محاولة لتأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال التجرية الشخصيّة
مقابلات /
سياسية /
1989-08-27
مـقـابـلـة مـع
الرائد المتقاعد يوسف الأمير علي
الزمان والمكان : 27 آب 1989 ـ دمشق
أجرى المقابلة : د. مصطفى دندشلي
الموضوع : محاولة لتأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي
من خلال التجرية الشخصيّة
* * *
السؤال الأول : أستاذ يوسف ، إنني سعيد بمعرفتي لكم ولقائي معكم وللحديث عن حركة سياسيّة تهمنا نحن الإثنين ... وقبل أن نبتدئ حوارنا ، أود أن تُبديَ لي بعض الملاحظات التي وجدتموها في كتابي ...
الجواب : ... على الرحب والسعة ، دكتور مصطفى ... لقد أعجبت إعجاباً شديداً بمدى الجهد الذي بذلتموه في إعداد هذه الدراسة المتعلقة بحركة سياسيّة رئيسيّة في الوطن العربي في القرن العشرين . وإذا كان ثمّة من بعض نواقص ، فهي نواقص لستم أنتم مسؤولين عنها ، إنما قد لا تكون الظروف تمكنكم من الإحاطة بها في وقتها وفي وقت إعداد هذه الدراسة . على أي حال، فهي تشكل مجهوداً جديراً بالتقدير والإعجاب .
أما من حيث بعض الملاحظات ، فلا اقول إنها ملاحظات ، لكن إذا سمحتم لي، فهي محاولة لفت اهتمامكم وانتباهكم إلى ما أظنه واجب الملاحظة . أولاً حركة البعث العربي الاشتراكي حركة سياسيّة، ولكنها ظلت لدرجة كبيرة ضبابيّة ، وتدور في فلك الأحلام . وقد اشرتم أنتم إلى هذه الملاحظة من أنها تميل إلى الرومانسيّة . ومن خلال ملاحظاتكم ، وجدت بعض الكتابات لمؤسس هذه الحركة ، الأستاذ عفلق ، تؤكد هذا القول . فمثلاً في الصفحة 76 ، تعريف للأمة، يبدو لي أنه تعريف مقولة أسطوريّة، لأنها تشير للأمة من غير تحديد مادي مجسد ، تحيط به آلية العقل ، وتتمثل في اشخاص . فأين نجد الأمة المشخصة في مثل هذا التعريف : الأمة المشخصة ذات الشخصية التاريخيّة في الأجيال المتعاقبة. هذا دليل على الميل إلى الأحلام الرومانسية. ثم في الصفحة (77)، نلاحظ كتابة صريحة تدعو أو تشير إلى ذوبان الفرد في فكرة الأمة وهي إلى حدّ ما فكرة متأثرة بفلسفة " فخته " الألماني ، كما أشرتم إلى أن له تأثيراً على الفكر القوميّ . أما القول في صفحة (88)، بأن الحزب كان يميل إلى معاداة التعريفات الأوروبيّة للقوميّة ، فالواقع أن الأستاذ ميشال عفلق يعرض لنا قراءة مطلقة للأمة العربية ، مختلفة كلياً عن غيرها من الأمم ، كأن ناسها لا يتشاركون مع البشر بخصائص مشتركة . وهذا غير واقعي ويقود في الممارسة إلى التعصُّب في آخر الأمر . ونرى في الصفحة (84) مثلاً آخر على مدى التأثر في الفكر الألماني ولا سيما فكر "فخته"، بالتركيز على دور اللغة وإهمال المؤثرات الأخرى كالدين والتاريخ والمصالح المشتركة والجغرافيا وإلى غير ذلك ... وأكثر من ذلك ، نرى في الصفحة (99)، في مقال " ثروة الحياة " للأستاذ عفلق ، ما يمكن أن نسميه مماحكة واضحة ، فيقول : " لا يهمنا تخفيف البؤس ، إذا لم يكن ذلك لزيادة ثروة الحياة .."، أظنها مماحكة فجّة . ويقول أيضاً : "ما نظرت إلى الاشتراكية في يوم من الأيام كواسطة لإشباع الجياع وإلباس العراة وحسب ، ولا يهمني الجائع لمجرد كونه جائعاً ، بل للممكنات الموجودة فيه التي يحول الجوع دون ظهورها .."، نحن ننظر إلى الأمر نظرة إنسانيّة أعمق في هذا الموضوع ، والتي سوف تظل ماساة بصرف النظر عن النتائج التي يمكن أن تترتب عليها فيما بعد . فنحن نرى عموميات أو ميلاً واضحاً إلى العموميات دون تحديد في الجانب الفكري البعثي لدى المؤسس الأول ، الأستاذ ميشال عفلق ...
ثم من ناحية أخرى ، يبدو أن المضمون الاجتماعي لم يكن يهمهم في شيء في المراحل الأولى ، إنما كانوا يركزون على عمومية الوحدة غير المؤطرة ، غير المحدَّدة ، غير واضحة الأساليب ومعدومة النتائج تماماً . وبالتالي ، كإنما هذه الفكرة ، في ظل واقع العرب في القرن العشرين ، لم تكن لتخيف القوى الضاغطة على صدر الوطن العربي . فإذا بقيت في هذه الحدود ، مهما بقيت ، فلن تؤثر في هذه القوى بشكل من الأشكال . القوى الضاغطة يهمها السياسة العملية بالدرجة الأولى التي تعمل على مناوأتها . وبالتالي مثل هذه الأقوال لن تؤدي إلى أثر مضاد للقوى الاستعماريّة أو القوى الضاغطة .
ونلاحظ في الصفحة (100)، هناك قول للسادة المؤسسين بأن " ليس يسير على العرب، إذا ما تخلصوا من كابوس الشيوعية أن يهتدوا إلى اشتراكية عربية مستمدة من روحهم وحاجات مجتمعهم ونهضتهم الحديثة ، تقتصر على إيجاد تنظيم اقتصادي معقول وعادل ، يحول دون الأحقاد والنزاعات الداخليّة ودون استثمار طبقة لأخرى وما ينتج عنه من فقر وجهل ؟!...". ثم ورد في مكان آخر ، أن الحزب قد أوصى باستخدام تعبير " العدالة الاجتماعية " بدلاً من ذلك . فماذا نستنتج من ذلك ؟ نستنتج من ذلك أنّ ثمّة رغبة دفينة لعدم إثارة الغرب وللتدليل على العداء للشيوعية ووجود موقف متملق من الغوغاء ، وبالتالي وصول الغرب إلى اقتناع بعدم خطورة الحزب في المآل الأخير . ونرى أن عدم الخطورة تتبلور بالثبات الأكيد عند مفاهيم قائمة في المجتمع ، وهي رغم الحديث عن الانقلاب الجذري والتغيير ، فذلك الحديث والتأكيد إلى حدّ القدسيّة حول مسألة تحديد الملكية الخاصة والإرث ، فهذان الأمران بقيَ لهما صفة أقرب إلى القداسة. فأين يمكن للمجتمع أن يحقق العدالة الاجتماعيّة ، إذا بقيت مرتكزاته التي منها هذه الأمور الأساسيّة ، إذا بقيت على حالها . هنا نجد في الصفحة (117) القول التالي : إن الهزيمة الفلسطينية أظهرت لحركة البعث وبشكل واضح أن التحرير لفلسطين ليس ممكناً إلاّ من خلال التحرير الكامل للمجتمع العربي ، سواء في المجال الداخلي أو في المجال الخارجي ، وذلك من خلال توحيد النضال الشعبي . (هذه مقتطفات من نضال البعث)... أنا لا أرى عموميات غائمة أكثر من هذه العموميات التي هي أقرب إلى المتاهة .
