مقتطفات من الملتقى الثقافيّ الخامس
لقاءات /
ثقافية /
2005-04-20
كلمة التقديم ( )
الدكتور مصطفى دندشلي
[...] إنَّ السؤال المطروح علينا للنقاش والحوار في هذا الملتقى الثقافيّ هو التالي : هل للثقافة ، بمعنى حركة الفكر والعلم والعقل ، وبالتالي هل للمثقّف المتخصّص في مجاله ، من دور أساسيّ في إعادة بناء الدولة في لبنان ، وإرساء قواعد وأسس لتأسيس الدولة الحديثة العصريّة، دولة القانون وحقوق الإنسان ؟... وكيف يمكن أن يتمَّ ذلك ، وأن يلعب المثقّف هذا الدور عملياً ؟... وما هو مجاله في ظروفنا الراهنة ، حقيقة ؟... وهل سيُسمح للثقافة أو بالأحرى للمثقّف من أن يلعب هذا الدور الفكريّ النقديّ ، ويمارسه بحريّة وموضوعية وتجرّد ؟... وما هي العقبات التي تواجهه في تحقيق مهمته الملقاة على عاتقه ؟... إنَّ طرح السؤال بهذه الصيغة يأخذ كلّ أهميته في الظرف الراهن، خصوصاً وكما نعلم جميعاً أنّ حالةً من اليأس والقنوط تخيّم علينا جميعاً وتمنع الواحد منّا ، أو تمنعنا كجماعة من أن نتحرك في هذه الظروف القاسية والصعبة . لذلك فإنّ الواحد منّا يشعر وكأن هناك عجزاً داخلياً ، وكأنّ الظروف المحيطة بنا هي أقوى منّا أفراداً وجماعات : قوى سياسيّة ومؤسّسات اقتصاديّة وماليّة ، داخليّة وخارجيّة ، هي أقوى من الدولة ومن الحكومات... في هذا الجوّ يتولد ، وهذا شيء طبيعيّ ، حالة من القنوط أو كما نقول حالة من الإحباط ...
هنا ، وفي هذه المرحلة ، فإنّنا نعتقد ، نحن في حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، كمجموعة قليلة ، كنواة من المثقّفين ، نعتقد ، ولدينا القناعة ، بأنّ ها هنا ، وفي هذا الظرف بالذات يكمن دورنا ، دور المثقّف ... إنَّ دور الثقافة ودور المثقّفين إنّما هو ، في الحقيقة وواقع الأمر ، في مرحلة الأزمات حيث الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ يتعرّى ، ونرى الأشياء كما هي ، والعلاقات الاجتماعيّة واضحة ، وعلى حقيقتها ... فليس هناك من مُستخبّى ، كلّ الأمور مكشوفة . هنا أهميّة المفكر كي يرى الأمور على حقيقتها ويحللها ويقدّم الحلول أقلَّه النظريّة لها ، لتجاوزها ...
ولكن هل سيُسمح للثقافة أو بالأحرى للمثقّف من أن يلعب هذا الدور الفكريّ النقديّ ، ويمارسه بحريّة وموضوعيّة وتجرّد ؟ سؤال مطروح ... ولكن ، نحن في حركة الحوار نقول ، وأنا شخصياً أردّد ، بأنّ ليس هناك مَن يسمح لأحد ، ولم نعرف في التاريخ أبداً أنَّ مَن في السلطة ، قد سمح لأيّ كان بأن يمارس النقد وحريّة الرأي والقول ، وسمح للمعارضة بأن تقوم بعملها على خير وجه ، خصوصاً في عالمنا الثالث... فلا نعتقد ولا يجوز أن يعتقدنّ الواحد منّا أن السلطات الحاكمة، أيّ سلطات كانت ، ومهما كانت وعلى مختلف المستويات ، ستسمح لك أن تمارس حريّة العمل الثقافيّ أو الوطنيّ . إنّما السؤال المطروح هو عكس ذلك : هل نحن نستطيع أن نأخذ دورنا وأن نلعبه ، بجديّة وبإخلاص ؟!... هذا هو السؤال .
حركة الحـوار الديمقراطيّ في لبنان هي نـواة تجمّع مجموعة من المثقّفين الملتزمين ، الملتزمين بالواقع الاجتماعيّ والوطنيّ والفكريّ ، ملتزمين بعملية تغيير هذا الواقع ، تغيير هذه الظروف الاجتماعيّة ، بعد فهمها واستيعابها بوعي وإدراك ، وتعْميم هذا الوعي على الرأي العام ، وتقديم الحلول لها ، أقلّه الحلول النظريّة ...
اختيارنا لهذا الموضوع، الدولة في لبنان، وكيفيّة إعادة بنائها من جديد وعلى أسس حديثة: إنّنا ندرك أنّه موضوع شائك ، صعب ، يحتاج إلى ملتقيات ثقافيّة متعدّدة ومتنوّعة وإلى مشاركة تخصّصات متنوّعة أيضاً وإلى جهود فكريّة مختلفة حتى نستطيع فعلاً أن نوضّح الرؤية بصورة معقولة ...
الدولة ، بمعنى من المعاني ، هي تراث أمّة من الأمم ، شعب من الشعوب . هي تراث مجتمع من المجتمعات في تطوّره وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة أخرى . إذا أردنا حقيقة أن ندرس تطوّر المجتمعات والشعوب ، فإنّنا نستطيع أن نكوّن فكرة ونلمس هذه التطورات ، من خلال دراستنا تكوين الدولة ، وظروف تكوينها وتأسيسها ، والعوامل الداخليّة والخارجيّة التي أثّرت فيها ...
هنا ، على الصعيد النظريّ ، يُطرح سؤال : هل دُرست الدولة اللبنانيّة دراسة علميّة ، اجتماعيّة ـ سياسيّة ، ميدانيّة من مختلف الجوانب ، وكيف تكوّنت وكيف تأسّست ؟... في ما يبدو ، حول هذا الموضوع بالذات ، فإنّ الدراسات قليلة جداً أو نادرة ... طبعاً الدولة اللبنانيّة في ما يتعلق بالجانب الإداريّ ـ والجانب الحقوقيّ الدستوريّ ـ هناك أخصّائيون لبنانيون ، يعرفون بذكاء كبير وبعمق ، تطوّر الدولة اللبنانيّة على هـذا الصعيد الدستوريّ والصعيد الإداريّ ... ولكن السؤال المطروح : هل هناك دراسات وأبحاث حول تكوين الدولة اللبنانيّة وقيامها وبنائها من ناحية التاريخ السياسيّ ـ الاجتماعيّ ؟!... بمعنى آخر ، كيف يمكن أن نحدّد العلاقـة بين الدولة والمجتمع في لبنان ؟... كيف يمكن، بكلمة أوضح، أن نحدّد العلاقة بين المجتمع في جبل لبنان في زمن القائمقاميّة والمتصرفيّة وقيام دولة لبنان الكبير عام 1920 .. ماذا أخذت هذه الدولة " الحديثة " من المجتمع اللبنانيّ التقليديّ السابق ؟!...
نحن نعلم بأن ركائز المجتمع في جبل لبنان آنذاك ، كانت تقوم على أساس القوى الاجتماعيّة التقليديّة ، العشائريّة ، أمراء الإقطاع ، والعلاقات الطائفيّة والمذهبيّة ... هذه الظواهر الاجتماعيّة ، وهذه العلاقات الاجتماعيّة ـ الطائفيّة انتقلت إلى الدولة اللبنانيّة الحديثة عند قيامها وتكوينها عام 1920 ، بعد أن أضيفت إلى المجتمع في جبل لبنان ، الأقضية الأربعة والمدن الساحليّة أيضاً ...
