كلمـة اللواء الركن الدكتور ياسين سويد في ثانوية المقاصد
لقاءات /
فكرية /
2003-06-08
كلمـة
اللواء الركن الدكتور ياسين سويد
في ثانوية المقاصـد
تعود بي الذكرى إلى سنوات خلت، إلى عصرٍ كنا فيه رجالاً، رغم أن كنا يافعين ومراهقين، على طاولات الدراسة التكميلية والثانوية، في هذه الكلية العابقة بذكريَات الرجولة والعروبة والإباء(*).
تعود بي الذكرى إلى نصف قرن ويزيد، بل إلى عام النكبة الأولى التي تلتها، في تاريخ أمتنا، نكبات. تنكسر، في تاريخنا النكبات على النكبات، كما النصال، على حدّ قول الشاعر العربي، ولكن، لم يبقَ، في حاضر هذه الأمة، نصلٌ عربيٌ مسلولٌ إلاّ ذلك الذي يستله طفل فلسطيني في جنين وأخواتها من قرى فلسطين ومدنها المنكوبة بالاحتلال الصهيوني، وها أن تباشير المقاومة في العراق المحتل بدأت تظهر، كأسراب السنونو المبشِّرة بربيع مقبلٍ لهذا البلد العربي المنكوب، بدوره، بالاحتلال الأميركي.
يومذاك، منذ خمسين عاماً ويزيد، كان جيلنا اليافع الطري العود، جيلَ رجالٍ حقاً، رغم أننا لم نكن نتجاوز العشرين، بل كذلك كانت المقاصد، منبتاً للرجال ولا أروع، وكذلك كانت صيدا، والأمة بأسرها،… وإذا بنا، بعد خمسين عاماً، نشيخ جميعاً ونهزَم، وكذا الأمة، نراها قد شاخت وهَرِمت، وبدت مقعدةً وعاجزة، تتلقى النكبة إثر النكبة، دون أن تكون قادرة على الرد، حتى بأبسط وسائل الدفاع عن النفس.
يوم كنا في المقاصد، وكان ذلك في الأربعينات من القرن المنصرم، كانت بلادنا (بلاد الشام، أو سوريا الطبيعية) حديثة العهد بالتجزئة التي فرضها الاستعمار عليها، وكانت مؤامرة "سايكس بيكو" لا تزال طازجة تفوح منها روائح العفن التي تزكم أنوفنا جميعاً. قبلها، كانت "الخديعة الكبرى" للشريف المخدوع حسين، شريف مكة، وبعدها، كانت نكبة "ميسلون" التي أجهضت الحلم العربي اليافع الذي ولد، في دمشق، على يدي "الملك فيصل"، إلاّ أنه لم يعش سوى أشهرٍ فقط (آذار ـ تموز 1920)، إذ أن مشروع "المملكة العربية السورية" من جبال طوروس حتى خليج العقبة، هو إلغاء حتمي للمشروع الصهيوني الذي مهدت له تقسيمات سايكس بيكو (1916)، وأقرته بريطانيا، الدولة الراعية، من خلال وعد بلفور (1917)، وأضحى واجب التنفيذ بعد مؤتمر سان ريمو (1920) للدول المتحالفة والمنتصرة في الحرب العالمية الأولى،….. كانت هذه السلسلة المؤامرات على أمتنا، لا تزال تنضح بالكراهية المكشوفة للجنس العربي، وقد قاوم آباؤنا وأجدادنا، ببسالة منقطعة النظير، مشروع صهينة فلسطين هذا، إلاّ أن يد الاستعمار كانت أقوى وأطول وأكثر اقتداراً.