من أين نبدأ ؟... وكيف نسير ؟... وإلى أين نتجه ؟... هذه عبارة من صيغ جاهزة يحفظها المبتدئون بالعمل العام . وبالتالي لا تقودهم إلى نتائج محددة ولا إلى برامج مماثلة . فهذا الوضع الغائم كان مسؤولاً إلى حدّ كبير عن تخبط المنتسبين إلى مؤسسة البعث وعدم وضوح أهدافهم وبرامجهم أخيراً .
ثمّ ، أرى أن ثمّة ملاحظات عامة يمكن أن أشير إليها . ورد في الكتاب في أكثر من مقطع من أنّ المثقفين كانوا هم المحركين لنشاط البعث العربي الاشتراكي . ولكن لنحدِّد هؤلاء المثقفين وإلى أي مدى بلغت ثقافتهم !!... في رأيي ومن خلال اتصالي ، ومن غير أن أقصد التجريح بأحد ، إنّ الثقافة التي كانت سائدة ثقافة شعارات ، ولا تقوم على معرفة عميقة بمرتكزات النشاط السياسيّ الحديث والحزب الحديث ومرتكزات الدولة الحديثة . فالثقافة الخلفية التي يرتكز إليها العمل العام عند مثقفي البعث كانت ثقافة رجراجة ومائعة وغير واضحة المعالم ، وهي أقرب ما تكون تجميعاً لمعلومات متناثرة ، لا معلومات مكتملة أو متكاملة فيما بينها . ومن هنا ، لم تنعكس ثقافة هؤلاء على النظام السياسي لحزب البعث على شكل برامج منهجية وشكل مؤسسات حديثة . فالمثقف هو الذي يفهم في الدرجة الأولى عصره فهماً عميقاً ويدرك المرتكزات الأساسيّة لهذا العصر ويعرف إلى حدّ ما آلية العمل الإنساني في هذا العصر . المجتمع الحديث يقوم على منهجية العمل وعلى علاقة السبب بالنتيجة ، يقوم على فكرة المؤسسات التي تأخذ من الأفراد أفضل ما لديهم وتوظف هذا في مجهود عام مشترك وحيد . والمؤسسة فوق الأفراد في كلّ الظروف ولا تخضع للتبرير . الأفراد عندما يخرجون ، فهناك ما يلجم خروجهم ويمنع هذا المخروج .
هذا الشيء لم تحرص عليه مؤسسة البعث، وقد بقيت تمارس نشاطها بأسلوب أقرب ما يكون إلى دور "مختار" أو "شيخ القبيلة"، ولكن تحت اسم حزب البعث . لذلك كانت مؤسسة البعث تجمعات وشلل ، يغرق قسم كبير من طاقتها في المناحرات أو تعرقل نشاط بعضها البعض ويغيب عنها الرؤى العريضة . والشيء الآخر هو ظاهرة الازدواجيّة التي نراها في مؤسسة البعث وهي جزء من الأسّ المأخوذ عن المجتمع العربي ككل . فنحن نعاني هذه الازدواجيّة في كلّ جوانب الحياة : الانفصال ما بين القول والعمل ، (ما بين الفكر والممارسة)، حتى النظرة الدينيّة نراها تعاني هذا الشيء . فالذين يقولون بأنهم مؤمنون، قسم كبير منهم ، يسلك سلوكاً ويقوم بممارسات مخالفاً معتقداتهم الدينيّة. كذلك بالنسبة إلى السياسيّة، فنرى أنهم يعلنون أفكاراً مثالية مطلقة ، ولكنهم في التطبيق العملي ينزلقون بسرعة إلى عكس ذلك . ثم يبحثون عن تبرير سلوكهم ، فكإنما ثمّة هشاشة في بنية الفرد العربي . هذه الهشاشة مردها أن العرب في العصر الحديث لم يستطيعوا أن يستمدوا من أخلاقياتهم القديمة ولم يستطيعوا أن يأخذوا من مرتكزات العصر الحديث .وفي طليعة مرتكزات العصر الحديث هو احترام الفرد لنفسه وبالتالي مسؤولية الفرد عن أعماله . فنرى هذا الشيء لم يكن وارداً في الحساب الأخير ، وما يسمّى بالتسامح السياسيّ، كان مبرراً دائماً في مؤسسة البعث العربي الاشتراكي. ونحن نعلم أن السياسة ليست بالنيَّات ، إنما بالنتائج . وبالتالي ما سمعنا حساباً لأحد بسبب سياسة سلكها أدّت إلى أخطاء ، ولكن سمعت دائماً حسابات بسبب المناحرات الشخصيّة .
هناك ملاحظة أراها أساسيّة ، وهي أنه من سوء حظ العرب ، في النصف الثاني من القرن العشرين ، وقوع هذا الاتصال الوثيق ، إن لم نقل التزاوج ، ما بين مؤسسة البعث والمدرسة الناصرية السياسيّة . المدرسة الناصرية السياسيّة مدرسة ذات جذور عسكريّ ، ولها أساليب في الممارسة بعيدة تماماً عن فكرة الدولة الحديثة . فكأنما نظرتهم إلى العمل السياسي العام تقوم على الدعاية وتقوم على الأجهزة الأمنية بالدرجة الأولى ، ولا يعطون كبير اهتمام للبنية الداخلية ولخلق وقائع مادية للمجتمع جديدة ، حديثة ، إلاّ أحياناً من خلال الدعاية الإعلاميّة ... هذا الأسلوب في الممارسة السياسيّة ، انتقل من خلال العلاقة ما بين المؤسسة الناصرية إلى حزب البعث العربي الاشتراكي ، بحيث طغى على العمل السياسي عند البعثيين . إذا كانت في مؤسسة البعث عناصر تملك من المؤهلات المقدرة ما يفيد العمل الحزبي أو السياسي العام ، فإن الظروف من خلال هذه العلاقة مع النظام الناصري غلبتهم على أمرهم وأصبح التيار تياراً غوغائياً بالدرجة الأولى ، ولا يستطيع صاحب الكلمة الصادقة أن يعلن رأيه بصراحة في وجه هذا التيار .
الشيء الآخر هو أن البعث سمح لنفسه كمؤسسة أن يخلق اتصالاً بأشكال مختلفة مع الأجهزة السرّية . هذا الشيء، في رأيي، ساعد على تخريب ضمائر كثيرين وعلى تخريب النزاهة والإخلاص للعمل العام . فلم يعد الحزب مجمعاً للراغبين في الخدمة العامة في الدرجة الأولى ، بمقدار ما أصبح فيه كثيرون يؤثرون في اتجاهه وهم يعملون بإيحاء من خارج مؤسسة الحزب .