أشير إلى ذلك فقط للتذكير وإثارة الموضوع للنقاش والحوار ـ فهذا هو موضوعنا ـ ولإبداء الآراء حوله ، إذ ليس هناك من رأي أو موقفٍ محدَّد حول هذه الإشكاليّات ... فالساحل كان مجتمعاً تجارياً ، البرجوازيّة التجاريّة كانت برجوازيّة في طور التكوين والنموّ وفي مجتمع خدماتيّ ، منفتح على الغرب وخصوصاً فرنسا . فما حصل عام 1920 ، وفي دستور 1926 ، إنّما هو دمج مجتمعين : مجتمع تقليديّ من جهة ومجتمع حديث على النمط الأوروبيّ ، تجاريّ خدماتيّ من جهة أخرى ، فتكوّنت عام 1920 وعام 1926 هيكليّة الدولة الحديثة اللبنانيّة وأُطرها السياسيّة ، بمساندة فرنسا التي أصبحت في ما بعد الدولة المنتدبة ... فوُجد دستور للبلاد ، وقامت إدارة حديثة ، وجيش وشرطة ومؤسّسات للدولة ، تربويّة ، اجتماعيّة ، اقتصاديّة، إلخ... منفتحة على الغرب وتابعة له...
فقد أخذنا ظاهرياً جميع مظاهر الدولة الحديثة العصريّة ، هيكليّة الدولة الحديثة ، ولكن المجتمع في مضمونه ومحتواه ، الواقع الاجتماعيّ للبلد والذي بنيت عليه الدولة اللبنانيّة ، إنّما هو واقع المجتمع التقليديّ القديم ...
هذه هي محاولة منّي فقط لطرح عناصر الموضوع على بساط البحث وإبداء الرأي ، وإثارة النقاش والحوار حوله ..[...]
* * *
إدارة الجلسة
الدكتور مصطفى دندشلي
... أودّ أن أعقّب على ما ورد في مضمون المداخلات ، التي في الواقع لفتت أنظارنا إلى جانب من جوانب سياسة الدولة العامة ( ). وهي سياسة عامة في الحقيقة لا يعلمها المثقّف وحده أو المتعلم وحسب ، وإنّما أصبحت الآن في شتّى عيوبها ومساوئها وفي مختلف المستويات ، يلوك بها ويحسّها ويعيشها يومياً كلّ إنسان في هذا البلد ، المتعلم وغير المتعلم ... إنّ مساوئ نظامنا السياسيّ والإداريّ والاقتصاديّ والتربويّ ... إلخ ... في دولتنا اللبنانيّة منذ تأسيسها حتى الآن ، إنّما هي مساوئ وعيوب لا تُخفى على أحد .
من هنا طرح السؤال ، فكان عنواناً لهذا الملتقى الثقافيّ : الثقافة وبناء الدولة الحديثة والمعاصرة في لبنان ، فهو إن دلّ على شيء ، فإنّما يدلّ على أنّ فيه تشكيك بوجود الدولة الحديثة وقيامها في لبنان ... طالما أنّ التساؤل مطروح حول كيفيّة بناء الدولة الحديثة وإشكاليّتها في بلدنا ... وهذا ليس بتساؤل جديد يطرح اليوم ، وإنّما هو تساؤل يطرحه الجميع ومنذ زمن بعيد ، يُطرح من قِبَل السياسيّين وغير السياسيّين ، من قِبَل المثقّفين وغير المثقّفين ... الجميع يدعو ويلحّ في القول بأنه يجب علينا أن نعود ونبني الدولة الحديثة المعاصرة ... بمعنى أنّنا في مرحلة سبعين سنة، أو خمسين سنة ، منذ الاستقلال حتى اليوم ، لم نستطع ـ لأسباب عديدة ، داخليّة وخارجيّة ، وتكوينة النظام السياسيّ في البلد وبنيته السياسيّة والاجتماعيّة والطائفيّة ..إلخ..الخ.. لتركيبة المجتمع اللبنانيّ ذاته ـ لم نستطع ، للأسف ، أن نبني هذه الدولة الحديثة المعاصرة ... لماذا ؟...هذا هو السؤال الملحاح ؟.. والإجابة عنه مسؤوليّة الجميع ...
هنا كذلك مسؤوليتنا ، مسؤوليّة المثقّف . نحن نعتقد ، فعلاً ، في حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، بأنّ للمثقّف الآن ، وفي كلّ آن ، مسؤوليّة يجب أن يتحملها . هذه المسؤوليّة تتلخص مرحلياً في فهم الواقع الاجتماعيّ وإدراكه إدراكاً حقيقياً ، ووعي قضاياه ، في ماضيه وحاضره ومستقبله ، الوعي العقلانيّ الواقعيّ الهادف القائم على معرفة واقعيّة وعلى معلومات ومعطيات حقيقيّة ، ونشر هذا الوعي وتعميمه على نطاق واسع ، كلّ ذلك من أجل الوصول إلى طرح حلول لمشاكل هذا المجتمع وقضاياه . حلول نظريّة !! ـ فليكن ـ ولِمَ لا!!.. المثقّف ليس سياسياً . المثقّف غير السياسيّ ... وليس دوره هو دور السياسيّ ... وليس من وظيفة المثقّف التنفيذ . إنّما دور المثقّف هو تحديد " أمراض " المجتمع وعيوبه ومساوئه وتحليلها وتفسيرها ووعيها من أجل التغيير ، ومن ثمّ نشر هذا الوعي على الرأي العام ، عن طريق الكلمة والممارسة ، كتابة أو شفاهة أو تنظيماً، وتكوين تيار ضاغط من الرأي العام ...
هنا المعضلة الأساسيّة بالنسبة للمثقّف . نحن لم نستطع في لبنان ، لنقل بصراحة : لا في الماضي ولا في الحاضر ـ وهذا رأي يحتاج إلى مناقشة ـ لا المثقّفون ولا غير المثقّفين، استطاعوا أن يقيموا هذا التيار الضاغط ... لا قيمة في لبنان ، كما نعلم ، للكلمة . هناك أمور أخرى هي التي تؤثّر في مجريات الأمور السياسيّة وغير السياسيّة في لبنان ... فنحن لم نستطع أن نقيم للفكر أو للثقافة هذا الدور الفاعل أو الفعل المغيّر ، بمعنى أن الفكر أو الكلمة إلى حدّ كبير ، لم تكن رائدة ، قائدة ، بل كانت تبعاً للقوى السياسيّة ـ الاجتماعيّة ...[...]
