السفير - خلفيات التفرقة والوهن لدى العرب في العالم المعاصر(3)
إعلام وصحافة /
فكرية /
2010-11-03
الاربعاء 3-11-2010
خلفيات التفرقة والوهن لدى العرب في العالم المعاصر (3)
جورج قرم
إشكالية فصل الحيِّز الديني والروحي عن الحيِّز الزمني
أصبح التقوقع على الهوية الدينية، أكثر تحجُّراً كونه الملجأ الأخير لهوية عروبية حضارية مفقودة، وبسبب الارتدادات التي خلقها استيراد إشكالية الفصل بين الروحي والزمني الأوروبية الطابع في المجادلات حول الهوية المجتمعية للعرب. وهذه الإشكالية التي تطوّرت من وراء خصوصية تاريخ الكنيسة الرومانية في أوروبا التي كانت قد سيطرت على جميع أنواع وأشكال السلطات الزمنية لا تمت بصلة إلى التاريخ العربي حيث لا كنيسة في الإسلام، والإشكالية العربية الصحيحة في مجال علاقة الأمور الدينية بالأمور السياسية تكمن في التأسيس التام لحرية الاجتهاد وحرية التعامل مع النصوص الدينية الطابع، وهي أم الحريات التي منها تتفرّع كل الحريات الأخرى.
وفي هذا الخصوص، لا بدَّ من الإشارة إلى الإشكالية المفتعَلة التي يتخبَّط فيها العديد من المثقفين العرب منذ عقود من دون جدوى، وهي إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام التي أصبحت تسجن الفكر في حلقة مفرغة متكررة ورتيبة. ذلك أنَّ مجرد طرح مثل هذه الإشكالية يفتح الباب أمام تناقض مفتعل بين الانتماء الدنيوي الطبيعي للشعوب العربية إلى حيِّز لغوي وثقافي وتاريخي مشترك من جهة، والإيمان الديني والعقيدة الروحية التي هي بطبيعة الحال الإسلام لدى غالبية العرب، من جهة أخرى؛ إنَّما المهم هنا ليس تأكيد شخصية إسلامية باستمرار كنقيض للشخصية اليهودية - المسيحية التي يدّعيها الغرب اليوم، بلْ المهم تأكيد حرية الاجتهاد كما ذكرت، وبالتالي قبول تعددية المذاهب الإسلامية وليس استهجانها أو اتهام البعض منها بالكفر والهرطقة، مما يكرّس أوضاعاً طائفية متوترة، بلْ متفجِّرة في أقطار عديدة من الوطن العربي كما تشهده الحال بكل وضوح في العراق بشكل خاص وفي لبنان وفي أقطار أخرى تتعايش فيها مذاهب إسلامية مختلفة.
والجدير بالذكر في هذه القضايا، أنَّ الدولة الإسلامية كانت تاريخياً دولة مدنية يحكمها مدنيون، وإن كانت تستمد قدرتها وشرعيتها من المبادئ الأخلاقية الإسلامية الجديدة. وفي معظم الأحيان كانت فئة العلماء والمراجع الدينية خاضعة للسلطة المدنية على خلاف التاريخ الأوروبي المسيحي حيث كان الإكليروس المسيحي مهيمناً على السلطات السياسية المدنية. ولا بد هنا من الإشارة إلى أنَّه في المئتيْ سنة الماضية، قد تمّ تحديث جميع الأنظمة القانونية في العالم العربي، مع استئناءات قليلة مثل وضع المملكة العربية السعودية والسودان، بحيث أصبحت الشريعة الإسلامية تسود بشكل رئيسي في ميادين محصورة مثل الأحوال الشخصية، وهي مختلفة بين مذهب إسلامي وآخر. إنَّ سعيْ البعض من الأنظمة العربية إلى تقوية موقع الشريعة الإسلامية، أو الادعاء بالحكم السياسي حسب نص القرآن الكريم، ليس إلاَّ نتيجة الوقوع في الإشكالية السلبية التي تطرح كقضية أولى في الوجدان العربي ضرورة العودة إلى الأصالة والابتعاد عن الحداثة، كونها حداثة مسيحية غربية، وذلك في سعي إلى تعزيز شرعية حكم ناقصة أساساً في العديد من الأقطار العربية.
