الحوار وحوار الحياة والعيش المشترك في لبنان : في المفهوم والواقع ، حاضراً ومستقبلاً ...
محاضرات /
إجتماعية /
2017-08-12
... الحوار وحوار الحياة والعيش المشترك في لبنان :
في المفهوم والواقع ، حاضراً ومستقبلاً ...
كلمة ( )
الدكتور رياض قاسم ...
مقدمة : ليست هذه الورقة الوجيزة إلاّ استجابة لمجموعة أفكار أطلقتها وثيقة السينودس ، في شقّها الخاص بالحوار اللبنانيّ . وهي ورقة ، من ثَمّ ، تمثل ما أراه قناعة في الحوار . فكثيرةٌ هي الدعوات الصادقة إلى الحوار في ما بين الطوائف ، والمذاهب ، والأحزاب ، وحتى الجماعات والأفراد المستقلّة ، في لبنان . وفي الظاهر ، والمعلن ، لا أحد يرفض ذلك ، بل العكس ... فالتسابق على التظاهر بالرغبة في التعاون مع الآخر ، وطلب العيش المشترك ... إلخ، سمةٌ يبالغ البعض فيها إلى حدّ القول إنّ فلاناً داعية كبير من دعاة الحوار ، وهو في هذا الحقل مرجعيّة نجوميّة !... لكن الخفي ، والمستبطن ، لا يكون بالضرورة متطابقاً على الظاهر والمعلن ، عند جماعات من هؤلاء . والدليل الصارخ ما تحفل به أدبياتنا من تناقضات ، وما يزخر به تاريخنا القديم والحديث من صراعات ، منها الكلامي ومنها الدامي .
إذن ، المطلوب شيء آخر .. لا أحب أن أقول : أما لهذا التكاذب المشترك من آخر ؟!... لعلّ ما يجابهنا من مخاطر محدّقة بنا بعد سيل الاتفاق والاعتراف بإسرائيل ، يكون حافزاً لحوار يجمّع ويوحّد . وأملي أن نكون قد أخذنا العِبَر من معاناتنا كشعب ، ومما حصل في حرب السنوات الأخيرة ، فنغدو بنعمة الله ولبنان إخواناً .
أولاً : في ضرورة الحوار
1 ـ يسبق موجبات الحوار وضرورته، وجوب القول : إنّ الرهان على بقاء لبنان ، حيّاً، فاعلاً في ذاته وفي محيطه العربيّ والإقليميّ والدوليّ ، يستلزم بداءة الاعتراف بالخطأ الذي كنّا قد ارتكبناه ، أو شاركنا فيه بشكل أو بآخر ، وهو ما يعتبر مدخلاً مناسباً لحوار منهجيّ سليم . أما التبرؤ من دم تلك الحرب المأساة ، التي دامت ما يزيد على ثلاثة عشر عاماً ، وكلّ على طريقته في التبرؤ ، فهو هروب من المشاركة بالمسؤوليّة التي تقع على كاهل الجميع ، على تفاوت ما بينهم من مسؤوليات ، بحسب مواقعهم الرسميّة أو الشعبيّة .
تُرى ، ما هو ذلك الخطأ الذي ارتكبناه ؟!... إنّه ألاّ نعتبر بما حصل . وإن اعتبرنا فذلك ما يدفع ـ وجوباً ـ إلى الحوار ، كي لا نعيد " سيرتنا الأولى ". من هنا نأخذ بالقراءة معاً ما جاء عن الحوار والتعايش والتعاون فيما بيننا ، في وثيقة سينودس الأساقفة الكاثوليك ، أو في دعوات صادقة صدرت عن سواهم .
2 ـ لِنَقل أولاً أَنْ لا وطن لنا ، جميعاً ، سوى لبنان !... بلى... فالقول إنّ أرض العروبة من المحيط إلى الخليج هي أرضنا ، و" أرض العرب للعرب "... هذا زعمٌ ، وكلام رومانسيّ ، لا تقرّه القطريّة التي أحالت أرض العرب دولاً ، لها حدودها ، وأذون الإقامة فيها ، وكذلك إجازات العمل ، هي في ذلك كأيّة دولة أجنبيّة تدفعنا رياح الهجرة إلى القيام فيها .