في الأربعينات من ذلك القرن (العشرين)، كنا يافعين حقاً، إلاّ أننا كنا ندرك، بالسليقة والتربية، مخاطر تقسيم بلاد الشام إلى دويلات، واعتراض معظم المدن والبلدات الشامية على هذا التقسيم، ومنها صيدا وطرابلس وبيروت وبعلبك، وكنا ندرك، كذلك، أن هذا التقسيم ليس سوى مقدمة لصهينة فلسطين، لذا، ما أن أعلنت، في نيويورك، وعلى يد مجلس الأمن الدولي، في تشرين الثاني عام 1947 مؤامرة تقسيم فلسطين، حتى تلتها مباشرة، وبعد شهورٍ فقط، النكبة الأولى، في فلسطين، في أيار عام 1948.
في تلك الفترة بالذات، لم يهدأ الشارع العربي، ولم تستكن الجماهير العربية، وكذلك مقاصدنا، ومدينتنا صيدا، أذكر أننا كنا نجوب شوارع المدينة، طلاباً في البداية، ولا يلبث أن ينضم إلينا الشارع الصيداوي، حيث يقفل التاجر متجره، والعامل معمله، ويرفع، مثلنا، قبضته نحو السماء، مردداً، مثلنا، شعارات اللعنة للدول الاستعمارية، وشعارات التخوين للأنظمة العربية، وقد كنا على حق.
لم تهدأ المقاصد، ولا هدأت صيدا، طوال العامين 1947 و1948، إذ كانت الثورة تتأجج في نفوسنا، نحن طلاب المقاصد، فتؤجج، في الوقت نفسه، ثورة الصيداويين الذين كانوا يرون في المقاصد، منارة للوطنية وللعروبة، وفي طلاب المقاصد فدائيين يتقدمون الصفوف…. هكذا كانوا، منذ أواخر عهد الانتداب الفرنسي، في معركة الاستقلال عام 1943، ثم في معركة الجلاء عام 1945، حيث لعب طلاب المقاصد دوراً مهماً ورئيسياً في التحرك الشعبي الصيداوي لدعم الحكومة الاستقلالية الأولى.
في انتفاضة الاستقلال عام 1943، قاد طلاب المقاصد الشارع الصيداوي، إلى درجة أن بعضهم كان يلاحقه الجند الفرنسيون لسوقه إلى السجون، فكان يبيت الليالي الطوال على سطوح المنازل، يؤمن له المواطن الصيداوي المأوى والمأكل، إلى أن تزول الغُمة.
وفي إضرابات العام 1945 طلباً لجلاء الجيش الفرنسي عن لبنان، كنا نتحلّق، ليلاً، حول أحدنا، في غرفتنا المتواضعة، في حي "رجال الأربعين"، كنا ثلة من الشباب المقاصدي، من بينهم: سعيد الأسعد، وعدنان الشماع، وعرفان الشماع، ومنح البزري، ورؤوف عبد الصمد، وأحمد سويد، والمرحوم طه سويد، وغيرهم، حيث يكتب هذا "الأحدنا" بيانات الشجب والاستنكار والإدانة للمستعمر الفرنسي الذي لا يزال يحتفظ بجيشه على أرض لبنان، ويطالب، بأسلوبه اللاذع المميز، خروج هذا الجيش وجلاءه عن أرض الوطن، وكنا نحن، بدورنا، ننسخ هذه البيانات نسخاً متعددة، ثم ندور نلصقها على جدران شوارع صيدا وأزقتها، وفي الصباح، نجول في تلك الشوارع لنشاهد التجمعات الصيداوية وهي تتحلق حول هذه البيانات، لكي تخرج، بعد برهة، في تظاهرة صاخبة تطالب بالجلاء، وينضم طلاب المقاصد إلى التظاهرة (التي ينتظرونها)، فتمتلىء شوارع صيدا بالمتظاهرين.