أخيراً ، نرى أن الحزب قد دخلت فيه عناصر كثيرة ، مزودة بثقافة أجنبيّة ، غربيّة تحديداً، ولكن دخولهم لم يكن يخضع لتدقيق . فلسنا نعلم على وجه اليقين مقدار ولائهم للقضية العامة الوطنيّة. فكأنما كانوا " مغرّبين " وساعدوا على توجيه الفكر والممارسة في داخل المؤسسة البعثية لمصلحة التغريب . ولربما أشير أيضاً إلى مسألة أساسيّة وهي أن البعث كسائر الحركات السياسيّة في الوطن العربي ، وقع في الخطيئة المميتة في رأيي ، وهي أنه لم يقدِّر تقديراً واعياً ودقيقاً مقدار وحجم وأبعاد الصراع بين أمتنا وبين الغرب . فالحركات السياسيّة لم تتخذ سياسة قاطعة حاسمة مناهضة للغرب . ولذلك كانت تتقلب وتتأرجح ، مما سمح دائماً للغرب عن طريق التبريرات والمناورات السياسيّة أن يكون له نفوذ واضح في مؤسسة البعث وفي سياساته . لأني ، في اعتقادي ، ما أراه هو أن الغرب منذ القديم القديم يشنّ علينا حرباً صليبيّة بأشكال مختلفة ، إما بالمجابهة العسكريّة ، أو حرب صليبيّة اقتصاديّة ، أو بالتخريب الثقافي أو بأشكال مختلفة . ولكنه لا يفتر ولا يتوانى عن هذا النشاط المعادي لمصالح أمتنا . ومع ذلك ، لم نر حركة سياسيّة في الوطن العربي وطنيّة قد اتخذت لنفسها استراتيجيّة قاطعة تقوم على هذا المنظور .
فمثلاً حزب البعث ، بدعوة الحرص على الأخلاق والمعتقدات الدينيّة وبدعوة ، في ظل موازين القوى الدوليّة ، أن المعسكر الشرقي الاشتراكي يتبنى الماركسيّة الإلحاديّة ، لذلك فهو ، أي البعث ، يعاديها عداء قاطعاً صريحاً ، يعادي المعسكر الاشتراكي ، ولو لم يقل ذلك . فهذه ورقة يجب أن لا تُلعب بشكل صريح . وهذه بالنتيجة تصب في خدمة الغرب وتخلخل ذهن الوطنيين حول معاداة الغرب . فنحن ، مصالحنا جميعاً معلقة بصراعنا مع الغرب ، وليس لنا خصومة في العصر الحاضر منظورة مع قوى أخرى . وبالتالي بمقدار هذه المصالح المعلقة ، كان يجب على البعث أن يتخذ خطاً صريحاً واضحاً ويكون إلهامه مستمراً بعناصره لكي يظل هذا الخط في معاداة الغرب وإدانة كلّ السياسات التبريرية التي تبرر المناورات وخلافها ... وأظن أن عدم الوقوف الموقف الصريح القاطع من الغرب ، كان سبباً من أسباب البلاء في منطقتنا تماماً .
ومن هذا المنظور ، أرى أن ما أتصوره للقوى الحيّة الفاعلة التي لعبت دوراً في مؤسسة البعث العربي الاشتراكي ، في فترة الخمسينات ، هذه القوى الحيّة ، كانت هذه النقطة واضحة في ذهنها إلى حدّ ما . وكانت قد حددت الغرب كخصم وكعدو ، وبالتالي عليها منازلته. والسبب الرئيسي للتصادم الذي تمّ ما بين هذا التيار الفاعل في حزب البعث العربي الاشتراكي ، في فترة الخمسينات ، وما بين الناصريّة فيما بعد ، هو حول هذه النقطة بالذات . الأسباب الداخلية تأتي في المرتبة الثانية . هذه النقطة هي التي جرت التعمية عليها دائماً ، وحدِّد وضعها جانباً أو وضعها في زاوية بعيدة وإبراز الخلافات الداخلية بين مؤسسة حزب البعث وبين الحكم الناصري . أتصور أن ثمّة خلافاً رئيسياً بين تقدير هذا التيار الوطني الفاعل في حزب البعث في الخمسينات وبين تقدير الأجهزة السياسيّة الناصريّة ... في تقديري أن ثمّة تبايناً كبيراً جداً في تقدير الموقف العام في المنطقة والقضية الوطنية وتقدير مسألة الصراع في المنطقة بين هذا التيار الفاعل في البعث العربي الاشتراكي في الخمسينات وبين المؤسسة أو المدرسة الناصرية . الناصرية لم تكن تقدر الخطر الصهيوني حق قدره. لم تكن تأبه كثيراً لوضع البرامج والخطط للجم هذا الخطر ولإيقافه عند حد وبالتالي تصفيته آخر الأمر .. كانت تستهين وكانت ترى إن هذا الخطر يمكن أن تجري المساومة من حوله بينها وبين الغرب . الناصرية ، عندما تقول الغرب تعني الولايات المتحدة الأميركية . لأنّ الناصرية طمحت في وقت من الأوقات أن تكون وكيلاً عن الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة . ومسألة السويس إنما أثارتها القوى الاستعماريّة التقليدية ، بريطانيا وفرنسا ، تلك القوى التي تريد أن تتشبث بمصالحها تشبثاً شديداً ، ولكنها خسرت الجولة ، لأن الولايات المتحدة الأميركية كانت تريد أن تجبَّ الجميع ، تجبَّ الغرب ، وتبسط هيمنتها عليه . وبعد فشل إنكلترا وفرنسا في السويس ، استسلمت هاتان القوتان للولايات المتحدة الأميركية بدءاً من مؤتمر "برمودا" عام 1957 بين رئيس وزراء بريطانيا وبين الرئيس الأميركي .
الناصرية هنا كان صراعها مع القوى التقليدية الاستعمارية . وكانت تريد أن تصل إلى نوع من التفاهم والتفهم مع [ الاستعمار الجديد ]. نرى هذا بادياً أولاً وهو أن الناصرية كانت تطمح إلى تسوية حول المسألة الفلسطينية ولم تكن تقدر تضخم القوّة الإسرائيلية وطاقة الصهيونية العالمية إلى الحدود التي تلتها . والدليل الثاني وهو أن الولايات المتحدة الأميركية دخلت طرفاً مساعداً في عملية المفاوضات بين النظام الناصري وإنكلترا حول المعاهدة . ومع ذلك ، هذه المعاهدة تركت خيطاً خلفياً، والنظام الناصري قد قدم تنازلاً غير مقبول في هذه المعاهدة ، لأنه ساعد على إيجاد أول كيان سياسي في السودان في التاريخ ، مستقل عن مصر . وهذا في رأيي خطأ جسيم جداً .
الناصرية من جهة أخرى أرادت أن تكون فاهمة ومتفهمة لمصالح القوى الغربيّة الرئيسيّة والولايات المتحدة الأميركية في المقدمة ، بدليل أن الغرب عندما طرح مشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط ، كان يتنازعه رأيان : الرأي الأول وهو أن تتولى المهمة أساساً إنكلترا ومن يدور في فلكها في المنطقة . الرأي الثاني ، كانت تطمح الولايات المتحدة الأميركية إلى أن تقوم بالدور التنظيمي العريض . والإنكليز كانوا يدافعون في الخندق الأخير عن مصالحهم في العالم القديم . لذلك أصروا على أن تكون ترتيباتهم من الأولوية وأن يكون النظام الهاشمي في العراق هو المعتمد الرئيسي لمشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط . بينما النظام الناصري كان يطمح لأن يكون هو المعتمد الرئيسي في المنطقة الذي له الحق بأن يتفاهم بشكل ما مع الغرب على ترتيبات الوضع هنا في الشرق الأوسط. ونرى أن النظامين قد دخلا في مفاوضات فعلية جادة وميدانية : زيارة صلاح سالم إلى "السرسنك"، وعندما فشلت هذه المسألة فتحت الناصرية النار على مشروع حلف بغداد ، لأن الإنكليز لم يتخلوا عن تبني النظام الهاشمي ومصر وجدت نفسها أو النظام الحاكم في مصر وجد نفسه أن دوره سوف يكون غير أساسي ، وهذا ما لا تقبله بشكل من الأشكال .
