الشاعر محمد علي شمس الدين
شخصيات /
أدبية /
1989-12-23
التاريخ في 23/12/1989
بحضور حشد كبير من مثقفي صيدا والجنوب ألقى الشاعر محمد علي شمس الدين باقة متنوعة ومنتقاة من قصائده القديمة والحديثة، في أمسية شعرية عامرة نظمها ودعا إليها المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا، وذلك في قاعة محاضرات مدرسة دوحة المقاصد الإسلامية..
بعد كلمة الافتتاح لرئيس المركز الثقافي الدكتور مصطفى دندشلي، قدّم القاضي الجعفري في صيدا السيد محمد حسن الأمين الشاعر شمس الدين بكلمة بليغة عن الشعر والحداثة ومكانة الشاعر فيها، استهلها بالقول: "الكلام على الشعر أو عنه لا يساهم في إضاءة العتمة والإلتباس في أروقته.. لأن الغموض والإلتباس في القصيدة غيره في الأماكن السياحية.. إنه في الثانية بحاجة إلى دليل من خارج يسلط الضوء ويشرح ويفسِّر.. وفي القصيدة بحاجة إلى دليل من داخل الذات، يتوهّم ويحدس ويكتشف بذاته ولذاته… ولا أحد سواك، فالوحدة شرط توهجك وانكشافكما أنت والقصيدة الواحد على الآخر…
فالقصيدة حضور كامل لا يحتاج إلى مبرر من خارج.. وللقصيدة كيانها الخاص، تحبها فكأنك تدخل في الحبّ لأول مرّة.. تستسلم لك وتتمنع عليك وفق القوانين نفسها التي تحكم علاقة العاشق بالحبيبة… فاستماع القصيدة هو الفن الذي يلي في الأهمية مباشرة درجة إيداعها والبعض يذهب إلى أكثر: "إلى أنّ القصيدة لا تستكمل حضورها إلا بعد أن يكتشفها المتلقي الذي يوفر لها شرطها الإبداعي".
ويرى القاضي الأمين أن الشاعر محمد علي شمس الدين لا يقدمه شىء كما تقدمه قصائده ذاتها وهو "يحتل مكاناً طليعياً بين عدد من الكبار الذين يضطلعون بالمهمة الإبداعية التاريخية ويأخذ مكانته المميّزة لكونه أحد رواد الحداثة الشعرية… فهو بين قلة من شعراء الحداثة الذين تلوا جيل الرواد الأول… بل بدأ شاعرنا حيث بدأ رواد الحداثة الأول، ولكنه لم ينته حيث انتهوا بل تابع رحلة الكشف والتجاوز والبحث عن الشعر الجاد العظيم. فأسس مع بضعة شعراء غيره كمحمود درويش وأمل دُنْقُل وغيرهم المرحلة الريادية الثانية".
ثم يشير السيد الأمين إلى مزايا قصائد محمد علي شمس الدين فيرى فيها "فتوحات شعرية شارفت الآفاق التي يطمح إليها الشعر الجاد" "وفي شعره طلاوة وحلاوة قلما تقع على مثلها في شعر سواه من المحدثين، هي جزء من رصيده المكتنز من تراث الغنائية الشعرية العربية، ولكنها غنائيته الخاصة وصوته الذي لا تخطئه وهو يتهدج بفجائعية عصره.. تمرّد على شروط موهومة للحداثة عندما أدخل عليها اللغة الباذخة والإيقاع الدقيق.. وتقع في شعر المراحل الأخيرة لديه على حضور لتراث التصوّف يأتي مترافقاً مع نزعة ظاهرة لتصفية اللغة الشعرية من الشوائب، أي لمزيد من الشفافية والكشف والتوحد…"
وينهي القاضي الأمين كلمته بالنظر إلى محمد علي شمس الدين على أنه "شاعر عربي كبير، ولكن مكانه الرائد بين شعراء الحداثة العربية لا يلغي خصوصيته كشاعر جنوبي، اشتق لغته ونحت مفرداته من هذا المدى الجنوبي. فجاءت غنائيته الأصيلة استكمالاً للمواويل الطويلة والحكايات الشعبية المنسوجة على دفء مواقد الشتاء العاملية. وجاء غزله صدى لغناء الصبايا في عشايا الكروم وامتداداً لآهات الجرار المحمولة على أكتافهن على الطريق بين العين وبيوت القرية، ناهيك عن اختلاج الجرح الكربلائي في صوته شارة انحياز إلى خط المأساة والبطولة عبر التاريخ.."
