الصين من الماضي إلى الحاضر- د. دندشلي
مقالات و تحقيقات /
سياسية /
2011-10-25
الصين من الماضي إلى الحاضر!
بقلم مصطفى دندشلي
التوسع الأوروبي في الصين
إنّ انضمام الصين الشعبية إلى الأمم المتحدة، بالصورة التي تمّ بها، لم يكن بمثابة صفعة موجّهة إلى الدبلوماسية الأميركية فحسب، وإنما كذلك وقبل كل شيء، يمكن أن يكون له من الأهمية العالمية كحدث تاريخي في السياسة الدولية ما يوازي أهمية مؤتمر أقطاب الحلفاء في أواخر الحرب العالمية الثانية، في يالطا،
بين روزفلت وستالين وتشرشل، هذا الاجتماع الذي تقرّر فيه بالفعل، مصير العالم وخريطته السياسية طوال السنين الماضية.
وهناك تساؤلات عديدة طُرحت ولا تزال تُطرح حول الدور الذي يمكن أن تلعبه الصين الشعبية في العلاقات الدولية، وحول النتائج المرتقبة لزيارة الرئيس نكسون إلى بكين. هل سيستمر التوتر الصيني ـــــ الأميركي، كما كان عليه في الماضي، أم أنّ الصين ستجد نفسها أخيراً طرفاً في اللعبة الدولية، وتنخرط بشكل أو بآخر، بسياسة تقسيم أو إعادة تقسيم مناطق النفوذ في العالم؟ وبالتالي، هل ستعدل من حدة سياستها الثورية في الخارج أو في الداخل؟
هل سيزداد الخلاف الصيني السوفياتي عنفاً ويأخذ أبعاداً جديدة، أم أنّ منطق الصراعات الدولية والإستراتيجية بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الشيوعي، سيؤدي في النهاية إلى التقارب أكثر فأكثر بين العملاقَين الاشتراكيَّين؟.
وما هي الصيغة الجديدة للدور الذي ستلعبه الدبلوماسية الصينية عَبر الأمم المتحدة، في القارات الثلاث "المهملة"، أفريقيا، آسيا وأميركا اللاتينية؟ وأخيراً وليس آخراً، ما هو تأثير هذه الأحداث العالمية الجديدة، وعودة الصين إلى المسرح السياسي العالمي، في الأوضاع الداخلية في منطقة الشرق الأوسط؟
ليس من السهل الآن الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل قطعي، إذ إنّ كل شيء محتمل الحدوث في العلاقات الدولية والمفاجآت يمكن أن تأتي من جهات غير منتظرة.
إلاّ أنّ هناك بعض الخطوط السياسية العامة التي يمكن التنبؤ بها وتصوّر احتمال وقوعها في المستقبل القريب، إذا وضعت هذه الخطوط في سياقها التاريخي، وأعيدت إلى جذورها الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية.
وكما أنه، في علم النفس، يمكن تصوّر سلوك إنسان ما، أو ردّات فعله وتصرّفه أمام حادثة معيّنة، إذا فهمت ظروف نشأة هذا الإنسان وأوضاعه الاجتماعية والتربوية والنفسية، فكذلك أيضاً في السياسة وفي سياسات الدول وعلاقاتها بعضها مع بعض.
فالتجربة الثورية، أية تجربة، هي نتاج ظروفها التاريخية والاجتماعية. والأهمية الأولى والكبرى للتجربة الثورية الصينية هي أنها تجربة صينية: بمعنى أنها في الدرجة الأولى وليدة واقعها الحضاري والثقافي المعيّن، وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعينة. والإيديولوجيا الماركسية ـــــ اللينينية أنما تأتي هنا كوسيلة طيّعة ومرنة، وكمنهاج علمي لتلبّي حاجات وضرورات هذا المجتمع إلى التغيير والتقدم، ولتدفعه إلى مرحلة تاريخية أعلى.
لهذا، فمن الضروري، عند فتح ملف الصين، أن نعود قليلاً إلى الوراء، ونستعرض سريعاً الظروف الداخلية والخارجية التي أحاطت بنشوء وتطوّر الحركة الوطنية والثورية في الصين، وأهم المراحل التاريخية التي اجتازتها. فإنّ ذلك، من غير شك، سيساعدنا على إلقاء بعض الضوء على الأوضاع السياسية الحالية وعلى استشراف مستقبل جمهورية الصين الشعبية.