وفي عام 1948، كان الطلاب المقاصديون في أوج حماستهم، وكانوا قد صدّقوا "التمثيلية" التي لعبتها الأنظمة العربية على مسرح الجامعة العربية، وذلك عندما أرسلت جيوشها إلى فلسطين "للدفاع عنها والذود عن حياضها" في مواجهة الصهاينة، إلاّ أن قيادة هذه الجيوش كانت قد سُلِّمت إلى الصهاينة أنفسهم، من خلال تسليمها إلى الملك عبد الله، ملك الأردن، الذي سلمها، بدوره، إلى قائد جيشه، الجنرال البريطاني "غلوب باشا"، مع أن بريطانيا هي الراعية للمشروع الصهيوني في فلسطين والمخوّلة تنفيذه.
لم ينم طلاب المقاصد، ليالٍ طويلةً، خلال أيام النكبة الأولى، فقد انهمكوا بأمور عدةٍ وذات شأن، وتوزعوا جماعات، واحدة لنقل السلاح من الشاطىء إلى قوارب كانت تنقله، بدورها، إلى حيث يرابط المجاهدون في فلسطين، وأخرى تهتم باللاجئين الذين ملأوا بيوت صيدا المضيافة، إلى درجة أن أي لاجىء فلسطيني لم يبت، في الشارع، ليلة واحدة، منذ وصوله، أو أنه لم ينم ليلةً واحدة ً جائعاً، بينما كنا، جميعنا، نتابع المعارك (على الخارطات)، حيث كنا ننفعل، حماسةً وابتهاجاً، عندما تتقدم الجيوش العربية لاحتلال المدن والقرى الفلسطينية وطرد الصهاينة منها، ونستشيط غضباً وألماً عندما تنهزم الجيوش وتتخلى عن بعض المواقع. وأذكر أني بكيت ذات يوم عندما انسحب الجيش الأردني من اللدو الرملة، بلا قتال، وسلّمها لليهود. لم نكن ندرك أن الجيوش العربية، مثل الشعوب العربية، كانت ضحية مؤامرة دبرها الحكام العرب، أو معظمهم، على فلسطين بالذات، وعلى بلادهم وأمتهم.
لقد أدركنا، فيما بعد، أن المطلوب، من هذه الجيوش، أن لا تدخل المناطق الفلسطينية التي خصصها قرار التقسيم للدولة اليهودية، وكم كنا، يومذاك، بسطاء وسذجاً، يوم صدّقنا مزاعم أولئك الحكام.
وفي سياق هذه الذكريات نتساءل:
أين نحن، وإلى أين سيقودنا ضعفنا وعجزنا وتخلفنا؟ ومن المسؤول؟ وما العمل؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى أجوبة، إلا أننا لسنا، هنا، في مجال الردّ عليها، فكل إجابة على أي سؤال منها تحتاج إلى ساعات، وإلى صفحات. إلاّ أننا نستطيع أن نجزم، باختصار:
لقد كان الاستعمار في منتهى الذكاء والفطنة يوم جزّأ بلادنا وأمتنا إلى كيانات صغيرة وضعيفة وعاجزة، وأنشأ في كل كيانٍ دولة، وخلّف في كل دولة نظاماً لم يختره شعبها، وحكاماً لم يخترهم الشعب كذلك، فكانت الممالك والجمهوريات (التي أضحت، فيما بعد، وبسبب عدم تداول الحكم فيها، ملكيات) والإمارات والمشيخات، دولٌ يكاد يكون بعضها كاريكاتورياً مضحكاً، بل ومعيباً، والأدهى من كل ذلك، أن هذه الدول اختارت لنفسها، وبتشجيع من الاستعمار نفسه، أنظمة ديكتاتورية، تعبيراً عن رغبة حكامها في البقاء والاستمرار، وذلك لأن الديموقراطية، في جوهرها، حليفة الشعوب، والتعبير الحقيقي عن إرادتها، وهو ما يتناقض مع أي حكم يسعى إلى الاستمرار والبقاء، فالبقاء يعني الجمود، والجمود يفترض عدم التطور، والتطور يعني التغيير، والتغيير يعني تداول الحكم والحكام، وهو ما لا ينسجم مع تطلعات أكثرية الحكام العرب، اليوم، ملوكاً كانوا، أم أمراء أم مشايخ أم رؤساء.