وكذلك القول إنّ أوروبا أو أمريكا هي ملاذ المضطهدين ، وأرض المدافعين عن حقوق الإنسان ، ومن ثَمّ فهي البديل ... كلّ هذا قول زعم ، وباطل ، فالأغلبيّة من المهاجرين اللبنانيّين يذوقون مرارات العيش ، ويكدحون ليل نهار ، من غير أن يوفوا متطلبات الحياة وأمانيها . عدا خسارتهم الفادحة على صُعُد تربية أولادهم وضمان مستقبلهم ... وكلّ ذلك يشكّل ثقافة العودة إلى الوطن .
إذن ، البقاء رهن بقبول الجميع ثوابت الالتزام بجغرافيّة الأرض ، والالتزام بمشروعيّة الوجود اللبنانيّ ، أولاً ، ثمّ الإيمان بجدليّة العلاقة بين لبنان ومحيطه العربيّ ، على قاعدة التماثل ، ومنه الشرعيّة المنصوص عليها في نظام جامعة الدول العربيّة . ولا يعني هذا ، تكريس " قطريّة " لبنان ، أو الانكفاء عن محيطه العربيّ ، وإنّما يعني أن نحقّق بِنية هذا الوجود اللبنانيّ أولاً ، لنسهم ـ تالياً ـ بدورنا في رؤية عربيّة مشتركة ، تنظيراً وتطبيقاً .
3 ـ ثمّ ، إنّ العيش في لبنان ، على قاعدة اللا اتفاق ، أو الخلاف المضمر ، أمرٌ ينافي مبدأ العيش ، ويتنكّر لأبسط مفاهيم الحياة . فما دام العيش خارج لبنان ، كوطن بديل ، منتفياً بحكم الواقع والتجربة والمعاناة ، وما دام العيش داخل لبنان لا يستقيم في المناخات المتفجّرة تناقضاً وصراعاً ، بحكم تجارب الحرب الأخيرة ... إذن ، غدا الحوار ضرورة يوجبها البقاء ، وتحتّمها متطلبات وجودنا الحياتيّ ، حاضراً ، ومستقبلاً ، ولا بديل من الحوار ، شريطة أن يكون حوار وجوب لوجود .
ثانياً : مضمون الحوار
1 ـ لإقامة حوار جدّي ، يشترط ، أولاً ، توافر مناخات الانفتاح النفسيّ ، والفكريّ . أو لنقل : الاستعداد للتفاعل على أوسع نطاق . أما التفاعل المرتجى ـ هنا ـ فهو ذلك المتّسم بصفتَي التلقين والإعطاء . ولا نغالي إذا قلنا إنّه التفاعل المتّسم بحركة التلقي أكثر منه حركة عطاء . غير أنّ هذا التلقي ليس منفعلاً ، بل هو ذلك التلقي الفاعل ، فالإنسان المُحَاوِر هو من حيث كونه آخذاً ، هو في الوقت نفسه معطاء .
2 ـ ثمّ ، إنّ مضمون الحوار لا بدّ ، من حيث الشكل العملانيّ ، أن يكون أفقياً ، في ما بين هيئات ومؤسّسات وجمعيّات وأحزاب المجتمع المدنيّ من جهة، ومن جهة ثانية أن يكون عمودياً، بين المجتمع المدنيّ والدولة بجانبيها التشريعيّ والتنفيذيّ .
3 ـ وأرى ـ تالياً ـ أنّ مضمون هذا الحوار، لا بدّ أن يتضمن برنامجاً مبرمجاً ، يعتمد النقاط الرئيسيّة، وفق أولوياتها ، وفق خطّة مرحليّة زمنياً وإجرائياً. لكنْ ، دونما انقطاع بين حلقاتها، وإنّما هو ذلك التواصل والاتصال الذي تُفضي فيه كلّ مرحلة إلى سواها ، بشكل متنامٍ عضوياً ، ممّا يكفل استمرار الحوار ونجاح أهدافه . غير أنّ هذا العمل الحواريّ يتطلب من جهة مقابلة استبعاد مسائل التفجير ، ونكئ الجراح ، وكلّ ما قد يثير حفيظة فريق على فريق . بمعنى آخر، إنّ متطلبات الحوار السليم تقتضي البراعة في طرح الممكن والمعقول والمثمر ، واستبعاد المستحيل ، أو الخَطرِ على سلامة الوحدة الوطنيّة ، أو مسيرة الحوار ، وبناء المجتمع الجديد .