الصين التقليدية والتوسع الأوروبي
يجب التذكير، بادئ ذي بَدء، إلى أنّ حضارة الصين ــــــ مع الحضارة المصرية القديمة ـــــ أعرق وأقدم الحضارات في العالم. وهي معلمة الإنسانية الأولى. وقد بنت أول دولة عرفتها المجتمعات التاريخية. وأنجبت من أعظم الفلاسفة والسياسيين والإستراتجيين العسكريين.
إلاّ أنّ هذه الحضارة، بعد هذا الازدهار المشرق، قد وقعت، كباقي الحضارات الشرقية الأخرى، فريسة الركود والانحطاط الكلي، لعصور طويلة. وهكذا استمرت الصين، حتى مطلع القرن الثامن عشر، تعيش في مجتمع تقليدي، إقطاعي، منغلق كلياً على نفسه، تنحصر فيه السلطة المركزية بالعائلة المالكة: المانشو، والتي كانت بدورها أداةَ حكمٍ وتسلطٍ في أيدي كبار ملاكي الأرض، على نطاق البلاد بأسرها. ولم تكن هذه الطبقة الإقطاعية التقليدية تخشى شيئاً، بقدر ما كانت تخشى التغيير وتسرّب الأفكار الجديدة التي لابد أن تحدث نتيجة الاحتكاك والاتصال بالعالم الخارجي.
وهكذا، لم يستطع المجتمع الصيني التقليدي في هذه الظروف، أن يجابه موجات التوسع الأوروبي المتتالية وأن يقف في وجه القوة الاقتصادية والعسكرية التي فجرتها الثورة الصناعية في الغرب. ولم تجد الرأسمالية العالمية التي أخذت في ذلك الحين في الانتشار بحثاً عن المواد الأولية وعن الأسواق الخارجية لتصريف منتوجاتها الصناعية، لم تجد صعوبة تذكر في فتح ثغرة في أسوار المجتمع الصيني الإقطاعي وإخضاعه كلياً فيما بعد.
ويجب الإشارة هنا إلى عاملَين لعبا دوراً أساسياً في التوسع والسيطرة الأوروبية في الشرق الأقصى عموماً وفي الصين على وجه الخصوص:
العامل الأول دور الإرساليات التبشيرية الدينية في التغلغل الأوروبي
العامل الثاني دور شركة الهند الشرقية البريطانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبالفعل لم يمض وقت وجيز على السيطرة البريطانية على الهند، حتى كانت شركة الهند الشرقية تضع يدها كلياً على ما كان يسمّى آنذاك بـــــ "تجارة الصين".
وليس ذلك فحسب، وإنما عمدت الشركة البريطانية إلى زراعة الأفيون في الهند، وتصديره إلى الصين، مقابل المنتوجات الصينية التي تستوردها، كالمنسوجات القطنية والحرير والشاي والأواني الخزفية وغيره. ولم تلبث هذه التجارة أن خطت خطوات واسعة حتى أصبحت صادرات الصين غير كافية لدفع ثمن الأفيون المستورد.
والأرقام التالية تدل دلالة واضحة على ارتفاع نسبة الكميات المصدّرة من الأفيون إلى الصين ارتفاعاً كبيراً، فقد ارتفعت من 2000 صندوق (يحتوي كل منها على 140 -160 رطلاً) في عام 1800، إلى 80,000 صندوق عام 1853 (1) .
حــروب الأفيــون
إزاء هذا الانتشار الواسع لتجارة الأفيون، وبداية انهيار البِنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الصيني، تدريجاً، كان لابد من حدوث ردّات فعل عنيفة. ومع أنه قد صدر رسمياً قرار منذ عام 1800 بتحريم تجارة الأفيون في الصين، إلاّ أن عمليات التهريب كانت تجري على قدم وساق، ضاربة عرض الحائط بكل المحاولات لمنعها.
ولكن في سنة 1839، وأمام هذه الخطورة الزائدة، اضطرت السلطات الصينية إلى تطبيق قانون التحريم بحزم وأمرت بإتلاف كميات ضخمة من الأفيون في كانتون في القسم من المدينة الذي كان مسموحاً فيه للتجار البريطانيين والأميركيين بإقامة مؤسساتهم. وهذا ما أدّى إلى قيام ما يُسمّى بحرب الأفيون الأولى.