نظرة سريعة نلاحظ من خلالها أنّ السياسيّين ، في مختلف العهود ، في الماضي أو الحاضر ، لم يقيموا كبير اعتبار أو وزن لما يمكن أن نسميه : ثقافة أو فكر ، كلمة أو رأي ، مثقّف أو مفكر أو صاحب رأي ... وقد قيل ذلك أمامي ، وسمعته بأذني ، كما قد يكون كثيرون منكم قد سمعوه أو قرأوا هذا الكلام أو ما في معناه وهو " أن لا قيمة للثقافة . وأنّ المثقّف يتكلم كثيراً دون فاعليّة ". بل يمكن أيضاً ـ كما يُقال ـ أن " تشتري المثقّف " : عن طريق الوظيفة أو المركز والمنصب ... فهناك نظرة دونية للثقافة والمثقّف ... ومع ذلك كلّه ، هذه الأمور ، حول الثقافة والمثقّف ، تبقى شعاراً تكريمياً في الشيخوخة أو عند الممات أو ديكوراً أو شعاراً يرفع في المناسبات الاحتفاليّة ، ذلك أنّه لا يمكن لأيّ كان في السلطة أو في خارجها ، أن يتنكر لما للثقافة وللمثقّف من قيمة عالية وتاريخيّة وفنيّة وأدبيّة في كلّ المجتمعات المتقدّمة ، القديمة والمعاصرة ، ومجتمعاتنا من ضمنها بطبيعة الحال .
وفي ما يتعلق بنا ، فإنّنا نعتقد اعتقاداً جازماً ، من هنا أهميّة الحركة ، حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، بأنّه لا يمكن إحداث نهضة حقيقيّة ، صحيحة ، عميقة ، شاملة ، دون عمل المثقّف ، ودون جهد المثقّف ودون نشاط الحركة الثقافيّة .
أريد في هذا السياق أيضاً أن ألفت النظر إلى جانب أراه غاية في الأهميّة وهو أنّه عندما نسمع ونقرأ ، على لسان قيادات مسؤولة في الدولة ، أنّ ما نحن فيه ليس دولة ، إنما هو " مزرعة".. إنّني أقف مشدوهاً مبهوراً أمام هذا الرأي وهذا التصريح العلنيّ قولاً وكتابة . إنسان مسؤول في الدولة يقف ويقول صراحة وعلناً أن ليس هذه دولة ، هذه " مزرعة "... وهذا القول قد ذهب مثلاً منذ زمن طويل حتى أنّه أصبح اصطلاحاً شائعاً في الرأي العام قاطبة ، وهو متداول بين الناس جميعاً ، من سياسيّين وغير السياسيّين .. إذن ، فإذا كان هذا الاعتراف يأتي من "فوق"، من أناس خبروا ما يقولونه وجرّبوه ، فما بالك برأي الشعب ، جماهير الشعب الواسعة ، التي تعيش شؤون وشجون هذه "الدولة" على الأرض !! والأمور مع كلّ ذلك تسير بالتواتر ، هكذا ، لا اعتبار لرأي عام ... الآن وفي كلّ آن ، في الماضي وفي الحاضر ، هناك احتجاجات ، هناك اعتراضات ، هناك معارضة... ولكن !!... ولكن !!...
فهل نستطيع أن نقول : إنّ الكلمة مكمومة في لبنان ؟!... لا !... ثمّة من وجود لمعارضة، إنّما معارضة لفظيّة ، وأحياناً لفظيّة عنيفة جداً ، ولاذعة جداً ، وتراشق الاتهامات المتبادلة ، وعلى جميع المستويات ، بطرق مباشرة أو غير مباشرة ... ولكن ، كلّ الانتقادات وجميع هذه الاتهامات المتبادلة صدىً أجوف ، لا تغيّر شيئاً ممّا هو قائم ... لماذا ؟... فالسؤال المطروح علينا جميعاً : أولاً ، هل نحن فعلاً نعيش في نظام ديمقراطيّ بالمعنى الحقيقيّ للكلمة ؟... وثانياً ، ما العمل ، بالفعل والممارسة ، لإقامة تيار ديمقراطيّ ضاغط ؟... نحن نقول بأنّ تكوين حركة ديمقراطيّة جدّية ، صحيحة ، من المثقّفين ، قد تكون هي الردّ المناسب الآن ، وقد تكون بالتالي هي التيار الديمقراطيّ الفاعل ، والمستقل استقلالاً كلياً ـ وهنا أشدّد على كلمة " الاستقلال " ـ ذلك أنّ أيّ حركة ثقافيّة ، أو سياسيّة أو ما شابه ذلك، عندما لا تكون مستقلة استقلالاً كلياً ، تفقد، أقلّه في المدى البعيد ، أهميتها المعنويّة والتاريخيّة وتكون رقماً إضافياً يضاف إلى باقي الأرقام ، فتفقد بالتالي وزنها وتأثيرها الفكريّ والسياسيّ والأخلاقيّ أيضاً ...
نحن نراهن في هذه المرحلة الانتقاليّة على أهميّة دورنا الثقافيّ والديمقراطيّ والوطنيّ ... وحتى يمكننا أن نربح هذا الرهان ، يجب أن نحافظ على استقلاليتنا الكليّة ، استقلاليتنا الفكريّة والسياسيّة ... والاستقلاليّة هي غير الحياديّة، كما أشدّد على ذلك كثيراً ... إذا كنّا نتمسك بالاستقلاليّة من الناحية السياسيّة أو الماليّة أو سواهما في هذا المجال ، إلاّ أنّنا لسنا حياديّين في الأمور الوطنيّة والقضايا الوطنيّة التي لها صلة بحياتنا المصيريّة . فنحن في خضّمها، بل وفي طليعتها ... هذا هو ، في ما أعتقد ، الرهان الصعب ، الرهان التاريخيّ ، والتحدّي المصيريّ، الذي من واجبنا أن نستجيب له ... كلّ ذلك ، حتى يمكننا أن نصبح في يوم من الأيام ، وقد لا يكون بعيداً جداً ، حركة ثقافيّة ديمقراطيّة وطنيّة ضاغطة ، لها وزنها ويلتفّ حولها الرأي العام ...
إذن ، فإنّ الموضوع المطروح أمامنا هو كيف يمكن بداية أن تلعب الثقافة دوراً في تقديم طروحات نظريّة وعمليّة ، على صعيد الفكر والممارسة ، لبناء دولة حديثة ... نقول ونردد دائماً أننا بحاجة إلى دولة القانون ... هذا طرح أساسيّ ومهمّ ... ولكن الأكثر أهميّة الآن وفي كلّ لحظة إنّما هي الممارسة ، هي أن نطبّق " دولة القانون " والمؤسّسات القانونيّة الدستوريّة على الأرض . لقد كانت دائماً موجودة وما زالت موجودة " دولة القانون "، على أقلّ تقدير من الناحية النظريّة أو الشكليّة : بمعنى أنّ هذه الدولة تقوم على دستور ولها قوانين تسير عليها ، وهناك سلطات تشريعيّة وتنفيذيّة وقضائيّة ... إلخ .. ولكن المشكلة الكبرى والأساسيّة إنّما تكمن في الممارسة العمليّة لهذه الدولة . هذه هي المشكلة الحقيقيّة . هناك نظرياً " دولة قانون " ومؤسّسات دستوريّة ، ولكن في الممارسة تفقد هذه الدولة أيّ شرط أساسيّ من شروطها ، حتى تكون فعلاً "دولة قانون"... ما أريد أن أقوله في نهاية التحليل هو أهميّة اقتران القول بالعمل ... لا قيمة لما هو نظريّة ـ مهما كانت هذه النظريّة من الصحّة ـ دون ممارسة ، ودون ترجمة على الأرض . وهنا في الواقع الإشكاليّة الكبرى والمحك الفعليّ لنا جميعاً ، وللمثقّفين على وجه الخصوص ...