4 ـ وقد لا نغالي إذا اعتبرنا وثيقة " اتفاق الطائف " إنجازاً مرحلياً هيّأ الفرصة للحوار . ولعلّ أهم ما في هذا الاتفاق أنّه اتفاق. وهو " اتفاق " إذا ما أُحسن تطبيقه كفيل بتحقيق ثلاثة أهداف : (أ) نقل لبنان من مأزق الصراع المسلّح إلى حلبة الصراع السلميّ . (ب) إعادة الاعتبار للشرعيّة والحياة للمؤسّسات الدستوريّة . (ج) تأكيد وحدة لبنان ، وبالتالي وجوده .
بالمقابل ، يكون من الخطأ النظر إلى " اتفاق الطائف " على أنّه هدف في ذاته ، فهو معادلة لا تعكس في العمق طموحات اللبنانيّين المتنورين الذين يرفضون المضامين التمييزيّة . لكن يجب أن يُنظر إلى هذا الاتفاق على أنّه يمثل مرحلة انتقاليّة، نتمنّى أن تنتهي في يوم ما ، بتحقيق حلم اللبنانيّين المتنورين بنظام تسوده العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع ، ويكون هذا بإلغاء الطائفيّة السياسيّة .
ما نودّ أن نخلص إليه في مسألة " اتفاق الطائف " هو أنّه بقدر إخفاقه في إلغاء الطائفيّة السياسيّة ، استطاع بالمقابل أن يأتيَ بصياغة جديدة لآليّة الطائفيّة السياسيّة من أجل إضفاء مزيد من التوازن النسبيّ على صيغة المشاركة في الحكم . وهو بالتالي حمَّل نظام " الجمهوريّة الثانية " بذور إلغائها ، وذلك حين نصّ على إنشاء هيئة وطنيّة عليا لإلغاء الطائفيّة .
ثالثاً : نقاط الحوار الثلاث
تأسيساً على ما ذكرناه ، نرى أنّ النقاط الرئيسيّة في الحوار هي ذلك المثلث المكوّن من :
1 ـ المقومات الأساسيّة التي تشكّل الثوابت لدى كل اللبنانيّين ، من منظور الإفادة من عِبَر التجارب ، وفهم المستقبل بمعادلاته المحليّة والإقليميّة والدوليّة .
2 ـ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان .
3 ـ التحديث والتنمية المستمرة .
1ـ في النقطة الأولى: الحوار الذي يستهدف الثوابت، تتوزّع الثوابت ـ في رأيي ـ إلى:
أ ـ معنى وحدة لبنان : شعباً ، وأرضاً ، ومؤسسات .
ب ـ عروبة لبنان .
ج ـ موقع لبنان الدولي .
د ـ القِيَم في مادتها وشكلها .
فالموقف من هذه النقاط يُعتبر مادة بحث حواريّ . ومن الضرورة الخلوص إلى مفهومات مشتركة ، تتمثل في صياغة القواسم المشتركة ... لكن وجهة النظر التي ندعو إليها في التعاطي مع هذه النقاط تنطلق من اعتبار لبنان ضرورة حواريّة في محيطه العربيّ . وفي أثناء ذلك السعي الحواريّ ، يجدر الحديث عن مقوّمات بقائه الذاتيّ ، وتعزيز هذه المقوّمات بشكل لا يتعارض مع التقاطع العربيّ لانتمائه . فالتعليم وتطوير البِنى التربويّة ، مثلاً ، أمر تقتضيه متطلبات البقاء الذاتيّ . لكن غرز المفاهيم التربويّة المتعصبة ، الداعية إلى انكفاء لبنان عن محيطه العربيّ... أقول : إنّ هذا المتجه ينسف مبدأ الحوار الفاعل ، ومستقبل التعاون بين لبنان والبلدان العربيّة .
