السياسة التربوية والمناهج التعليمية في لبنان
ندوات /
تربوية /
1989-03-12
12 آذار 1989
أنهى "المركز الثقافي للبحوث والتوثيق" في صيدا سلسلة ندواته التربوية في ثلاثة أيام متتالية. الندوة الأولى تحت عنوان: "السياسة التربوية والمناهج التعليمية في لبنان: في الماضي والمستقبل"، قدّمها رئيس دائرة التعليم الرسمي في وزارة التربية الأستاذ إلياس مرعي وقدّم المحاضرة وأدار النقاش رئيس المركز الثقافي الدكتور مصطفى دندشلي. والندوة الثانية كان موضوعها:"الواقع التربوي في لبنان، من خلال المفاهيم المعاصرة". شارك فيها الدكتور عبد الأمير شمس الدين والدكتور نمر شرّي، من أساتذة الجامعة اللبنانية، وقدّمها رئيس مؤسسسة الحريري في بيروت الأستاذ مصطفى الزعتري. والندوة الأخيرة كان عنوانها:"المشاكل التربوية في صيدا والجنوب"، حاضر فيها رئيس دائرة التربية في الجنوب وأدار النقاش الدكتور محمد علي مقلّد، وذلك في قاعة محاضرات جمعية دار رعاية اليتيم وحضور جمهور كبير من فاعليات صيدا والجنوب التربوية والثقافية والاجتماعية.
كلمة الافتتاح
إفتتح الدكتور مصطفى دندشلي الندوة الأولى بكلمة ركز فيها على علاقة التربية والتعليم بالواقع الاجتماعي ومدى التفاعل والتأثير والتاثر بينهما وقال: إن وظيفة التربية والتعليم يجب أن تحدد انطلاقاً من الواقع الاجتماعي والحضاري والتاريخي والتطور الاقتصادي للبلد الذي تُطبَّق فيه. وإن أي منهاج تربوي يجب أن يلبّي حاجات الواقع الاجتماعية: المادية والثقافية والروحية، وحاجات البلد في التنمية والتقدم، في حين أننا نجد بأن سياسة الدولة اللبنانية منذ ما قبل الاستقلال وبعده لا تنطلق من معطيات أو حاجات تربوية للبنان بقدر ما كانت تتحكم فيها الخلفيات السياسية والطائفية بشكل خاص. فالأزمة التربوية والثقافية وبالتالي الاجتماعية العامة التي نتخبط فيها إنما مصدرها هذا التناقض الواضح بين المنهاج التربوي والتعليمي وبين الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي نعيشه. من هنا إمكانيات ضخمة لأجيال متعاقبة كان قد هُدر معظمها ولم تعط مردوداً يتناسب مع الجهد الذي بُذل. وهنا أيضاً كانت ولا تزال تكمن جذور الأزمة الحقيقية في النظام التربوي والتعليمي المطبق في لبنان.
إلياس مرعي
في مداخلاته الشاملة التي اعتمد فيها على النصوص الوثائقية والدراسات وعلى الممارسة العلمية. حصر الأستاذ إلياس مرعي كلامه في محطات بارزة توضح بعض معالم السياسة التربوية والمناهج التعليمية في لبنان، التي شكلت ـ هذه المحطات ـ خطاً سياسياً متواصلاً بفعل استمرارية النفوذ الأجنبي في مختلف الظروف والعهود وبأشكال متعددة منذ العهد العثماني ثم في عهد الانتداب الفرنسي وحتى الاستقلال وبعده. واعتبر الأستاذ مرعي " أن الخط العام للتشريع في المجال التربوي كان متواصلاً متكاملاً عَبر عدة عهود: فمنذ عهد الامبراطورية العثمانية والتركيز على حرية التعليم وعلى استقلال المؤسسات التربوية وعلى حماية حقوق الطوائف والمذاهب بإنشاء مدارسها الخاصة. هذا النهج التشريعي دستورياً وقانونياً هو في أساس وضع الفواصل والحدود بين فئات الشعب، وكان التمسك به والإصرار عليه سياسة ثابتة يلتزم بها في كل مناسبة من أجل تركيز الفواصل وتعميق الفوارق بين فئات الشعب."