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي [...]... شكراً للآنسة حياة على هذه المداخلة العفويّة ، الصادقة والصادرة من القلب والفكر معاً ... وهنا اسمحوا لي أن أوضّح أمراً وهو أنّه في الملتقيات الثقافيّة السابقة ، وتحديداً الملتقى الثقافيّ الأول والثاني والثالث كنّا قد طرحنا للبحث والنقاش ، مفاهيم الثقافة والديمقراطيّة والحوار ... أقول ذلك جواباً على ما ورد في كلمة الآنسة حياة من أنّه لم يتطرق أحد إلى ذكر أو الحديث عن المثقّف ودوره الثقافيّ والفكريّ والسياسيّ ... أشير هنا إلى أنّه لدينا ، في حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، منهج معيّن نسير على خطاه ونسترشد به وملخصه أنّ ندواتنا تُدْرس وهي مدروسة ، وموضوعات البحث والنقاش مدروسة هي أيضاً ، على ضوء ما نسعى إليه ونعمل على تحقيقه . ذلك أنّنا نشدّد كثيراً على أنّ حركة الحوار الديمقراطيّ هي حركة ثقافيّة جديدة. وهي تيار ثقافيّ في طور التكوين ، بمعنى أنّنا نُكوّن أنفسنا بأنفسنا من خلال الممارسة الديمقراطيّة والحوار ، وتحديد هويتنا الثقافيّة عن طريق النقاش والملتقيات الحواريّة والعودة دائماً وأبداً إلى الواقع والتجربة المُعاشة ..
لذلك ومن أجل تحقيق هذا الهدف ، فإنّنا نختار في كل ملتقى ثقافيّ موضوعاً معيّناً وجانباً فكرياً محدداً يُلقي ضوءاً ويوضّح أحد الاهتمامات النظريّة والعمليّة لحركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ... إنّنا نقول حركة الحوار الديمقراطيّ هي حركة ثقافيّة ديمقراطيّة حواريّة ... فإذن يجب علينا أن نوضّح ما هو مفهومنا ـ وقد فعلنا ذلك ونشرناه ـ حول الثقافة وما هي الثقافة ومَن هو المثقّف، وحول المفاهيم النظريّة الأخرى كذلك ، حتى أنّنا نستطيع أن نقول بأنّه قد أصبح ذلك جزءاً من أدبيات الحركة ...
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، لا شكّ في أنّه في العالم الثالث وفي البلاد العربيّة ، ولبنان جزء من هذا العالم الذي نسميه لياقة في طور النموّ ، الثقافة في الحقيقة والواقع كانت دائماً هامشيّة ، على الهامش ، على هامش الحياة السياسيّة الفعليّة ، الداخليّة أو الخارجيّة . المثقّفون من كلّ لون أو مذهب أو اتجاه ، من أدباء وشعراء وفلاسفة وعلماء اجتماع ... إلخ .. لعبوا بصورة عامة وبحسب المراحل دوراً أساسياً ... ولكن هل نستطيع أن نقول بأنّ كتابات الأدباء والشعراء والفلاسفة وغيرهم من المثقّفين كانت قد أثرت تأثيراً كبيراً وعميقاً في مجريات الأمور السياسيّة العامة ؟... هذا هو السؤال !!...
هنا أفتح هلالين لأشير فقط وبسرعة إلى أنّه في مصر ، نعم !... في سوريا وفي بعض المراحل من تاريخها الحديث ، نعم أيضاً !!... لنأخذ مثلاً ما نعرفه جميعاً وهو الثورة المصريّة لعام 1952 ومجيء عبد الناصر إلى السلطة ، والسياسة الوطنيّة الاستقلاليّة والعربيّة التي انتهجها في ما بعد ، إنّ جميع المفاهيم النظريّة والفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي طرحها عبد الناصر هي ليست من " ذهن " عبد الناصر ولا من ابتكارات عبد الناصر . وإنّما وليدة هذا المجتمع المصريّ والعربيّ ونتاجه الفكريّ والثقافيّ منذ ثورة 1919 حتى عام 1952 ...
هنا يجب التوقف ولفت النظر إلى الدور الكبير والعظيم الذي لعبه الكتاب والأدباء والتيارات الفكريّة من كلّ الاتجاهات دون استثناء ... كذلك يجب التوقف ملياً أمام دور المثقّفين في النضال السياسيّ والوطنيّ والاجتماعيّ العام ، منذ تلك الفترة وحتى الآن . وحتى الآن ، واضحة الآن المعركة الفكريّة والوطنيّة ، ربما غير المتكافئة ، التي يخوضها المثقّفون في مصر ضد التطبيع، وضد الأصوليّة ، أو الأصوليات الدينيّة من كلّ الطوائف والأديان ... كلّ ذلك واضح للعيان ولكلّ ذي عقل نيّر يريد أن ينفذ إلى عمق الأمور وكنهها ... يلعب المثقّفون فيها دوراً رائداً ، تراكمياً وتاريخياً الآن على صعيد الفكر والثقافة في مواجهة التطبيع والإرهاب والتيار الأصول الظلاميّ المخيف...[...]
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي
[...] تولّد لديّ انطباع خاص ، ذاتيّ ، عندما كنت أستمع إلى المحاضرين والمتداخلين والمعقّبين والمناقشين ، وهم من مختلف المناطق في لبنان ، فأشير في هذا النطاق إلى ناحية أراها مهمّة وهي أنّ جميع ملتقياتنا يشارك فيها دائماً مثقّفون من مختلف المناطق اللبنانيّة . وهذا الملتقى الثقافيّ ، على سبيل المثال ، شارك فيه مثقّفون من الجنوب ، من بيروت ، من طرابلس الشمال ، من الجبل ، ومن زحلة وقضائها ومن البقاع الغربيّ .. إلخ .. إلخ .. فضمنياً نحن نسعى إلى شكل من أشكال الانصهار الثقافيّ عَبْر الممارسة الديمقراطيّة والحوار ...
هذا جانب، الجانب الآخر ، لقد خطر ببالي خاطر ، ودائماً يخطر ببالي ، وهو أنّ في لبنان إمكانيات كبيرة ، واسعة ، إمكانيات وطاقات ثقافيّة وفكريّة ووطنيّة خيَّرة ، إمكانيات ترغب بصدق في المشاركة في عملية الإصلاح والتغيير... فكنت دائماً ، بيني وبين نفسي، أسأل نفسي هذا السؤال: كيف العمل ـ وهذا هو هاجسنا نحن في حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ـ كيف العمل لجمع هذه الطاقات الخيّرة ؟!.. ذلك أنّه لا يمكن أن نصنع شيئاً ما جدياً ، أقلّه على صعيد الفكر والعقل والتصميم والتنظيم ، إذا لم نجد طريقة ، بوتقة ، مؤسّسة ، تلتقي فيها كلّ هذه الطاقات الخيّرة ...
ففي إحدى الملتقيات الثقافيّة الأخيرة ، أبديت رأياً وشدّدت عليه وهو أنّنا نحن المثقّفين كُثُر، كُثُر .. والمثقّفون الملتزمون بقضايا المجتمع والواقع الاجتماعيّ ، لتغيير هذا الواقع ، حقيقةًً وفعلاً ، هؤلاء المثقّفون هم كُثُر .. ولكن المشكلة هي أنّهم مشتّتون، مفرقون ، مبعثرون ، ضائعون ... والسؤال المطروح علينا جميعاً في ختام هذا الملتقى الثقافيّ ، وهو مناسبة لطرح ذلك على كلّ واحد منّا : كيف العمل ، بالمشاركة مع الآخرين ، لإيجاد حركة، تيارٍ فكريّ ـ اجتماعيّ ، فاعلٍ حتى يصبح هذا التيار ، في ما بعد ، تياراً ضاغطاً ؟!!... هذا هو التساؤل الملحّ المطروح علينا جميعاً ، وعلينا الإجابة عنه ، بكلِّ جديّة وواقعيّة وجرأة ، كلّ من موقعه ، وإمكانيّاته وظروفه الموضوعيّة الخاصة .... [...]