أليس عجيباً غريباً أن يقوم على الأرض العربية البالغة نحو 14 مليون كلم2، والتي يبلغ عدد سكانها نحو ثلاثماية مليون نسمة، هذا العدد الكبير من الدول (22 دولة) بحيث لا تبلغ مساحة بعضها وعدد سكانه مساحة عاصمة غربية مثل باريس أو لندن أو واشنطن، أو عدد سكان أي منها؟
كلنا مسؤولون عما آلت إليه أوضاع أمتنا، في زمنها الرديء هذا، مسؤولون حكاماً وشعوباً، وذلك لأننا ارتضينا أن نقبع في الكيانات التي رسمها الاستعمار لنا، فأصبحت، بالنسبة إلينا، قدراً لا يردّ، ونسينا حلم "الوطن الكبير" الذي طالما ناضل أجدادنا لاستعادته، بل أصبح "حلم الوحدة العربية" سبّةً يخجل أي عربي أن يجاهر بها، وإن تحدث عنها بعض المسؤولين كذباً وتدليساً.
لقد فرض الاستعمار علينا التجزئة فقبلناها مكرهين، ثم استمر أناها، فأصبحنا ندافع عنها ولا نرضى لها بديلاً، بل نزلت في ضمائرنا منزلة القداسة. قدسنا مؤامرة التجزئة هذه، وقدسنا مفاعليها، وأقمنا لها مراسم التكريم، حاكماً ودستوراً وعَلَماً وقوانين. منذ أسابيع، كنت في زيارة لباريس، وفي مطار "شارل ديغول" قرأت: المسافرون القادمون من دول الاتحاد الأوروبي (حيث يمرون بلا سمات، حتى أن جوازات سفرهم لا تختم) وبجانب ذلك: القادمون من دول أخرى.
ترى، متى نلحق بآخر مقصورة من هذا القطار الأوروبي؟
لن نجلد ذواتنا، بعد، بسياط النقد والهزائم المتكررة، بل دعونا نخرج إلى النور، لعل في الأفق أملاً جديداً يبشر بمستقبلٍ أفضل لهذه الأمة.
مستقبلٍ أفضل؟ ربما، لأننا قد بلغنا، من المنحدر، قعره، ولا قعر بعد القعر، وليس أمامنا، بعد، إلاّ الصعود أو الإندثار.
ولكـن للصعـود نحو القمـم والذرى شـروط يبـدو أنها لم تتوافر، بعد، في أمتنا، وأهمها:
1 ـ التحرر من كل الآفات التي ورثناها عن الاستعمار، وهي: الكيانية والطائفية والعشائرية والتبعية والتخلف.
2 ـ الكرامة القومية التي تدفع كل فردٍ منا إلى تحمل مسؤولياته القومية والسعي لممارسة نضال دؤوب ومستمرٍ لانتزاع حق أمتنا في حياة حرة كريمة، سواء أكان انتزاع هذا الحق من حكامنا أم ممن يتولى أمرهم من المنتدبين عليهم (ونقصد هنا، الولايات المتحدة الأميركية بالذات).
3 ـ الديموقراطية، التي هي شرط أساسي من شروط النضال، والديموقراطية لا تكتسب، في الأنظمة الديكتاتورية، اكتساباً، وإنما تنتزع انتزاعاً.
وبتوافر هذه الشروط الثلاثة: التحرر، والكرامة القومية، والديموقراطية، نستطيع، نحن الشعب العربي، أن نأمل بانتصار حقيقي على الظلم، تستعيد فيه أمتنا حقها في الحرية والوحدة والكرامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) ـ أعدت للالقاء في الهرجان السنوي الذي يقيمه خريجو كلية المقاصد الإسلامية في صيدا بتاريخ 8/6/2003.