أما العلاقة بين العروبة والإسلام فلا مشكلة فيها، لأن الروحانيات والعقيدة الدينية لأغلبية العرب مستمدة من التنزيل الإلهي الذي تجسَّد في القرآن الكريم، لكنَّ هذا لا يجعل من العرب كتلة غير متميّزة حضارياً ولغوياً وتاريخياً عن سائر الشعوب التي تدين بالإسلام كدين، وكل واحد منها له تاريخه وحضارته ولغته الخاصة، بدايةً من تركيا والشعوب الناطقة باللغة التركية وانتهاءً بمسلمي تايلندا والفيليبين ومروراً بالشعوب الناطقة باللغة العجمية أو إحدى اللغات المتفرِّعة عنها. وإذا اعتمدنا معيار قومية إسلامية لتثبيت الوجدان العربي، فإنَّ الشعوب العربية تذوب في كتلة بشرية تعدادها مليار ونصف مليار من البشر ذوي الأهواء والخصائص القومية والحضارية المختلفة، وهذا ما يؤبِّد وضع العرب، وهم أقلية في هذه الكتلة، كشعب هامشي لا دور له في صناعة التاريخ.
نحو نظام إدراكي ومعرفي عربي
لن أطيل الحديث هنا لتبرير ضرورة بناء منظومة إدراكية معرفية متكيِّفة مع التحديات التي نجابهها كعرب. فقد كتبْتُ العديد من الدراسات والمقالات في هذا الخصوص، وآخرها بمناسبة ذكرى المثقف الكبير عبد الله عبد الدائم الذي كان يدعو باستمرار إلى تطوير مثل هذه المنظومة الثقافية والمعرفية الكبيرة. ولكنَّ نجاح هذه الدعوة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمل لتحقيق الشروط الآنفة الذكر ضمن إطار الإيمان بوحدة التاريخ والمصير للمجتمعات العربية المختلفة، وضرورة إطلاق حركة نهضوية جديدة تعيد التواصل بنهضة القرن التاسع عشر التي محِيَت من الذاكرة، وتعيد كذلك التواصل مع العبقرية العربية التي بنت إحدى الحضارات الكبيرة في العالم، وهي الحضارة الإسلامية التي اشتُهِرَت بقدرتها على الإبداع في جميع المجالات العلمية والأدبية والفنية، وعلى التفاعل مع الحضارات الأخرى المجاورة، البيزنطية والعجمية والفرنجية والهندية، واستيعابها واكتساب معارفها وتوطينها. وهي اشتُهِرَت كذلك بقبول التعددية العرقية والدينية والمذهبية. وقد لعب كل من الخلافة الأندلسية والعباسية دوراً طليعياً في إرساء مقوِّمات تلك الحضارة التي أصبحت اليوم من الماضي بعد أن اختلفت كل الظروف والأزمنة، كما يقول ابن خلدون. فعلينا أن نعيد بناء شخصيتنا العربية ونظامنا الإدراكي ومعارفنا على ضوء كل التطورات التي حصلت وألاَّ نضيِّع الجهود في مسعى تخيُّلي إلى العودة إلى أولى حقبات ظهور الإسلام كما يفعله الفكر الأصولي المتشدد.
ومن أجل ذلك، لا بدَّ من النظر إلى قضيتيْن رئيسيتيْن، إحداهما تتعلق بما تحتاج إليه أنظمتنا التربوية من إعادة نظر شاملة، سواءً في المناهج أو في طرق إدارتها؛ والأخرى تتجسَّد في ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية التي أصبحت مفقودة تماماً من المحيط إلى الخليج كما تم ذكره سابقاً. وإذا كانت القضية التربوية مدار دراسات عديدة بما فيها دراسات حول طرق استيطان العلم والمعرفة والتقنيات في المجتمع العربي، فإنَّ قضية انعدام العدالة في توزيع الثروات والمداخيل قد أصبحت غائبة تماماً عن المشهد الفكري العربي، وذلك بعد أن اجتاحت موجة النيوليبرالية العربية تعليم الاقتصاد في جامعاتنا العربية أو بعد أن درس الجيل الشاب من العرب في الجامعات الاميركية والأوروبية مبادئ النيو ليبرالية وتعلَّق بها. فاللُّحمة المجتمعية لا يمكن أن تتحقق فقط عبر التعليم والنهضة الثقافية، إنَّما يجب أن تكون مستندة إلى آليات عادلة في توزيع الدخل بين كل الفئات الاجتماعية. وفي هذا الخصوص، لا بدَّ من التذكير بالوضع التناقضي الفضائحي في سائر المجتمعات العربية حيث نرى معدلات بطالة عالية للغاية عند العنصر الشاب، وبشكل خاص المتخرّج من جامعاتنا، ممّا يسبب نسبة هجرة أدمغة أعلى من أي بلد آخر. هذا يعني أننا في وضع نزيف بشري يحول بدوره دون بناء المنظومة الإدراكية والمعرفية العربية.