كلمة التقديم ( )
الدكتور مصطفى دندشلي
[...] إنَّ السؤال المطروح علينا للنقاش والحوار في هذا الملتقى الثقافيّ هو التالي : هل للثقافة ، بمعنى حركة الفكر والعلم والعقل ، وبالتالي هل للمثقّف المتخصّص في مجاله ، من دور أساسيّ في إعادة بناء الدولة في لبنان ، وإرساء قواعد وأسس لتأسيس الدولة الحديثة العصريّة، دولة القانون وحقوق الإنسان ؟... وكيف يمكن أن يتمَّ ذلك ، وأن يلعب المثقّف هذا الدور عملياً ؟... وما هو مجاله في ظروفنا الراهنة ، حقيقة ؟... وهل سيُسمح للثقافة أو بالأحرى للمثقّف من أن يلعب هذا الدور الفكريّ النقديّ ، ويمارسه بحريّة وموضوعية وتجرّد ؟... وما هي العقبات التي تواجهه في تحقيق مهمته الملقاة على عاتقه ؟... إنَّ طرح السؤال بهذه الصيغة يأخذ كلّ أهميته في الظرف الراهن، خصوصاً وكما نعلم جميعاً أنّ حالةً من اليأس والقنوط تخيّم علينا جميعاً وتمنع الواحد منّا ، أو تمنعنا كجماعة من أن نتحرك في هذه الظروف القاسية والصعبة . لذلك فإنّ الواحد منّا يشعر وكأن هناك عجزاً داخلياً ، وكأنّ الظروف المحيطة بنا هي أقوى منّا أفراداً وجماعات : قوى سياسيّة ومؤسّسات اقتصاديّة وماليّة ، داخليّة وخارجيّة ، هي أقوى من الدولة ومن الحكومات... في هذا الجوّ يتولد ، وهذا شيء طبيعيّ ، حالة من القنوط أو كما نقول حالة من الإحباط ...
هنا ، وفي هذه المرحلة ، فإنّنا نعتقد ، نحن في حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، كمجموعة قليلة ، كنواة من المثقّفين ، نعتقد ، ولدينا القناعة ، بأنّ ها هنا ، وفي هذا الظرف بالذات يكمن دورنا ، دور المثقّف ... إنَّ دور الثقافة ودور المثقّفين إنّما هو ، في الحقيقة وواقع الأمر ، في مرحلة الأزمات حيث الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ يتعرّى ، ونرى الأشياء كما هي ، والعلاقات الاجتماعيّة واضحة ، وعلى حقيقتها ... فليس هناك من مُستخبّى ، كلّ الأمور مكشوفة . هنا أهميّة المفكر كي يرى الأمور على حقيقتها ويحللها ويقدّم الحلول أقلَّه النظريّة لها ، لتجاوزها ...
ولكن هل سيُسمح للثقافة أو بالأحرى للمثقّف من أن يلعب هذا الدور الفكريّ النقديّ ، ويمارسه بحريّة وموضوعيّة وتجرّد ؟ سؤال مطروح ... ولكن ، نحن في حركة الحوار نقول ، وأنا شخصياً أردّد ، بأنّ ليس هناك مَن يسمح لأحد ، ولم نعرف في التاريخ أبداً أنَّ مَن في السلطة ، قد سمح لأيّ كان بأن يمارس النقد وحريّة الرأي والقول ، وسمح للمعارضة بأن تقوم بعملها على خير وجه ، خصوصاً في عالمنا الثالث... فلا نعتقد ولا يجوز أن يعتقدنّ الواحد منّا أن السلطات الحاكمة، أيّ سلطات كانت ، ومهما كانت وعلى مختلف المستويات ، ستسمح لك أن تمارس حريّة العمل الثقافيّ أو الوطنيّ . إنّما السؤال المطروح هو عكس ذلك : هل نحن نستطيع أن نأخذ دورنا وأن نلعبه ، بجديّة وبإخلاص ؟!... هذا هو السؤال .
حركة الحـوار الديمقراطيّ في لبنان هي نـواة تجمّع مجموعة من المثقّفين الملتزمين ، الملتزمين بالواقع الاجتماعيّ والوطنيّ والفكريّ ، ملتزمين بعملية تغيير هذا الواقع ، تغيير هذه الظروف الاجتماعيّة ، بعد فهمها واستيعابها بوعي وإدراك ، وتعْميم هذا الوعي على الرأي العام ، وتقديم الحلول لها ، أقلّه الحلول النظريّة ...
اختيارنا لهذا الموضوع، الدولة في لبنان، وكيفيّة إعادة بنائها من جديد وعلى أسس حديثة: إنّنا ندرك أنّه موضوع شائك ، صعب ، يحتاج إلى ملتقيات ثقافيّة متعدّدة ومتنوّعة وإلى مشاركة تخصّصات متنوّعة أيضاً وإلى جهود فكريّة مختلفة حتى نستطيع فعلاً أن نوضّح الرؤية بصورة معقولة ...
الدولة ، بمعنى من المعاني ، هي تراث أمّة من الأمم ، شعب من الشعوب . هي تراث مجتمع من المجتمعات في تطوّره وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة أخرى . إذا أردنا حقيقة أن ندرس تطوّر المجتمعات والشعوب ، فإنّنا نستطيع أن نكوّن فكرة ونلمس هذه التطورات ، من خلال دراستنا تكوين الدولة ، وظروف تكوينها وتأسيسها ، والعوامل الداخليّة والخارجيّة التي أثّرت فيها ...
هنا ، على الصعيد النظريّ ، يُطرح سؤال : هل دُرست الدولة اللبنانيّة دراسة علميّة ، اجتماعيّة ـ سياسيّة ، ميدانيّة من مختلف الجوانب ، وكيف تكوّنت وكيف تأسّست ؟... في ما يبدو ، حول هذا الموضوع بالذات ، فإنّ الدراسات قليلة جداً أو نادرة ... طبعاً الدولة اللبنانيّة في ما يتعلق بالجانب الإداريّ ـ والجانب الحقوقيّ الدستوريّ ـ هناك أخصّائيون لبنانيون ، يعرفون بذكاء كبير وبعمق ، تطوّر الدولة اللبنانيّة على هـذا الصعيد الدستوريّ والصعيد الإداريّ ... ولكن السؤال المطروح : هل هناك دراسات وأبحاث حول تكوين الدولة اللبنانيّة وقيامها وبنائها من ناحية التاريخ السياسيّ ـ الاجتماعيّ ؟!... بمعنى آخر ، كيف يمكن أن نحدّد العلاقـة بين الدولة والمجتمع في لبنان ؟... كيف يمكن، بكلمة أوضح، أن نحدّد العلاقة بين المجتمع في جبل لبنان في زمن القائمقاميّة والمتصرفيّة وقيام دولة لبنان الكبير عام 1920 .. ماذا أخذت هذه الدولة " الحديثة " من المجتمع اللبنانيّ التقليديّ السابق ؟!...