وأرى أنّ العمل الدؤوب من أجل قيام مصالح اقتصاديّة مشتركة في ما بين لبنان والبلدان العربيّة ، وتعزيز المصالح التربويّة ، والعَمَالة البينيّة ، وسواها ... ، كلّها أمور تنعكس خيراً على لبنان ، الذي لا يمكن أن يترجم وجوده إلى بقاء فعليّ بمعزل عن إطاره العربيّ ( وهو ما سنعود إلى تكملة الحديث عنه في أثناء الكلام على التنمية ).
ويواكب ذلك دور لبنان الدبلوماسيّ الناشط في العالم ، حيث يكون من الضرورة ـ لما لموقعه الجغرافيّ من استراتيجية حسّاسة ـ أن يلعب دور الحكم ، لا التابع ، أو المنضويّ في استقطاب جهوي . ويستتبع ذلك وجوب بقاء لبنان مطّرد النموّ في نتاجه الحضاريّ ، المتمثّل في نوعيّة ثقافته وتعددها، وامتداده الاغترابيّ عربياً ودولياً. غير أنّ هذا المسار المحليّ والعربيّ والدوليّ لا يستقيم أمره إلاّ على أرض القِيَم الصالحة ، مادة ً وشكلاً . فلا بدّ من العودة إلى تغذية المفاهيم القِيَمية ، وتأصيلها ، وغرسها في شرائح المجتمع ، ولا سيّما الناشئة منهم ، وتحديداً مراحل التعلّم الأساسيّة .
2 ـ في النقطة الثانية : الحوار الذي يستهدف الديمقراطيّة وحقوق الإنسان :
أ ـ بعيداً عن جدل التعريفات الكثيرة ، والاجتهادات ، حول مصطلحي " الديمقراطيّة "، و"حقوق الإنسان"، أقول : إنّ الحديث ـ هنا ـ يدفعنا أولاً إلى الكلام على تأسيس الشرعيّة، كمنطلق لانبثاق السلطة عن إرادة الجماعة الوطنيّة عامة . نضيف ، إنّ الشرعيّة بهذا المصطلح ، تعني ما يمثّل ضمانة الانسجام والتوافق بين قِيَم ومعايير السلطة وممارستها مع قِيَم ومعايير المجتمع الذي يخضع لها . وفق ذلك ، تكون هذه الشرعيّة ، هي الشرعيّة الديمقراطيّة ، وتكون هي أيضاً مصدر الاستمرار السلميّ للحكم ، بَلْهَ مصدر وجود الدولة .
ب ـ ثمّ ، إنّ ديمومة ذلك الانسجام والتوافق رهـن بنجاح الممارسة الديمقراطيّة ، أو إخفاقها. وهنا ، نخطو باتجاه ترجمة هذه الممارسة ، التي تفترض ـ ضرورة ـ إلغاء الطائفيّة . وهذا أمر يكون ممكناً بتعميم الإطار التشريعيّ والهيكليّ للحريّات على جميع شرائح المجتمع ، أي السعي إلى انعتاق الفرد من الطائفيّة والعشائريّة والجهل والفقر ، وتحرير المجتمع من قيد الطائفيّة السياسيّة .
ويستتبع ذلك كلّه ، ضرورة اعتماد سياسة تربويّة ، وسياسة إعلاميّة ، تقومان على منطلقات لا طائفيّة. أَنْ نخطو في هذا الاتجاه، هو رهن بقناعتنا بمضمون هذه المفاهيم والممارسات. وإذا افترضنا عكس ذلك ، نكون كَمَنْ يُبقي على القنبلة الموقوتة داخل بيته ، تؤرّق هناء عيشه ، في كلّ لحظة ، حتى ولو لم تنفجر .
ج ـ والحديث عن الديمقراطيّة وممارستها يُفضي بنا إلى الحديث عن المشاركة السياسيّة، تلك المشاركة التي تفترض التعدّدية كشرط لا محيد عنه . فالتعدّدية في هذا المجال تشكّل الإطار الطبيعيّ لتكوين السوق السياسيّ ، وتداول السلطة بحريّة نسبيّة بين مختلف أطراف النّخبة الاجتماعيّة وأنواعها. ولا تعني المشاركة السياسيّة ـ بالضرورة ـ حتميّة تغيير النظام السياسيّ، أو القِيَم السائدة في الدولة، إنّما تعني إعادة توزيع السلطة على مواقع النفوذ المعنويّ ، والسيطرة الفعليّة في المجتمع.