فقد كان هذا التحريم، بالفعل، ذريعة كافية لأن تشن القوات البريطانية هجومها وتنزل في مناطق متفرقة من الساحل الصيني وتحتل كانتون وشنغهاي وغيرهما من المدن. وعلى أثر ذلك، وقَّعت الحكومة الصينية (1842-1843) على أول معاهدة "غير متكافئة" والتي فقدت الصين بموجبها استقلالها رسمياً. وقد نصّت بنود هذه المعاهدة على النقاط التالية:
• دفع التعويض عن الأفيون المصادر والمتلف.
• تسليم هونج كونج للبريطانيين (ومنذ ذلك الحين لا تزال هونج كونج مستعمرة بريطانية)
• فتح خمس موانئ رئيسية للتجارة البريطانية والاستيطان.
• استثناء الرعايا البريطانيين من القانون الصيني، وهو ما كان يُسمّى بالامتيازات الخاصة.
• معاملة بريطانيا طبقاً لمبدأ "الدولة الأَوْلى بالرعاية".
• وأخيراً تعهّد الصين بأن لا تتقاضى على البضائع الأجنبية رسم استيراد يزيد على 5% .
وبعد مضي سنة على ذلك (1844)، انتزعت الولايات المتحدة الأميركية، هي الأخرى، معاهدة مماثلة لتوسيع وتدعيم نفوذها في الصين وفي المنطقة كلها.
وهكذا، فقد تتالت بعد ذلك التدخلات الأجنبية بسرعة فائقة. وكانت الامتيازات الإدارية والتجارية الأجنبية على الأرض الصينية بمثابة مرتكزات لزيادة التوسُّع والسيطرة الأوروبية من الناحية الصناعية والمالية والسياسية والعسكرية. وأصبحت الصين مكبَّلة كلياً ومجالاً هائلاً للاستغلال والنهب بالنسبة للدول الكبرى في ذلك الحين.
الانتفاضات الشعبية
في تلك الأثناء وتحت ظل الهيمنة الأجنبية، اتسع استيراد المصنوعات القطنية البريطانية والأميركية ونما بشكل أكبر. فبعد أن كانت الصين مصدّرة للمنسوجات أصبحت الآن تستوردها.
ومن إحدى النتائج لذلك أن أدّى تدفّق هذه المنسوجات الأجنبية إلى إفلاس ملايين النسَّاجين والحِرفيين الصغار والمتوسطين، إما عن طريق المنافسة المباشرة في الأسواق وإما عن طريق تحويل الأموال الصينية المتداولة في الحِرف الصناعية إلى التوظيف في العمليات التجارية الأجنبية.
ومن الطبيعي أن يؤدّي هذا إلى اهتزاز، بل إلى صدمة عنيفة في البنيان الاقتصادي الإقطاعي التقليدي للصين، وأن تزداد النقمة الشعبية والأزمة الاجتماعية حدّة وعنفاً، خاصة في أوساط الملايين من الفلاحين الذين كانوا يتحمّلون وحدهم العبء الأكبر من فرض الضرائب المتزايدة، وأن تنتشر هنا وهناك الانفجارات الشعبية ضد العائلة المالكة وفي الوقت نفسه ضد التدخلات الأجنبية وعلى وجه الخصوص التدخلات والسيطرة البريطانية.
في هذا الجو، حدثت ثورة "تايبنج" الشعبية (1850- 1865). وهي انتفاضة عفوية ذات مسحة دينية مسيحية، اجتاحت الصين، وأعلنت عن إقامة دولة شعبية ثورية، هي دولة تايبنج تين كو (مملكة السلام الأعظم السماوية)، عاصمتها نانكنج.