إذن ، أعني من هذا أن الناصرية لم تكن تتخذ موقفاً حاداً من الغرب ولا عدائياً ، بل إنها كانت تطمح دائماً إلى تسوية ما ...
التعليق : ... صحيح ... هذه وجهة نظر قد تكون صحيحة ، ويمكن أن نعالجها عندما نأتي إلى موضوع البعث والناصرية ، ونعالجها بتوسع ... ذلك أنها مسألة مهمة جداً .. وهي واردة عندي في التصميم الموضوع للمقابلة .. ولكن قبل ذلك ، هل هناك أيضاً ملاحظات حول الكتاب ...
الجواب : ... هناك هفوات تتعلق بتسلسل بعض الوقائع والأحداث . على سبيل المثال ، قدمتم في الكتاب مؤتمر حمص العسكري على حركة علوان زمنياً . بينما حركة جاسم علوان كانت قبل حصول المؤتمر العسكري في حمص 1962. يعني المؤتمر العسكري في أعقاب حركة العصيان بحلب . وفشل حركة جاسم علوان ، أصبحت المناطق العسكرية (مستنفرة)، فعقد المؤتمر العسكري في حمص ، وكان تالياً على حركة جاسم علوان ( ص 303 ـ 304 ). ثم حديث في نفس الصفحة ، تولي صلاح جديد التنظيم وكأنه قد كان في الجيش : يعني يفهم القارئ أنه كان في الجيش ، بينما كان خارج الجيش ، كان مسرحاً ( تعليق : أقصد أنه تولى عملية التنظيم العسكري ، وإن كان هو شخصياً خارج الجيش ، ربما تكون هذه النقطة غير واضحة ).
ثم هناك قضية المزاعم التي تتعلق بالخطر الخارجي الذي كان يحيق بسورية عام 1957... والخطر الداخلي الشيوعي عند قيام الوحدة ، هذه ، وأنا هنا أصرّ وأظن أنكم أشرتم إليها ، أصرّ على القول بإنها "أكذوبة كبرى". لم تكن للشيوعيين في ذلك الوقت قوى مؤثرة وضاغطة في الجيش . إطلاقاً ، ولم تكن قادرة على إحداث أي أثر مادي. وإقبال سورية على الوحدة ، لم يكن بسبب ذلك ولا بدافع صدِّ الخطر . كانت سورية تملك ، على الأقل معنوياً، من القدرة على التحدّي حتى فوق قدراتها المادية . لم تكن سورية تأبه بالمخاطر في ذلك الوقت ، ولا كانت مدفوعة نحو الوحدة بسبب خطر خارجي . وهذه تدل على سوء نيّة النظام الناصريّ أو على التعامل مع المعلومات بسوء نيّة فيما بعد، حيث وجه إهانة لسورية تحت زعم الإساءة إلى حزب البعث : خصمه السياسي ، وجعل سورية كلها في قفص الاتهام ولا سيما أبواق محمد حسنين هيكل الذي لا نعتبره إلاّ بوقاً يعمل بالإيحاء من الدوائر الاستعمارية الغربية بالدرجة الأولى وهو مُروّج لسياسات الغرب الرئيسيّة والأساسيّة في المنطقة . فهيكل هو الذي روَّج لنا مقولة تحييد الولايات المتحدة الأميركية في الصراع مع الصهيونية . وهذه أكذوبة كبرى ، الصهيونية تحاول أن تستفيد من حاجة الولايات المتحدة الأميركية الإقليمية لكي تحقق مكاسب محدودة. ولكن صاحب القرار والفعل هو واشنطن ، فأي تحويل الأنظار هو تحويل مخادع .
ألاحظ في الصفحة (315)، حول التكتلات الجديدة ، أنكم لخصتم التكتلات الجديدة لحزب البعث العربي الاشتراكي على النحو التالي : 1 ) الوحدويون الاشتراكيون وهؤلاء تسمية وهمية أفرادهم في تقديري ليسوا إلاّ بعض أعضاء في حزب البعث الذين استمالتهم الأجهزة الناصرية وصاروا يعملون باسمها ، لا يشكلون قوّة ، لم يكونوا قبل الوحدة ولا فيما بعد ، قوّة ملموسة أو شعبية أو أي شيء آخر . مثل سامي الجندي أو سامي صوفان ... فهذه أسماء وهمية : أنا أستطيع ، لأنني مبرأ من المصلحة ، أن أجيبك بصراحة وأنت تتعامل مع المعلومات كما تريد ... فإن يحاطوا بهالة " كتلة "، فالذين استخدموهم أو استفادوا منهم ، هم الذين أوحوا للناس عن طريق الدعاية أنهم يشكلون جماعة أو تكتلاً ...
2) التكتل الثاني وهو تكتل أكرم الحوراني، الأيديولوجيا المنسوبة إليه وإلى أكرم الحوراني، لا أظن أنه قد وصل إلى هذا الأمر نهائياً . فالقول بأنه دعا في الوقت الأخير إلى "الكيانات السياسيّة الإقليميّة العربيّة "، كمرحلة أولى في طريق الوحدة ، هذا أمر جرى النقاش فيه بمؤتمرات حزبيّة سرّية في عام 1961 ـ وسوف أعود إليها ـ وبعض الأعضاء طرح خيارات وبدائل لبيان الطرق والأساليب الواجب اتباعها لبلوغ الوحدة العربية . ولكن لم يجر الاتفاق نهائياً عليها . لكن في مباحثات الوحدة (عام 1963)، أطراف من الحاضرين سرّبوا هذه المناقشات إلى الأجهزة الناصرية . فعندما الأجهزة الناصرية دخلت في العراك السياسي مع السلطة في سورية والعراق ، استخدمت هذه المعلومات واجتزأتها وصارت تسخدمها دليلاً على عدم صدق وحدوية البعثيين المناوئين للناصرية ...
تعليق : هذا اتجاه الأستاذ أكرم الحوراني . ففي فترة الانفصال ، هناك بيانات صادرة عن أكرم الحوراني وعن اتجاهه الاشتراكي ، تدعو إلى هذا الشكل من أشكال الوحدة العربية ... والأستاذ أكرم الحوراني قال لي ذلك شخصياً : الوحدة العربية كما كان يتصورها البعث هي فكرة غيبيّة غير واقعية . الوحدة العربية المستقبلية يجب أن تقوم على أساس مناطق أو تجمعات إقليمية : هناك الشرق العربي، الجزيرة العربية ، وادي النيل ، والمغرب العربي . ثم بعد ذلك ، يتم الاتحاد بين هذه الوحدات الإقليمية. وهناك أحد الأشخاص المقربين إلى الأستاذ أكرم الحوراني ـ السباعي ... كتب كثيراً في هذا الموضوع في فترة الانفصال ....
الجواب : ... أنت صادق في ذلك . ولكن كموقف سياسي ، بتقديري، لم يكن قد اتخذه بشكل نهائي... [ تعليق : في كلّ الأحوال ، مرحلة الانفصال ، يجب أن أعمقها أكثر مما هي في الكتاب ..]
