المشتركة لهذا التلاقح الحضاري الذي يشكل نصراً حقيقياً للمسيحية وللإسلام".
والكلمة الأخيرة ألقاها الدكتور نزيه البزري الذي شدّد على "أن الحرب خَلّفت على الأرض فئات جديدة وعديدة من حملة السلاح "والشبيحة"، فماذا نحن فاعلون بهم؟ إني أقترح أن يصار إلى تأهيلهم وتزويدهم بالعلم والحِرَف اليدوية والصناعية ليعودوا إلى الحياة من جديد" وبعد أن اقترح إدخال الإصلاحات الضرورية في النظام اللبناني على صعيد الاقتصاد والتربوية والتعليم والقضاء وقانون الانتخاب والجيش، أعطى مواصفات لبنان الغد فعددها بالأمور التالية: معرفة الحاضر والماضي معرفة صادقة، العقلانية في تقرير إعادة بناء لبنان، الديمقراطية والحرية والسيادة وحرية الأديان والعبادات والمعتقدات والابتعاد عن وهم الحماية الأجنبية، إعادة تحديد أهداف الجيش وإعداده من جديد، إنشاء مجلس اقتصادي اجتماعي، عصرنة وتحديث الإدارة في الدولة اللبنانية الجديدة. ثم أنهى الدكتور نزيه البزري مداخلته قائلاً: إن هُوية لبنان هي نتيجة تفاعل مع محيطه اقتصادياً ولغوياً وثقافياً وتاريخياً وتطلعاً للمستقبل. فلبنان لا يستطيع أن يتنكر لإنسانيته ولا لعروبته ولا لوجوده الفاعل في محيطه العربي…