ومن الأهداف الاجتماعية والسياسية العامة التي أعلنتها، أنها رفضت سلطة أسرة مانشو المالكة وأعلنت الحرب ضدها، وجرّدت في المناطق التي سيطرت عليها، كبار الموظفين وكبار الإقطاعيين من أملاكهم ووزّعت ثرواتهم على الفقراء من الفلاحين. كما أنها أصدرت قانوناً زراعياً يهدف إلى المساواة ويقول: "يجب أن يفلح كل الناس كل الأراضي الموجودة تحت قبة السماء.... فليفلحوها سوياً." وأعلنت أيضاً عن تصميمها بأنه "يجب أن يأكل كل إنسان ما يكفيه، وأن يلبس ما يقيه."
والجيش الذي أنشأته دولة تايبنج، كان جيشاً شعبياً يؤدّي إلى جانب المهمّات العسكرية، عملاً اجتماعياً واقتصادياً. وقد منعت تجارة الأفيون وعوقب تدخينه. وفي مجتمع إقطاعي، لم يكن فيه للنساء أية حقوق، منع ثوار تايبنج الدعارة، كما منعوا وضع أقدام النساء في أحذية حديدية أو شراء النساء وبيعهن للزواج. وأخيراً رفضوا الاعتراف بأي امتياز خاص من الامتيازات الكثيرة والمجحفة، التي كانت الدول الأجنبية قد انتزعتها من الأسرة المالكة.
إننا نرى أهمية هذه الأهداف أو الشعارات السياسية التي أطلقت في المجتمع الصيني لأول مرة والتي ستأخذها فيما بعد الحركة الوطنية الديمقراطية على عاتقها. وبالرغم ما لهذه الانتفاضة الشعبية من أهمية تاريخية، إلاّ أنها في الحقيقة بقيت انتفاضة عفوية. ونظراً للظروف السياسية والاجتماعية في ذلك الوقت، فلم تستطع أن تعمّر طويلاً وتقف في وجه خصومها العديدين، سواء في الداخل أم في الخارج.
وهكذا استطاعت الأسرة المالكة، بمساعدة نبلاء الأرض الذين أرعبتهم الشعارات الإصلاحية لدولة تايبنج، وبالدعم الأجنبي الذي ألقى بثقله في السنوات الأخيرة ـــــ أن تقضي على هذه الثورة وتضع حدّاً للعدوى التي كان من الممكن أن تحدثها في المناطق الأخرى.
في هذا الجو أيضاً اتخذت القوات البريطانية، من استيلاء السلطات الصينية على سفينة ترفع العلم البريطاني والتي كانت تقوم بنقل كميات كبيرة من الأفيون إلى الصين، اتخذت ذلك ذريعة لتقوم بحربها ضد الصين. وقد انضمت إليها، فيما بعد، القوات الفرنسية. وكانت هذه هي حرب الأفيون الثانية.
ومرة أخرى استسلمت السلطة المالكة، وفي عام 1858 رضخت للمطالب الآتية: دفع تعويض حربي، الاعتراف بشرعية تجارة الأفيون ونشاطات الإرساليات التبشيرية، وفتح موانئ عديدة جديدة للاستيطان تحت الإدارة الأجنبية، واستمرار الإشراف الأجنبي على الجمارك والتعرفة الجمركية.
ومع أنّ روسيا القيصرية والولايات المتحدة الأميركية، لم تشتركا في هذه الحرب إلاّ أنهما أسرعتا بحجُّة ما يتمتعان به من امتيازات خاصة، وأسرعتا على توقيع معاهدات مماثلة.
* * *
وهكذا فقد استمر الاستيراد القانوني للأفيون حتى عام 1917. وبقيت تعريفة الاستيراد (5%) على البضائع الأجنبية سارية المفعول ولم تلغ إلاّ في عام 1928. وظلت الحماية الممنوحة للرعايا الأجانب في الصين قانونية حتى عام 1942، ولكن من الناحية الفعلية، لم يطبق القانون الصيني مطلقاً على الأجانب حتى تحرير الصين سنة 1949.
* * *
ملحوظة: هذا المقال، للأسف، لم يُنشر في جريدة "المحرر" اللبنانية ولم تُكتب المقالات التالية وذلك في شهر شباط 1972، لداعي السفر إلى فرنسا المتابعة الدراسة.... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) - التواريخ والأرقام وبعض المعلومات التي اعتمد عليها هذا المقال هي من كتاب: "مولد الصين الشعبية"، بقلم أ. أنشتاين. ترجمة حسن أمام. الدار المصرية. نيسان (إبريل) عام 1957، القاهرة.