د ـ وإذا كانت المشاركة السياسيّة تعبيراً حياً عن ممارسة الديمقراطيّة ، فإنّ ذلك يستتبع المحاسبة السياسيّة . وهذا لا يكون إلاّ بتوافر مناخات الحريّة التي تعترف للجميع بحقّ التعبير عن الفكر والمعتقد ، دون قيود ، إلاّ ما يحرّمه القانون ، وإلاّ ما يتطلب الحفاظ على وحدة الشعب . ولعلّ أبرز هذه الممارسات في التعبير الحرّ ، حقّ الشعب في اختيار نظام الحكم وممثليه ، عن طريق الانتخاب .
لكنْ ، تجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ انتخاب النواب لا يعني تهميش دور الشعب ، أو أن هذا الشعب قد تخلّى عن دوره في المحاسبة السياسيّة ، للنواب ، فالوكالة الشعبيّة التي أُعطيت للنواب لا تحجب الموكّل . وعلى ذلك ، يبقى الشعب مصدر كلّ سلطة وسيّدها . ثمّ ، ما يتصل بهذه الممارسات الديمقراطيّة ، هو الإقرار بجملة النقاط الآتية :
1) ـ المساواة بين المواطنين في التمتّع بالحقوق ، وفي ما عليهم من واجبات ،
2) ـ تعزيز مبدأ التنوّع، على قاعدة المساواة ، لإمكان استيعاب الأقليات الدينيّة والعِرْقِيّة،
3) ـ حقّ التنظيم الحزبيّ والنقابيّ ،
4) ـ زيادة فعّالية مشاركة الشباب والمرأة في العمل السياسيّ والاجتماعيّ .
3 ـ في النقطة الثالثة : الحوار الذي يستهدف التحديث والتنمية .
أ ـ إنّ الكلام على التحديث والتنمية في لبنان ، يبقى أمراً غير مجدٍ ، إذا لم يُؤسّس على قاعدة تطبيق حقوق الإنسان أولاً . فالنظرة القاصرة إلى هذه الحقوق ، لبنانياً وعربياً ، امتدت إلى الميادين الاقتصاديّة والاجتماعيّة ، حيث همّشت مساهمات المواطنين بتنمية موارد الوطن ، ممّا أفسح في المجال للاستغلال ، ووضع الوطن بأسره في موضع التابع للهيمنة الاقتصاديّة الدوليّة ، بسبب سؤ التدبير ورسم خطوط تنمويّة خاطئة . وقد أدّى هذا إلى خلق خلل في المستويات الاقتصاديّة ، وظهور بعض الجوانب السلبيّة في المجتمع، كالفرديّة، والإشكاليّة، والرغبة الجامحة في الإثراء السريع، حتى ولو كان ذلك مخالفاً للشرع والقانون والأخلاق ، وكذلك التفاوت في الدخول ، والانقياد إلى مصالح ومآرب ، إمّا شخصيّة أو حزبيّة ، أو عصبيّة ضيّقة ، أجحفت ـ كلّها ـ بحقّ الفرد والمجتمع .
ب ـ ثمّ تأتي معضلة تدني سعر صرف العملة الوطنيّة إزاء العملات الأجنبيّة ، والتضخّم الماليّ، وارتفاع الأسعار، المتفلّتة من رقابة الدولة وأجهزتها، أقول : تأتي هذه المعضلة لتشكّل النقطة المركزيّة الجامعة بين إسقاط حقوق الإنسان في لبنان واستحالة البدء بالتنمية والتحديث. ولسوف تغدو هذه المعضلة عامل تحدٍّ رئيسياً لكلّ مشاريع التنمية ، ما دامت واقعاً بغير حلّ ، وما دامت حتميّة رفع مستوىالمعيشة ( أو تصحيح الأجور ) للأغلبيّة الساحقة من السكان لا تبصر النور .
ج ـ إنّ التعمّق في مسائل التحديث والتنمية ، تخطيطاً وفلسفة أهداف ، أمرٌ ـ لا ريب ـ يعود إلى أصحاب الاختصاص في هذا الحقل ، لكنّنا نرى ضرورة توجيه الحوار إلى مناقشة محاور أساسيّة في عملية التنمية، كالتعليم ( مستواه، مدى مردوده التربوي، مدى انتشاره، محتواه، فلسفته... إلخ )، وأثر قوى التغيير ، ودورها ( أي : الأحزاب ، الطبقة الوسطى ، المجموعات الضاغطة ، الأقليات )، ودرجة التحرك الاجتماعيّ وصراع القِيَم في المجتمع ، والتغيّر التقاني ( التكنولوجيّ ).