الندوة الثانية
قدّم الأستاذ مصطفى الزعتري الندوة الثانية بمداخلة مقتضبة أشار فيها إلى أنّ التربية المعاصرة شُغلت بقضايا عديدة خلال العقدين الأخيرين أهمها: التخطيط التربوي وذلك من أجل تلبية احتياجات المجتمع من الناحية الكمية والنوعية، وإدخال العمل في التعليم واستخدام الوسائل السمعية البصرية ومختبرات اللغات وإدخال الحاسبات الإلكترونية في التعليم وتطوير المناهج للحاق بركب التطور الصناعي والتركيز في الدول الصناعية على إعداد الأطر الوسطى في المهن والإدارة. وأبرز الأستاذ الزعتري في حديثه عن الواقع التربوي في لبنان مدى تأثره بأحداث الحرب وما نشأ عن ذلك من مشكلات كبيرة ومستعصية في جسم الهيئة التعليمية والمدارس وأبنيتها وتجهيزاتها والتهجير السكاني وقدم المناهج وتدني مستوى التعليم وما كان للتدهور الاقتصادي من انعكاس في دفع الأساتذة إلى التمنع في احتراف المهنة وهجرتهم إلى الخارج خاصة في الجسم الجامعي.
د.شمس الدين
يؤكد الدكتور عبد الأمير شمس الدين في مقدمة مداخلته عن أن العملية التربوية هي الموجهة والفاعلة في المجتمع وهي ظاهرة إنسانية كاللغة والثقافة والحضارة والفن والأدب وهي عملية ديناميكية تصف بالوعي والغائية، مصدرها وموضوعها وغايتها الإنسان. ثم يتحدث تفصيلاً عن الأركان الثلاثة التي تتقاسم العملية التربوية قيما بينها وتتعاون متكاملة وهي المجتمع والأسرة والمدرسة. وقال: إن لكل نظام اجتماعي عدّته التربوية . والعدّة التربوية تتحدّد في السلطة السياسية والتنظيم والهيئات والمؤسسات، والقيم الثقافية والمعتقدات السائدة في المجتمع، منها النظري والعلمي، ومنها المادي والروحي، منها السياسي والاقتصادي. فينسج المجتمع من كل ذلك بنيته التربوية: فالمجتمع والتربية صنوان لا يفترقان. لا وجود لأحد من دون الآخر. وإذا كانت الأسرة هي المؤسسة الطبيعية أو الخلية التي تمد المجتمع بمقومات بقائه وبعناصر تجديده وتطويره، إلاّ أنَّ المجتمع يعود ويعمل على مشاركته لها في هذا الدور عن طريق وسائل الإعلام والمؤسسات الضاغطة الأخرى. فتتخلى الأسرة طائعة أو مكرهة عن أهم أدوارها ووظائفها لتتحول إلى أداة يضمها المجتمع إلى عدته التربوية. والمدرسة تلك المؤسسة الاصطناعية التي ابتدعها المجتمع لتكون أمضى أداة وأفضل بيئة ليغرس في الناشئة الطبيعة الثانية أو الطبيعة الاجتماعية. وهكذا يكون شأن المجتمع في العملية التربوية وفي نظامه التربوي شأنه في أنظمته الأخرى سياسية كانت أو اقتصادية، ويصيغها على شاكلته. والمجتمع بطبيعته محافظ. ويتم الدكتور شمس الدين كلمته بالإشارة إلى ظاهرتين سائدتين في المجتمع اللبناني: الأولى وهي عدم الإقدام في مختلف العهود على أي تغيير أو إصلاح في النظام التعليمي أو التربوي في لبنان، لما يترتب على أي تغيير قد يحصل في بنية المجتمع ونظامه. والظاهرة الثانية هي الانفصال والانفصام، أو التقطع والتقاطع القائمين في بنية النظام التربوي والتعليمي في لبنان. فليس من المستغرب أن نعاني من غربة وفرقة وتفكك وتمزق وتناحر لأن هكذا نظام تربوي وتعليمي من الطبيعي أن ينبثق عن هكذا مجتمع سياسياً واجتماعياً وثقافياً...