نحن نعلم بأن ركائز المجتمع في جبل لبنان آنذاك ، كانت تقوم على أساس القوى الاجتماعيّة التقليديّة ، العشائريّة ، أمراء الإقطاع ، والعلاقات الطائفيّة والمذهبيّة ... هذه الظواهر الاجتماعيّة ، وهذه العلاقات الاجتماعيّة ـ الطائفيّة انتقلت إلى الدولة اللبنانيّة الحديثة عند قيامها وتكوينها عام 1920 ، بعد أن أضيفت إلى المجتمع في جبل لبنان ، الأقضية الأربعة والمدن الساحليّة أيضاً ...
أشير إلى ذلك فقط للتذكير وإثارة الموضوع للنقاش والحوار ـ فهذا هو موضوعنا ـ ولإبداء الآراء حوله ، إذ ليس هناك من رأي أو موقفٍ محدَّد حول هذه الإشكاليّات ... فالساحل كان مجتمعاً تجارياً ، البرجوازيّة التجاريّة كانت برجوازيّة في طور التكوين والنموّ وفي مجتمع خدماتيّ ، منفتح على الغرب وخصوصاً فرنسا . فما حصل عام 1920 ، وفي دستور 1926 ، إنّما هو دمج مجتمعين : مجتمع تقليديّ من جهة ومجتمع حديث على النمط الأوروبيّ ، تجاريّ خدماتيّ من جهة أخرى ، فتكوّنت عام 1920 وعام 1926 هيكليّة الدولة الحديثة اللبنانيّة وأُطرها السياسيّة ، بمساندة فرنسا التي أصبحت في ما بعد الدولة المنتدبة ... فوُجد دستور للبلاد ، وقامت إدارة حديثة ، وجيش وشرطة ومؤسّسات للدولة ، تربويّة ، اجتماعيّة ، اقتصاديّة، إلخ... منفتحة على الغرب وتابعة له...
فقد أخذنا ظاهرياً جميع مظاهر الدولة الحديثة العصريّة ، هيكليّة الدولة الحديثة ، ولكن المجتمع في مضمونه ومحتواه ، الواقع الاجتماعيّ للبلد والذي بنيت عليه الدولة اللبنانيّة ، إنّما هو واقع المجتمع التقليديّ القديم ...
هذه هي محاولة منّي فقط لطرح عناصر الموضوع على بساط البحث وإبداء الرأي ، وإثارة النقاش والحوار حوله ..[...]
* * *
إدارة الجلسة
الدكتور مصطفى دندشلي
... أودّ أن أعقّب على ما ورد في مضمون المداخلات ، التي في الواقع لفتت أنظارنا إلى جانب من جوانب سياسة الدولة العامة ( ). وهي سياسة عامة في الحقيقة لا يعلمها المثقّف وحده أو المتعلم وحسب ، وإنّما أصبحت الآن في شتّى عيوبها ومساوئها وفي مختلف المستويات ، يلوك بها ويحسّها ويعيشها يومياً كلّ إنسان في هذا البلد ، المتعلم وغير المتعلم ... إنّ مساوئ نظامنا السياسيّ والإداريّ والاقتصاديّ والتربويّ ... إلخ ... في دولتنا اللبنانيّة منذ تأسيسها حتى الآن ، إنّما هي مساوئ وعيوب لا تُخفى على أحد .
من هنا طرح السؤال ، فكان عنواناً لهذا الملتقى الثقافيّ : الثقافة وبناء الدولة الحديثة والمعاصرة في لبنان ، فهو إن دلّ على شيء ، فإنّما يدلّ على أنّ فيه تشكيك بوجود الدولة الحديثة وقيامها في لبنان ... طالما أنّ التساؤل مطروح حول كيفيّة بناء الدولة الحديثة وإشكاليّتها في بلدنا ... وهذا ليس بتساؤل جديد يطرح اليوم ، وإنّما هو تساؤل يطرحه الجميع ومنذ زمن بعيد ، يُطرح من قِبَل السياسيّين وغير السياسيّين ، من قِبَل المثقّفين وغير المثقّفين ... الجميع يدعو ويلحّ في القول بأنه يجب علينا أن نعود ونبني الدولة الحديثة المعاصرة ... بمعنى أنّنا في مرحلة سبعين سنة، أو خمسين سنة ، منذ الاستقلال حتى اليوم ، لم نستطع ـ لأسباب عديدة ، داخليّة وخارجيّة ، وتكوينة النظام السياسيّ في البلد وبنيته السياسيّة والاجتماعيّة والطائفيّة ..إلخ..الخ.. لتركيبة المجتمع اللبنانيّ ذاته ـ لم نستطع ، للأسف ، أن نبني هذه الدولة الحديثة المعاصرة ... لماذا ؟...هذا هو السؤال الملحاح ؟.. والإجابة عنه مسؤوليّة الجميع ...
هنا كذلك مسؤوليتنا ، مسؤوليّة المثقّف . نحن نعتقد ، فعلاً ، في حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، بأنّ للمثقّف الآن ، وفي كلّ آن ، مسؤوليّة يجب أن يتحملها . هذه المسؤوليّة تتلخص مرحلياً في فهم الواقع الاجتماعيّ وإدراكه إدراكاً حقيقياً ، ووعي قضاياه ، في ماضيه وحاضره ومستقبله ، الوعي العقلانيّ الواقعيّ الهادف القائم على معرفة واقعيّة وعلى معلومات ومعطيات حقيقيّة ، ونشر هذا الوعي وتعميمه على نطاق واسع ، كلّ ذلك من أجل الوصول إلى طرح حلول لمشاكل هذا المجتمع وقضاياه . حلول نظريّة !! ـ فليكن ـ ولِمَ لا!!.. المثقّف ليس سياسياً . المثقّف غير السياسيّ ... وليس دوره هو دور السياسيّ ... وليس من وظيفة المثقّف التنفيذ . إنّما دور المثقّف هو تحديد " أمراض " المجتمع وعيوبه ومساوئه وتحليلها وتفسيرها ووعيها من أجل التغيير ، ومن ثمّ نشر هذا الوعي على الرأي العام ، عن طريق الكلمة والممارسة ، كتابة أو شفاهة أو تنظيماً، وتكوين تيار ضاغط من الرأي العام ...
هنا المعضلة الأساسيّة بالنسبة للمثقّف . نحن لم نستطع في لبنان ، لنقل بصراحة : لا في الماضي ولا في الحاضر ـ وهذا رأي يحتاج إلى مناقشة ـ لا المثقّفون ولا غير المثقّفين، استطاعوا أن يقيموا هذا التيار الضاغط ... لا قيمة في لبنان ، كما نعلم ، للكلمة . هناك أمور أخرى هي التي تؤثّر في مجريات الأمور السياسيّة وغير السياسيّة في لبنان ... فنحن لم نستطع أن نقيم للفكر أو للثقافة هذا الدور الفاعل أو الفعل المغيّر ، بمعنى أن الفكر أو الكلمة إلى حدّ كبير ، لم تكن رائدة ، قائدة ، بل كانت تبعاً للقوى السياسيّة ـ الاجتماعيّة ...[...]