ومهما يكن ، فإن تقويم سبب الخسارة ـ خسارة أكرم الحوراني وتياره ـ والهجوم على عبد الناصر ودعم الانفصال أنا بتصوري أن السبب الرئيسي لخسارة أكرم الحوراني ـ لم تُكشف حتى الآن أوراقه السياسيّة وكيفية تأليب كلّ القوى وفي مقدمها الناصرية ـ أنه لم يتبن (أكرم الحوراني) نظرية التسوية حول القضية المركزية وهي القضية الفلسطينية . أظن أن أكرم الحوراني كان يدفع ثمن هذا الأمر ، فأكرم الحوراني كان قاطعاً في مسألة الصراع مع إسرائيل ويرى عدم جدوى التسويات السياسيّة أو الحلول ، لا من خلال الغرب ولا من خلال غيره ، بالنسبة إلى هذه القضية . ولذلك وكأنما قد كشف أوراقه بشكل مما أدّى إلى توجيه كل النشاطاتالعدائيّة ضدّه بأشكال مختلفة لإسقاط فعله وفعل التيار الذي يتجاوب معه . أظن أن هذه نقطة مركزية . طبعاً ، أنا أؤيد القول إن الأستاذ أكرم الحوراني كان قد تمادى في صراعه ، في اللجاجة في الصراع مع عبد الناصر ، في الوقت الذي ليس من المفترض فيه أن يفعل ذلك . واستفاد الخصوم من هذه اللجاجة . فالتيار الذي حاول أن يخلقه في المنطقة ، قد تأذى بدرجة كبيرة من الصراع ما بين هذين الرجلين . فكلاهما قد أصيب بجراح من خلال هذا الصراع . وبالتالي أصيبت الحركة العربية لكاملها من هذا الصراع .
3 ) التكتل الثالث الذي أشرتم إليه وهو تكتل رياض المالكي. رياض المالكي لم يخلق تكتلاً، إنما كان أحد البارزين في هذا التجمع الكبير الذي تبلور عما يسمّى بـ "القيادة القطرية" في سورية . وبالتالي ، لن ينسب هو إلى نفسه تكتلاً ولم يتبلور حوله تكتلاً . وكانت الأغلبية من الرموز البارزة في حزب البعث العربي الاشتراكي ، في ذلك الوقت ، من هذا التيار في سورية . والذين يميلون إلى القيادة القوميّة كانوا قلّة على ما أظن . وفي رأيي ، إن كثيرين يؤيدونني في هذا الزعم . ثم القيادة القطرية التي أشرتم إليها ، لست متأكداً من دقة الأسماء الواردة في الكتاب إذا كانت صحيحة ...
( تعليق : أبديت هذه الملاحظة من قبل عبد البر عيون السود ... وأدخل عليها بعض التعديل الذي سوف آخذه بعين الاعتبار ).
في الصفحة (330)، قصة تحرك الناصريين في 11 آذار عام 1963 وتصفية أو فرّ بعض عناصرهم، أظن أنه مشكوك بها . لأنه لم نسمع بها وما كان من الممكن أن تغيب عنا . في الصفحة (333)، " إننا نعرف أن الرئيس عبد الناصر لم يعترف أبداً بالانفصال السوري ". أظن أن هذه النقطة تتطلب بحثاً . لأن الرئيس عبد الناصر بعد الانفصال بقليل ، قد أقرّ بعودة الشخصية السورية السياسيّة إلى الأمم المتحدة . وهذا اعتراف .
[ تعليق : سمح بعودة شخصية سورية الدولية ... اعترف بها من الناحية القانونية ـ الدستورية الدولية ، ولكن ضمناً لم يعترف من الناحية العملية السياسيّة ـ فهذه النقطة تحتاج إلى توضيح ...].
أنا بتقديري لو أن الرئيس عبد الناصر كان جاداً في قمع الانفصال ، كان يملك المقدرة على ذلك . لأن الذين أقدموا على تنفيذ الانفصال ، لم يكونوا يملكون إلاّ قوة عسكريّة هزيلة . إنما الجوّ العام في البلاد وفي المؤسسة العسكرية ، كان مهيأ لقبول الأمر الواقع . لكن لو جرى تدخل معاكس، أظن أن كثيرين ومن المعارضين الشديدين لعبد الناصر ، كان يمكن أن ينضموا لهذه العمل ، لأنه برهان لا شكّ فيه عن تشبُّث الدولة بالوحدة . أما موقف القيادة الناصرية ، فقد كان متراخياً جداً إن لم يكن متساهلاً حول مسألة المحافظة على الوحدة السورية المصرية . " فالهدف الأساسي لسياسة القاهرة في هذه الناحية ، هو عودة الوحدة السورية المصرية قبل أي شيء آخر ، بمعنى عودة "الأوضاع الشرعية السابقة " ( ص 333 ). فأنا بتقديري ، لم يكن هذا هدفهم . هدفهم (المصريون) هو إسقاط الانفصال فعلاً وأن يقوم وضع سياسي موالٍ لهم في سوريا. أما أن يعيدوا الوحدة كما كانت، فليس هذا هدفهم، لو كان هذا هدفهم لما تصرفوا حيال الانفصال وأثناء قيامه بهذا الشكل ...
تعليق : ... هذه النقطة واضحة تماماً في محادثات الوحدة ... عبد الناصر كان يقول ويكرر في المباحثات : إن علاقته بسورية وليس له علاقة بالبعث في العراق . " أريد أن أُصفّي ترسبات علاقة مصر بسورية . يجب أن تعود الأوضاع بشكل أو بآخر ، كما كانت عليه من قبل ، ثم بعد ذلك يدخل في علاقة جديدة مع العراق ". يمكن أن نعود إلى هذا الفصل وإلى هذا الموضوع ، حتى نتحقق من ذلك (انتهى)
* ... ص 304، تسلسل غير دقيق في الوقائع حول عصيان حلب ، والعمل المشترك بين البعثيين والناصريين . ثم حركة جاسم علوان ـ أشرت إليها جزئياً ولكن الآن ... إن التسلسل جرى على النحو التالي : الناصريون والبعثيون ـ ونحن لم نكن بعد قد انقسمنا كجسم عسكري . كان التوتر شديداً بين طرفي المؤسسة العسكرية البعثية والاشتراكية ، لكن لم يقع الانقسام . كانوا يلعبون بخطر التفاهم مع الناصريين ونحن لا نقول بهذا الخطر كاشتراكيين ضمن الجيش . فالذي حصل هو أنه عقد محمد عمران كممثل البعثيين مع الناصريين اتفاقاً على القيام بانقلاب . يبدأ بعصيان بحمص وبحلب وبعدئذ ينتشر . الناصريون نكلوا بهم عند التنفيذ بحمص . لم يسمحوا للبعثيين بالدخول إلى الثكنة . أما في حلب ، فالوضع كان مشوشاً ، وحلب لا تشكل يومئذ ثقلاً عسكرياً كبيراً. فهنا ، تطورت الأحداث: فعدد من البعثيين الذين عملوا مع الناصريين في حمص ، بعض الضباط البعثيين المشاركين معهم، ذهب إلى حلب . وفي حلب أيضاً الناصريون أرادوا الانفراد بالعمل. فوجد البعثيون أنفسهم بلا دور . بدأوا يتشتتون ، بينما جاسم علوان قام بعملية العصيان وإعلان العودة إلى الجمهورية العربية المتحدة. هنا، تحركت القطاعات العسكرية والقوات المسلحة في دمشق وغيرها من المناطق . إن إعلان جاسم علوان ، هو الذي جعلهم يتكاتفون من جديد ولكنهم خافوا لأسباب مختلفة . فقاموا بعمل تكتيكي وإزاحة الناصريين عن حمص .