الشاعر محمد علي شمس الدين، في أشد حالات الحزن أو الحب أو العبادة، ألقى مجموعة متنوعة من قصائده الغنائية، المرثية والغزلية والصوفية. واستطاع في ساعة ونصف الساعة أن يأسر جمهوره الذي غنَّى معه وأحبه وارتفع إلى ملكوت الذات أو صفاء النفس…. وكان في نشوته هذه يقاطعه بالتصفيق ويطلب منه الإعادة والإنشاد أكثر من مرّة..
في صوت متهدج حزين قال الشاعر شمس الدين: "كلما حاولنا الركون إلى لحظة شعر، ولحظة الشعر لحظة عبادة، وجدنا أن الدماء تدق علينا النوافذ". الإشارة إلى ما يجري في إقليم التفاح من إقتتال بين الإخوة… وأصوات القذائف والمدافع تسمع في القاعة… وأضاف شمس الدين: "في العام الماضي في مثل هذه الأيام وفي لقاء شعري في مدينة صور، كذلك كان يدق أبوابنا بعنفه المعهود "كرنڤال دمويّ" في المناطق عينها… وكأن هذا "الكرنڤال الدموي" يشاء إلاّ أن يتجدد عاماً فعاماً، وها نحن الآن نجتمع هنا على الشعر "والكرنڤال" الدموي يقرع طبوله هناك.." وتابع الشاعر موجهاً كلامه إلى جمهوره الحاشد في القاعة قائلاً: "إنني أشكر لكم حضوركم في هذا المناخ بالذات وكم أنا سعيد بوجودنا نشعر بدفء ما، في هذا البرد… دفء الشعر: ولأن البرد كبير أتينا إلى هنا. فكان لا بدّ من أن نجتمع معاً وأن نقول ما يمكن قوله. وفي كل حال، إنّ ما يجري حولي لا أستطيع وصف ما يتركه في قلبي. ولكن دائماً في الحوادث أحاول أن أسأل نفسي: أين أنت؟ هل قلت ما يجري في يوم ما؟"….
وفي هذه المناسبة أيضاً كانت قصيدته الأولى "ورشة القتلة" التي كتبها في أيلول 1978 في نفس هذا الجو من الإقتتـال كالذي يجـري الآن، "والورشة" هذه لا تزال ممتدة حتى الآن…
جسدي دافء / والإصابة مزقت الثوبْ / ولكنها لم تزل معلّقة بين جلدي وبين السماء / رئتي لم تزل في مهب الهواء /(…) إن سبعين ألفاً من النجم تهوي / لتلمُس هذا الدم المستحيل / فإجرحوني / أنا ذبيحتكم / في الزمان القتيل / جسدي قارب / والطيور تحلق / مزهوة كالشعاع / قلت للطائر المنتمي لجناحيه / يا سيدي / من يريح المشرّد من طعنة في الشراع / من يبادلني منزلي / بقليل من الريح / ويأخذ أربعة من صغاري إلى المقصلة / إن أصغرهم / ينتمي للعصافير/ لكنه أجمل منها / وأكبرهم جف كالدردة المهملة…
وبعد "شكوى قديمة"، و"آخرالأغنيات" و"حديقة مريم" يقول الشاعر: ثلاث لحظات للحب: المحب يريد أن يرى حبيبته في اليقظة، فلا يستطيع. ينام ليراها فلا يستطيع. يموت ليراها فيكون العرس والإكليل.
ثم يلقي الشاعر شمس الدين بعض مرثياته من ديوانه "طيور إلى الشمس المرّة": "دمية بَيْسان"… إن بَيْسان نائمة في السرير/ كعادتها../ نبضها حائر/ ويداها على صدرها/ كسرّين ينعقدان/ وفي جفنها المدرسيِّ/ ذبالة دمع تغادر أهدابها/ فلا توقظوها/ لأن الذي مات دميتها. دعِ الريح شاردة خلف أبوابها/ دع الشجر المتحايل في الريح/ يبكي على نفسه/ دع الحزن يكمل دورته في الغصونْ/ ودعني/ أسَّوى لبيسان بيتاً/ يناسب أحلامها:/ غرفتان على البحر طافيتان/ لها غرفة/ ولدميتها الغرفة الثانية/ طابتان من الزرقة الدامية/ فوق تلِّ المياه/ ونافذة مثل عين الإله/ يغضَّها الوقت شيئاً/ فيشيئاً/ فتعصر دمعتها القاسية/ وإذْ يدخل الموت/ مختبئاً خلف عينيه/ على شكل سيف صغيرْ/ ويفتح في الماء جرحاً عميقاً/ يفاجئه أن بيسان غابتْ / فيطعن دميتها في السرير..