نظرة سريعة نلاحظ من خلالها أنّ السياسيّين ، في مختلف العهود ، في الماضي أو الحاضر ، لم يقيموا كبير اعتبار أو وزن لما يمكن أن نسميه : ثقافة أو فكر ، كلمة أو رأي ، مثقّف أو مفكر أو صاحب رأي ... وقد قيل ذلك أمامي ، وسمعته بأذني ، كما قد يكون كثيرون منكم قد سمعوه أو قرأوا هذا الكلام أو ما في معناه وهو " أن لا قيمة للثقافة . وأنّ المثقّف يتكلم كثيراً دون فاعليّة ". بل يمكن أيضاً ـ كما يُقال ـ أن " تشتري المثقّف " : عن طريق الوظيفة أو المركز والمنصب ... فهناك نظرة دونية للثقافة والمثقّف ... ومع ذلك كلّه ، هذه الأمور ، حول الثقافة والمثقّف ، تبقى شعاراً تكريمياً في الشيخوخة أو عند الممات أو ديكوراً أو شعاراً يرفع في المناسبات الاحتفاليّة ، ذلك أنّه لا يمكن لأيّ كان في السلطة أو في خارجها ، أن يتنكر لما للثقافة وللمثقّف من قيمة عالية وتاريخيّة وفنيّة وأدبيّة في كلّ المجتمعات المتقدّمة ، القديمة والمعاصرة ، ومجتمعاتنا من ضمنها بطبيعة الحال .
وفي ما يتعلق بنا ، فإنّنا نعتقد اعتقاداً جازماً ، من هنا أهميّة الحركة ، حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، بأنّه لا يمكن إحداث نهضة حقيقيّة ، صحيحة ، عميقة ، شاملة ، دون عمل المثقّف ، ودون جهد المثقّف ودون نشاط الحركة الثقافيّة .
أريد في هذا السياق أيضاً أن ألفت النظر إلى جانب أراه غاية في الأهميّة وهو أنّه عندما نسمع ونقرأ ، على لسان قيادات مسؤولة في الدولة ، أنّ ما نحن فيه ليس دولة ، إنما هو " مزرعة".. إنّني أقف مشدوهاً مبهوراً أمام هذا الرأي وهذا التصريح العلنيّ قولاً وكتابة . إنسان مسؤول في الدولة يقف ويقول صراحة وعلناً أن ليس هذه دولة ، هذه " مزرعة "... وهذا القول قد ذهب مثلاً منذ زمن طويل حتى أنّه أصبح اصطلاحاً شائعاً في الرأي العام قاطبة ، وهو متداول بين الناس جميعاً ، من سياسيّين وغير السياسيّين .. إذن ، فإذا كان هذا الاعتراف يأتي من "فوق"، من أناس خبروا ما يقولونه وجرّبوه ، فما بالك برأي الشعب ، جماهير الشعب الواسعة ، التي تعيش شؤون وشجون هذه "الدولة" على الأرض !! والأمور مع كلّ ذلك تسير بالتواتر ، هكذا ، لا اعتبار لرأي عام ... الآن وفي كلّ آن ، في الماضي وفي الحاضر ، هناك احتجاجات ، هناك اعتراضات ، هناك معارضة... ولكن !!... ولكن !!...
فهل نستطيع أن نقول : إنّ الكلمة مكمومة في لبنان ؟!... لا !... ثمّة من وجود لمعارضة، إنّما معارضة لفظيّة ، وأحياناً لفظيّة عنيفة جداً ، ولاذعة جداً ، وتراشق الاتهامات المتبادلة ، وعلى جميع المستويات ، بطرق مباشرة أو غير مباشرة ... ولكن ، كلّ الانتقادات وجميع هذه الاتهامات المتبادلة صدىً أجوف ، لا تغيّر شيئاً ممّا هو قائم ... لماذا ؟... فالسؤال المطروح علينا جميعاً : أولاً ، هل نحن فعلاً نعيش في نظام ديمقراطيّ بالمعنى الحقيقيّ للكلمة ؟... وثانياً ، ما العمل ، بالفعل والممارسة ، لإقامة تيار ديمقراطيّ ضاغط ؟... نحن نقول بأنّ تكوين حركة ديمقراطيّة جدّية ، صحيحة ، من المثقّفين ، قد تكون هي الردّ المناسب الآن ، وقد تكون بالتالي هي التيار الديمقراطيّ الفاعل ، والمستقل استقلالاً كلياً ـ وهنا أشدّد على كلمة " الاستقلال " ـ ذلك أنّ أيّ حركة ثقافيّة ، أو سياسيّة أو ما شابه ذلك، عندما لا تكون مستقلة استقلالاً كلياً ، تفقد، أقلّه في المدى البعيد ، أهميتها المعنويّة والتاريخيّة وتكون رقماً إضافياً يضاف إلى باقي الأرقام ، فتفقد بالتالي وزنها وتأثيرها الفكريّ والسياسيّ والأخلاقيّ أيضاً ...
نحن نراهن في هذه المرحلة الانتقاليّة على أهميّة دورنا الثقافيّ والديمقراطيّ والوطنيّ ... وحتى يمكننا أن نربح هذا الرهان ، يجب أن نحافظ على استقلاليتنا الكليّة ، استقلاليتنا الفكريّة والسياسيّة ... والاستقلاليّة هي غير الحياديّة، كما أشدّد على ذلك كثيراً ... إذا كنّا نتمسك بالاستقلاليّة من الناحية السياسيّة أو الماليّة أو سواهما في هذا المجال ، إلاّ أنّنا لسنا حياديّين في الأمور الوطنيّة والقضايا الوطنيّة التي لها صلة بحياتنا المصيريّة . فنحن في خضّمها، بل وفي طليعتها ... هذا هو ، في ما أعتقد ، الرهان الصعب ، الرهان التاريخيّ ، والتحدّي المصيريّ، الذي من واجبنا أن نستجيب له ... كلّ ذلك ، حتى يمكننا أن نصبح في يوم من الأيام ، وقد لا يكون بعيداً جداً ، حركة ثقافيّة ديمقراطيّة وطنيّة ضاغطة ، لها وزنها ويلتفّ حولها الرأي العام ...
إذن ، فإنّ الموضوع المطروح أمامنا هو كيف يمكن بداية أن تلعب الثقافة دوراً في تقديم طروحات نظريّة وعمليّة ، على صعيد الفكر والممارسة ، لبناء دولة حديثة ... نقول ونردد دائماً أننا بحاجة إلى دولة القانون ... هذا طرح أساسيّ ومهمّ ... ولكن الأكثر أهميّة الآن وفي كلّ لحظة إنّما هي الممارسة ، هي أن نطبّق " دولة القانون " والمؤسّسات القانونيّة الدستوريّة على الأرض . لقد كانت دائماً موجودة وما زالت موجودة " دولة القانون "، على أقلّ تقدير من الناحية النظريّة أو الشكليّة : بمعنى أنّ هذه الدولة تقوم على دستور ولها قوانين تسير عليها ، وهناك سلطات تشريعيّة وتنفيذيّة وقضائيّة ... إلخ .. ولكن المشكلة الكبرى والأساسيّة إنّما تكمن في الممارسة العمليّة لهذه الدولة . هذه هي المشكلة الحقيقيّة . هناك نظرياً " دولة قانون " ومؤسّسات دستوريّة ، ولكن في الممارسة تفقد هذه الدولة أيّ شرط أساسيّ من شروطها ، حتى تكون فعلاً "دولة قانون"... ما أريد أن أقوله في نهاية التحليل هو أهميّة اقتران القول بالعمل ... لا قيمة لما هو نظريّة ـ مهما كانت هذه النظريّة من الصحّة ـ دون ممارسة ، ودون ترجمة على الأرض . وهنا في الواقع الإشكاليّة الكبرى والمحك الفعليّ لنا جميعاً ، وللمثقّفين على وجه الخصوص ...