تعليق : هنا ، في الحقيقة ، نقطة أنا أشعر بإنني بحاجة إلى توضيحها . ما ذُكر وحتى الآن، عندما كتبت هذا الفصل كانت تنقصني المعلومات الكافية واللازمة لإيضاح هذه النقطة بالذات . وأذكر تماماً أنني اعتمدت على بعض الصحافة اللبنانية لتغطية هذا الموضوع . لذلك سوف أعود تفصيلياً إلى الحديث عن كل هذه التحركات ... طبعاً سنحاول ضبط ذلك كله بالاعتماد على الصحف لضبط التواريخ وضبط الأسماء ، إلخ ... (انتهى)
* على أي حال، هؤلاء المشاركون بالذات يمكن أن يقدموا لك معيناً من المعلومات الأدق... المشاركون بحركة حلب والذين أصبحوا فيما بعد من الجهاز العسكري ... مثلاً حسين ملحم ، يمكن أن يفيد في هذا الموضوع . فهو قد شارك ... وهو يعرف التفصيلات ، وكان قائد الشرطة العسكرية عندما حدث 23 شباط وهو عضو في المجلس الوطني ، بعد 8 آذار وهو مسرح الآن ... هذا ما أستطيع أن أشير إليه بالنسبة للملاحظات ...
تعليق : ... شكراً لك كثيراً على هذه الإيضاحات التي اعتبرها ضرورية ومهمة ... لقد سجلت سابقاً كثيراً من الملاحظات ، وآرائكم وملاحظاتكم مسجلة هي أيضاً ، وسآخذ بها عند إعادة الصياغة وطباعة الكتاب. ولكن ، لدي إجابة سريعة حول بعض النقاط . أولها حول الغموض الفكري، عدم تحديد المفاهيم ، حول الأمة وخلاف ذلك ... هنا ، لا شك في أنني أجد نفسي موافقاً لما ذكرتم في كثير من النقاط حول عدم التحديد ، عدم الوضوح ، الغموض ... ولكن في إمكاني أن أفهم أن مفكراً أو أن منظراً له مذهب فلسفي مثالي ميتافيزيقي وأن يتخذ هذا المنحى وأن يفهم ويفسر مفاهيمه للأمة ومفاهيمه الميتافيزيقية والمثالية ، انطلاقاً من موقفه الفلسفي، إلخ ... أن نقبل بذلك أو لا نقبل ، هذا موضوع آخر ... إنما عندما نناقش هذا الرأي أو هذا المفهوم ، فلنحاول أن نرى أو نهتم بالبحث بذاته حول : هل هذا المفهوم متكامل ، متجانس ؟.... هل نستطيع مثلاً أن نقول إن مفهوم حزب البعث للأمة هو مفهوم ميتافيزيقي واضح ومتكامل ، هل هو مفهوم مثالي على الصعيد الفلسفي ، صيغ صياغة واضحة ... أنا أرى عكس ذلك . وأنا لم أقم بعد بهذه الدراسة ولا أعرف أحداً قد قام بها . أيديولوجية البعث ، لم تدرس بعد الدراسة لا الفلسفية ولا المنهجية الصحيحة . نبقى على هذا الصعيد في العموميات ، نأخذ مفهوماً ونعطي رأينا فيه بسرعة ويشكل مجتزأ ... ونوجه الانتقادات إلى بعض المقالات من هنا وهناك وإلى بعض المواقف الفكرية أو الأيديولوجية التي اتخذت في فترة أو أخرى. لم يدرس بعد الفكر البعثي دراسة منهجية شاملة وتفصيلية وعميقة ... فأنا أفكر القيام بدراسة الفكر البعثي انطلاقاً من المنهج التاريخيّ الاجتماعيّ والانتروبولوجيّ المتكامل ... وهنا أشير إلى أنّ فكرة الأستاذ ميشال عفلق ، على الرغم مما يوجه إليه من اتقادات من هنا وهناك ، وعنيفة غالباً . هذا الفكر العفلقي لم يُدرس بعد الدراسة المنهجية النقدية ...أن نقبله أو أن نرفضه ... هذا شأن آخر ... لا أصدقاؤه درسوه ... ولا خصومه أيضاً بمنهج محدّد ومتكامل ... مثلاً ، عندما أحاول أن أقرأ لإلياس فرح ، أحد البعثيين الشارحين ، أجد في الحقيقة ، بدل من أن يوضح مفاهيم الأستاذ ميشال عفلق ، زادها غموضاً وزادها متاهة ـ فأعود وأقول بأن ما كتبه عفلق يفوق بكثير الشروحات أهمية ورونقاً وصدقاً ـ بحيث إنني لا استطيع أن أفهم ماذا يريد أن يقول الأستاذ فرح . هذا هو شعوري. لذلك أهملت ما كتبه ولم آت على ذكره في كتابي. لأنه لم يقدم أي شيء لإيضاح المفاهيم النظريّة أو الفلسفيّة ... خصوم الأستاذ ميشال عفلق ، كذلك ، لم يقوموا بهذه الخطوة النقدية المنهجية الهادئة والشاملة في آن.
هنا ، إنني أوافق على ما أبديت من ملاحظات ، وسأدرسها ... فأنا انطلقت في دراستي ، في الحقيقة ، معتمداً فرضية معيّنة ملخصها كما تفضلتم بالضبط وأعيد صياغتها بالشكل التالي : سبب أزمة الحرب وتخبطه يعود إلى الغموض الأيديولوجي ... ومن خلال الدراسة والبحث ، وجدت في الحقيقة أنه ليس هناك غموض في الفكر القومي عند حزب البعث ، إذا أخذنا كتابات الأستاذ ميشال عفلق الأولى وفيما بعد . لوجدنا أن هناك مفهوماً للأمة وللقومية واضح إلى حد بعيد : مفهوم مثالي، روحي ، إنساني ، ميتافيزيقي ، وتقريباً ، إذا ساعدناه قليلاً وإذا فسرناه ، إذا وضحناه ، تقريباً نستطيع أن تقول إنه مفهوم متكامل ... (انتهى التعليق)
* أنا أستأذن حول هذه النقطة فأرى كأستاذ تاريخ أن مفهوم الأمة العربية ضمن نطاق الوطن العربي المتعارف عليه حالياً ، هو مفهوم واقعي ومستمر ... وقد تجلت قدرات هذه الأمة في مراحل متعاقبة : المرحلة القديمة التي نسميها وتسمّى خطأ بمرحلة ، العرب الساميون القدماء ، والمرحلة المسيحية ، والمرحلة الإسلامية ... لأن هذه المنطقة تحركت فيها وتمحورت أمواج من الشعوب تتحدر من أرومة واحدة . وبالتالي، لها طرائق تفكير متقاربة إن لم تكن متطابقة في كثير من الأحيان، ومفاهيم مشتركة وعادات وتقاليد وجذور لغوية أساسية واحدة . يعني الروابط بين هذه الشعوب ، ضمن نطاق هذه الأمة العريضة ، بالمعنى التاريخي البعيد المدى ، هذه الروابط حقيقية ... إنما التعميم العام الذي أعطاء الأستاذ ميشال عفلق ، تعميم يجب أن يؤخذ كإلهام . لكن على المؤسسة الحزبيّة أن تعطيه مرتكزات محسوسة. وهذا ما لم يحصل . لأن المؤسسة البعثية لم تأخذ شكل الحزب السياسي الحديث. هذا النقص الأساسي المسؤول عن كل التخطيط في السياسات والتخبط الفكري . لو أنه كان حزباً حديثاً ، كان خلق مؤسسات البحث فيه . في نطاق إدارة السياسة اليومية ، يوجد هناك أشبه ما يكون بحكومة الظل وبالتالي تتابع السياسة اليومية وتدرس مكاتب البحث التي هي تقدم الدراسات في المجال الاقتصادي ، في المجال الفكري ، وفي النطاق الفلسفي ، إلى غير ما هنالك ... ولكن حزب البعث كان قاصراً عن هذا تماماً. وأظن أن ما أشرت إليه إنما إنه هو ما أعنيه بالذات... يعني حاول (ميشال عفلق ..) وإنما مشكلته الرئيسية إنه زعم لنفسه دور تحديث المجتمع العربي ، ولكنه لم يضع مجتمعه على عتبة التحديث، لأنه كان قاصراً ... أقصد بذلك أن المؤسسة البعثية ككل كانت قاصرة (وليس فقط عفلق ..) كان من الممكن أن يُقبل ميشال عفلق كمصدر إلهام وتجريد وعموميات ...