وبعد قصيدة "سنوات أبي لهب"، يقرأ شمس الدين بعض القصائد من مجموعته الشعرية الأخيرة.. "أما آن للرقص أن ينتهي".. "مدرج للهبوط في البحر"، الرؤية في هذه القصيدة تتشكل، كما يقول الشاعر، في أن له صديقاً مات غرقاً في البحر وليس له من سبيل كي يراه سوى أن يُغرق نفسه… وهو لا يستطيع أن يراه إلاّ إذا أُغرق مثله… وحين يُغرق مثله، يعود ليخبرنا ما كان… ولكن هل من الممكن أن يكون ذلك…….. أحدثكم/ عن صديقي الذي مات في البحر مكتئباً/ فأغرقت نفسي لكي ألتقيه/ وأنشبَّت عينيَّ في المرج حتى أراه/ وأبصرتهُ/ قلتُ أبصرتُه/ فلا تُلْحِفوا في السؤال/ ولا تُحرجوني/ سأروي لكم غير ما تطلبونْ/ سأروي لكم مثلاً/ أنَّ ما كنت أبصرتُهُ/ ربما كان شخصاً سواهْ/ فهل عاد من بحره أحد/ ليروي لكم ما رآهْ؟ فلا تسألوا/ يا مجانينُ/ لا تسألوا/ وانزلوا/ انزلوا/ انزلوا……
ومن قصيدة "نوم هشام" يقول: …. كان شتاء/.. والبرد القارسُ ناب أزرق/ وكلاب الحرب على الطرقات/ وكان الطفل يخاف الوحشَيْن/ الناب الأزرق والإنسان… وينشد من قصيدة "حفر على ياقوت العرش"… أغمض جفنيك على التَعَبِ/ وارحل/ فالعالم بحرٌ مهجور/ والناس قواربُ من خشب/ حدّق في ذاتك في عين الشمس/ لتبصر صورتك المحفورة في الشُّهبِ/ خُذ شكل غريقٍ في مرآة الله/ وشكل أميرِ في السُحب/ فالروح نحن لخالقها/ كحنين الدمعة للهدُب…..
وهكذا يتنقل الشاعر شمس الدين بين قصائده كتنقل الفراشة في حديقة الحب المهجورة ويُنهي أمسيته الشعرية بقصيدتين طلبهما الجمهور.. "زينب" "وطيور إلى الشمس المرة". حيث يقول: تلْبَسُ الروحُ وحشتها/ وتُداري أساها/ تَعَبي سيَّدٌ/ وجَناحي مهيضُ/ هذه الروح شَيّبها عشقُها/ وبراها الذي تاب من عشقها/ ثم إني مريضُ/…..
وفي ختام الأمسية الشعرية يُلح الجمهور على الشاعر السيد محمد حسن الأمين أن يُسمعه بعضاً من شعره فيقول: "في الواقع ما أريد قراءته من القصائد لا أحفظه. وما أحفظه لا أريد قراءته…. على كل حال، قصائد الصبا تبقى مستقرة في الذاكرة أكثر من القصائد التي تكتب فيما بعد….. ويُنشد قصيدته الغزلية التي كتبها عام 1970 وعنوانها "مثلما"
مثلما يرتمي على الهُدْبِ هدبُ
مثلما يسحب المساء خطاه
مثلما يدلهمَّ في الصدر شيءٌ
أنت تأتين كل يوم إلى صدري
ساهمٌ منذ طالعتني عيناك
عاشق مطفأ اليقين سمائي
أنا يا طيب باسنا من خطاها
أنا وجه مسافر في مرايا الحزن
مثلما تلمع الطيوفُ وتخبوُ
ويديرُ الحنينَ دربٌ ودربُ
غامضٌ، مثلما يسافر قلب
فينأى دمي ويبكي ويصبو
مسيحٌ ولي بعينيك صَلْبُ
أنجم تعشق الضباب وسحب
مشرئباً، أنا فم مشرئبَّ
طفل، أنا على الحزن يحبو
إلى أن يقول:
وطني ها هنا على صدرك الغاوي
وطني وردة بصدرك جذلى
امتداد، شمُّ المعابر عذب
وانتهاش على جبينك رحب