د ـ ونرى ضرورة أن تكون عملية التحديث والتنمية حضاريّة شاملة ، تسعى إلى رفاه الإنسان والمجتمع ، وتحرّر الاقتصاد والعقل من التبعيّة ، وأن تواجه بكفاءة وعلى نحوٍ حاسم ما يواجه المواطن من تحدّيات ، وأن تتوافر لها عوامل الاستمرار .
هـ ـ ونرى أنّه عندما يكون الحديث عن المستقبل البعيد للتحديث والتنمية والتطوير ، تصبح جدليّة "الكيانات الكبيرة "، مقابل " الكيانات الصغيرة " المحدودة السوق ، جدليّة حاكمة ، إذ أنّ هناك قضايا مستقبليّة كبرى ، يصعب حسمها في إطار الكيانات الصغيرة ، ولن يتسنّى لها أن تَجد حلولاً ناجزة وجادّة إلاّ في إطار الكيانات الكبيرة ، كالإطار العربيّ العام .
وينطبق هذا المنطق على عدد من القضايا الحيويّة ، مثل :
ـ الأمن الغذائيّ ، والأمن الزراعيّ ، وإنشاء صناعات خفيفة ووسطى ، وتوفير الأسواق الثابتة لتصريف المنتوجات ، وما يتعلق بالبحث والتطوير التقاني ( التكنولوجيّ )، وسوق العمل ، وتبادل الخبرات ، إلخ... إنّ هذه القضايا لا يصلح لها مشروع التنمية ذو السوق المحدود ، ولا بدّ أن تصب بالضرورة في وعاء كبير ، ليس فقط من منظور مكاسب وفورات الحجم أو النطاق بالمعنى الاقتصاديّ الضيّق فقط ، بل من منظور القانون الأساسيّ في علم التنظيم الذاتيّ كذلك ، ومفاده : أنّ "المجموع " أكبر دوماً من محصلة حاصل الجمع الجبريّ للأجزاء ، بما تضيفه علاقات التكامل والتفاعل والتشابك من عناصر قوة ودفع إضافيّة . وبعبارة أخرى : هناك ضعف في " المردود التنمويّ " للنهج القطريّ في معالجة القضايا ذات الثقل المستقبليّ .
و ـ ما يسوّغ هذا القول من الوجهة البراغماتيّة ، بَلْهَ الوجهة العربيّة الواحدة ، هو وجود محاولات خارجيّة جادّة ، بدت جليّة الملامح بعد التفاوض والاتفاقات المتعدّدة من قِبَل أطراف عربيّة حاكمة وإسرائيل ، لإنهاء النظام الإقليميّ العربيّ الحاليّ ، واستبداله بنظام شرق أوسطيّ ، يكون الكيان الإسرائيليّ عنصراً أساسياً داخله . وعلينا ألاّ ننسى لحظة ، أننا على مشارف قرن ، لن يبقى فيه للكيانات الصغيرة مستقبل اقتصاديّ سياسيّ، فإمّا الاندماج مع المجموع المتجانس ، وإمّا التعرّض إلى التفتيت والتبعيّة المطلقة ، ثم الذوبان .
وختاماً ، فالحوارُ مادةٌ ومنهجٌ وممارسةٌ وتطبيقٌ . وقبل ذلك كلّه ، صدق النيات وصفاء النفوس . لذا ، لم تكن هذه الورقة إلاّ بداية صادقة لتأطير مسيرة الحوار ، تتناول شيئاً من المنهج والمادة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) مداخلة مكتوبة قدّمت إلى المؤتمر الحواريّ العام الذي نظّمه " المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق في صيدا"، تحت عنوان :" لبنان : نحو مجتمع جديد ، نحو رؤية مستقبليّة "، وذلك في قاعة محاضرات " دار سيّدة الجبل " ( كسروان ) ، بتاريخ 12ـ 13ـ 14 تشرين الثاني 1993 ...