[ تعليق : لا ، ليس كإلهام ... وإنما إعطاء خطوط فكرية عامة وعريضة من الناحية الأيديولوجية ، ومن ثم المؤسسات الحزبية ومكاتب الدراسات ، الفكرية والثقافيّة داخل الحزب ، تأتي وتوضح هذه المفاهيم العامة والمنطلقات الفكرية العامة ...]
وإنما الخلل الأساسي هو أن الحزب لم يتحوّل إلى حزب إلاّ بالاسم ... بقي أرومة ، بقي عنواناً ، دون أن يكون ممتلئاً بالداخل بما يقتضيه الحزب الحديث من أجهزة ومؤسسات فكرية ... تعليق : إنّ جهدي في الكتاب ، وقد قلت ذلك في المقدمة ، لم يكن جهداً نقدياً ، رافضاً ، بل اعتمدت أسلوب : الفهم ، منهج الفهم والتوضيح بالاعتماد على كتابات البعث ووثائقه ، محاولة رؤية لمفاهيم هذا الحزب ، خاصة كتابات الحزب وكتابات عفلق : حول الأمة ، الاشتراكية ، حول الرسالة ... كل هذه المفاهيم [ ووعيها وفهمها ، فهم هذه الظاهرة الفكريّة ] ابتدأت أكتب فيها في مطلع الستينات وأواخرها ، وفي ذلك الحين وللأسف حتى الآن ، لم تصدر كتابات توضيحية ، لا رافضة أو مؤيدة لمفاهيم البعث العامة الفكريّة أو الأيديولوجية ، حسب معرفتي ، سوى سجالات غالباً ما تكون عنيفة وحادة ... فلذلك اعتمدت هنا أسلوب ومنهج يتلخصان بالشكل التالي : ما هو مفهوم الحزب من خلال كتابات عفلق للأمة ، هل هناك مفهوم من خلال هذه الكتابات ، يمكن أن نقول عنه إنه مفهوم متكامل وقد نما مرحلياً مع تطوّر الأحداث ؟... ما هو مفهوم الحزب للاشتراكيّة ، للحرية ، ما هو مفهوم الحزب لعلاقة الإسلام بالعروبة والعروبة بالإسلام ؟... فكانت في كتابي ، في الحقيقة ، لمسات أكثر مما هي دراسة مفاهيم معمّقة ، وأنا أشعر بذلك الآن ، أكثر مما هي كتابات نقديّة . وأنا عازم الآن على أن أتلافى هذه الثغرة وأن أوضحها أكثر. لذلك فأنا قلت في كتابي : فإن هذا الكتاب هو كتاب التوضيح ، ويجب أن يليه كتاب النقد ... [إنتهى]
يوسف المير : تعقيب أخير حول هذه النقطة إذا أمكن ، أنا أرى أن هذه المفاهيم كانت كلية عامة ، بالنسبة إلى الوحدة العربية . النقطة الرئيسة ، إنّ المؤسسات لم تبيِّن الأساليب ولا المناهج لبلوغها إطلاقاً . ولذلك بقيت تتخبط في سياساتها العملية بسبب غياب هذا الشيء . النقطة الثانية مسألة الحرية، كانت فضفاضة تماماً ولا يوجد تحديد دقيق في أذهان البعثيين عن مفهوم الحرية : لا الحرية الفردية ، ولا الحرية المجتمعية . فمثلاً ، وهذا ما أشرت إليه لإعادة تنظيم الحزب في عام 1961، في اجتماع ضم كثيراً من البعثيين المدعوين لنقاش موسع حول مدلولات الحرية ، والنقاش مدعَّم بكتابات البعض . وكان يشارك في هذا الجمع عبد الله عبد الدايم ... اختلف المجتمعون حول تحديد مدلول : "حرية التعبير الجماعي والصحافة"، مَن له الحق في أن يملك صحيفة ؟... فمعظم المجتمعين قالوا بأن الأفراد ، إذا سُمح لهم بإنشاء صحف ، فلن يكونوا قادرين على الوفاء بواجباتها دون أن يحصلوا على معونة مادية ، فإنهم يتأثرون بمصدرها . وبالتالي لا يستطيعون أن يتصوروا وجود صحافة يملكها الأفراد ، إنما صحافة تملكها المؤسسات . هذه الفكرة للحرية ، أثارت ما كأن لدغ د. عبد الله عبد الدايم ، قال : إنه لا يقبل أي قيد على الإطلاق على فكرة الحرية . طيّب ، سؤال : ما يحدّ هذه الحرية يا دكتور عبد الله ؟... افتعل نوعاً من الحدّة وغادر الاجتماع ولم يحضر بعدئذ ... لم يعطينا تحديداً للحرية ولمفاهيمها ... وأذكر إني بدأت يومئذ معه ، مقدراً أن هؤلاء المفكرين يهتمون بالمسائل النظرية . بدأت بتحديد معنى الحرية بالمعنى الفلسفي .. يعني الحرية هي التحرر من الضرورات بكاملها ، سواء الضرورات المادية أو كل ما يعيق خلجات النفس، عن أن تتحرك بحرية. وبالتالي انتقلنا إلى مسألة التضارب وتنظيم هذه الحرية حرية الآخرين ، إلى آخر ذلك من الأبحاث . إذن ، لم يتفقوا على تحديد مفهوم للحرية إطلاقاً ... كلمة كانت تستعمل كما لو أنها شيء ظريف جميل ، كترف فكري ، لا أكثر... أما بالنسبة إلى الاشتراكية، فعلى الإطلاق لم تكن المؤسسة الأصلية لحزب البعث تحمل توجُّهاً عميقاً نحو الاشتراكية ... بقيت تسمية ...