الدكتور شِرّي
ركزالدكتور نمر شرّي في كلمته على الواقع التربوي في لبنان ولفت إلى سلبيات كثيرة ما زالت فاعلة في السياسة التربوية وذلك نتيجة عاملين: الأول غياب سلطة الإدارة ورقابتها وعدم اهتمامها بتطور سياسة التعليم. والثاني: حدوث تغيّر عفوي نتج عن ازدياد سيطرة ونفوذ التعليم الخاص على حساب التعليم الرسمي. ولعل إعطاء الامتيازات الخاصة للطوائف في النظام السياسي والاجتماعي، أدّى إلى تقرير وإثبات ثقافة كل منها من خلال الجمعيات الدينية والمدارس الخاصة التابعة لها ...
وذكر الدكتور شِرّي ما اتسمت به السياسة التربوية من الازدواجية بين التعليم الخاص والتعليم الرسمي وسيطرة المؤسسات التعليمية الخاصة وانعدام التخطيط التربوي الهادف إلى تأمين ديمقراطية التعليم وتحقيق تكافؤ الفرص التعليمية وثبات المناهج التبعيّة التقليدية وعملية التعليم النظري كمّاً ونوعاً على التعليم المهني والتقني وأخيراً قلّة كفاءة المعلم التربوية بالإضافة إلى سوء أوضاعه المعيشية. واعتبر المحاضر أن أخطر ما يواجهه النظام التربوي هو التجزئة الاجتماعية والطبقة أو الطبقات المستفيدة من هذه التجزئة ويعود ذلك إلى الصراع اللا توافقي بين تغريب الثقافة وتعريبها.
وفي ختام حديثه قدم الدكتور شرّي توصية وهي إنشاء لجنة إصلاح تربوي من المناطق تضم أخصائيين في التربية والاجتماع وعلم النفس ومن ذوي الخبرة الطويلة في مجال التربية والتعليم غايتها الأساسية تقديم توصيات موسعة وشاملة في هذا المجال.
الندوة الثالثة
وفي الندوة الثالثة والأخيرة تحدث الدكتور رضا سعادة عن مشاكل التربية والتعليم الرسمي في صيدا والجنوب. وقد حددها في مشكلة تاريخ ومشكلة هدف ومشكلة واقع وتخطيط . من الناحية التاريخية استعرض الدكتور سعادة تطور مراحل التربية والتعليم من الحكم العثماني إلى مرحلة الاستقلال مروراً بعهد الانتداب الفرنسي في لبنان. والتغيير في النظام التربوي والتعليمي إما أن يحصل بالتطور التدريجي الطبيعي وإما بالتغيير الإصلاحي والثوري. لاهذا حدث ولا ذاك وأشكال التقدم التي حصلت أو النبوغ، لا تعود كونها فردية أو مبنية على جهد الخاص. ومن ناحية هدف النظام التربوي في لبنان فقد أكد المحاضر على أنه في أحسن الحالات الأهداف كانت أهدافاً خاصة وفردية دون توجه وطني اجتماعي. وفي غياب الهدف التربوي يغيب التخطيط أيضاً.
أما مشاكل الواقع التربوي والتعليمي فهي كثيرة وأكثر مما تحصى كما قال الدكتور سعادة الذي أضاف: هناك مشاكل الأبنية المدرسية والتجهيزات والجهاز الإداري والتعليمي والأكلاف الباهظة التي تذهب هدراً وأعطى مثالاً على ذلك وهو وجود مدرسة فيها معلم لكل تلميذ. فيكلف التلميذ الدولة في السنة 600,000 ل.ل. ويكون هذا التلميذ فاشلاً. يضاف إلى ذلك أيضاً أن هناك مئات بل آلاف المعلمين غير عاملين (تهجير، أسباب أمنية، فائض...). إن معلمي التربية الرياضية في الجنوب يصل عددهم إلى السبعين (70) نصفهم في مدينة صيدا لوحدها وهم فيها لا يقومون بأي عمل يذكر .... وهناك عدم الانضباط المرتبط بعدم الانضباط العام ابتداءً برأس الحكم مروراً بالدولة وانتهاءً بأصغر عامل. فالحل إذا كان هناك من حل لا يمكن أن يأتي إلاّ عن طريق الإصلاح التربوي المرتبط بالإصلاح السياسي المتعلق بعودة الدولة .
* * *