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي [...]... شكراً للآنسة حياة على هذه المداخلة العفويّة ، الصادقة والصادرة من القلب والفكر معاً ... وهنا اسمحوا لي أن أوضّح أمراً وهو أنّه في الملتقيات الثقافيّة السابقة ، وتحديداً الملتقى الثقافيّ الأول والثاني والثالث كنّا قد طرحنا للبحث والنقاش ، مفاهيم الثقافة والديمقراطيّة والحوار ... أقول ذلك جواباً على ما ورد في كلمة الآنسة حياة من أنّه لم يتطرق أحد إلى ذكر أو الحديث عن المثقّف ودوره الثقافيّ والفكريّ والسياسيّ ... أشير هنا إلى أنّه لدينا ، في حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، منهج معيّن نسير على خطاه ونسترشد به وملخصه أنّ ندواتنا تُدْرس وهي مدروسة ، وموضوعات البحث والنقاش مدروسة هي أيضاً ، على ضوء ما نسعى إليه ونعمل على تحقيقه . ذلك أنّنا نشدّد كثيراً على أنّ حركة الحوار الديمقراطيّ هي حركة ثقافيّة جديدة. وهي تيار ثقافيّ في طور التكوين ، بمعنى أنّنا نُكوّن أنفسنا بأنفسنا من خلال الممارسة الديمقراطيّة والحوار ، وتحديد هويتنا الثقافيّة عن طريق النقاش والملتقيات الحواريّة والعودة دائماً وأبداً إلى الواقع والتجربة المُعاشة ..
لذلك ومن أجل تحقيق هذا الهدف ، فإنّنا نختار في كل ملتقى ثقافيّ موضوعاً معيّناً وجانباً فكرياً محدداً يُلقي ضوءاً ويوضّح أحد الاهتمامات النظريّة والعمليّة لحركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ... إنّنا نقول حركة الحوار الديمقراطيّ هي حركة ثقافيّة ديمقراطيّة حواريّة ... فإذن يجب علينا أن نوضّح ما هو مفهومنا ـ وقد فعلنا ذلك ونشرناه ـ حول الثقافة وما هي الثقافة ومَن هو المثقّف، وحول المفاهيم النظريّة الأخرى كذلك ، حتى أنّنا نستطيع أن نقول بأنّه قد أصبح ذلك جزءاً من أدبيات الحركة ...
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، لا شكّ في أنّه في العالم الثالث وفي البلاد العربيّة ، ولبنان جزء من هذا العالم الذي نسميه لياقة في طور النموّ ، الثقافة في الحقيقة والواقع كانت دائماً هامشيّة ، على الهامش ، على هامش الحياة السياسيّة الفعليّة ، الداخليّة أو الخارجيّة . المثقّفون من كلّ لون أو مذهب أو اتجاه ، من أدباء وشعراء وفلاسفة وعلماء اجتماع ... إلخ .. لعبوا بصورة عامة وبحسب المراحل دوراً أساسياً ... ولكن هل نستطيع أن نقول بأنّ كتابات الأدباء والشعراء والفلاسفة وغيرهم من المثقّفين كانت قد أثرت تأثيراً كبيراً وعميقاً في مجريات الأمور السياسيّة العامة ؟... هذا هو السؤال !!...
هنا أفتح هلالين لأشير فقط وبسرعة إلى أنّه في مصر ، نعم !... في سوريا وفي بعض المراحل من تاريخها الحديث ، نعم أيضاً !!... لنأخذ مثلاً ما نعرفه جميعاً وهو الثورة المصريّة لعام 1952 ومجيء عبد الناصر إلى السلطة ، والسياسة الوطنيّة الاستقلاليّة والعربيّة التي انتهجها في ما بعد ، إنّ جميع المفاهيم النظريّة والفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي طرحها عبد الناصر هي ليست من " ذهن " عبد الناصر ولا من ابتكارات عبد الناصر . وإنّما وليدة هذا المجتمع المصريّ والعربيّ ونتاجه الفكريّ والثقافيّ منذ ثورة 1919 حتى عام 1952 ...
هنا يجب التوقف ولفت النظر إلى الدور الكبير والعظيم الذي لعبه الكتاب والأدباء والتيارات الفكريّة من كلّ الاتجاهات دون استثناء ... كذلك يجب التوقف ملياً أمام دور المثقّفين في النضال السياسيّ والوطنيّ والاجتماعيّ العام ، منذ تلك الفترة وحتى الآن . وحتى الآن ، واضحة الآن المعركة الفكريّة والوطنيّة ، ربما غير المتكافئة ، التي يخوضها المثقّفون في مصر ضد التطبيع، وضد الأصوليّة ، أو الأصوليات الدينيّة من كلّ الطوائف والأديان ... كلّ ذلك واضح للعيان ولكلّ ذي عقل نيّر يريد أن ينفذ إلى عمق الأمور وكنهها ... يلعب المثقّفون فيها دوراً رائداً ، تراكمياً وتاريخياً الآن على صعيد الفكر والثقافة في مواجهة التطبيع والإرهاب والتيار الأصول الظلاميّ المخيف...[...]
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي
[...] تولّد لديّ انطباع خاص ، ذاتيّ ، عندما كنت أستمع إلى المحاضرين والمتداخلين والمعقّبين والمناقشين ، وهم من مختلف المناطق في لبنان ، فأشير في هذا النطاق إلى ناحية أراها مهمّة وهي أنّ جميع ملتقياتنا يشارك فيها دائماً مثقّفون من مختلف المناطق اللبنانيّة . وهذا الملتقى الثقافيّ ، على سبيل المثال ، شارك فيه مثقّفون من الجنوب ، من بيروت ، من طرابلس الشمال ، من الجبل ، ومن زحلة وقضائها ومن البقاع الغربيّ .. إلخ .. إلخ .. فضمنياً نحن نسعى إلى شكل من أشكال الانصهار الثقافيّ عَبْر الممارسة الديمقراطيّة والحوار ...
هذا جانب، الجانب الآخر ، لقد خطر ببالي خاطر ، ودائماً يخطر ببالي ، وهو أنّ في لبنان إمكانيات كبيرة ، واسعة ، إمكانيات وطاقات ثقافيّة وفكريّة ووطنيّة خيَّرة ، إمكانيات ترغب بصدق في المشاركة في عملية الإصلاح والتغيير... فكنت دائماً ، بيني وبين نفسي، أسأل نفسي هذا السؤال: كيف العمل ـ وهذا هو هاجسنا نحن في حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ـ كيف العمل لجمع هذه الطاقات الخيّرة ؟!.. ذلك أنّه لا يمكن أن نصنع شيئاً ما جدياً ، أقلّه على صعيد الفكر والعقل والتصميم والتنظيم ، إذا لم نجد طريقة ، بوتقة ، مؤسّسة ، تلتقي فيها كلّ هذه الطاقات الخيّرة ...
ففي إحدى الملتقيات الثقافيّة الأخيرة ، أبديت رأياً وشدّدت عليه وهو أنّنا نحن المثقّفين كُثُر، كُثُر .. والمثقّفون الملتزمون بقضايا المجتمع والواقع الاج