فأنا مع بعض الأخوان وجهنا ضغطاً شديداً من أجل دمج الحزبين ، في أوائل الخمسينات : حزب البعث والحزب العربي الاشتراكي ، لضرورات رأيناها في الجيش في ذلك الوقت. لأننا كنّا نعد عملية انقلاب للإطاحة بأديب الشيشكلي ، واشترطنا وجوِّنا توحيد الحزبين حتى لو نعاني متاعب وتناقضات ضمن التيار العربي في الجيش . القادة ذهبوا لكي يتناقشوا وكانوا يعودون إلينا ليعطونا آراءهم . حاول ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار مستميتين أن يحافظا على تسمية الحزب بالبعث العربي فقط وأن لا يُدخلا في التسمية الاشتراكية كلياً ... ونحن من جهتنا كعسكر ، وأصرَّيت أنا شخصياً أنه لا مجال للتنازل في هذه النقطة . فقبلا نوعاً من التنازل على مضض إدخال التسمية ، ولم يساعدا بنيّة صافية فيما بعد على تحديد وبلورة حدود واضحة لها . لذلك كانت هي أشبه بالترف الفكري ولم يكونوا مهتمين : ذلك التيار القديم لم يكن مهتماً بالمسألة الاشتراكيّة إلاّ اهتماماً ثانوياً وعندما تفرض الظروف عليه أن يتناولها ، فيتناولها بشكل موارب وليس بشكل مباشر... هكذا كان إحساسي ...
تعليق : أنا ملتقي معك كلياً في هذه النقطة ، لذلك أشرت وقلت إن حول كثير من المفاهيم، ليس هناك مفهوم محدود وواضح لحزب البعث كحزب ، ولا لأي مفهوم من هذه المفاهيم . إنما من الملاحظ أن هناك كتابات متنوعة ومتعددة ، وأحياناً إذا لم تكن متناقضة، وإنما غير مترابطة ومتعثِّرة ومختلفة في المضمون والمحتوى . أو حتى متناثرة . مثلاً ، مفهوم الحرية في نشرات الحزب ، في دستور الحزب وفي مواقف الحزب ، وأخيراً في كتابات الأمين العام الثاني لحزب البعث ، د. منيف الرزاز : "الحرية ومشكلاتها في العالم الثالث"، والكتاب نشر في عام 1965، أي بعد وصول البعث إلى السلطة، وهو يعطي مفهوماً للحرية مستقى من المفاهيم الغربية كلياً . فلذلك قلت في كتابي وأشرت ، وهذه النقطة تحتاج إلى تعميق أكثر ، إلى أن الحزب لا يمكن أن يُسمّى حزباً موحداً ، فكرياً أو أيديولوجياً ، monolithique ، أي غير موحّد ، متعدد الاتجاهات الفكرية والمفاهيم الأيديولوجيّة .. غير آحادية النظرة والنظرية ، وهي تتغير وتتعدل وتتطور ، وإنما في مؤتمرات الحزب وفي مجالسه ، وبعد النقاش يحصل هذا التغيير أو التحديد أو التطور الفكري والأيديولوجي . ولكن هذا لم يحصل في مكاتب الحزب الثقافية أو الفكرية إطلاقاً طوال وجوده وحتى استلامه السلطة عام 1963 ... لنأخذ مثلاً ونقوم بمقارنة بسيطة بينه وبين الحزب القومي السوري . نجد من حيث التنظيم ومن حيث الأيديولوجيا ، الحزب القومي السوري أقوى ومتماسك وأوضح ... وفكر موحّد .. هناك مؤسسة حزبيّة حديثة ـ حديدية .. سواء كنت معه أو ضده ... أما حزب البعث فهو يضم تعددية في الاتجاه الفكريّ والقوميّ والأيديولوجيّ إلى حدّ كبير ، مع الانتماء إلى هذه الخطوط العامة العريضة في الوحدة العربية والحرية والاشتراكية ضمن إطارها ... البعث فكر متعدد .. لنأخذ مثلاً : مفهومه للأمة العربية ، حول الوحدة ، حول الاشتراكية، حول الرسالة الخالدة ، كل حزبي تقريباً يعطي مفهومه الخاص للرسالة الخالدة...
أعود مرة أخرى إلى نقطة جاءت في حديثكم وهي حول الثقافة والمثقفين : أقصد بذلك، دون أن ندخل في تعميق مفهوم الثقافة ومفهوم المثقفين والشروط الضرورية التي يجب أن تتوافر في المثقف حتى يكون مثقفاً ، إلى غير ما هنالك ...أنا لم أدخل أو أتوسَّع في كل ذلك ، وإنما ما أشرت إليه وما أقصده هو أنني أعني بالمثقف في حزب البعث : الأساتذة والمعلمون وأصحاب المهن الحرة والصحافيون والكتاب والطلاب الثانويين والجامعيين ، لا أكثر ولا أقل ... لذلك عندما نقول إن حزب البعث هو حزب المثقفين ، نقصد هذه الفئة الاجتماعية من الشعب .
ثم إنني في هذا الكتاب حاولت أن آخذ الحزب بمراحله المختلفة منذ مرحلة التأسيس حتى وصوله إلى الحكم. والحزب، حزب البعث، عندما نتحدث عنه ، يجب أن نحدِّد بشكل واضح وصريح المرحلة التي نتحدث عنها، ذلك أن هناك أحزاب بعث، وليس حزباً واحداً . وحركة البعث بهذا المعنى وبكل مراحلها لها طابعها الخاص التنظيمي السياسي والفكري والأيديولوجي ... [انتهى التعليق]
* يوسف المير علي :... أن تقوم بنوع من التقسيم، فيه شيء من الوضوح، وهو أن الحزب يختلف قبل الوحدة السورية المصرية ، وبعد الوحدة ... ذلك أن هنا نلاحظ تبدلاً في الملامح بشكل كبير ما بين ما كان عليه وبين ما صار فيما بعد ، هذا شيء والشيء الثاني : العلاقة ما بين المؤسسة العسكرية وحزب البعث قبل الوحدة، كانت بصياغة معيّنة، ولكنها أصبحت هذه العلاقة مختلفة كلياً في المرحلة التالية. إذا اعتبرنا المقياس هو دور المؤسسة العسكرية وعلاقتها بالمؤسسة السياسيّة الحزبيّة، نلاحظ ، وهذا مقياس للتمييز لا بأس به ، فكأنما بعد الوحدة وضعت العربة أمام الحصان . أصبحت المؤسسة العسكرية هي التي تقود المؤسسة السياسيّة وتجرها إليها ، بينما المؤسسة العسكرية قبل الوحدة، كانت قد اكتسبت نضجاً ولم تكن قد تعرضت لمداخلات عميقة خارجية ومشبوهة. فكانت يومئذ تملك حساً وطنياً نامياً بحيث حدَّدت دورها بشكل مقبول أنها يجب أن تكون بعد المؤسسة السياسيّة وليس قبلها، وأنها يجب أن تلجم النشاط العسكري لا أن تسمح له بالتوسّع . فنحن كنّا في الفترة الممتدة من مطلع الخمسينات ، بعد إسقاط الشيشكلي وإلى الوحدة ، كنّا ملتزمين باستراتيجية صريحة وواضحة، ملتزمين بنقطتين : أولاً ، منع وقوع أي انقلاب عسكري. وثانياً، عدم السماح للمؤسسة العسكرية أن تكون عدوة للاتجاهات الوطنية والتقدمية في سورية، وبالتالي لا تُباده إلى عمل ما، وأن تكون تابعة للمؤسسة السياسيّة. هذا التزام التزمنا به كلياً. صحيح أننا ساعدنا كعسكريين خلق التيار نحو الوحدة. ولكن المؤسسة السياسيّة هي الملامة على التقصير في إيجاد صيغة التعامل (القانونية والدستورية) مع الطرف الثاني وهو مصر الناصرية. ولو أنهم بسطوا لنا صيغة وألزمونا بها، لال