إنَّ المستقبل العربي مجهول وغامض وملتبس. لا أحد يعلم من المحيط إلى الخليج، إلى أين نحن سائرون ولماذا نبقى بهذه الحالة من التشتت والتمزق وفقدان العدل والتنمية في جميع أوجهها. ومرد ذلك في نظرنا إلى غياب المنظومة المعرفية والإدراكية الجامعة، المتكيِّفة مع التحديات الموصوفة هنا، والمعالِجة لأسباب الإحباط والوجدان المشرذم والمتناقض بين اتجاهات متناقضة. وفي استمرار غياب بناء المعرفة والإدراك السليم وأنظمة قيمية تستوعب تحديات العصر وتستعيد عبقرية الماضي المنسية، فليس لدينا أية إمكانية لتحديد أهداف يجتمع حولها العرب، قطرياً كما قومياً، لإعادة إثبات وجودهم التاريخي وإعادة تكوين حضارتهم الخاصة بهم. ومن الواضح أنَّ المجتمعات العربية بمعظم شرائحها تعيش اليوم في غياب مثل هذه الأهداف، وهذا ما فجّر الحركات التكفيرية التي تمارس العنف الأعمى في مواقع عديدة من الوطن العربي ضد المواطنين العرب الأبرياء، أكثر مما تمارسه ضد المحتلين الغزاة.
وفي المقابل، هناك نقاط مضيئة من المقاومة الفعّالة للهيمنة الأميركية ـ الصهيونية الاستبدادية على المنطقة، في فلسطين كما في لبنان، والمتجسِّدة في حركتيْ حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين، اللتيْن تحظيان بمؤازرة القطر العربي السوري والحليف الإيراني وأجزاء واسعة من الرأي العام العربي، وهما حركتان ذواتا أبعاد عديدة عقائدياً، إذْ يتوجّه خطابهما، سواءً على المستوى القطري أو القومي أو العربي أو الإسلامي.
وعلينا أن نساند تينك الحركتيْن، ليس فقط نظراً لفعاليتهما وإصرارهما على مجابهة المحور الأميركي - الصهيوني، وإعادة الكرامة إلى المواطن العربي، بل أيضاً لكيْ نساهم في خلق البيئة الفكرية التي يمكن أن تنصهر فيها مستقبلاً هاتان الحركتان لكيْ تتمكنا من تعميم روح المقاومة مهما كانت دوافعها العقائدية. وأعني بذلك بناء هذه المنظومة المعرفية والنظام الإدراكي والقيَمي المطلوب منه القضاء على أسباب التفرقة والفتنة بين العرب، وهي عديدة وفتّاكة.
وعلينا أيضاً جميعاً التعاضد في إرساء دعائم الحوار الفكري البنَّاء لأنَّ أزمة العجز العربي الفاضح خلال الثلاثين سنة الأخيرة ليست إلاَّ انعكاساً لأزمة فكر عميقة، ناتجة عن التطورات الدراماتيكية المتلاحقة على مسيرة مجتمعاتنا خلال القرنيْن الماضييْن.
وحبذا لو نصل إلى الوعيْ الكافي لخطورة استمرار مثل هذه الأزمة، فنعالجها بالجدية المطلوبة كيْ لا نستمر على طريق الوهن والخضوع إلى إرادة الآخرين الأقوياء.
إقرأ للكاتب نفسه
• خلفيات التفرقة والوهن لدى العرب في العالم المعاصر (2) 02/11/2010
• خلفيات التفرقة والوهن لدى العرب في العالم المعاصر (1) 01/11/2010